معن عبد القادر
مقدمة:
وقف المشركون من دعوة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- موقفاً لا يتغير
في جوهره وهدفه، فهو العداء المستحكم، والسعي الحثيث إلى قتل الدعوة في
مراحلها المختلفة، إلا أن هذا الهدف قد ظهر في صور متعددة تتخذ مرحليّة جلية
في العداء. وهذا المقال يلقي الضوء على أهم تلك الصور، ويشير إلى المرحلية
التي سلكها المشركون في العداء، معرجاً على موقف أهل الحق - متمثلين في
رسول الله وصحبه - من هذه الصور المختلفة.
1- مرحلة عدم الاكتراث بالدعوة:
بدأ الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالدعوة منذ أن نزل عليه [يَا أَيُّهَا المُدَّثِّرُ
قُمْ فَأَنذِرْ] وكانت دعوته في بادىء الأمر سرية، ولا يُفهم من ذلك أن المشركين
في تلك الفترة لا يعلمون عن محمد ودعوته شيئاً، لكن حيث جاء الرسول بما
يخالف ما عليه القوم مخالفة كلية، وحيث علم أنه ليس من السهولة أن يلتف الناس
حوله إذا جهر بالدعوة بينهم مجتمعين، فقد كان يتخير من يتوسم فيه القبول فيسرُّ
له بآمر الدعوة، وهكذا خفي على المشركين أو الكثير من أتباع الرسول -صلى الله
عليه وسلم- ولكنهم لم يخف عليهم أن للرسول دعوة. فهذا أبو ذر وعمرو بن
عنبسة وغيرهم يأتون النبي لأنهم قد سمعوا به، وانتشر بينهم أنه يدعو إلى أمر
جديد، إلا أن الرسول وهو في بداية أمره لم يواجه قومه بتسفيه ما هم عليه، فلم
ينشأ عندهم الشعور القوي بالخطر من دعوته، فكان من أثر ذلك أنهم لم يكترثوا
بأمره.
جاء في سيرة ابن هشام: (فلما نادى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قومه بالإسلام وصدع به كما أمره الله لم يبعد عنه قومه ولم يردوا عليه، حتى ذكر
آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته) [تهذيب
سيرة ابن هشام / 55] .
وهكذا الأمر دائماً، عندما لا يشعر أهل الباطل بأن في دعوة الحق خطراً
عليهم، فإنهم لا يبدون اكتراثاً بأمرهم، وإن كانوا لا يخفون بغضهم وكراهيتهم
واستهزاءهم بالحق وأهله، ولكن أنى لدعوة أن تنتشر ويظهر أمرها، وتقوم
بالأمانة المنوطة بها، وهي تستر ركناً عظيماً من أركانها وهو الكفر بالطاغوت.
قد يكون هذا ممكنا في حق فرد، ولكنه لا يكون في حق دعوة بأكملها.
2 - المحاولات غير المباشرة لإسكات الرسول صلى الله عليه وسلم:
ولما أعلن الرسول كفره بآلهتهم، وتسفيه معتقداتهم، حاول المشركون أن
ينهوا الأمر بمحاولة إسكاته عن القيام بدعوته، وذلك عن طريق عمه أبى طالب،
فمن ذلك طلبهم منه في المرة الأولى أن يكف ابن أخيه عنهم أو يتركهم ليروا أمرهم
فيه فردهم أبو طالب رداً جميلاً. (التهذيب / 55) .
ولما لم تثن تلك المحاولة الرسول عن عزمه حاولوا مرة أخرى بلهجة أشد.
(التهذيب / 56) وكان جواب الرسول واضحاً صريحاً وقاطعاً في أنه لا أمل في
ثنيه عن دعوته: (والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحدكم من هذه
الشمس شعلة من نار) (التعليق على فقه السيرة / 110) .
3 - صياغة الاتهامات لتضليل العامة:
ولما أيقنت قريش أنها لا تستطيع ثني الرسول عن الصدع بدعوته، حولت
جُلَّ جهودها إلى إنشاء مناعة عند عامة العرب ضد الإيمان به، أو حتى الاستماع
إليه، فاجتمعت قريش قبل موسم الحج بزعامة الوليد بن المغيرة لصياغة الاتهامات
المناسبة لصد الوفود عن الاستماع إلى الرسول (فقال لهم: يا معشر قريش إنه قد
حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم
هذا فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه
بعضاً) (التهذيب / 57) ، فتقلبت أقوالهم بين ساحر وكاهن وشاعر، ثم استقر رأيهم على اتهامه بالسحر، كما تظهر القصة، وإن كانوا في الحقيقة لم يستقروا على اتهام واحد [إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ] .
