مجله البيان (صفحة 4761)

الإسلام لعصرنا

الاعتقاد في حفظ السنة..

من لوازم الإيمان بالرسالة المحمدية

أ. د. جعفر شيخ إدريس [*]

إن قوة الإسلام التي ما تزال سبباً في سرعة انتشاره وإقبال رواد الحق إليه،

إنما هي في قوة الحق الهادي الذي يرونه بادياً على محياه. وهو حق يتضافر على

إبرازه الوحيان: كتاب الله المنزل وسنة رسوله المبينة، ولا بقاء له بأحدهما دون

الآخر. ففتنة التشكيك في السنة مقصد عظيم من مقاصد الذين يسعون جاهدين

لتقويض هذا الدين وإيقاف احتلاله لقلوب كانت تعشش فيها معتقدات باطلة

وهرطقات فارغة. لكن المؤسف أن الأدوات التي تستخدم لنشر هذه الفتنة هي

ألسنة وعقول إسلامية قد تكون حسنة النوايا. ولذلك فإنها تلجأ في نشر فتنتها إلى

استعمال حجج دينية. فالسنة المحمدية تُنكر تارة بدعوى أنه لا حاجة إليها مع وجود

القرآن الكريم، وتارة بدعوى أن كثيراً من الأحاديث حتى ما شهد له جهابذة العلماء

بصحة السند يتنافى مع ما تقرره بعض آيات القرآن الكريم، أو ما يقتضيه العقل

السليم، وتارة بأن الله تعالى إنما تكفل بحفظ القرآن الكريم ولم يَعِدْ بتكفله بحفظ

السنة المطهرة. وحديثنا في هذا المقال منحصر في هذه الدعوى الأخيرة؛ لأن

أصحابها يقولون إنهم ليسوا ممن ينكر السنة، وإنما هم من الذين يشكون في ثبوتها

كلها. ولذلك فإنهم يعطون أنفسهم حق النظر فيها والحكم عليها بأهوائهم (لا أقول

بعقولهم) ، فما رأوه موافقاً للكتاب قبلوه، وما رأوه مخالفاً له أنكروه مهما كانت قوة

سنده، وسواء كان في الصحيحين أو في غيرهما.

نقول لهؤلاء وغيرهم: إن على كل من يؤمن بأن محمداً صلى الله عليه وسلم

خاتم الأنبياء، وأنه مرسل إلى الناس كافة إلى قيام الساعة، أن يعلم أن من لوازم

هذا الإيمان الاعتقاد في حفظ السنة. عليه أن يعتقد هذا سواء علم كيف حفظت أو

لم يعلم، وسواء كان من العلماء أو من العامة. لماذا؟

يقول الله سبحانه وتعالى: [إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ] (الحجر:

9) .

ومع أن المعنى الشائع لكلمة الذكر في هذه الآية أنه القرآن الكريم؛ فقد قال

بعض العلماء إنها تشمل السنة أيضاً. والذي أريد بيانه هنا أنه حتى لو لم تكن كلمة

الذكر شاملة للسنة، إلا أنها تستلزمها.

كيف؟ إن كلمة الذكر تدل على أن المحفوظ ليس مجرد كلمات أو نصوص

يمكن أن تبقى مصونة في متحف من المتاحف الأثرية؛ وذلك لأن حفظ الذكر

يقتضي فهم المعنى؛ لأن الكلام لا يكون ذكراً إلا إذا فُهم. وهل يفهم القرآن الكريم

حتى فهماً أولياً إلا إذا عرفت لغته. وقد قال تعالى: [إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ

تَعْقِلُونَ] (الزخرف: 3) . [إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِياًّ لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ] (يوسف:

2) .

فالقرآن إذن لا يُعقل معناه ولا يُفهم إلا إذا فهمت اللغة العربية؛ فحفظه يستلزم

حفظها. وهذا هو الذي حدث بحمد الله تعالى وفضله. فاللغة العربية حُفظت كما لم

تحفظ لغة غيرها، فما زالت الملايين من الناس تتحدث بها وتكتب، وما زالوا

يتذوقون أدبها، وما زال التعمق فيها أمرا ميسوراً. وقد استخدم الله تعالى لهذا

الحفظ رجالاً حباهم بجمع ألفاظها، وحفظ نحوها وصرفها، وجمع شعرها ونثرها.

لكن الكتاب المحفوظ نفسه كان أهم سبب في حفظها لقراءة المؤمنين المستمرة له

ودراستهم لتفسيره وتمعنهم في بلاغته وإعجازه.

وقال الله سبحانه وتعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم: [وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ

الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ] (النحل: 44) .

ولحكمةٍ ما استعمل الله كلمة الذكر هنا كما استعملها في الآية الكريمة التي هي

موضع دراستنا. فكما أن الذكر لا يُفهم إلا بفهم لغته، فإنه لا يتبين إلا ببيان

الرسول له؛ فحفظ الذكر يستلزم لا جرم حفظ بيانه.

