مجله البيان (صفحة 4721)

الجاسوسية الاقتصادية ذلك الوجه القبيح من المعلوماتية

المسلمون والعالم

الجاسوسية الاقتصادية

ذلك الوجه القبيح من المعلوماتية

أ. د. زينب صالح الأشوح [*]

تعدُّ المعلومات في الأصل سلعة عامة تتاح للجميع بدون مقابل؛ حيث إنها

مثل المال تنتشر بين البشر بوحي من الله سبحانه وتعالى، وبقدر مسموح به من

علمه الشامل لكل شيء [وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا] (البقرة: 31) ، غير أن التطور

التاريخي للبشر وللأحداث وللمجتمعات جعل من المعلومات سلعاً ومنتجات بالغة

التنوع، وأصبح تداولها يتم من خلال أسواق موجهة وفقاً لطبيعة كل مجموعة منها،

وكثيراً ما يحدث ذلك في إطار قوانين منظمة لحقوق امتلاكها، بل ويتم من خلال

مصارف متخصصة مثل بنوك المعلومات، وأصبح العالم الآن يعيش بحق عصر

المعلومات.

وكان من المتوقع أن تؤدي عمليات الاهتمام الجادة بإنتاج المعلومات بتقنيات

بالغة ودائمة التطور إلى تحسين الوضع العالمي كله، وإلى حدوث استثمارات

إيجابية راقية تتلاءم مع مكانة المعلومات المستخدمة في تلك الاستثمارات، غير أن

الواقع قد أكد حدوث عكس المتوقع؛ لسبب أولي: وهو وجود فجوة عظيمة في

ملكية المعلومات المتطورة والفعالة بين الدول المتقدمة التي تستأثر بالنسبة الغالبة

منها، والدول النامية التي لا تمتلك أكثر من 1% فقط من الحجم الكلي للمعلومات

المتاحة على مستوى العالم كله.

أما السبب الآخر: فهو أن الدول المتقدمة لا تحتكر فقط ملكية المعلومات

وعمليات تداولها، ولكنها أصبحت أيضاً تسيء استخدامها في إيذاء الدول الضعيفة،

وترى في أي معلومة تحصل عليها أداة قهر للدول الضعيفة، وسلاح إرهاب

لاستعراض قواها وفرض هيمنتها ونفوذها على الدول الفقيرة التي تضطر بذلك أن

تصبح تابعة للأغنياء في كل شيء!

وعلى غرار مذهب الاقتصاد للقوة الذي ابتدعه التجاريون في زمن مضى؛

بحيث قامت سياستهم على استجلاب أكبر قدر من الذهب والفضة والمعادن النفيسة

من دول العالم لضمان تحقق قوتهم وفرض سيطرتهم ونفوذهم على العالم، تقوم

الدول الكبرى الآن باستجلاب الثروات الطبيعية وغير الطبيعية من الدول، خاصة

الضعيفة، مستترة بما يسمى باتفاقات الجات والتجارة العالمية وغيرها، والتي

امتلأت بمغالطات ضخمة تم ابتداعها من أجل تقنين عمليات السلب أو الابتزاز

لثروات الآخر من الدول الضعيفة.

ومع التطورات الأخيرة؛ أصبح الاستعمار الاقتصادي هو الشكل الحديث

الأكثر انتشاراً، ومن هنا توالدت أشكال طفيلية قبيحة من الأنشطة المشبوهة في

مجال صناعة المعلومات واستثمارها وتداولها أو تسويقها، وكان من أبرز تلك

الأشكال القبيحة ما يسمى بـ (الجاسوسية الاقتصادية) ، وعلى الرغم من ندرة ما

كُتب حول ذلك المصطلح؛ فليس من الصعب على أي شخص فطن أن يتعرف

عليها ويدرك أبعادها الكريهة، فالشواهد كثيرة، ووسائل الإعلام لا يفلت من

عيونها أحد! ولنبدأ جولتنا الاستكشافية الطائرة عبر أجواء الجاسوسية الاقتصادية.

