قراءة في فكر مالك بن نبي
- الحلقة الأخيرة -
محمد العبدة
بعد الحلقة الأخيرة في قراءة فكر مالك بن نبي كانت النية متجهة للكتابة عن
بعض أخطائه ضمن الكتابة عن المدرسة التي تأثرت به، وفي مكان آخر غير
صفحات هذه المجلة، ولكن بعض القراء أشاروا وطلبوا أن تكون الكتابة عن مالك
في المجلة حتى تتضح الصورة، وتظهر الإيجابيات والسلبيات كي تقع الفائدة
المرجوة وتتجنب الأخطاء، واستجابة لهذا سأكتب عن الأخطاء ضمن المنهج
الصحيح في الجرح والتعديل؛ وهو أنه إذا غلب على الرجل الخير فالأولى تقديم
إيجابياته والتغاضي عن سلبياته أو ذكرها مجملة ما أمكن ذلك، وما أردت في
المقالات السابقة إلا عرض خلاصة أفكاره عن أمراض العالم الإسلامي وشروط
النهضة، وهي أفكار تستحق الدراسة والتأمل، ونتمنى أن يستفيد منه المسلمون في
كل مكان. فقد أصاب فيها المحز، ووضع الإصبع على الجرح، ورغم مرور
سنين على طرحها، لكن مشكلة المسلمين لا زالت كما حللها وكتب عنها.
إن الأخطاء التي سنتكلم عنها ليست أخطاء عادية مما يقع لكل كاتب، فكان
لابد من ذكرها والتنبيه عليها.
النظرة السطحية للأحداث والشخصيات:
كان مالك بن نبي عميقاً في فهم غور الاستعمار وأساليبه الخفية للتسلط على
العالم الإسلامي، وعميقاً في معالجة (القابلية للاستعمار) عند المسلمين، ولكنه في
عالم الواقع والسياسة فيه سذاجة أو طفولة سياسية، وهذا ليس غريباً فقديماً تعجب
الإمام ابن الجوزي من شخصية أبى حامد الغزالي، كيف يجمع بين الفقه والذكاء
من جهة، وبين الصوفية وحكايات العجائب والخرافات من جهة أخرى.
أ - أعجب مالك بثورة 23 يوليو في مصر، ومدحها ووضع آماله فيها من
ناحية الإصلاح الزراعي والصناعة، وإنشاء وزارة الثقافة والإرشاد، والحياد
الإيجابي، وكل الدجل والشعارات التي أطلقها مهرج هذه الثورة.
فثورة يوليو 1952 عند مالك (من أهم الحوادث بالنسبة للصراع الفكري،
وكان لهذا الحدث تأثير شرارة كهربائية انطلقت في وعي البلاد العربية والعالم
الإسلامي) [1] (وكل عربي يعلم أن نظرة الرئيس جمال عبد الناصر خطت
للنهضة العربية الاتجاه الصحيح الذي يحقق الشرط الأول للانسجام مع القانون
العام ... ) [2] .
كيف يكون هذا الزعيم بهذه الصفات ونحن لا نعلم أن هناك زعيماً آخر في
العصر الحديث ترك بلاده خراباً مثل جمال عبد الناصر؟ كيف لا يدري مالك بن
نبي وهو من هو في فهم اللعبة الاستعمارية أن عبد الناصر كان ضمن (لعبة الأمم) ،
وأنهم ساعدوه على صنع هذه البطولة المزيفة، وحتى لو كانت هناك بعض
الإصلاحات المادية - وهي لم تتحقق فعلاً - فأين الحديث عن الاستبداد السياسي
وكرامة الشعب المسحوقة؟ بل أين تطبيق الإسلام؟ .
