دراسات تربوية
قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية
دعامتا التغيير الحضاري
(2 ـ 2)
د. حمدي شعيب
الجزء الأول من خلال الجولات الثلاثة في قصة أصحاب القرية (المواجهة
بين الرسل - عليهم الصلاة والسلام - وأصحاب القرية، والمواجهة بين الرجل
المؤمن وقومه، والتعقيبات القرآنية الخاصة والعامة) ، يوضح الكاتب دعامتي
التغيير الحضاري. وفي الحلقة الأولى تحدث عن سمات الدعامة الأولى وهي
القاعدة المؤمنة الصلبة، فذكر منها: الإيجابية، الجماعية، الربانية، الجدية في
التنفيذ، فهم الدور الموكول وهو البلاغ المبين. ويواصل في هذه الحلقة تقديم
القطوف التربوية العظيمة من هذه القصة من قصص الحق.
- البيان -
- السمة السادسة: فهم طبيعة الطريق:
فقد أوضحت تلك التجربة الدعوية، كغيرها من التجارب الدعوية على مر
تاريخ الحركة الإسلامية، أن الصراع مع الباطل، والصدام مع مكذبي الفكرة أمر
حتمي: [الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا
الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكَاذِبِينَ] (العنكبوت: 1-3) .
وتدبر التعقيبات القرآنية على مصيبة أُحُد: [مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى
مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغَيْبِ وَلَكِنَّ
اللَّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ]
(آل عمران: 179) .
أي أن الله عز وجل شاء أن يميز بين الخبيث والطيب على أرض الواقع،
وذلك بالاختبار والتمحيص، وهؤلاء الرسل في تجربتهم، قد تعرضوا لأنواع من
الأذى والابتلاء، مثل:
1 - التكذيب: في كلتا الحالتين: حينما كانا اثنين: [إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ
فَكَذَّبُوهُمَا] (يس: 14) . وحينما كانوا ثلاثة: [إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ] (يس:
15) .
2 - التشكيك: وذلك من خلال رؤية جاهلية ساذجة، وحجة غريبة، أن
رسل الله لا يمكن أن يكونوا بشراً: [قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ
مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ] (يس: 15) . وغاب عنهم أن الجانب العملي في
أي دعوة، وهو سلوك الداعية، لا بد أن يكون ترجمة صادقة للجانب النظري في
تلك الدعوة، وهي الفكرة المحركة.
ونسوا أيضاً أن السلوك إذا كان غير مرتبط بالفكرة، أي إذا كان العمل غير
موافق للقول؛ فهو أمر قد ذمه الحق سبحانه في قوله: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ
تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ] (الصف: 2-
3) .
«والرسالة منهج إلهي تعيشه البشرية، وحياة الرسول هي النموذج الواقعي
للحياة وفق ذلك المنهج الإلهي، النموذج الذي يدعو قومه إلى الاقتداء به، وهم بشر.
فلا بد أن يكون رسولهم من البشر ليحقق نموذجاً من الحياة يملكون أن يقلدوه،
ومن ثَمَّ كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم معروضة لأنظار أمته» [1] .
3 - التطير والتشاؤم بالرسل: فهم مصدر الشر، وعدم النفع، والأذى:
[قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ] (يس: 18) .
4 - التهديد بالرجم: [لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ] (يس: 18) .
5 - التهديد بالتعذيب والقتل: [وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ] (يس: 18) .
فكان من فقه هؤلاء الرسل الكرام لطبيعة الطريق؛ أنهم لم يفاجَؤوا بهذا
الابتلاء المتعدد الصور، وكان ردهم: [قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ
مُّسْرِفُونَ] (يس: 19) .
أي هذا التشاؤم إنما يأتي من داخلكم، وبناء على تصوراتكم، فلا تقذفوا
غيركم بخرافة من صنعكم ومن بنات أفكاركم؟!
ولم َتكذبونا وتهددونا بالرجم والتعذيب والقتل؛ أفهذا جزاء من أراد بكم خيراً
فوعظوكم، وذكروكم بالله عز وجل، وبينوا لكم سبل النجاة في الدارين؟!
بل أنتم الذين أسرفتم وتجاوزتم التفكير السوي، ورفضتم سبل النجاة!!
فتحملوا وزر موقفكم الشاذ، وانتظروا العاقبة منه سبحانه.
وفقه طبيعة الطريق هي سمة لازمة بل أساسية لكل طليعة رائدة، وذلك من
شأنه أن يقي الصف من التساقطات، ومن الانتكاسات وظواهر النكول والنكوص.
وكل طليعة مؤمنة تدرك أن لها خيارين، لخّصهما سيد قطب - رحمه الله -:
فإما إلى النصر فوق الأنام ... وإما إلى الله في الخالدين ?
