قضايا دعوية
أحمد بن صالح السديس
لا تبقى الحياةُ في سيرِها على حالٍ، ولا يَقَرُّ لها قرارٌ، ولا يَهدأُ لها بالٌ.
والناسُ فيها يتقلَّبون، وبأجوائها يمرُّون، ولأحوالها معايشون. ولكنَّ المؤمنين عن
غيرِهم يتميَّزون؛ كما جاءَ في الحديثِ عن رسول اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«عَجَبًا لِلْمُؤْمِنِ؛ لا يَقْضِي اللَّهُ لَهُ شَيْئًا إِلا كَانَ خَيْرًا لَهُ» [1] ، «فهم في خيرٍ
وإلى خيرٍ؛ إنْ أصابَتِ المؤمنَ سرَّاءُ شَكَرَ؛ فكانَ خيراً له، وإنْ أصابته ضرَّاءُ
صَبَرَ؛ فكانَ خيراً له، وليس ذلك لغيرِ المؤمنِ» [2] .
مَا أصابَ مؤمِناً مِن بلاءٍ إلا كانَ له في ذلك أجرٌ وثوابٌ، وحُطَّتْ عنه أوزارٌ
وسيئاتٌ، وليس للمؤمنِ في دنياه خيرٌ مِن نيل مثل هذا العَطَاءِ؛ فإنّ الدنيا دارُ
امتحانٍ وابتلاءٍ، والكُلُّ فيها يسعى لتحصيلِ الأجرِ والثوابِ. عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
- رضي الله عنه - أنّ النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ
نَصَبٍ وَلا وَصَبٍ وَلا هَمٍّ وَلا حُزْنٍ وَلا أَذًى وَلا غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلا كَفَّرَ
اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ» [3] . وقد ذَكَرَ اللهُ سبحانه في سورةِ العنكبوتِ أجْرَ المؤمنين
بينَ آياتِ الابتلاءِ، فقالَ عَزَّ مِن قائلٍ: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ
عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ] (العنكبوت: 7) .
وكثيراً ما تكونُ الشدائدُ والأزَمَاتُ سَبَبَاً في عَودةِ فئامٍ مِنَ الناسِ إلى دينِهم،
وزيادةِ صلتِهم بربِّهم؛ لأنه لا كاشِفَ للبلاءِ إلا اللهُ، وقد كانَ المشركون يلجؤون
حالَ الشدائدِ إلى اللهِ وحدَه، ولنْ يكونَ حالُهم خيراً مِن حَالِ المؤمنين.
وما الحياةُ إلا كتابٌ يُسجِّل الناسُ فيه أعمالَهم، ويدوِّنون فيه مآثرَهم، والسعيدُ
مَن كان عملُه صالحاً، وبذلُه نافِعاً ودائماً. وقد جَعَلَ اللهُ الحياةَ ميداناً للتسابقِ
والتنافسِ، وخَلَقَ الموتَ والحياةَ ليبلوَنا أيُّنا أحسنُ عملاً. وربُّنا لم يخلقْنا عَبَثاً، ولم
يتركْنا هَمَلاً، بل هو القائلُ سبحانَه: [أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ
تُرْجَعُونَ] (المؤمنون: 115) ، مِن أجلِ ذلك كانَ ابتلاءُ المؤمنِ بالخيرِ والشرِّ،
والحُزنِ والسُّرورِ: [كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ المَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا
تُرْجَعُونَ] (الأنبياء: 35) .
والمؤمنُ حالَ الرزايا والبلايا في موقفٍ راسخٍ، وجَنَانٍ ثابتٍ؛ لأنه يعلمُ علمَ
يقينٍ راسِخاً، لا تلقيناً دارِجاً، أنّ ما أصابَه لم يكنْ ليخطئَه، وما أخطأه لم يكنْ
ليصيبَه، وأنّ الأمّةَ كلَّ الأمَّةِ لن يضرُّوه إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ عليه، ولن ينفعوه
إلا بشيءٍ قد كتبه اللهُ له [4] .
وبمثلِ هذا اليقينِ الذي لا تُزَعْزِعُه الشدائدُ، والإيمانِ الذي لا تُغَيِّرُه المصاعِبُ
والمتاعِبُ، يبقى مطمئنَّ القلبِ، مُرتاحَ النفسِ، هانئَ الحياةِ. وقد وَصَفَ اللهُ حالَ
المؤمنين، فقالَ: [الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ
القُلُوبُ] (الرعد: 28) .