ومن ذلك ما لقي به المشركون الطُفَيل بن عمرو الدوسي، وأعشى قيس،
وغيرهم ممن كان يقدم مكة للسماع من الرسول صلى الله عليه وسلم.
وكان من مشيئة الله أن جعل من تلك الاتهامات والتحذيرات دعاية للدعوة ...
وصدرت العرب من ذلك الموسم بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتشر
ذكره في بلاد العرب كلها) (التهذيب / 58) .
4 - مرحلة التعذيب لفتنة المؤمنين:
ولما لم تفلح تلك المحاولات في صد الناس عن الإيمان بالدين الجديد،
تواصى المشركون فيما بينهم بالتفنن في التعذيب لرد من آمن بمحمد عن دينه، وقد
لخص كبيرهم أبو جهل مخططهم في ذلك: (وكان أبو جهل الفاسق.. إذا سمع
بالرجل قد أسلم له شرف ومنعة أنبه وأخزاه وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك
لنسفهن حلمك، ولنفيِّلَنَّ رأيك، ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال: والله
لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك، وإن كان ضعيفاً أغرى به ((التهذيب / 71، 72) .
وبدأت مرحلة التعذيب الرهيب كفعل أبى جهل بآل ياسر، وأمية بن خلف
ببلال، ويكفي في تصوير شدة هذا التعذيب ما يرويه سعيد بن جبير قال: (قلت لعبد
الله بن عباس: أكان المشركون يبلغون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه
وسلم- من العذاب ما يعذرون به في ترك دينهم؟ قال: نعم والله، إن كانوا
ليضربون أحدهم ويجيعونه ويعطشونه حتى ما يقدر أن يستوي جالساً من شدة الضر
الذي نزل به، حتى يعطيهم ما سألوه من الفتنة، حتى يقولوا له: اللات والعزى
إلهك من دون الله؟ فيقول نعم، افتداء منهم مما يبلغون من جهده) (التهذيب / 72) .
ولقد أصاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في تلك المرحلة شيء من الأذى، كالذي فعله به عقبة بن أبى معيط حين وضع سلا جزور على رأسه وهو ساجد،
وعندما اجتمع عليه المشركون حول الكعبة ففرقهم أبو بكر عنه.
والحقيقة أن التعذيب لم ينته عند مرحلة معينة، بل استمر طويلاً، إلا أن
الهدف منه في المرحلة الأولى والدعوة في طفولتها كان المحاولة في رد الأتباع
القلائل عن دينهم، وتخويف غيرهم من الدخول في الدين، لكن بعد أن قويت
شوكة الدعوة كان التعذيب لمجرد الانتقام، ولتنفيس الغيظ والحنق الذي في نفوس
المشركين، أو للأخذ بشيء من ثاراتهم من المسلمين، ومن ذلك ما فعله المشركون
بخبيب حين صلبوه.
ولابد لنا هنا من وقفة عند أثر هذه المرحلة على أتباع الدعوة، وعلى سير
الدعوة نفسها:
- أخرجت تلك الابتلاءات نماذج عظيمة في الثبات على دين الله، والتضحية
في سبيل العقيدة.
- وكان فيها تربية صلبة للأصحاب أعدتهم رجالاً لتلك الدعوة، فوق ما
ارتفعت به درجاتهم عند الله.
- وزادت من الترابط بين أتباع الدين الجديد.
- وأدت إلى شيء من تعاطف العامة من المشركين مع هؤلاء المستضعفين.
وهذه وغيرها مكاسب عظيمة للدعوة، كان الابتلاء سبباً مباشراً لها.
ووقفة أخرى مع موقف الرسول -صلى الله عليه وسلم- وهو يرى أتباعه
يعذبون:
لقد أصاب رسول الله أذى من المشركين، لكنهم لم يكونوا ليبلغوا منه شيئاً
كثيراً لمكانة عشيرته بينهم، ولكن عديداً من أصحابه واجه فتنة لا طاقة لكثير من
البشر بها، فماذا كان موقف الرسول من ذلك؟ .
لقد أبدى الرسول تعاطفاً شديداً وشفقة حانية على أتباعه من المعذبين، فكان
يمر بآل ياسر، ويثبتهم على مصابهم، ويعدهم الجنة، وكذلك كان حال المسلمين
ممن لم يصبهم الأذى، فهذا أبو بكر ينفق ماله على إعتاق المعذبين من الرقيق.
