الباب المفتوح
التعزيز الإيجابي
مفتاح مضمون لتغيير السلوك الإنساني
مهيوب خضر
m_qub@hotmail.com
لطبيعة التفكير من حيث الإيجاب والسلب أبلغ الأثر في فهم أحداث الحياة
والتعامل مع حيثياتها، ولأهمية الأمر دأب علماء النفس والاجتماع على دراسة هذا
الموضوع في محاولة للارتقاء بالسلوك الإنساني نحو الأحسن والأفضل ليعم
الخير، ويسعد الناس بتحقيق النجاح؛ وخلصوا في نهاية الأمر إلى نتيجة مفادها أن
التعزيز الإيجابي هو مفتاح مهم لتغيير سلوك الإنسان نحو الهدف المطلوب.
يعرَّف التعزيز الإيجابي على أنه مؤثر داخلي يبعث النفس البشرية على
الارتياح، ويُسهم في تحفيز طاقة الإنسان وجهده نحو الهدف بكل رغبة واقتناع.
ويؤكد علماء النفس والاجتماع على أن مفهوم التعزيز الإيجابي مفهوم عملي
يمكن تطبيقه في كل زمان ومكان، وعلى جميع الأصعدة الإدارية منها أو السياسية
أو التعليمية أو الاجتماعية، أو غير ذلك.
ويشير رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام إلى أهمية هذا المبدأ في أحد أهم
مسائل تربية الأولاد ألا وهي تعليم الصلاة، فيقول صلى الله عليه وسلم: «مروا
أبناءكم بالصلاة لسبع سنين، واضربوهم عليها لعشر سنين» [1] .
ويلاحظ في هذا الحديث كيف ترك الرسول صلى الله عليه وسلم مسافة ثلاثة
سنوات بشهورها وأيامها ودقائقها لاستخدام كافة وسائل التعزيز الإيجابي المتاحة
لترغيب الأبناء على تعلم الصلاة، والتي هي ركن من أركان الإسلام الخمسة، قبل
اللجوء إلى العقاب بالضرب وهو أحد وسائل التعزيز السلبي.
ولتوضيح الصورة أكثر يمكننا أن نمر على بعض التجارب والشواهد
التاريخية:
عمر بن عبد العزيز: الخليفة الراشد الخامس كان من الأوائل الذين فهموا
واستنبطوا أهمية مبدأ التعزيز الإيجابي في الحياة وأثره في تغيير واقع السلوك
الإنساني من خلال المنهج القرآني الذي تربى عليه، فكانت النتيجة أنه استطاع
خلال مدة خلافته التي لم تتجاوز سنتين وخمسة شهور أن يغير واقع الحياة نحو
الأفضل، على الرغم مما كان قد سبق عهده من مظالم وفساد إداري، وصراع على
السلطة والجاه والمال.
كتب والي خراسان إلى عمر بن عبد العزيز يستأذنه في أن يرخص له
باستخدام بعض القوة والعنف مع أهلها قائلاً في رسالته للخليفة: «إنهم لا يصلحهم
إلا السيف والسوط» . فكان رده التقي الحازم المبني على فهم دقيق لأهمية مفهوم
التعزيز الإيجابي ودوره في تغيير السلوك الإنساني: «كذبتَ.. بل يصحلهم العدل
والحق؛ فابسط ذلك فيهم، واعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين» [2] .
إن اعتماد عمر بن عبد العزيز لهذا المفهوم في سياسة الدولة جعل الخوارج
يضعون أسلحتهم للمرة الأولى، وكانوا قد استعصوا على بقية الخلفاء، فكانت هذه
نادرة من نوادر تاريخ عمر - رضي الله عنه - ومنقبة من مناقبه.
كان هذا على صعيد إدارة الدولة وسياسة الأمة، أما على صعيد التربية
والتعليم؛ فلقد أجرى علماء التربية الكثير من التجارب العملية لأجل التعرف
بالأرقام على قيمة مفهوم التعزيز الإيجابي وأثره الحقيقي، وكان أحد أهم هذه
التجارب تجربة هيرلوك المشهورة، أجريت هذه التجربة على 160 طفلة في
المرحلة الابتدائية، قسمتهم الباحثة على أربع مجموعات متكافئة على أساس القدرة
الحسابية والعمر الزمي، وطلبت من هؤلاء التلاميذ حل أكبر عدد ممكن من
المسائل الحسابية في فترة زمنية طولها 15 دقيقة، وقد استخدمت 5 فئات متعادلة
من هذه المسائل (كل فئة تتألف من 30 مسألة) أعطت كل منها على حدة.
وكانت مجموعات المفحوصين كما يلي:
1 - مجموعة اللوم: وفيها كان يطلب من كل تلميذة أن تقف أمام طالبات
الفصل جميعاً عقب انتهاء كل محاولة وتلام وتوبخ على أخطائها وعلى الإخفاق
الذي أحرزته وهي لا تعلم عن أدائها الفعلي شيئاً.
2 - مجموعة المدح: وفيها كان يطلب من كل تلميذة أن تواجه طالبات
الفصل وتمدح على أدائها الحسن دون أن تعلم بالطبع طبيعة أدائها الحقيقي في حل
المسائل المعطاة.