- السمة السابعة: الثبات:
ويبين سياق القصة، من خلال موقف الرسل الكرام وردهم على أصحاب
القرية، معلماً آخر أو سمة أخرى من سماتهم، وهي الثبات على الحق.
وهذه السمة تعدُّ محصلة أو جماع ونتيجة لكل السمات السابقة التي وضحتها
الآيات، فما كان هذا الثبات ليأتي إلا من خلال كونهم ربانيين يثقون في مرجعيتهم
وفي مصدر فكرتهم.
وما كان هذا الثبات ليأتي إلا من خلال كونهم جماعة تتعاضد ويساند بعضها
بعضاً، وما كان لهذا الثبات أن يأتي إلا من خلال جديتهم في حمل الأمانة، ومن
خلال فهمهم لدورهم الموكول، وهو حمل تلك الأمانة وتبليغها للناس، ومن خلال
فهمهم للطريق واحتمالات النتائج.
ولا يقدر على الثبات إلا ذوو الطبيعة الإيجابية، والثبات على الحق سمة كل
أصحاب الدعوات، حيث تبرز هذه الصفة جلية في سيرتهم.
وتدبر ثباته صلى الله عليه وسلم وهو يعلن: «ما أنا بأقدر على أن أدع لكم
ذلك؛ على أن تشعلوا لي منها شعلة» [2] يعني الشمس.
وتأمل ثبات أخيه هود - عليه السلام - وهو يواجه قومه، «في حسم كامل،
وفي تحد سافر، وفي استعلاء بالحق الذي معه، وثقة في ربه الذي يجد حقيقته
في نفسه بينة: [إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ
وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ
مُّسْتَقِيمٍ * فَإِن تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ
تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ] (هود: 54-57) ، إن أصحاب
الدعوة إلى الله في كل مكان وفي كل زمان في حاجة إلى أن يقفوا طويلاً أمام هذا
المشهد الباهر.. رجل واحد، لم يؤمن معه إلا قليل، يواجه أعتى أهل الأرض،
وأغنى أهل الأرض وأكثر أهل الأرض حضارة مادية في زمانهم» [3] .
والثبات على الحق في الحياة الدنيا، وفي القبر، وفي الدار الآخرة، نعمة
ربانية: [يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ
اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ] (إبراهيم: 27) .
وهو الرصيد الذي لا يضيع، وهو الزاد الذي لا ينضب، الذي يرثه
اللاحقون من أجيال الدعاة، وأصحاب الدعوات من السابقين لهم على الطريق،
الذين لم يبدلوا تبديلاً. وهو المنارة التي على ضوئها يهتدي كل شارد.
- السمة الثامنة: الاهتمام بنشر الدعوة:
ومن خلال تدبر آيات الجولة الثانية في القصة، والتي تبين المواجهة بين
الرجل المؤمن وقومه، يمكننا أن نستشعر بعض السمات الأخرى للطليعة المؤمنة.
فلقد أورد السياق أن الرجل المؤمن قد تحرك [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَة]
(يس: 20) .
وهي اللمحة القرآنية التربوية الطيبة التي تهمنا في قضيتنا أو موضوعنا،
وهي البحث في سمات الدعامة الأولى في عملية التغيير الحضاري، أو هي صفات
الطليعة الفاعلة.
والتي نستشف منها أن هؤلاء الدعاة الربانيين، وهم الرسل الذين أرسلهم
الحق سبحانه إلى أصحاب القرية، قد نجحوا في عرض قضيتهم، فاستعصت على
محاولات التحجيم والتغييب، وكسرت طوق التعتيم والتجهيل والعزل، واتسعت
دائرتها، وأصبحت حديث الشارع، حتى وصلت إلى أقصى مكان بالمدينة.
وهذه سمة مهمة جداً، يتبين منها صورة من صور النصر، ألا وهي النجاح
في المهمة الموكولة، وهي البلاغ.
وتبين نجاح الرسل في نشر الفكرة في كل مكان مستطاع، وعدم الركون أو
الهزيمة أمام ضغط الواقع، وأمام صعوبة العوائق.
- السمة التاسعة: الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس:
وتبين القصة، في بداية آيات الجولة الثانية، أن الخير قد أتى من حيث لم
يُتوقع، وأن الله عز وجل قد سرّى عن هؤلاء الرسل عندما تعرضت فكرتهم
للحصار، وتعرضوا للتكذيب والتهديد، فجاء الفرج: [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ
رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ] (يس: 20) .
وهي لمسة تسرية ربانية تعطي الأمل لهؤلاء الرسل، فتقول لهم لقد أديتم
مهمتكم، ونجحتم في حسن عرض القضية وتقديمها، وبيان عدالتها، فتفاعل
الشارع معكم ممثلاً في تحرك هذا الرجل المؤمن، حتى لو كان فرداً، وفرداً واحداً،
متفاعلاً مع عدالة قضيتكم وصدقها.