وأحداثُ الحياةِ وإنْ حَمَلَتْ في ظاهرِها شرَّاً، فإنها لا تكونُ شَرَّاً مَحْضَاً، بل
ربما حَمَلَ ذلك من الخيرِ أضعافاً وأمثالاً، وقد قيل: «إنّ في الشرِّ خِياراً» .
لقد كانتْ حادثةُ الإفكِ التي تَوَلى كِبْرَها رأسُ المنافقين، ولاكَتْها الألْسُنُ،
حادثةً آلمتْ نفسَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ونفسَ زوجِه أمِّ المؤمنين عائشةَ
- رضي الله عنها -، وقَضَّتْ مَضْجَعَهُما لياليَ طِوالاً، فلما جاءتْ براءتُها قرآناً
يُتلى إلى يومِ القيامةِ، قال اللهُ جَلَّ شأنُه: [إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ
تَحْسَبُوهُ شَراً لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى
كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (النور: 11) .
وقبلَ غزوةِ بدرٍ، كَرِهَ بعضُ المؤمنين الخروجَ لقتالِ عدوٍّ أكثرَ منهم أعداداً،
وأحسنَ منهم إعداداً، وودُّوا أنْ ينالوا الغنيمةَ دونَ شدَّةٍ وقتالٍ، ولكنَّ الحكيمَ العليمَ
أخرجَهم من بيوتِهم؛ ليقضيَ أمرَه، ويُعِزَّ دينَه، ويُذِلَّ أعداءه: [كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ
مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ
كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ * وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ
وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ
الكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبْطِلَ البَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ المُجْرِمُونَ] (الأنفال: 5-8) ،
فكانَ في خروجِهم الذي كَرِهَه بعضُهم نصرٌ لهم وتمكينٌ.
قال شريح القاضي - رحمه الله -: «إني لأُصابُ المصيبةَ، فأحمَدُ اللهَ
عليها أربعَ مَرَّاتٍ؛ أحْمَدُ إذْ لم يكُنْ أعْظَمُ منها، وأحْمَدُ إذْ رَزَقَني الصَّبْرَ عليها،
وأحْمَدُ إذْ وَفَّقَني للاسترجاعِ لما أرجو مِنَ الثّوابِ، وأحْمَدُ إذْ لم يجعَلْها في ديني»
[5] .
وإنّ مِمَّا كتبَه اللهُ على نفسِه أنه يريدُ بعبادِه الرِّفقَ والتيسيرَ: [شَهْرُ رَمَضَانَ
الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ القُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ
فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ اليُسْرَ وَلاَ
يُرِيدُ بِكُمُ العُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ]
(البقرة: 185) ، وأنّ رحمتَه سَبَقَتْ غضبَه [6] ، وأنّ هذه الرحمةَ عظيمةٌ واسعةٌ،
جاءَ في الحديثِ: «إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، قَسَمَ مِنْهَا رَحْمَةً بَيْنَ جَمِيعِ الْخَلائِقِ؛ فَبِهَا
يَتَرَاحَمُون، وَبِهَا يَتَعَاطَفُون، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى أَوْلادِهَا، وَأَخَّرَ تِسْعَةً
وَتِسْعِينَ رَحْمَةً؛ يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» [7] .
مَن أدرَكَ هذه الحقائقَ كان لِزاماً عليه أنْ يُحسِنَ ظنَّه بربِّه سبحانَه، وقد قالَ
اللهُ في الحديثِ القدسيِّ: «أنا عندَ ظَنِّ عَبْدِي بي» [8] .
وإنّ من إحسانِ الظنِّ به تبارك وتعالى: أنْ يعلمَ المؤمنُ عظيمَ فضلِ اللهِ عليه،
وأنَّ ما دَفَعَ عنه من السوءِ والبلاءِ أعظمُ مما أصابَه.
ومِن إحسانِ الظنِّ به سبحانَه: أنْ نُدرِكَ ما تجنيه الأمَّةُ مِن فوائدَ في أزماتِها
ومصائبِها؛ إنها فوائدُ مَنْسِيَّةٌ، وَسَطَ أحداثٍ مأساويَّةٍ، فوائدُ تستحقُّ أنْ نُسَلِّطَ عليها
الضوءَ، وأنْ نَلْفِتَ إليها الذِّهْنَ، في وقتٍ دَبَّ فيه الأسى إلى النفوسِ وغَلَبَ!!