ولم ينته دور الرسول عند التعاطف والإشفاق، بل كان يبحث عن كل ما من
شأنه أن يخفف المصاب عن أتباعه من حلول عملية.
فكان يأمر من أسلم من الضعفاء أو ممن يخشى عليه الفتنة أن يكتم إسلامه
عن أهله، ويأمر بعض من يأتيه من قبائل العرب مسلماً أن يعود إلى قبيلته لأنه لا
سند له بمكة.
ولما علم أن في الحبشة ملكاً لا يظلم أمرهم بالهجرة إليه فراراً بدينهم.
إذن: كان الرسول يرفع من معنوياتهم، ويذكرهم بالأجر والثواب، ويؤكد
نصر الله إياهم بعد حين، وفي نفس الوقت كان يبحث لهم عن حلول عملية تخفف
من وقع الفتنة عليهم.
إن التعاطف والسعي لتخفيف وطأة التعذيب على المسلمين أمر مطلوب،
وواجب على القيادة المسلمة تجاه أتباعها، أما التخلي عن شيء من المنهج، ولا
أقول الأسلوب والسياسة، تفادياً للمواجهة، واتقاءً لبطش الجاهليين، فأمر لا
يرضاه الله، وقد عصم منه رسوله، وللأسف فقد سقط في هذا المزلق بعض
المخلصين بدافع إخلاصهم وشفقتهم على إخوانهم.
إن الإسلام وهو دين الرحمة قد جعل للأفراد رُخَصاً يجيز لهم الأخذ بها وقت
الشدائد تصل إلى التلفظ بكلمة الكفر، ولكن لا يجوز لأحد مهما بلغت به الفتنة أن
يهادن في دين الله أو يحرف في منهجه.
إن بعض المخلصين، وقد أحزنهم وشق عليهم ما نزل ببعض إخوانهم، وقد
بدءوا يبدون التميع، ويبدون التفاوض مع الجاهلية، بمبادئهم لتخفيف الوطأة على
إخوانهم.
وبدأوا ينطلقون من منطلق (كفانا أشلاء ودماء) وبدأ منهجهم يتكيف مع هذا
المنطلق في جوهره وليس في أسلوبه فقط. إن أشلاء إخواننا ودماءهم غالية على
كل مسلم غيور، ولكننا أيقنا أنها الثمن الذي أراده الله للنصر ... وللجنة.
إن الدعوة التي اشتدت عليها الفتنة، فبدأت تغير من منهجها، ومرة أخرى لا
أقول: من أسلوبها؛ قد سقطت في الابتلاء الذي جعله الله سنة في الدعوات:
[أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ] .
[أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم، مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ
وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ] .
إن التربية التي ترسخ في النفوس أن الابتلاء سنة الله في الدعوات، مهمة
جداً، مهمة للقادة حتى لا يسقطوا في الابتلاء، ويحرفوا المنهج تفادياً لهم، فيضلوا
ويضلوا. مهم للأتباع حتى يثبتوا بتثبيت الله لهم عند الابتلاء، وحتى لا يتسبب
ابتلاؤهم في صب جام غضبهم ولعنتهم على إخوانهم وعلى منهجهم لأنه بزعمهم
السبب فيما وقعوا فيه.
إن أي مسلم غيور، لتذهب نفسه حزناً وهماً على ما يصيب إخوانه في
العقيدة، وهو مطالب بأن يبذل وسعه في سبيل التخفيف عنهم، وإن كان ما نقدمه
حقيقة قليل جداً، وذلك لتراكم الظلم من كل جهة، ولبخل بعضنا وقعودهم عن بذل
كل إمكاناتهم وقدراتهم في سبيل نصرة إخوانهم، ولكن لا يجوز لنا أن يجرفنا الهم
والحزن إلى التخلي عن شيء من منهجنا تفادياً للمواجهة، وفي موقف رسول الله -
صلى الله عليه وسلم- من خباب رضي الله عنه وهو يأتيه شاكياً عند الكعبة تثبيت
لتلك السنة في نفوس أصحابه بضرب المثل بما لاقاه أسلافهم من المؤمنين، ثم ثبته
بتأكيد نصر الله لهم ولو بعد حين.. يقول خباب: «أتيت النبي -صلى الله عليه
وسلم- وهو متوسد بردة وهو في ظل الكعبة، وقد لقينا من المشركين شدة، فقلت:
يا رسول الله، ألا تدعو الله لنا؟ فقعد وهو مُحْمَرٌ وجهه فقال: لقد كان من قبلكم
ليمشط بمشاط الحديد مادون عظامه من لحم أو عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه،
ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيشق باثنين، ما يصرفه ذلك عن دينه، وليتمن
الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ما يخاف إلا الله»
(البخاري 7/164) .