بل يتحمل خطورة عرض دفاعه ورأيه، حتى لو أدى ذلك إلى استشهاده في
سبيل موقفه المناصر.
وهي القضية التي ننظر إليها بمنظار آخر، وهي سمة عظيمة يجب أن
تتصف بها كل طليعة مؤمنة، ألا وهي الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس؛ وذلك
من أجل هدف نهائي، هو إيجاد قاعدة جماهيرية تناصرها وتحميها.
وتدبر كيف أن الحق سبحانه قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها
إلى الناس، كل الناس، على مختلف فئاتهم وأجناسهم وألوانهم، لتقودهم إلى خيري
الدنيا والآخرة، أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر، وذلك بعد إعادة صياغتها عقدياً،
لتنطلق من قاعدة إيمانية، ولتكون شهيدة عليهم: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ
تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ] (آل عمران: 110) .
فكان سلوكه صلى الله عليه وسلم في كل مراحل الدعوة، هو الالتزام بجانبين
مهمين، هما:
1 - تربية قاعدة صلبة تقود التغيير.
2 - تكوين الرأي العام المناصر للفكرة، والمؤيد للداعية.
وعدم الاهتمام بقضية الخروج إلى الناس، كل الناس، من أجل تكوين تلك
القاعدة الجماهيرية، حتى إن تواضع عددها تحول الطليعة المؤمنة إلى حركة
نخبوية، فتؤدي إلى عملية عزل بينها وبين جماهير الأمة، فيؤدي إلى سهولة
عمليات إجهاضها. وتكون المحصلة النهائية هي تعرضها إلى عملية وأد مقنعة.
- السمة العاشرة: العفة والنزاهة:
وعندما جاء صاحب يس المؤمن إلى مسرح الأحداث، وصف هؤلاء الدعاة
بصفتين أو سمتين بارزتين، لا يختلف عليهما اثنان، وهما أخطر صفتين؛ لأنهما
جاءتا على لسان الآخر، وكذلك لم ينكرهما أصحاب القرية، والتي جعلت الرجل
المؤمن يبني على أساسهما أن هؤلاء الدعاة صادقون، وبعيدون عن مواطن
الشبهات أو مواضع الاتهام، وكانتا من أقوى حججه أثناء حواره مع قومه المكذبين.
وأول هاتين الصفتين نلمحها من قوله: [اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً] (يس:
21) ؛ أي اتبعوا هؤلاء الكرام الذين لم يتكسبوا بفكرتهم، ولم يطلبوا أجراً نظير
وعظهم، ولم يتعيشوا بدعوتهم.
ألا ترون من لا يسعى إلى مغنم، ولم يطمع في أجر، وتنزه عما بأيديكم؛ ألا
يدل ذلك على صدقه؟! وهي السمة التي يتميز بها أصحاب الدعوات.
وتأمل كيف أنكر الحق سبحانه على مشركي مكة موقفهم من الرسول صلى
الله عليه وسلم، وهو الذي لم يطلب أجراً يثقل كاهلهم، فيدفعهم إلى التكذيب: [أَمْ
تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ] (الطور: 40) .
وهو الرد نفسه من نوح - عليه السلام - على قومه المكذبين: [وَيَا قَوْمِ لاَ
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ] (هود: 29) .
وهو أيضاً الاستنكار نفسه من هود - عليه السلام - على موقف عاد: [يَا
قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ] (هود:
51) .
والترفع عما بأيدي الناس، أو العفة والنزاهة، هي سمة بارزة لكل طليعة
مؤمنة، وهذه السمة هي سبيل الكرامة والاحترام، ومن مسوغات قبول الناس
للفكرة، وسبب أساس لكسب حبهم، كما قال الحسن البصري - رحمه الله -:
«لا تزال كريماً على الناس ما لم تعاط ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفوا بك،
وكرهوا حديثك، وأبغضوك» .
- السمة الحادية عشرة: حسن السيرة والسلوك:
أما الصفة الثانية التي لاحظها الرجل المؤمن؛ فهي أن هؤلاء الرسل:
[مُّهْتَدُونَ] (يس: 21) .
أي أن السمة الأخرى التي جعلت الرجل المؤمن يتحرك، ويخاطر بنفسه،
ويدافع عن هؤلاء الدعاة، هي أن هؤلاء الرسل يتميزون بالصلاح والهداية، ولا
يشين سلوكهم أي شائبة أخلاقية تقدح في صدقهم.
وقيل إن وصفه لهم بتلك السمة؛ هي الصفة التي عرف منها قومه أنه على
دينهم، وأنه يدرك الفرق بين الهداية والضلال، ويميز بين المهتدي والضال،
فرجموه بسببها [4] .