* ترى.. ما هو المقصود بالجاسوسية الاقتصادية؟

استرشاداً بالحكم الشرعي بعدم التجسس: [وَلاَ تَجَسَّسُوا] (الحجرات:

12) ؛ يمكن تأكيد أن ذلك المصطلح ينطوي على نشاط غير مشروع وغير أخلاقي،

يقوم على اقتناص واستجلاب أية بيانات أو معلومات تتعلق بشكل مباشر أو غير

مباشر بأي قطاع أو نظام أو وضع اقتصادي، وإجراء تحليلات خاصة ومتعمقة

ومركبة لها؛ بحيث تصبح صالحة في النهاية للاستخدام سلاحاً للتأمين الذاتي، أو

الإرهاب، أو لابتزاز الآخر أو لتدميره، وعادة ما تتداخل أنشطة الجاسوسية

الاقتصادية مع أنشطة الجاسوسية الأخرى، مثل جاسوسية الأفكار والعقائد،

وجاسوسية السلوكيات والاتجاهات، والجاسوسية العسكرية ... إلخ.

* إذن؛ فمجالات الجاسوسية الاقتصادية متعددة ومتشابكة ولا حدود لها:

فتلك الأنشطة تخترق كل المجالات المرتبطة بالحياة؛ حيث ثبت أن الاقتصاد

يمكن أن يتغلغل وتدب أوصاله في كل ذرة من كيانها، ومن ثم فأي نوع من أنشطة

الجاسوسية يمكن أن ينبع أو يصب بشكل أو بآخر في وعاء الاقتصاد الأم الذي

يضم مجالات تفوق التصور، ومن الأمثلة التقليدية لها: المعلومات الديموجرافية

التي تهتم بالسكان وبخصائصهم وبعاداتهم وسلوكياتهم وعقائدهم وثقافاتهم ... إلخ؛

الأنشطة العملية والبحثية والتدريبية والتقنية، الأنشطة الإنتاجية والتسويقية،

الأجهزة الحكومية والاستراتيجية، المؤسسات المصرفية والتمويلية، التجمعات

المهنية والنقابات العمالية، شبكات المعلومات والاتصالات المحلية والدولية،

المؤلفات والتراجم ومنشورات التراث ... إلخ.

* أما عن الجهات القائمة بمهام الجاسوسية الاقتصادية:

فهي أيضاً متنوعة ومتعددة، ويمكن أن تفوق كل تصور، وإن كان التصاق

الروائح الكريهة لنتائجها بمنفذي تلك الأنشطة كثيراً ما يفضحهم ويدل عليهم،

وخاصة لدى كل ذي فطنة.

ويوضح الدكتور محسن الخضيري في كتاب له حول ذلك الموضوع المهم أن

مافيا القائمين بعمليات الجاسوسية الاقتصادية تتحدد بأربع قوى رئيسة هي:

(الصانعة للقرار، المتخذة للقرار، المنفذة للقرار، والمستفيدة من ذلك القرار) . إلا

أن مهام استجلاب البيانات والمعلومات التي يُستهدف استخدامها كمدخلات في

صناعة الجاسوسية الاقتصادية؛ عادة ما تتم من خلال قنوات شرعية، وبواسطة

أدوات بشرية يتم انتقاؤها بعناية من بين أفراد المجتمع المستهدف، ويا حبذا! إن

كان ينتمي إلى موطن وجود البيانات المستهدف سلبها في الأصل.

ومن الأمثلة على الجهات الخاصة لمحترفي الجاسوسية المعينة: رجال

الأعمال، مكاتب التمثيل التجاري، أساتذة الجامعات، والشخصيات العامة في

جميع المجالات، فروع الشركات الأجنبية بالداخل، وفروع الشركات الوطنية

بالخارج، وكالات البيع ومندوبو المبيعات، الشركات المشتركة وعابرة الجنسية،

المكاتب الاستشارية، الوفود التجارية والفنية والثقافية، المؤتمرات واللقاءات

العلمية، والثقافية، حركات السياحة العلمية مثل البعثات والإشراف المشترك،

والتبادل الطلابي، مراسلو الصحف، والقائمون بالإعلام السمعي والمرئي،

والمنظمات الأهلية والدولية ... إلخ.