وكذلك خرج بأصحابه مثخناً بالجراحات يوم أُحد، وذهب منهم سبعون شهيداً
من خيرة الصحابة، وهو عدد ليس بقليل في ذلك الوقت من عمر الدعوة، لقد كانوا
عشر جيش المسلمين، فماذا كان من الرسول بعد هذا البلاء المبين؟ يقول ابن
إسحاق: (قدم على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد أحد رهط من عضل والقارة فقالوا: يا رسول الله إن فينا إسلاماً فابعث معنا نفراً من أصحابك يفقهوننا في الدين، ويقرئوننا القرآن، ويعلموننا شرائع الإسلام، فبعث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- معهم نفرا من أصحابه) (التهذيب/194) ثم كان ما كان من هذيل في يوم الرجيع إذ قتل وفد رسول الله جميعهم، وكانوا ستة كما عدهم ابن إسحاق.
ثم ماذا؟ ثم بعث رسول الله أصحاب بئر معونة على رأس أربعة أشهر من
أُحد (التهذيب/200) وقتل فيه أربعون صحابياً من خيار المسلمين غدراً وخيانة.
بلاء على إثر بلاء، ولكن الدعوة مستمرة، والمنهج محفوظ، يختار الله من يشاء
من المخلصين إلى جواره، وتبقى بقية القافلة في سيرها إلى الله كما أمرها الله.
5 - مطاردة الفارين بدينهم خارج الحدود:
(فلما رأى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما يصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبى طالب، وأنه لا يقدر على
أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً
لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه، فخرج
عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى أرض
الحبشة مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم) (التهذيب /72) .
ولكن طغاة قريش لم يطب لهم العيش، وهم يرون أتباع الدعوة وقد أصابوا
داراً وقراراً عند ملك الحبشة، فكان ما كان من مؤامرات حتى يخرجوهم من دارهم
التي اطمأنوا بها وأمنوا فيها.
وكان من رحمة الله بعباده المؤمنين، ومن حمايته لدعوته وحفظه لها أن رد
وفد قريش خائباً، وجعل للمسلمين من عدل النجاشي ملجأ، وإن لم يكن على دين
الإسلام في بادىء الأمر. وهذه الصورة بكل جوانبها لا تزال تكرر نفسها.
يضطهد المسلمون في أرضهم، فيفرون بدينهم منها، ويحاول الطغاة أن
يتبعوهم بأذاهم حيث ما كانوا، فتدرك المؤمنين رحمة الله فييسر لهم من الأسباب ما
يحفظهم من الأذى، ونحن نرى تلك الأسباب في الغالب يهيئها الله على أيدي كفار
آخرين يملكون شيئاً من حرية الفكر واحترام الإنسان، فسبحان من ينصر دينه
بالرجل الفاسق.
6- المفاوضات (الإغراءات) المادية:
ولما لم تفلح كل تلك المحاولات مرة أخرى في قتل الدعوة، أو حتى في
إيقاف انتشارها الواسع، وعندما قوي أتباع الرسول -صلى الله عليه وسلم- واشتد
أمرهم بإسلام حمزة وعمر وغيرهما، لجأ الطغاة إلى محاولات لإغراء الرسول
بأمور الدنيا، كي يتنازل عن دعوته.
ومثال تلك المحاولات مفاوضة عتبة بن ربيعة أرسلته قريش مندوباً عنها
ليعرض على الرسول الملك والجاه والمال كي يكف عن دعوته.
ولا تزال تلك الوسيلة تستخدم لشلِّ الدعوة وشراء الدعاة، فيتم بذلك احتواءهم
وتسييرهم إلى الوجهة التي يراد لهم السير فيها، وكم من داعية لم يسقط بالترهيب
والتهذيب سقط بالإغراء والترغيب.