وتأمل موقف السجينين عندما احتاجاً لتأويل رؤياهما، فما كان منهما إلا أن
قصدا يوسف - عليه السلام -، وذكرا سبب ثقتهما فيه - عليه السلام -؛ أن
سلوكه كان طيباً، حتى وهو في داخل السجن، فنطقا مقرَّيْن: [إِنَّا نَرَاكَ مِنَ
المُحْسِنِينَ] (يوسف: 36) .
وإنه لدرس عظيم لكل طليعة مؤمنة أن تري ربها عز وجل منها كل قوة
وخير، ثم تري المؤمنين من حولها بل كل الناس كل خير وسلوك حسن؛ حتى
تنطق الألسنُ فيهم بالذكر الحسن.
وإنها لسمة راقية بارزة أن يتحدث بها الآخر! [وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ
عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ
تَعْمَلُونَ] (التوبة: 105) .
وقد ورد عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت: «إذا أعجبك حسن
عمل امرئ مسلم؛ فقل: اعلموا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون» [5] .
* الدعامة الثانية للتغيير الحضاري: وهي وجود القاعدة الجماهيرية:
أو الرأي العام الذي يناصر الفكرة، ويحب دعاتها ويكره أعداءها، ويحرص
على انتصارها.
والتي تمثلت في حركة الرجل المؤمن، والذي جاء ليناصر الفكرة، ويدافع
عن الدعوة، ويؤيد الدعاة.
وقد ورد الحديث عنها في آيات الجولة الثانية من القصة، وهي جولة
المواجهة بين الرجل المؤمن وبين قومه: [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ
يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم مُّهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ
الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ
عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ
فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي
مِنَ المُكْرَمِينَ] (يس: 20-27) .
ومن خلال تدبر الآيات يمكننا أن نبحث حول بعض صفات هذه القاعدة.
ونقول بعض الصفات أو السمات؛ لأننا سنلتزم بما ورد عنها في آيات الجولة
الثانية من القصة، وكذلك سنرتب السمات على حسب ورودها في سياق الآيات،
وليس على حسب أولويتها، أو أهميتها.
- السمة الأولى: الوعي بالواقع:
تبين آيات الجولة الثانية من القصة؛ أن مؤمن يس قد تحرك في مبادرة
وموقف عظيم: [وَجَاءَ مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى] .
ولا يهمنا أن يكون هذا الرجل هو حبيب النجار أو غيره، ولكن المهم أن
نستشعر أنه رجل جاء من مكان ليس بالقريب، وكذلك كان يسعى؛ أي يسرع في
مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو
المكان الذي كان يبتلى فيه الرسل، وذلك في مبادرة منه لم يحدها مكان ولا زمان
ولا وقت، بل سعى ووصل في الوقت والمكان المناسبين، وعرض رأيه في
القضية، وانتصر لهؤلاء الرسل ضد رغبة قومه.
ولقد بينت القصة أنه تحرك في وقت معين، وبعد وصول الفكرة مع قومه
إلى طريق مسدود، وعندما بدأ التهديد الجاد للرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
إذن لا فائدة الآن من القعود والسكوت، لا فائدة من الجلوس للمشاهدة
والتصفيق.
وهذا ما يبين عمق فقه هذا الرجل للموقف، وحسن تقديره للحظة تدخله
ومناصرته.
وهي سمة عظيمة أن تتربى الأمة على فقه الواقع، وحسن تقدير الظروف،
وعلى فقه الموازنة بين الأمور. أو على الأقل أن تكون هناك قاعدة جماهيرية،
تتربى على شيء من الوعي والدراية بحالة الأمة، ومعاناتها، وخطورة المرحلة
التي تعيشها، وإصابتها بأمراض الاستنقاع والتردي الحضاري.
- السمة الثانية: الإيجابية:
لقد تحرك الرجل المؤمن بذاتية فريدة، وحضر بنفسه ومن خلال استشعار
ذاتي بخطورة الموقف، ولم تذكر القصة أن أحداً قد استدعاه ليعرض رأيه، ولم
يستنصره أحد ليقدم شهادته، وهذه اللمحة نستشعرها من تدبرنا لكلمة: [وَجَاء] .
وهذا ما يدل على مدى إيجابيته وتفاعله مع القضية، قضية الظلم، ظلم
الفكرة والدعوة من خلال محاولات التحجيم والتعتيم والتجهيل، وظلم الدعاة من
خلال وصول المواجهة بينهم وبين قومهم إلى طريق مسدود، ثم تعرضهم للتهديد.