* ولكن ما هي العوامل التي تساعد على زيادة فعالية العمليات التجسسية المنفذة؟

الواقع أن عمليات الجاسوسية الاقتصادية تتسم نتيجة لطبيعتها الملتوية بالمكر

والدهاء والتخفي، ومع هذا فتنفيذها يتطلب بالضرورة أن تتم في العلانية

لاستجلاب البيانات المطلوبة من أرض الواقع، ومن ثم فإن تلك العمليات تتم عادة

باستخدام سواتر تخفي ما وراءها من حقائق مريعة، وتتمثل تلك السواتر في

استخدام وسائل بشرية ومادية تتسم بالشرعية والقبول الاجتماعي والقانوني لها،

وكقاعدة عامة لضمان نجاح العمليات المستهدفة، يجب أن يهتم العميل أو المجند

بهدف واحد فقط لا يحيد عنه، وهو التجسس واقتناص البيانات المطلوبة، ومن ثم

لا نعجب إذا ما وجدنا ذلك الشخص من النوع اللحوح، المبالغ في كل سلوكياته

ومعاملاته مع الآخر، ولكن بتلقائية محسوبة تحيّر الآخرين، فالعامة يرونه ودوداً

ضحوكاً، يتسامح كثيراً مع إهانات الآخرين وأخطائهم معه، ومع هذا دائماً ما تقدح

عيناه الناعستان بشرارات ثاقبة خفية مرعبة.

إن المجند أو العميل يجب أن يتمتع بمهارات وصفات بالغة التميز عن غيره

من البشر؛ مثل الذكاء المتقد المرتبط بالدهاء وسرعة البديهة، والتصرف مع

الأحداث، والمقدرة على التغلغل البرقي بين الأحداث والسطور المنطوقة

والمقروءة، ويساعد على نجاح مهمته ضرورة امتلاك بعض الوسائل ذات

التقنيات الخاصة بعد تدريبه على كيفية استخدامها بأعلى أداء ممكن.

غير أن من العوامل التي تساهم بفعالية في نجاح العمليات المعنية: هي تلك

التي تضمن توافر أرض خصبة وصالحة لاستزراع العناصر المجندة، وذلك مثل

الاتصاف باللامبالاة، وعدم الانتماء إلى وطن أو أسرة أو أي شيء، وتفشي

الجرائم الاقتصادية مثل الرشوة والتزوير والمحسوبية، وسوء الأوضاع القيادية

اختياراً وممارسة، والبعد عن الدين، وضعف الأخلاقيات، ومحاربة الكفايات

العلمية والمهنية والإبداعية ... إلخ.

وفي اعتقادنا أن النظام العالمي الجديد بكل ما يكتنفه من تطورات؛ مثل

فرض نظم التخصيصية، وتقليص دور الدولة، وإلغاء الحواجز والحدود السياسية

والجغرافية والإعلامية.. كلها ومثلها وغيرها ساهمت بفاعلية في خلق مرتع خصب

لاستزراع نباتات شيطانية للجاسوسية الاقتصادية، بمزيد من اليسر والانسيابية

والتعمق، خاصة في الدول النامية التي تفتقد القوى التنافسية الكافية لحماية نفسها.

ولا يخفى على أحد أن تلك الأنشطة أصبحت أكثر تركزاً في بلدان العالم

الإسلامي، والعربي منه على وجه أخص، وأصبحت الجاسوسية، والصراعات،

وتوتر العلاقات عناصر متشابكة لحلقة مفرغة تحبس المناطق المذكورة، وتعرضها

لآثار تراكمية مستمرة تهدد بدمارها في أية لحظة، كما هو مستهدف لها من قِبَل

قوى (البلطجة الدولية) ، ما لم تحدث عمليات إنقاذ سريعة وجادة للتخلص من تلك

البقع الملطخة بألغام التجسس والدمار، ولن يكون ذلك إلا بالرجوع إلى الدين

والأخلاق، والشعور بالانتماء؛ ليس للغرب والبريق الزائف، ولكن للأصول

البشرية الفطرية.

* والآن، دعونا نذهب في جولة سريعة بين بعض المحطات المهمة للجاسوسية

الاقتصادية:

تعدُّ «المبالغة» و «الغموض» و «التفوق على المألوف» من العلاقات

الإرشادية البارزة على وجود محطة للتجسس! فالجاسوس أو الجهة التابع لها

يتميزان بالمبالغة في السلوكيات عما هو معتاد، مثل المبالغة في الكرم؛ حيث يمكن

أن يتمثل في أشكال كثيرة كإقامة الحفلات البراقة، ومنح الهدايا غير المسوّغة، كما

يكون هناك سخاء في التودد وإبداء الاهتمام، وتجاوز مفرط عن الكرامة، والدين،

والأخلاق.