7 - المفاوضات الدينية والسعي وراء التنازلات:
وتمثل تلك المرحلة أخبث وأخطر ما تفتق عنه تخطيط الطغاة ومكرهم. إن
أهل الباطل ليس لهم منهج ثابت محدد يلتزمون به، وإنما يدورون مع مصالحهم
حيث دارت، ومصلحتهم العظمى كما يرونها في عداء الحق والسعي لإطفاء نور
الله، ومن هنا فإن أهل الباطل لا يجدون غضاضة ولا صعوبة في أن يعترفوا
بشيء من الحق ويتفاوضوا مع أهله إذا كان في ذلك قضاء على الحق وأهله ولو
بعد حين.
أما أهل الحق فموقفهم مختلف تماماً، إنهم لا ينطلقون من مصالح معينة، إن
لهم منهجاً ثابتاً محدداً أنزله الله إليهم، وأمرهم باتباعه وحذرهم من مخالفته،
وقضيتهم في جوهرها إنما هي استمساك بهذا المنهج الثابت ومحافظة عليه، والذب
عنه حتى الموت.
ومن هنا فإنهم ليس لهم من الأمر شيء، ولا يملكون أن يتنازلوا عن شيء
من هذا المنهج لأي هدف كان، إذ أن منهجهم هو قضيتهم، ومصلحتهم في العض
عليه بالنواجذ، وتحقيق أي هدف في الحياة الدنيا، ولو بدا سامياً عند البعض لا
يجوز أن يتم بالتنازل عن شيء من المنهج.
وتدبروا في موقف أهل الباطل من التنازلات [وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ] إن
لديهم الاستعداد للمداهنة، ولا مانع لديهم من التنازلات عن شيء من باطلهم في
مقابل تنازل أهل الحق عن شيء من حقهم.
يقول ابن كثير في تفسير سورة الكافرون: (قيل إنهم (أي كفار قريش) من
جهلهم دعوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى عبادة أوثانهم سنة، ويعبدون
معبوده سنة، فأنزل الله هذه السورة فأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- فيها أن
يتبرأ من دينهم بالكلية فقال: لا أعبد ما تعبدون) .
إنه لا فرق البتة بين أن يعبد المشركون آلهتهم أبد الدهر، أو يعبدوها سنة
ويعبدوا الله سنة بعدها، كله باطل، وما يضير المشركين أن يقدموا مثل هذا
التنازل، وهم بذلك يكسبون الاعتراف الصريح من أهل الحق بشرعية ما عليه أهل
الباطل.
ولكنه فرق أبعد مما بين السماء والأرض، بين أن يعبد المسلمون الله كل عام، أو يعبدوه عاماً ويعبدون آلهة المشركين عاماً بعده، إن الصورة الأولى هي الحق، والثانية باطل من جملة الباطل وشتان بين الحق والباطل.
وماذا يكسب المسلمون من مثل هذا التنازل؟ اعتراف أهل الباطل بحق أهل
الحق في الوجود؟ ! وماذا يعني لو تم ذلك؟ هل حققنا قضيتنا؟ وكيف نحقق الكفر
بالطاغوت وهو قرين الإيمان بالله ونحن نقدم مثل هذه التنازلات؟ .
وثبت الله رسوله أمام هذا الكيد الجديد [وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ
شَيْئاً قَلِيلاً] وعلمنا الموقف الذي نقفه من هذا الكيد، وحذرنا من المداهنة في دين
الله، بل جعل من أصول ديننا معاداة الكافرين وبغضهم والبراءة منهم، حتى يقطع
كل سبيل إلى الجلوس معهم لتقريب وجهات النظر! !
8- المواجهة المسلحة:
ولما رد الله الذين كفروا بغيظهم في كل مناسبة، ورعى دعوته حتى شبَّت
وقوي عودها، وأحس المشركون بخطر الدعوة على وجودهم، كانت المواجهات
المسلحة ولابد أن تكون، فكانت بدر ثم أحد والخندق وغيرها من السرايا والغزوات، ثم كان يوم الفتح الأكبر، فتح مكة.
وصدق الله وعده للمؤمنين وهم بمكة يعذبون، أو وهم في الحبشة يطاردون،
أنه ناصرهم على الكافرين.
هذه أبرز صور العداء التي واجهتها الدعوة الأولى، ولا يملك المسلم الذي
يعيش في هذا العصر وهو يراجع تلك الصور إلا أن يتساءل [أَتَوَاصَوْا بِهِ] .
إن المحاولات هي ذاتها، وإن أصبحت في كثير من الأحيان أعنف وأشد
خطراً على الدعوة، لازدياد كيد العدو من جهة، ولضعف إيمان المسلمين من جهة
أخرى.