وهذه سمة مهمة تبين مدى حاجة الطليعة المؤمنة التي تقود عملية التغيير
الحضاري؛ إلى دعامة جماهيرية تناصرها، وتتميز بالإيجابية، فتتسامى على
سلبية المواقف وتمييعها. أو بمعنى أبسط أن تتخلص من أمراض (الأنامالية) !
وكم من فرص ثمينة ضاعت على أمتنا جرّاء سلبية الشارع، وتميّع الجماهير؛
مما أعطى الفرصة لأهل الباطل أن يستأصلوا كل محاولات النهوض والتغيير!
- السمة الثالثة: التوسع والانتشار:
وتذكر القصة أن الرجل المؤمن قد تحرك [مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ] .
وعلى الرغم من أن التحرك كان ممثلاً في حركة رجل واحد، ولكننا نستشعر
من مغزى التعبير القرآني: [مِنْ أَقْصَا المَدِينَةِ] ؛ أن الفكرة قد انتشرت وشملت
كل طوائف المجتمع، ووصلت إلى كل مكان مستطاع.. إلى أقصى المدينة.
وهذا ما يدل على نجاح الدعاة في كسر طوق التعتيم والتجهيل، واختراق
الحصار الرهيب للفكرة، وإيصالها لكل المجتمع.
ونستشعر أن التحرك الجماهيري للنصرة؛ جاء من الذين يعيشون في أقصى
المدينة، ولم يأت من القريبين لمكان الحدث!
وتدبر كيف رفضت قريش دعوته صلى الله عليه وسلم بينما قبلها ونصرها
الأنصار في المدينة!
إذن لا بد أن تكون القاعدة الجماهيرية واسعة الانتشار، تشمل كل الفئات
والطوائف، وتشمل كل الأمكنة؛ لأن الطليعة المؤمنة لا تدري من أين سيأتي
التحرك لنصرتها، وهذا هو الشرط الكمي في تكوين الرأي العام المناصر.
- السمة الرابعة: تميز النوعية:
تذكر الآيات أن الذي تحرك في تلك الظروف الحرجة، هو نوعية معينة من
البشر، نوعية زكاها الحق سبحانه عندما أخبرنا أن المناصرة جاءت من موقف
[رَجُلٌ] .
ولقد ورد عن الرازي - رحمه الله - حول (تنكير رجل) فائدتان وحكمتان:
الأولى: أن يكون تعظيماً لشأنه؛ أي رجل كامل في الرجولية.
الثانية: أن يكون مفيداً لظهور الحق من جانب المرسلين، حيث آمن رجل
من الرجال لا معرفة لهم به، فلا يقال إنهم تواطؤوا [6] .
وهي سمة مهمة يجب أن تكون مقياس مدى قوة القاعدة المناصرة، وهو أن
تكون من نوعية من الرجال بمعنى كلمة الرجال، حتى لو كانوا رجالاً مؤيدين أو
محايدين.
فكلمة رجل على الأقل تحمل معنى أنه سيقول رأيه وسيتحمل تبعة ذلك!
فالقضية الكبرى ليست أن يكون هناك من يعلن رأيه، بل أن يكون مستعداً
لتحمل تبعة هذا الإعلان. وهذا هو الشرط النوعي في تكوين الرأي العام المناصر.
- السمة الخامسة: الجدية والقوة في التنفيذ:
وعندما نستمر في تدبرنا لموقف الرجل المؤمن؛ نجد أنه قد تحرك وجاء
بنفسه، بل أتى من أقصى المدينة، ثم تذكر القصة أنه جاء [يَسْعَى] .
أي أنه جاء يسرع في مشيته، وهو ما يبين مدى الجهد الذي بذله للوصول
إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يبتلى فيه الرسل، وذلك حتى يصل في
الوقت والمكان المناسبين، ليعرض رأيه في القضية، ولينتصر لهؤلاء الرسل ضد
رغبة قومه.
وهو ما يبين مدى الجدية والقوة في محاولة تنفيذ ما عنّ له، ومدى حرصه
على عرض رأيه في الوقت المناسب.
وقد بينا أن مقياس الكمال البشري أن يعرف الإنسانُ الحقَّ من الباطل، ثم
يتبع هذا الحق بقوة وجدية، فالمواقف الحاسمة لا يلزمها مجرد الأداء الوظيفي
الراتب، بل الجدية في الأداء، والإصرار على الموقف، وهما من السمات المهمة
للتحولات الاجتماعية.
- السمة السادسة: معرفة تاريخها وأصلها:
لقد بدأ الرجل المؤمن خطابه مناشداً قومه: [قَالَ يَا قَوْم] .
ناداهم بخطاب فيه حكمة وشفقة وعاطفة؛ لأنه منهم ويعرف طبيعتهم،
ويعرفونه.