ومن ناحية أخرى؛ فمهما كانت درجة الدقة والاتقان في ارتداء الأقنعة

والدهانات الشرعية والمقنعة، فلأنها ضد الفطرة والحقيقة تجعل صاحبها يبدو فيها

شيئاً مصطنعاً زائفاً، لا يستطيع العقل الفطن أن يتقبله، ولا يقدر على خداع فراسة

وفطنة مؤمن، فالعميل يرتدي ثوب الفضيلة، بينما الخلاعة تفضح من تصرفاته

الفعلية، ويدعي السذاجة المفرطة بينما تكشفه فلتات وعلامات أخرى، مثل ردود

أفعال بالغة الذكاء تحدث عفوياً عكس المتوقع. أما التفوق على المألوف فعلاماته

مكشوفة للجميع؛ حيث يلاحظ مثلاً الثراء الفاحش غير المنطقي؛ خاصة إذا ما

قورن الوضع بأقرانه، والتنقل المبالغ فيه للعميل أو للجهة المكلفة سواء على

المستوى المحلي أو بين مناطق متعددة من العالم تحت ستار السياحة والترفيه،

وعادة ما يلاحظ ارتفاع درجة الثقة بالنفس حتى الغرور، والتأكد غير المسوَّغ

بشكل منطقي من الكفاية الذاتية والخطوة المهنية لدى أولي الأمر!

ومن المحطات المهمة التي تتركز فيها أشكال وأدوات ومجالات متميزة

للتجسس الاقتصادي؛ نذكر:

- محطة الكمبيوتر والاتصالات الإلكترونية الذكية:

على الرغم من السباق المحموم الذي يحتدم بين الدول الذكية في مجال إنتاج

وتطوير تكنولوجيات راقية بالغة التنوع ودائمة التغير؛ تظل الدول النامية دائماً

دولاً تابعة تقتات من تلك التقنيات ما قام الآخرون بإنتاجه، وعادة ما تأخذ المستهلَك

والقديم منها، والذي أصبح لا استخدام ولا حاجة إليه في مناطق الدول القوية!

ومن أهم محاذير تلك التبعية التقنية أن من يملك مفاتيح تشغيلها وتوجيهها

وجميع أسرارها هي الدول المنتجة لها، وذلك بلا شك يجعل من الدول التابعة

المستخدمة لها كتاباً مفتوحاً لا خصوصيات فيه، ولا أسرار تخفى عن تلك التي

تمتلك المفاتيح، ومن الأمثلة التي تعنينا في ذلك المجال الانتشار المذهل لاستخدام

أجهزة الذكاء الاصطناعي.

وبالتركيز على أجهزة الحاسب الآلي أو الكمبيوتر؛ نجد أن الدول النامية ما

زالت تابعة وتعتمد بشكل كلي على تقنيات الإنتاج والتشغيل والتوجيه الواردة من

دول تتناقض معها في المستوى الاقتصادي والمصير والهدف، ولأن من يعرف

أكثر يصبح أكثر قدرة على اختراق مجال أسرار غيره؛ فللأسف أن أجهزة

الكمبيوتر التي يُفترض أنها وسائل تنموية وتعليمية واقتصادية إيجابية وفعالة في

النهوض بالمجتمع كله يمكن أن تصبح أداة تستخدم للتدمير الذاتي له، فالدول

المنتجة لتلك الأجهزة والعاملة والمحتكرة لمفاتيح تشغيلها وتوجيهها يمكنها اختراق

شبكات الكمبيوتر؛ خاصة في الدول الحاصلة منها على تلك المنتجات عالية

التقنيات، ومن ثم فهي قادرة على الحصول على ما تريد من معلومات من خلال ما

يتم تخزينه بذاكرات تلك الأجهزة، كما يمكنها تدمير ما بها أو تعطيلها مؤقتاً عن

العمل باستخدام الفيروسات الموجهة، ويزيد من خطورة الموقف أن الحاسب الآلي

أصبح يستخدم حتى في أكثر المناطق حساسية في المجتمع، مثل الأجهزة الحكومية

المختلفة؛ حتى القائم منها على شؤون أمن المجتمع، ولا يخفى على أحد سعي

كثير من الدول الآن إلى تطبيق نظام ما يطلق عليه بالحكومات الإلكترونية، فتلك

الدول التابعة إذا ما طبقت بالفعل ذلك النظام؛ إنما تعطي زمام أمورها طائعة

بالكامل إلى الجهات الذكية الصانعة لذلك الذكاء الاصطناعي.