موقنين أنّ للهِ في خَلْقِهِ وتدبيرِه وحُكْمِه حِكَماً وعِبَراً، ومدركين أنّ عقولَنا قاصرةٌ
عن الإحاطةِ بكلِّ الحِكَمِ والأسرارِ مِن تتابُعِ الأحداثِ، وقد قالَ عليه الصلاة والسلام:
«مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ» [9] .
مَا أشبهَ هذه الفوائدَ التي نجنيها مِن مِثلِ هذه الأحداثِ بالدُّرَرِ والجواهرِ التي
لا تُنالُ إلا بالغوصِ في أعماقِ البحرِ، وتَحَمُّلِ المشاقِّ والمخاطرِ من أجلِها.
علَّمتنا هذه الأزماتُ أنَّ المُثُلَ والقِيَمَ كلامٌ لا وزنَ له ما لم يرافقْها العَمَلُ، وأنّ
الأخلاقَ الفاضلةَ جميلةٌ مطلوبةٌ، ولكنَّ الأحسنَ والأجملَ أنْ تصيرَ هذه الأخلاقُ
رِجَالاً وفِعَالاً. وما يحفظُه المرءُ قد يحفظُه مئاتٌ غيرُه، ولكنَّ التميَّزَ في مقدارِ
العملِ بما يُحفَظُ ويُعلَمُ؛ فخيرُ القولِ ما صَدَّقَه الفِعْلُ.
والشدائدُ ميدانٌ، وفي الميدانِ يكونُ المِرَانُ، وقد قِيلَ: «عِندَ الطِّعَانِ يَتَبيَّنُ
الرِّجالُ» ، و «التجرِبةُ خيرُ بُرهانٍ» . وصُعُوبةُ المُلِمَّاتِ والشَّدائدِ مَحَكٌّ تَظهرُ
فيها الصِّفَاتُ والخلائقُ، وتنكَشِفُ فيها القُدْراتُ والموَاهِبُ؛ فالشدَّةُ تُظهِرُ العِلَّةَ،
والأمَّةُ تَتَعَلَّمُ في المُلِمَّةِ، ومَا وَعَظَ امْرأً مثلُ تجارِبِه. والناجحون في الحياةِ هم
الذين واجهوها، وتعامَلوا معها، واعتادُوا شرَّها وخيرَها.
إنّ هذه الأزماتِ عبارةٌ عن خِبْرَاتٍ يكتسِبُها الأفرادُ، كما تكتسِبُها الأمَّةُ
والمجتمعاتُ؛ خِبراتٌ في مواجهَةِ الأعداءِ، والتصرُّفِ حينَ يَفجَأُ ويَفجَعُ البلاءُ.
فالمِحَنُ تدريبٌ عَمَلِيٌّ، وميدانٌ تطبيقيٌّ وتجريبيٌّ، ومِن خلالِها تَتَّضِحُ القُدراتُ
والمواهِبُ، وتُطبَّقُ المعلوماتُ والمعارِفُ. مَن أرادَ أنْ يُدَرِّبَ أفراداً؛ بَحَثَ عن
مثالٍ قريبٍ مما يدرِّبُهم عليه، فكيف لو جاءَ الحالُ الذي كانَ من أجلِه ذا التدريبُ؟!
وقديماً قِيلَ: «لا تَغْزُ إلا بِغُلامٍ قد غَزَا» .
في الشدائدِ يتميَّزُ المؤمنُ عن المنافقِ، والصادقُ عن الكاذبِ، ويقفُ المرءُ
على حقيقةِ إيمانِه، ومدى عُمقِه ورُسُوخِه، فحاشا لله سبحانَه أنْ يُعَذِّبَ عبادَه
بالابتلاءِ، ولكنه الإعدادُ الحقيقيُّ لتَحَمُّلِ الأمانةِ [10] ، وقد قالَ سبحانَه: [وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِن جَاءَ
نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العَالَمِينَ *
وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ المُنَافِقِينَ] (العنكبوت: 10-11) ، وقالَ:
[وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ المُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ] (محمد: 31) .
نبَّهتنا هذه الأزمات إلى أخطاء في الأنظمةِ والعقائدِ؛ ولهذا دور مهمٌّ في
علاجِها، وتفادي آثارِها.