2 - علق مالك بن نبي آمالاً كبيرة على مؤتمر باندونغ، واعتبره كتلة سلام
للعالم، واعتبر هذا التنوع الذي يضم تسعاً وعشرين دولة، تضم تراثاً فكرياً متفاوتاً
(يمكن بطبيعة الحال أن يقدم العناصر اللازمة لبناء قاعدة متينة للسلام) ، [3] . هذه
نظرته لهذا المؤتمر، والحقيقة أنه كان يحب التكتلات الكبيرة لمواجهة الغرب، وقد
يكون معه بعض الحق في هذا، ولكن مثل هذا التكتل كان يحمل بذور فشله،
وقضية الحياد التي يرفعها لم تكن صحيحة، فكل دولة منحازة، والهند التي كانت
من أبرز أعضاء المؤتمر وتدعي السلام والروحانية كانت تحمل بين جوانحها الكره
العميق للمسلمين، بل إن صورة الهند العداونية كانت من البديهيات عند الشباب
المسلم في الستينات، ولم ينخدعوا بكلام الدبلوماسي الهندي (ليس لدينا من الخشوع
ما يكفينا ونحن ذاهبون إلى باندونغ) [4] ، ويصدق مالك بن نبي أن نهرو حمل
رسالة اللاعنف التي سلمه إياها غاندي، ونهرو هذا يكتب في (المجلة العصرية)
مقالتين ينكر فيهما على الجمعيات المسلمة الحركة ضد القاديانية ويؤيد جانب
القاديانية) [5] ، وهند نهرو هي التي احتلت كشمير وأخذتها بالقوة، فأين السلم وأين الديمقراطية التي تدعيها؟ وما الفرق بين الهند وباكستان في (القابلية للاستعمار) .
وقد أدرك مالك أخيراً عدم جدوى أي محاولة تجمّع ليست عناصره
منسجمة [6] ، كما كان يلمح في آخر حياته بأن ثورة 23 يوليو لم تقم بالواجب، ولاشك أن الكبار من أمثال مالك بن نبي يتراجعون إذا عرفوا الحق. ...
3 - كانت روسيا بعد الثورة الشيوعية تدعي أنها دولة صديقة للشعوب وللعالم
الثالث، وأنها ليست دولة استعمارية، وقد صدّق مالك بن نبي هذه المقولة، يقول:
(فالمناخ الاستعماري الذي تكوّن في أوربا وأمريكا على حد سواء، وفي الاتحاد
السوفييتي قبل الثورة أيضاً) ولكن الحقيقة أن روسيا مستعمرة قبل الثورة وبعدها،
ولم تتخل عن جشع الدول الكبرى، وهي وجه آخر للحضارة الغربية.
4 - نقد مالك الانتخابات السياسية التي تطالب بالحقوق فقط وتنسى الواجبات، وتعتمد أسلوب المظاهرات والحفلات، وهو محق في هذا، ولكنه شارك في هذه
الوسائل، وساعد (مصالي الحاج) في قيام الحزب الوطني، مع أنه ينتقده هو
وحزبه، ولكنه حب الحركة ثم يكتشف الأخطاء بعدئذ.
اللاعنف:
أعجب مالك بن نبي بقصة (اللاعنف) عند غاندي، فهو يذكرها دائماً، بل
يذكرها بخشوع، ويبني عليها أحلامه الفلسفية في السلام العالمي، واتجاه العالم نحو
مناقشة قضاياه بالسلم والحوار والفكر، يقول عن منطقة جنوب شرقي آسيا: (هي
مجال إشعاع الفكر الإسلامي وفكرة اللاعنف، أي مجال إشعاع حضارتين:
الحضارة الإسلامية والحضارة الهندوكية، الحضارتان اللتان تختزنان أكبر ذخيرة
روسية للإنسان اليوم) [7] .
ويحلق في الخيال والطوباوية عندما يقول: (فكذلك رفات غاندي التي ذروها
فإن الأيام ستجمعها في أعماق ضمير الإنسان من حيث سينطلق يوماً انتصار
اللاعنف ونشيد السلم العالمي) [8] . (هذا الرجل (غاندي) كان يتقمص إلى درجة
بليغة الضمير الإنساني في القرن العشرين) . [9] .
