الورقة الأخيرة
سالم فرج سعد
متى نستطيع أن نعبّر عن أفكارنا بطريقة مباشرة وصريحة؟ وما هو العائق
أمام تلك الطريقة السهلة والميسرة في التعبير والتفكير؟
هل هي مسألة مصالح ومفاسد، أو نجاح وإخفاق، أو قدرة وعجز؟
قد يتبادر إلى أذهان بعض الناس أن الشكل في فهم الآخر لنا أو عدم استعداده
لأن يفهمنا، وهذا وارد.. أو أن الحصيلة العلمية غير كافية لاستيعاب الفكرة وتقبل
المتلقي لها بيسر وإدراك.. دع عنك القبول أو الرد!
ولو تأملنا جيداً ما يطرح في أعمدة الصحف من تحليلات متفاوتة لمجريات
الأحداث اليومية نجد الفارق ليس في الفهم فحسب، بل أيضاً في العرض والأسلوب،
وقد يكون حدثاً متغيراً ومتجدداً، فتأتي الفكرة ثابتة غير مرتبطة بتغيره، أو
المسؤولية العلمية في الإحاطة بفهم جميع جوانبه ليست موجودة.
واللافت للنظر أن هذه الإشكالية في القراءة الأحادية لفهم الفكرة أو الحدث
يُتعامل بها أيضاً في استيعاب الخطاب الإسلامي بمنظور مضاد للرأي المخالف،
وجهل بإمكانياته الفقهية، وإنكار لأدواته الاجتهادية.
والحمد لله وحده أن حفظ لنا الذكر الحكيم: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ
لَحَافِظُونَ] (الحجر: 9) .
وشرع لنا الوحدة الدعوية في القيام بأمر الدين: [أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا
فِيهِ] (الشورى: 13) .
لذلك فالنص في الخطاب الإسلامي له مرجعيته القوية من حيث الثبوت
والصحة مما لا يدع مجالاً للتحريف أو التحسين والتعديل؛ وإنما الإشكالية تقع في
العقل المتلقي لفهم النص، ثم للاستدلال به في عرض الفكرة التي يقدمها الخطاب
الإسلامي المعاصر.
أظن أن الطريقة هنا مختلفة شيئاً ما! أقصد بين فهم النص والخطاب
المتضمن للنص.. ويريد بعضهم أن يجعل الأمر واحداً، فيضفي القداسة على
كليهما ليخرج من أعمال العقل وتدبر الآثار المتعلقة بالنص إلى القول بالتصادم
الثقافي مع الآخر والانكفاء على الذات في طبيعة الخطاب الديني مما ينتج عنه قتل
للإبداع ومواجهة التحديث.
ويدفعه سوء الفهم أو سوء القصد لانبهاره بحضارات وثنية أو فلسفات غربية
متهافتة ليسوِّغ بها أسلوبه وفكرته: [وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ
مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَ لَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ] (البقرة:
170) .
نعم! قد يكون في الكراهة المستقرة في نفوس الناس لما يخالفهم أو يختلف
معهم سبب في عدم الفهم أو تقريب الخطاب بين الجميع، وكثير منا حين يريد أن
يعبّر عن فكرته ليقنع بها الآخرين فإنه يخاطب عقولهم، ويبحث عن أفكار تلائم
مقصودهم، فيتعذر عليه أحياناً الإقناع؛ وهذه مشكلة تؤثر سلباً على العقيدة والدعوة
إلى الخير بسبب الغوص العقلي في طريق الخطاب.
لكن هناك في الخطاب الإسلامي ودون مجاملة من الشمولية ما تجعله يرقى
بأسلوبه في الحوار دون إفراط أو تفريط: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً] (البقرة:
143) .
وفي الصحيحين من حديث أنس - رضي الله عنه - قال صلى الله عليه وسلم:
«أنتم شهداء الله في الأرض» [1] .
فالخطاب الإسلامي بشموليته يضع الثقة في إنتاجه والجدية في عمله وعلمه.
وإذا تنازل في بعض ما يطرح من أفكار فلا يكون تنازلاً عن مبادئ أو نقضاً
لأصوله وموروثه، بل هناك ضوابط تراعي المصالج الشرعية والقيم الإنسانية.
لا شك أن هذه ميزات تجعل من المشروع الإسلامي قابلاً للتطبيق وهو ما
جعل بعض مفكري الغرب الآن ينادي بخطورة «الإسلام المعتدل» ؛ لأن لديه
قدرة على تطبيق فكرته النهضوية بواقعية وهدوء.
نعم! يوجد في خطاب العمل الإسلامي فجوات تعاني منها المجتمعات الثقافية
في كيفية الفهم الصحيح للموازنة بين ما هو نسبي وما هو مطلق، وبين العقلانية
والحداثة، وبين «الأصولية» والعلمنة، وبين الحضارة والسقوط في التبعية،
ومن ثم يُنتج فهماً سقيماً وساذجاً لواقع الحركة الدعوية في الخطاب الإسلامي يدفع
الآخر للنقد والاتهام: وكم من عائب قولاً صحيحاً وآفته من الفهم السقيمِ ولذلك نجد
في كلامنا كثيراً من «الفوضى الفكرية» أو كأنه «شيك بدون رصيد» فيُلقى
دون أهلية علمية أو رصيد ثقافي، وتخطيط شامل يفتح المجال للحوار والفهم
والقبول.
إن آفاق الاجتهاد في الفهم للخطاب الإسلامي واسعة وذات فضاءات منضبطة
ومنظمة لمصلحة الفرد والأمة.
ومن الحلول المقترحة لإشكالية هذه الأزمة بالتوازن في الخطاب والعمل
الدعوي المحرّك لحس الجماهير بين العاطفة والعقل.
وبالانفتاح على الآخر بقصد تنمية الثقافة وإيصال الفكرة.
وبالواقعية الحضارية في تصحيح مسار القيام بالدعوة إلى الخير بعيداً عن
النهج التحذيري أو النهج الصدامي العنيف.
وهكذا بإذن الله سبحانه وتعالى تسير قافلة الإسلام التي توقفت في وقتٍ تقدَّم
فيه حتى عُبَّاد البقر.
والله المستعان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.