لقد ظَهَرَ خلالَ أزماتٍ متعاقبةٍ أنّ الأمَّةَ مُغَيَّبَةٌ عن قراراتِها المصيريّةِ، وأنّ
أعداءها يسيّرونها وَفْقَ رغباتِهم وأطماعِهم، وأنّ المصالحَ الدنيويَّةَ الآنيَّةَ مُقَدَّمَةٌ على
غيرِها مِنَ المصالحِ الدنيويَّةِ أو الشرعيَّةِ أو الأخْرَويَّةِ.
كانت غزوةُ أحُدٍٍ ثانيَ غزوةٍ فاصِلَةٍ في تاريخِ الإسلامِ، وقد جاءتْ بعدَ
انتصارِ الفئةِ المؤمنةِ القليلةِ في بدرٍ، فكانتِ الشدَّةُ التي واجهتِ المسلمين، وما
أصابَ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فيها، تحمِلُ في طيَّاتِها تجرِبةً وعِبرةً قد لا
يعيها الناسُ إلا مِن مِثْلِ هذه المواقفِ، فأنزَلَ اللهُ بعدَها مُعَلِّماً وهَادياً: [أَوَ لَمَّا
أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى
كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (آل عمران: 165) .
كما نبَّهتنا هذه الأزمات إلى أخطاء في أصولٍ اعتقاديةٍ مهمَّةٍ؛ فظَهَرَ أنّ ولاءَ
بعضِ أفرادِها ليس لله، واضطَرَبَ في نفوسِهم التوكُّلُ على الله، واختَلَّ لديهم
الخوفُ والرَّجاءُ.
هذا موسى - عليه الصلاة والسلام - مع جَمْعٍ قليلٍ ضعيفٍ مِن قومِه، يلتقي
فِرعونَ وجَمْعَه القويَّ الكثيرَ، فيقول أصحابُ موسى وقد رأوا كثرةَ العدوِّ: [فَلَمَّا
تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ] (الشعراء: 61) ، فيردُّ
موسى رَدَّاً حاسِمَاً، في أشدِّ المواقفِ حَرَجَاً: [قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ]
(الشعراء: 62) .
ولما هَجَرَ الناسُ كَعْبَ بنَ مالكٍ - رضي اللهُ عنه - بعدَ تخلُّفِهِ عن غزوةِ
تبوك، وضَاقَتْ به الحالُ والمقامُ، جاءه كتابٌ مِِن ملِكِ غسَّانَ النصرانيِّ، فإذا فيه:
«بَلَغَني أنّ صاحبَك قد جَفَاكَ وأقصَاكَ، ولستَ بدارِ مَضْيَعةٍ ولا هَوَانٍ، فَالْحَقْ
بنا نُوَاسِك» . فما كان منه - رضي اللهُ عنه - إلا أنْ أحرقَه، فقدْ عَلِمَ أنّ هذا مِن
البلاءِ.
عَلَّمَتْنا هذه الأزمات أنّ الأمَمَ الضعيفَةَ لا يُؤبَهُ بها، وأنّ الأمَمَ الحيَّةَ القويَّةَ
تُسْمَعُ كلِمتُها، ويُحسَبُ لها حسابُها، وأنّ العالَمَ اليومَ تحكمُه شريعةُ الغابِ، ولا
مكانَ فيه للضعفاءِ، وبينما يقومُ القويُّ بالعملِ؛ يكتفي الضَّعيفُ بالأماني والأمَلِ.
تَعْدُو الذِّئابُ على مَن لا كِلابَ له ... وتَتَّقي صَوْلَةَ المُسْتَأسِدِ الضَّاري
لما اسْتَتَبَّ أمرُ الإسلامِ والمسلمين واستقرَّ؛ بدأَ الرسولُ صلى الله عليه وسلم
بإرسالِ رسائلِه إلى الملوكِ والأمراءِ، ولم ينتظرْ حتى يُفَكِّرَ هؤلاءِ في حربِهِ أو
يبدؤوا بها. وهكذا كانت الدُّوَلُ الإسلاميةُ القويةُ في التاريخِ تتخِذُ زِمَامَ المبادَرَةِ،
وتَصِلُ إلى أعدائها قبلَ أنْ يَصِلُوا إليها، وكانتْ طَلائعُ الجهادِ قدِ انطَلَقَتْ مُشَرِّقَةً
ومُغَرِّبَةً؛ مما أدَّى إلى اختلالِ ميزانِ القُوَى في العالَمِ آنذاك، وصارتْ القوَّةُ
الإسلاميةُ ظاهرةً في الأرضِ ومَهِيبَةً.