إن فكرة (السلم العالمي) بمعنى أن يحل السلام في العالم بشكل دائم، أو أن
العالم يتجه نحو هذا الهدف، هذه الفكرة غير واقعية وغير شرعية، وهي فكرة
خيالية محضة، فهي تنافي مبدأ الصراع الذي ذكره القرآن الكريم [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ
النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ] [البقرة: 251] كما تنافي مبدأ الجهاد في
الإسلام، وهي غير واقعية لأن من طبيعة البشر التغالب والعدوان إن لم يردعهم
رادع، والدول الكبيرة القوية تأكل الضعيفة إن لم يكن عسكرياً فاقتصادياً.
والبشرية لن تبلغ رشدها في عمرها الثالث فتصبح الفكرة ذات قيمة قي حد ذاتها كما
يتصور مالك بن نبي [10] ، بل إنها كثيراً ما تتردى من الناحية الإنسانية،
والبشرية لا تبلغ رشدها إلا إذا حكمها الإسلام.
إن فكرة (اللاعنف) و (الإنسانية) من الأفكار الخطيرة التي بذرها مالك
ووسعها بعدئذ تلامذته، وحاولوا اللف والدوران كثيراً حول مبدأ الجهاد الإسلامي.
الإنسانية والعالمية:
وقريب من مبدأ (السلام العالمي) كان مالك يحلم بأن تتوحد الإنسانية في
مجتمع عالمي، ويظن بأن البشرية تسير بهذا الاتجاه، (فالعالم قد دخل إذن في
مرحلة لا يمكن أن تحل فيها أغلبية مشكلاته إلا على أساس نظم الأفكار) [11] ،
(وحين اتجه العالم إلى إنشاء منظمة اليونسكو، كان يهدف إلى (تركيب) ثقافة ...
إنسانية على المدى البعيد) [12] (وما محكمة العدل في لاهاي والقانون الدولي،
والقانون البحري إلا مظاهر خاصة لذلك الاتجاه العام الذي لايفتأ يمهد الطريق
لتوحيد العالم) [13] .
هذا المفهوم للإنسانية مفهوم وهمي يراد به محو الشخصية الثقافية الحقيقية
لكل مجتمع ولكل أمة، وإذا كان العالم قد تقارب وانتشرت الأفكار في كل مكان،
وقد يستفيد المسلمون من ذلك في نشر دينهم الذي يملك عناصر التأثير والقوة،
ولكن أن يتوحد العالم في مجتمع واحد فهذا مفهوم ذهني مجرد، وإذا كان هو نفسه
شعر بأن فكرة الأفرو آسيوية صعبة التحقيق، ولذلك عاد وكتب عن (الكومنولث
الإسلامي) ؛ فكيف يظن أن العالم يسير نحو الوحدة؟ !
ضعف ثقافته الشرعية:
لم يتصل مالك بن نبي بعلماء عصره ليستفيد منهم، ورغم اعترافه بأهمية
جمعية العلماء في الجزائر التي كان على رأسها الشيخ عبد الحميد بن باديس؛ إلا
أن علاقته بها كانت فاترة ويعترف هو بعد لأي أنه كان مخطئاً في هذا [14] ،
ولذلك كانت دراسته للإسلام نابعة من قراءاته الشخصية وهي قليلة إذا قيست
بقراءاته في الفكر الغربي، وهذا ما جعله يخطئ في أمور كثيرة سواء كانت في
الفقه والأحكام أو في النظرة لبعض جوانب التاريخ الإسلامي، فمن رموز الثقافة
عنده الفارابي، وابن سينا، وابن رشد [15] .. (والمجتمع الإسلامي في عصر
الفارابي كان يخلق أفكاراً وفي عهد ابن رشد يبلغها إلى أوربا وبعد ابن خلدون لم
يعد قادراً على الخلق ولا على التبليغ) [16] .