ونستشعر من مغزى كلمة [يَا قَوْمِ] أنه وإن ذكرت الآيات أنه كان رجلاً
ليس في عزوة أو منعة من قومه، ولكنه مجرد رجل عامي، وأنه من هؤلاء القوم
ومن تلك العشيرة. وذلك أدعى أن لا يشكك أحد في سابق معرفته بالدعاة، أي
ليست هنالك شبهة للتواطؤ، كما ذكر الإمام الرازي - رحمه الله -.
وكذلك فليس هنالك مجال للشك في أصله، فهو من هؤلاء القوم، ومن البيئة
نفسها. وما دام من البيئة نفسها فهو الأعرف بطبيعة قومه وبمداخل إقناعهم، وأعلم
بنفوسهم وأمراضهم الاجتماعية، وأدرى بمشكلات حياتهم.
وهذا ما يبين لنا سمة مهمة من سمات القاعدة الجماهيرية، وهي أن تكون
معروفة النسب، ومن البيئة نفسها، وأن تكون فوق مستوى الشبهات.
- السمة السابعة: الوعي بطبيعة الدعاة:
ثم جاء في خطاب الرجل المؤمن وشهادته، أثناء مواجهته لقومه أنه بعد أن
استهل خطابه بالنداء الرقيق الشفيق؛ أخذ في عرض موجز يعرِّف بطبيعة هؤلاء
الدعاة الجدد، حيث [قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُم
مُّهْتَدُونَ] (يس: 20-21) .
أي أنه يعرف أن هؤلاء رسل من عند الله سبحانه، وأنهم يتميزون بالنزاهة
والعفّة، وأنهم صالحون مهتدون محسنون، ونستشعر من تلك الآيات القرآنية
الطيبة ملمحاً تربوياً طيباً، وهو أن الرجل المؤمن كان يملك من المُثُل والمقاييس
التي تجعله يحكم بالعدل والإنصاف على سلوك البشر، خاصة هؤلاء الدعاة،
فيعرف طبيعتهم، ويعرف أصلهم.
لذا فنحن نستشعر أنه قد خبر ميزاتهم وصفاتهم الربانية السامية الطيبة،
وعرف الرسالة الربانية التي يحملونها.
فمن ناحية أن هؤلاء الرسل كانوا مختلطين بالناس، ومندمجين بطبقات
المجتمع، وكان سلوكهم في التعامل طيباً، وأنهم لم يضعوا بينهم وبين الناس
حواجز تمنعهم من معرفتهم واختبار سلوكهم.
ومن ناحية أخرى: أن هذا الرجل كان يعرفهم جيداً؛ أي أن شهادته كانت
قوية وعلى أساس متين، وعلى معرفة حقة.
وهي سمة طيبة لأي قاعدة بشرية أن تكون على وعي بالناس، خاصة
أصحاب الأفكار الجديدة، وأنها لا تشهد إلا بما خبرت وعلمت.
- السمة الثامنة: الوعي بطبيعة الفكرة:
وعندما نستمر في قراءة شهادة الرجل المؤمن نجد أنه وبعد عرضه لطبيعة
الدعاة، ودعوته قومه لاتباع هؤلاء الرسل بدأ عرضاً آخر موجزاً يشرح فيه الدعوة،
ويوضح العقيدة الربانية، ويبين الرسالة التي جاء بها هؤلاء الرسل، فاستطرد
قائلاً: [وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن
يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لاَ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَّفِي ضَلالٍ
مُّبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ] (يس: 22-25) .
أي ما الذي يدعوني أن لا أعبد الذي خلقني، وهو سبحانه سيحاسبني
وسيحاسبكم على ما قدمنا في هذه الحياة الدنيا.
وكيف ألجأ إلى آلهة أخرى من دون الله، آلهة لا تضر ولا تنفع ولا تشفع،
ولا تنقذ من النار ومن سوء المصير؟!
فإن زللت عن ذلك الطريق والصراط المستقيم، إنه والله! لهو الضلال
المبين، وهذا هو قراري الأخير، وأعلنكم به بصراحة: أنني آمنت به سبحانه،
وهذه هي شهادتي كاملة واضحة، فاسمعوها!
ويمكننا أن نخرج بملمح تربوي طيب من هذه الشهادة، أن هذا الرجل كان
على معرفة جيدة بالعقيدة، وكان على قناعة بتلك الدعوة، وكان على يقين وإيمان
ثابت صادق بها.
وهذا يدعو القائمين على عملية التغيير الحضاري إلى أن يهتموا ببيان العقيدة
ودعوة جماهير الشارع؛ حتى يتكون رأي عام مناصر على قناعة راسخة بالرسالة،
وعلى إيمان ثابت بالفكرة.