ميَّزت هذه الأزمات عَدوَّنا مِن صديقِنا، وكَشَّرَ كُلُّ ذي نَابٍ عَن نابِه، وبَانَ
لنا ما وَرَاءَ الأكَمَةِ، وعِندَ النازِلَةِ تَعرِفُ أخاك. لقد كَانَ الأعداءُ يمكرون
ويخطِّطون مِن وراءِ سِتَارٍ، فصاروا يُنَفِّذون عَلََناً أمامَ الأنظارِ، فزَالَتِ الغِشَاوَةُ عَنِ
البصائرِ والأبصارِ. إنَّ أمْرَ عَدُوٍّ ظَاهِرٍ أيسَرُ مِن أمْرِ عدوٍّ مُخْتَفٍ وكامِنٍ،
ومُواجَهةُ خُصُومٍ تعرفُهم أيسَرُ مِن مُواجهةِ خصْمٍ لا تعرِفُهُ.
لقد كانَ بعضُ الناس مخدوعين بمعسول الكلامِ، وزائفِ الوعودِ والآمالِ،
وكانوا يظنُّون بأعدائهم خيراً، ويشكُّون في كُلِّ مَن أشارَ إليهم شَزَرَاً. كانوا يظنُّون
في العدوِّ العدلَ والرَّحمَةَ، ويرون فيه أنموذجاً لتحرِّي الحقِّ والحريةِ، ويَعُدُّونَه
مِثَالاً يُحتذى في الحياةِ الآمِنَةِ والمستقِرَّةِ، وإذا هذا المثالُ يَتَهَاوَى، فيصبحُ الأمرُ
واضِحاً لا لُبْسَ فيه، وظاهراً لا غُمُوضَ فيه، وأصبحتْ أطماعُهُ ومآرِبُهُ فينا وفي
ثرواتِنا وأراضينا لا تحتاجُ إلى شرحٍ وبَيَانٍ.
جَزَى اللهُ الشدائدَ كُلَّ خَيرٍ ... عَرَفْتُ بها عَدَوِّي مِن صَدِيقِي
لقد كانتِ الشدَّةُ التي أحَاطَتْ بالمسلمين أثناءَ اجتماعِ الأحزابِ عليهم كاشِفَةً
عن المنافقين الذين كانوا يَندَسُّون بينهم، فأثناءَ اجتهادِ المؤمنين في حَفْرِ الخندقِ كانَ
المنافقون يتخاذلون، ويتسلَّلون إلى بيوتِهم وأهليهم دونَ عِلْمِ رسولِ اللهِ صلى الله
عليه وسلم.
وكانَ الخروجُ إلى تبوك لقتالِ الرُّومِ في وقتِ جَدْبٍ في البلادِ، وشدةِ حَرٍّ،
واستواءِ الثمارِ، وخَرَجَ الجيشُ المسلمُ بقيادةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فبدأ
المنافقون في الظهورِ؛ بسخريتِهم ببعضِ المسلمين، ومحاولتِهم توهينَ القُوَى
وتشتيتَ الطاقاتِ، وكانَ عبدُ الله بنُ أبيٍّ رأسُ المنافقين يُعسْكِرُ بجنودِه أثناءَ المسيرِ
إلى تبوك أسفلَ مُعسكَرِ النبيِّ عليه الصلاة والسلام، ثم تَخَلَّفَ ابنُ أبيٍّ ومَعَه كثيرٌ
من المنافقين عن الجيشِ، وقالَ بعضُهم: «أيغزو بني الأصفرِ مع جَهْد الحالِ
والحَرِّ والبلدِ البعيدِ؟! أيحسَبُ أنّ قتالَهم كقتالِ غيرِهم؟! واللهِ! لكأنّي أنظرُ إليهم
مُقَرَّنين غَداً في الحِبَالِ» . وكانَ بعضُهم قد تَخَلَّفَ بتَعِّلاتٍ باطِلةٍ، مِن بُعْدِ الشُّقَّةِ
وشِدَّةِ الحَرِّ. لقد كانت هذه الحالُ، وهذه الشدَّةُ كافيةً في فَضْحِ المنافقين، وتمييزِ
المؤمنين الصَّادقين.