3 - مجموعة التجاهل: وكانت تسمع مدح أو لوم المجموعات الأخرى، إلا
أنها لم يكن يشار إليها مطلقاً خلال هذه المواقف التعليمية.
4 - المجموعة الضابطة: وكانت تعمل في حجرة منفصلة ولم تتلق أي لوم
أو مدح، كما أنها لم تلاحظ ما يوجه إلى غيرها، كما لم تعلم بالطبع طبيعة أدائها.
وتوضح نتائج التجربة أن متوسط نتائج التلميذات في المجموعات الأربع كان
متساوياً تقريباً في بداية التجربة، وبعد ذلك لوحظ أن أداء مجموعتي المدح والذم
كان متعادلاً تقريباً، وكانت درجاتهما أعلى من أداء مجموعة التجاهل والمجموعة
الضابطة، وبعد ذلك زادت مجموعة المدح تحسناً، وزادت مجموعة الذم سوءاً [3] ؛
هذا مع التذكير بأن المجموعات قد قسمت من البداية على أساس تساوي القدرات
العقلية والعمر الزمني.
إن هذا المفهوم يحتاج من المسؤولين آباءً كانوا أو معلمين أو إداريين وقفة في
أسلوب التعامل مع من هم في أماناتنا ومسؤولياتنا من البشر، أطفالاً كانوا أم كباراً؛
فمبدأ التعزيز الإيجابي لا يعرف للعمر أو الشكل أو الجنس أي قيمة، إنما هو
التعامل مع النفس البشرية؛ فهل ندرك الآن في أسلوب تعامل الأم مع طفلها في
البيت على سبيل المثال الفرق بين العبارتين التاليتين:
1 - إذا لم تكتب واجب المدرسة فسوف أضربك.
2 - إذا كتبت واجب المدرسة فسوف أعطيك هدية أو آخذك في نزهة إلى
الحديقة.
إن تأثير مبدأ التعزيز الإيجابي يعتمد أساساً على صناعة الرغبة الداخلية
للسير نحو الهدف بأقصى سرعة وطاقة ممكنة، وهذا ما يمكن أن نراه بالعين
المجردة إن أردنا أن نجرد ونشاهد.
كانت إحدى المدن الأوروبية السياحية تنعم بنظافة بيئية متميزة، وكان أحد
أهم أسباب جمالها إضافة إلى تلك المناظر الطبيعية الخلابة التي تتمتع بها، وعلى
مر السنين ساءت أحوال النظافة في المدينة حتى أصبح منظر القمامة على الأرض
شيئاً مألوفاً، وكثر الذباب، وفاحت الروائح السيئة؛ ولأجل حل هذه المشكلة
والخروج من هذا المأزق الذي سبب خسائر اقتصادية فادحة لأهل المدينة، عقد
مجلس البلدية جلسة خاصة لمناقشة الأمر، وخرج المجلس بقرار يفرض عقوبة
مالية على كل من يتساهل في ضوابط نظافة المدينة أو يعمل على تشويه جمالها
وبيئتها، ومرت الأيام وزادت الحال سوءاً، ولم يكن للقرار المتخذ أي فائدة ترجى،
ومن ثم اضطر المجلس للانعقاد مرة ثانية لمناقشة الأمر، وفي هذه المرة أصدر
المجلس قرارات هي أشد من الأولى حيث ضوعفت الغرامة المالية على كل مقصر،
حتى وصل الأمر إلى السجن، ومع كل هذه الإجراءات الصارمة لم تحل المشكلة
وبقيت المدينة على حالها، وعندها أدرك المجلس البلدي أنه لا بد من السير في
اتجاه آخر لحل المشكلة، هذا الاتجاه هو استخدام مبدأ التعزيز الإيجابي بدلاً من
السلبي، وفعلاً وبعد طول بحث توصلوا إلى فكرة اختراع نوع جديد من حاويات
القمامة، عندما تلقى فيها القمامة تخرج صوت صوتاً جميلاً مميزاً يقول للشخص
المقابل: شكراً.
وبعد هذا الاختراع الذي استند أساساً إلى استخدام أسلوب التعزيز الإيجابي
عادت المدينة لتهنأ بمستوى نظافة متميزة كما كان عليه العهد سابقاً [4] .
الآن وانطلاقاً مما ذكرنا فإن أملنا أن يدرك أهل المسؤولية مديرين كانوا أو
رؤساء، آباءً كانوا أو أمهات فاعلية مبدأ التعزيز الإيجابي؛ فلا يلجؤوا إلى
استخدام وسائل التعزيز السلبي إلا بعد استنفاد كل ما لديهم من وسائل التعزيز
الإيجابي أولاً؛ فهذه هي البداية الصحيحة ومفتاح الحل.
لا شك أن عملية التغيير مهمة صعبة، وما ذاك إلا لأن التغيير يحتاج إلى
تغيير، وهذا ما نفهمه من قول الله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا
مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .
وهذا الأمر يتطلب من الجهد والفهم والوعي الشيء الكثير؛ فهل نرتقي
بأنفسنا لنكون من أهل التغيير ... ؟!