- السمة التاسعة: القدرة على التعبير عن الرأي:
يبدو من خطاب الرجل المؤمن أنه يتميز بالشجاعة والقدرة على عرض
شهادته، حيث جاء وتحرك وأعلن رأيه كاملاً واضحاً، وأعلن قراره أنه قد اتبع
الدعاة وآمن بالفكرة.
وكانت أعظم مفردات خطابه، وأعظم بنود شهادته تحدياً، هي صرخته
الأخيرة المدوية: [إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ] .
وهي لمحة طيبة، أن تكون الأمة أو رموزها الاجتماعية على وعي بأهمية
حرية إبداء الرأي، والشجاعة في التعبير عن أفكارها، تحت كل الظروف.
فلا يكفي أن تكون هنالك قاعدة جماهيرية لها رأي مناصر، بل الأهم منه أن
تكون عندها الجرأة في التعبير عن آرائها.
وحرية الرأي أو حرية الحوار؛ إنما تدل على صحة المناخ الاجتماعي السائد،
وهو الدعامة التي تصنع الأحرار، وتعمل على تفعيل وتنشيط عوامل الوحدة
الفكرية عند الأمة.
وحرية الرأي هي المرتكز الذي على أساسه يتم تنقية العقلية المسلمة من آثار
المناخات الاستبدادية، وهي الأمراض الفكرية التي تكاثرت جراثيمها في أروقة
العقليات المكبوتة، فأثمرت: عقلية العوام، وطبيعة القطيع، ونفسية العبيد [7] .
- السمة العاشرة: حب فعل الخير:
ولا يبين سياق القصة ما جرى للرجل المؤمن، «وتركها فجوة فنية، وترك
لخيال القارئ أن يملأها، من خلال تصوره أو توقعه ما سيصيبه، إن ما جرى له
معروف من خلال الجو الذي يعيشه، إنهم سيرجمون الرجل الذي تجرأ وتحداهم.
وقد وقف المفسرون أمام حقيقة قوله سبحانه: [قِيلَ ادْخُلِ الجَنَّةَ] .
فذهب بعضهم إلى أنه قيل له ذلك، وأن الملائكة قد أخذته وأدخلته الجنة فعلاً،
وأنه يعيش فيها حقيقة.
وذهب بعضهم إلى أن المراد هو إخباره بأنه استحق دخول الجنة بموقفه
الإيماني، وتبشيره بذلك، لينال عاجل البشرى [8] .
ونحن مع القول الثاني والله أعلم.
وبعد تبشيره باستحقاقه الجنة تذكّر قومه الذين آذوه، حيث [قَالَ يَا لَيْتَ
قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المُكْرَمِينَ] (يس: 26-27) .
لقد قتله قومه، فقدموا له خيراً ومعروفاً من حيث لم يقصدوا أو يريدوا.
ولهذا تمنى لهم الهداية. فنصحهم في حياته ونصحهم في مماته [9] .
ونستشعر من خلال هذه النهاية، ومن خلال تدبر آخر كلماته، أن هذا الرجل
المؤمن كان يتميز بصفة إنسانية راقية، وهي حب فعل الخير.
وتدبر ما ورد في قصة صاحب الجنتين، عندما نتأمل الرجل المؤمن في
حواره، وعرض أفكاره، ونقف عند نقطة مهمة جاءت على لسانه، والحوار في
مرحلة ساخنة، وهي نصحيته المشفقة: [وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لاَ
قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ] (الكهف: 39) ، حيث أرشد الرجل المؤمن صاحبه الكافر، وهو
يحاوره، إلى التصرف اللائق الصحيح الذي يشكر فيه ربه، ويعمل على دوام نعمة
الله عليه.
وكذلك نتذكر ما ورد في قصة الغلام والراهب [10] ، أنه ما أن استقر الإيمان
في قلبه، بدأ في الاختلاط والخروج إلى الناس، وأخذ بالاندماج في مشاكل حياتهم،
وقدم إليهم الخير والخدمات الجليلة، مثل قتل الدابة، ومعالجة المرضى.
وحب فعل الخير هي الصفة التي تفتح الأبواب الموصدة أمام الفكرة، وذلك
من خلال فتح القلوب، ومعالجة النفوس التي تحب فعل الخير إليها. فهي تقوم
على فقه استعباد قلوب الناس.
وتلك ركيزة يستشعرها أبناء التيار الإسلامي من باب مسؤوليتهم، وتمثيلهم
لتيار جاء ليحمل الخير للبشرية التعيسة الرافضة الجامحة.
ومن باب تلك العاطفة الجياشة التي يحملها دعاة التيار الديني دوماً في كل
عصر، وفي كل موقف، حتى لمخالفيهم.
ذلك التيار الذي يحمل شعاراً، وأمراً ربانياً لبث الخير أينما حل، وهو
طريق الفلاح [وَافْعَلُوا الخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (الحج: 77) .