لقد فَضَحَتْ هذه الأزمَةُ مع أزماتٍ وحروبٍ سابقةٍ زَعَامَاتٍ وقِيَادَاتٍ،
وأسْقَطَتِ الأقنعةَ عن ادّعاءاتٍ وشِعَارَاتٍ، إنَّها شِعَارَاتٌ قامَتْ على القومِيَّةِ
والحِزبيَّةِ، وارتَضَتْ شعاراتٍ جاهليّةً، وكان قادتُها مميّزين في خُطَبٍ رنَّانَةٍ،
وألفاظٍ بَرَّاقَةٍ، تَخدَعُ البُسَطَاءَ، وتستهوي الخُبَثَاءَ، ولكنَّهم مُمَيَّزون أيضاً فيما جَرُّوه
على الأمَّةِ مِن مَصَائبَ ووَيلاتٍ، حتى ظَهَرَ أنهم دُمَىً بأيدي غيرِهم مِنَ الأعداءِ!!
مَاذا جَنَتِ الأمَّةُ عبرَ امتدادِ تاريخِها مِن دُعَاةِ القَوميَّةِ على مُخْتَلَفِ شعاراتِهم
ومُسَمَّيَاتِ أحزابِهم إلا تبديدَ القُوَى والضَّيَاعَ والدَّمَارَ؟ لقد تعهَّدَ أحدُهم ذاتَ يومٍ أنْ
يُغْرِقَ نِصْفَ العدوِّ، وَأنْ يُحرِقَ نِصْفَه الآخَرَ، وزَعَمَ آخَرُ أنّه سَيُبِيدُ العَدُوَّ إبادةً لم
يكنْ مِثْلُها، ولكنَّ النتيجةَ أنْ تُمنى الأمَّةُ بسببِهِم في أعَزِّ ما تملِكُهُ وتُفَاخِرُ به.
إنّ كُلَّ أزمَةٍ يَمُرُّ بها العالَمُ الإسلامِيُّ تُظهِر أنَّ الإسلامَ هو خيرُ رايةٍ يمكنُ أنْ
يعليَها ويقاتِلَ في سبيلِها أبناؤه في كلِّ مَكَانٍ، إنها رايةٌ ارتضاها لنا الخالِقُ العليمُ
سبحانَه؛ فلِمَ لا نَرتضِيهَا لأنفسِنا وهي الرايةُ التي أثبتَتِ الأحداثُ التاريخيةُ أنها
رايةٌ ظافِرَةٌ مُنتصِرَةٌ، وأنَّ قُوَّةً مَهما بَلَغَتْ لا يمكِنُ أنْ تقِفَ في وَجْهِ حَمَلَةٍ صادقين
لها؟! إنها رايةٌ يَغْلِبُ مائة صابرون مِن أتباعِها مئتين مِنَ الكافرين، وهي الرَّايةُ
التي يَجِبُ أنْ تقومَ عليها علاقَاتُ الأمَّةِ؛ لأنها رايةٌ لا تَتَغيَّرُ، وأفكارُها ودَعَوَاتُها لا
تَتَبَدَّلُ: [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ
وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ]
(المائدة: 55-56) .
فإذا تَبيَّنَ لنا الصَّدِيقُ المُشْفِقُ النَّافِعُ، وتَبَدَّى لنا العَدوُّ المتربِّصُ الطامِعُ؛
بُعِثَتْ في النفوسِ رُوحُ المقاومةِ والمغالبةِ للأعداءِ، وبِذَا يصيرُ الهدَفُ واضِحَاً،
والعَدُوُّ في مَرْمَى السِّهَامِ، وإذا عُرِفَ الذئبُ وَجَبَ أنْ تُعدَّ له العَصَا!! علَّمتنا هذه
الأزمةُ وأزَمَاتٌ غيرُها أنَّ الأمَّةَ حينَ تُربِّي أبناءها وَفْقَ شرعِ ربِّها، وحينَ تبني في
نفوسِهم صَرْحَ الإيمانِ، وحينَ تغرِسُ في قلوبِهم نبتةَ الإخلاصِ للهِ ولدينِه؛ فإنَّ
قُوى الأرضِ وإنْ هزمتْهم في وقتٍ ظاهراً لن تهزمَهم في بواطنِهم، ولن تفلحَ في
تركيعِهم، ولن تنالَ من عزَّتِهم، ولن تقوى على تغييرِ مبادئهم.