وفي العصر الحديث فإن من رموز الثقافة عنده جمال الدين الأفغاني، وهو
موقظ الشرق، وهو رجل الفطرة ... الخ. وإطلاقه هذا القول جزافاً يدل على
ضعف ثقافته الشرعية.
وفي التاريخ يلمز كثيراً بنى أمية دون وضع الضوابط للإنصاف والتقويم
الصحيح. وبسبب عدم وضوح توحيد الألوهية ظن أنه من الممكن اتصال العالم
الإسلامي بروحانية الهند (وليس بوسعنا أن نغض من قيمة الدور الذي يمكن أن يؤديه اتصال العالم الإسلامي بروحانية الهند) [17] .
ولم يشر في كتبه إلى موضوع تحكيم الشريعة الإسلامية، وكان معجباً بدولة
الوحدة عام 1958 مع أنها لا تطبق شرع الله، وهناك أخطاء جزئية لا نريد
التفصيل فيها ونعتقد أنه لو نبه عليها لتراجع.
وقبل أن ننهي هذه القراءة لفكر مالك بن نبي لا بد من التنبه لأمور: ...
أ - هذه السلبيات والأخطاء يجب أن لا تمنعنا من الاستفادة من الإيجابيات،
فهذا المفكر خبير في نهضة المجتمعات وأمراض المسلم المعاصر.
وكأني أسمع بعض المسلمين يقولون: ما دامت هذه آراؤه فما الفائدة من
قراءة كتبه؟ وهذا خطأ فادح منهم، فنحن نقرأ لأعداء الإسلام ونستفيد منهم؛ فكيف
بمفكر كان يسعى - حسب جهده - لخير المسلمين، وإن أخطأ في مواضع.
2 - إن مالك بن نبي شخصية كبيرة، فهو يتراجع عن الخطأ إذا تبين له،
لقد نصح جمعية العلماء في الجزائر بصدق وقال كلاماً دقيقاً في هذا (لقد كان على
الحركة الإسلامية أن تبقى متعالية على أوحال السياسة والمعامع الانتخابية) [18] (وبأي غنيمة أراد العلماء أن يرجعوا من هناك وهم يعلمون أن مفتاح القضية في
روح الأمة لا في مكان آخر) [19] ، وهو يقصد سير العلماء في القافلة السياسية
عام 1936.
ويقول: (فيما يخصني لقد بذلت شطراً من حياتي في سبيل الحركة الإصلاحية، وشهدت في مناسبات مختلفة بالفضل لجمعية العلماء) [20] ، ويتأسف لأن الجمعية لم تدعه للمساهمة في شؤونها الإدارية، ومع ذلك فقد تراجع واعترف أن موقفه من الجمعية لم يكن طبيعياً بسبب نظرته الخاصة للشيخ ابن باديس.
3 - رغم معرفة مالك الدقيقة بالفكر الغربي، وتأثره به في بعض الأحيان إلا
أن أمله في التغيير بقي معلقاً في الأصالة الإسلامية، وبالرجوع إلى المنبع الأساسي
للمسلمين (فالعالم الإسلامي لا يستطيع أن يجد هداه خارج حدوده بل لا يمكنه في كل حال أن يلتمسه في العالم الغربي الذي اقتربت قيامته، ولكن لا يقطع علاقته بحضارة تمثل أحد التجارب الإنسانية الكبرى، بل المهم أن ينظم العلاقة معها) [21] ، (والمسلم لا يزال يحتفظ بالقيمة الخلقية، وهو ما ينقص الفكر الحديث، فالعالم الإسلامي لديه قدر كبير من الشباب الضروري لحمل مسؤولياته مادياً وروحياً) [22] .
فهل يتحمل الشباب هذه المسؤوليات؟ نرجو ذلك.