* الجولة الثالثة: جولة التعقيبات القرآنية:
وهي التعقيبات التي تعرض خلاصة السنن الإلهية التي تدور حولها قصة
أصحاب القرية.
وهي السنن الإلهية الاجتماعية التي تنطبق على أي واقع إذا وجدت أسبابها
وظروفها زماناً ومكاناً وأشخاصاً وأفكاراً. ومن ثم يمكن التفاعل معها، وحسن
تسخيرها في المهمة الإنسانية الاستخلافية.
وفي عملية التغيير أو التبادل الحضاري. خاصة في المواجهة الحضارية
المعاصرة، وحسن عرض وتقديم المشروع الحضاري الإسلامي.
ومن خلال تلك التعقيبات يمكننا أن نتبين كيف أن القصة القرآنية تساهم في
عملية البناء الفكري للأمة.
فالفكرة هي المنطلق الأول في عملية النهوض الحضاري. والقصة تؤدي
دوراً خطيراً في عملية البناء الفكري. والبناء الفكري هو مرتكز التحول النفسي
للأمة.
فما أحوج الدعاة لفقه دور القصة القرآنية؛ بما تحمله من رصيد فكري!
- أولاً: التعقيبات القرآنية الخاصة:
وهي التعقيبات التي تبين مصير أهل القرية، الرافضين للدعوة، والمكذبين
للرسل وللذي آمن معهم، ولعلهم قتلوهم جميعاً.
وهي السنن الإلهية الاجتماعية التي برهنت القصة على صدقها وفعاليتها،
[وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ
إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ] (يس: 28-29) .
لقد استقدموا عذابه وانتقامه سبحانه، فجاءهم سريعاً باغتاً ساحقاً ماحقاً، على
هيئة صيحة الدمار، فأهلكتهم، فأصبحوا ميتين هامدين كما تخمد النار.
وسواء كان المعنى أنه سبحانه قد حقّر من شأنهم، وهوّن من أمرهم، فكان
الانتقام الرباني من السهولة واليسر؛ أنه سبحانه لم يرسل إليهم الملائكة أو الجنود
والعساكر لتهلكهم، بل كان الأمر أهون عليه سبحانه من ذلك، فكان الأمر إلى
جبريل - عليه السلام - أن يرسل عليهم الصيحة المدمرة المهلكة.
أو كان المعنى الآخر أنه سبحانه قد صغَّر من قدرهم، فلم يرسل إليهم جنوداً
أي أنبياء أو رسل آخرين لهدايتهم، بل إنهم لا يستحقون ذلك لأنهم أصغر وأحقر.
ففي كلا المعنيين نستشعر مدى التحقير والهوان والصغار الذي استحقه هؤلاء
المكذبون الرافضون.
وهي سنة الله عز وجل الإلهية الاجتماعية، العامة المطردة المتكررة، الثابتة
والتي لا تتحول ولا تتبدل، مع كل الرافضين للهداية. مع الذين يرفضون الفكرة
ويحاربون الدعوة، مع الذين يكذبون الرسل والدعاة.
- ثانياً: التعقيبات القرآنية العامة:
وهي التعقيبات التي توضح الدروس التربوية والعبر العامة التي وضحتها
القصة.
وهي كذلك السنن الإلهية الاجتماعية العامة، والتي كانت القصة مثالاً تطبيقياً
لها وبرهاناً ثابتاً حول فعاليتها.
[يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ مَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ * أَلَمْ يَرَوْا
كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ القُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ * وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا
مُحْضَرُونَ] (يس: 30-32) .
لقد جاءت هذه التعقيبات وكأنها إعلان علوي رهيب عام، ينادي بالحسرة
والتندم والويل والبوار لنوعية من العباد، تبين الآيات أسباب أو مسوِّغات
استحقاقهم لهذا الإعلان:
1 - عدم استغلال فرص النجاة والفوز في الدارين، وذلك باتباع الحق.
2 - الاستهزاء بالرسل والدعاة، ومحاربتهم، والاستهزاء بالفكرة ورفضها.
3 - عدم قراءة التاريخ، للوقوف على أحداثه، واستقراء سننه سبحانه
الإلهية الكونية والاجتماعية، ومشاهدة سِيَر أعداء الدعوة، ومكذبي الفكرة، على
مر تاريخ المسيرة الدعوية. وإدراك معنى الرجوع إليه سبحانه للمحاسبة والجزاء.
4 - الغفلة عن اليوم الآخر، وأن كل البشر مجموعون للحساب، على
موقفهم من الدعوة والدعاة، ولتحديد المصير، [أَلاَ يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ *
لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ العَالَمِينَ] (المطففين: 4-6) .
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.