وأمَّا غيرُ ذلك من الشعاراتِ والمبادئ وإنْ عَلا في وقتٍ صوتُها، وهبَّ
ريحُها، ولَمعَ بريقُها فإنها سحابةُ صيفٍ توشِكُ أنْ تنقشعَ، وفُقاعةُ صابونٍ توشكُ
على نفسِها أنْ تنفجرَ، إنها شعاراتٌ وتربياتٌ قامتْ على غيرِ هَدْيِ اللهِ، وكلُّ ما
كانَ كذلك فهو عُرْضَةٌ للتبديلِ والزَّوالِ، بل والانقلابِ عليه من أقربِ الأعوانِ
والأتباعِ.
ماذا يُنتظرُ من أبناءِ الأمَّةِ حينَ تُغرسُ في نفوسِهم مناهجُ الأعداءِ وقيمُهم؟
كيف يُتصوَّرُ أنّ هؤلاء يمكنُ أنْ يكونوا في يومٍ نِدَّاً أو خَصْماً لعدوٍّ أشربوا حُبَّه
ومنهجَه وقيمَه؟ إنّ هؤلاء سينضمّون إلى العدوّ شئنا أم أبينا، وسينتمون إليه انتماءً
فكريّاً ومنهجياً أو انتماءً فعلياً وعسكرياً، وقد يكون ذلك على حينِ غِرَّة، والأمة في
أشدِّ أوقاتها حاجةً إلى أبنائها.
ما أسرعَ أنْ يخلعَ صاحبُ الشعاراتِ الأرضيةِ الجوفاءِ كلَّ تلك الشعاراتِ التي
حَمَلَها، وبَشَّر بها، وادَّعى أنه تابعٌ مخلصٌ لها؛ لينضمَّ إلى معسكرِ الأعداءِ،
وليستبدلَ بشعاراته تلك في طرفةِ عين شعاراتِهم. ولتذهبْ أمتُه بعد ذلك في أيِّ
طريقٍ، فلا عليه أنْ يصيبَ أمتَه وقومَه أيُّ مصابٍ في سبيلِ تحقيقِ مكسبٍ ماديٍّ
رخيصٍ، يُرضي به نفسَه الدَّنيَّة الجشِعَةَ!!
عَلَّمَتْنَا هذه الأزمَةُ مِن خِلالِ واقِعٍ حَيٍّ مُشَاهَدٍ دَورَ العَدلِ في النّصرِ، وأثَرَه
عَلى تماسُكِ الجيشِ والشَّعْبِ، وأنّ للظالِمِ مَهما بَلَغَ وبَالَغَ، وتَجَبَّرَ وكَابَرَ يَوماً يسقُطُ
فيه، وأنه حينَ يسقُطُ لنْ يبكيَه أحَدٌ، وأنَّ سَاعَةً يُتَمَكَّنُ فيها مِنه هي ساعةٌ سَيُركَلُ
فيها بالأقدامِ غيرَ مأسوفٍ عليه، والظلمُ مرتعُه وخيمٌ.
إنَّ الطُّغَاةَ ينسون أمامَ قوَّتِهم الماديةِ كثيراً من الحقائقِ؛ فينسون أنّ الأيّامَ دُوَلٌ،
ومَا حَلَّ بغيرِهِم مِن الأفرادِ والأمَمِ، وينسون أنَّ الظلمَ أسرعُ شيءٍ إلى تَعْجِيلِ
نِقْمَةٍ، وتبديلِ نعمةٍ، وينسون أنّ للهِ فوقَ تدبيرِهم تدبيراً، وأنّ الريحَ قد يواجِهُ
إعْصَاراً، وينسون أنه إنما تَنْدَمِلُ مِنَ المظلومِ جِرَاحُه؛ إذا انكَسَرَ مِنَ الظالِمِ
جَنَاحُه، وأنه على الباغي تدورُ الدوائرُ. ويغيبُ عن أذهانِهم - في زَحمة الأطْمَاعِ
والشّهَوَاتِ - أنّ عدلَهم يجعلُ الناسَ على مختلَفِ طبقاتِهم حَرَسَاً لهم وتَبَعَاً، وأنه لا
شيءَ كالعدلِ والإحسانِ يشيدُ الدُّوَلَ، ويُقيمُ الممالِكَ الحَضَاراتِ.