إن واحداً من عامة عقلاء البشر لا يكتب كتاباً يقول إنه لا يُفهم فهماً كاملاً إلا

بالحواشي المصاحبة له، ثم ينشر الكتاب من غير تلك الحواشي. فكيف يُظن

بالحكيم العليم أن يرسل رسولاً تكون مهمته أن يبين كتابه، ثم يحفظ الكتاب ولا

يحفظ ذلك البيان؟

والله سبحانه وتعالى يشير في أكثر من أربعين موضعاً في كتابه إلى سنَّة

رسوله، فيأمر باتباعه وعدم تقديم كلام بشر على كلامه، ويبين ضرورة هذا

الاتباع وفضله، وأنه أمر يقتضيه حب المؤمن لربه، ويحذر سبحانه من مخالفة

هذه السنة. يذكر كل هذا في مثل قوله سبحانه: [قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي

يُحْبِبْكُمُ اللَّه] (آل عمران: 31) .

[لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ

وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً] (الأحزاب: 21) .

[وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا] (الحشر: 7) .

[فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ]

(النور: 63) .

هل يتصور عاقل يقدر ربه حق قدره أن يشير في أمثال هذه الآيات إلى

معدوم بالنسبة لمن هم في عصورنا هذه المتأخرة؟

كيف يكون الناس في عهده صلى الله عليه وسلم بحاجة إلى سنته وهم الذين

نزل القرآن الكريم بلغتهم، ولا نكون نحن بحاجة إليها؟

كيف يشير إلى معدوم بالنسبة لنا وقد أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم للناس

كافة إلى قيام الساعة وجعله خاتما لأنبيائه؟

وإذا كان سبحانه وتعالى يعلم أن حاجتنا إليها عظيمة؛ فكيف يتصور أن لا

يحفظها لنا وينعم علينا بهدايتها كما أنعم على الذين من قبلنا؟

إن القول بعدم حفظ السنة له خبيء من أبطل الباطل هو أن محمداً صلى الله

عليه وسلم إنما أرسل لمعاصريه. وخبيء آخر هو أن الكفار كانوا محقين في

إنكارهم لإرسال الرسل وفي زعمهم بأن كل واحد منهم مؤهل لأن يؤتى مثل ما

أوتي رسل الله.

بل يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفاً منشرة: [بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ

أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً] (المدثر: 52) .

كيف يشك إنسان في حفظ السنة ثم يشهد بلسانه بأن محمداً رسول الله؟ ماذا

تعني هذه الشهادة بالنسبة له؟ إنه لا فرق في واقع الأمر بين إنكار السنة وإنكار

حفظها؛ فكلا الأمرين يؤدي إلى عدم الاهتداء بها.

الاعتقاد في حفظ السنة.. من لوازم الإيمان بالرسالة المحمدية

والاعتقاد في حفظ السنة من لوازم الإيمان بالرسالة المحمدية؛ لأن المؤمن

بهذه الرسالة يسأل الله تعالى في كل ركعة من ركعات صلاته الواجبة والنافلة في

كل يوم أن يهديه إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم غير

المغضوب عليهم ولا الضالين. ومن ذا الذي يدخل في من أنعم الله عليهم إن لم

يدخل فيهم جهابذة العلماء الفضلاء الأتقياء الذين أفنوا أعمارهم في جمع السنة

وحفظها وتفتيشها ودراستها والعمل بها؟ كيف يدعو إنسان ربه أن يهديه إلى

صراط الذين أنعم الله عليهم، ثم يعرض عن علماء السنة هؤلاء أو يتعالى عليهم

ظاناً أنه أعلم منهم أو أعقل أو أذكى أو أحرص على دين الله؟ كلاَّ؛ بل إن المؤمن

الصادق ليقول لنفسه: [أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِه] (الأنعام: 90) .

إنه لا بديل عن سلوك صراط هؤلاء إلا سلوك طريق المغضوب عليهم من

الذين عرفوا الحق وأنكروه، أو سلوك طريق الضالين الذين عبدوا الله بأهوائهم

وتخرصاتهم، فلم يكونوا من الذين هداهم الله ولا من أولي الألباب.

وإنه لمن تمام حفظ الذكر العظيم أن يكون بين المسلمين دائماً علماء يستهدون

بهداهم في معرفة هذا الذكر، ويسألونهم ويستفتونهم. وإنه لمن أعظم ما يتميز به

هؤلاء العلماء الهداة هو معرفة سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.

قال صلى الله عليه وسلم: «لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق،

لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون» [1] .

إن بداية عموم الضلال أن يذهب من على وجه الأرض أمثال هؤلاء العلماء،

فيذهب بذهابهم العلم بكتاب الله تعالى مع وجود نصوصه: «إن الله تعالى لا

يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم

يبق عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا واضلوا» [2] .

وحين يحدث هذا لا تبقى من فائدة في وجود النص القرآني؛ لأنه لا يكون

آنذاك ذِكْراً؛ ولهذا فإن الله تعالى يرفعه إليه، ثم يأذن بقيام الساعة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015