وتزداد المشكلة اضطراماً حين تنتشر تلك الأجهزة الإلكترونية متعددة

التوجهات في الجامعات والمراكز العلمية والبحثية والتدريبية، حتى ما ينطوي منها

على أدق أسرار المجتمع، وعلى أحدث معلومات علمية وبحثية وميدانية، توصل

إليها العلماء المحليون الكادحون، فهم جميعهم معرضون لضياع ثمرات جهودهم

واستلابها في لحظات؛ تتحول ملكيتها إلى من يملك زمام الأمور في عالم النهب

و (البلطجة) المقننة، ولا ننسى أبداً المراكز التدريبية الممولة أو الموجهة بواسطة

جهات أخرى؛ بحجة تدريب المواطنين على كيفية استخدام أجهزة الحاسبات الآلية؛

إذ إنها كثيراً ما تصبح وسائل مشبوهة لسرقة المعلومات المهنية والأكاديمية

والديموجرافية المحلية، أو لتحريفها وتوجيهها المغرض، أو لتدميرها كلية.

والواقع أن اختراق شبكات الكمبيوتر أو تخريبها لا يقتصر في حدوثه على

الدول النامية أو التابعة فقط، بل إن الدول الذكية معرضة للخطر نفسه، ولكن

بدرجة أقل نتيجة لوضعها المعرفي، ففي مقالة كتبها عبد المجيد حمدي بجريدة

المساء (الخميس، 29/8/2002م، ص 4) يتضح أن عينة من 186 شركة من

الشركات الكبرى تعرضت في غالبيتها لعبث موظفين مفصولين لديها بشبكات

الكمبيوتر الخاصة بها؛ مما أدى إلى تكبدها خسائر فادحة وصلت إلى 400 مليون

دولار في عام 2002م فقط.

- المراكز العلمية والبحثية والتدريبية الأجنبية، وحركات الابتعاث والتدريب

بالخارج:

إن تلك المحطة من أهم المواطن المعرضة والصالحة والمصابة بآفات

التجسس الاقتصادي المفترسة وأخطرها، فبالإضافة إلى استجلاب واستنباط

واستقراء البيانات والمعلومات الاقتصادية المطلوبة، والمستترة بين حروف

وسطور ما يتم من أبحاث، ويعد من مؤلفات، وتجارب علمية وبحثية وتدريبية

تبدو مشروعة للعيان؛ فإن الجهات الأجنبية المسؤولة عن أنشطة التعليم والتدريب

أو المشرفة عليها، تستطيع بسهولة ويسر التعرف على العقول والطاقات الوطنية

المتميزة، والقيادات الوطنية التي تتمتع بسلطات استراتيجية خاصة، ومن ثم فهي

تعمل من خلال تلك الأشكال المشروعة ظاهرياً للأنشطة العلمية والتدريبية على

استقطاب الكثيرين منهم، ومحاولة تجنيدهم في مجال الجاسوسية الاقتصادية بأبعاده

الأخطبوطية المتشعبة، مستخدمة في ذلك إغراءات المال والمنصب والمتع الدنيوية

والشهرة تارة، وأسلحة الابتزاز والإرهاب والعنف المتقطع تارة أخرى.

وللأسف؛ فإن كثيرين ممن يتمتعون بمناصب قيادية مهمة في المراكز

والمؤسسات التعليمية الوطنية؛ يتم استخدامهم كأقنعة شرعية للمؤسسات الأجنبية

المشبوهة؛ حيث يتم تكليفهم بالمشاركة في عمليات التدريس والإدارة بها،

وبالإضافة إلى تجنديهم في عمليات التجسس المشبوهة بين المترددين للتعليم

الأجنبي من أبناء وطنهم؛ فإنهم يُستخدمون أيضاً أدوات مساعدة في تجنيد هؤلاء

الطلاب الصغار.. فإما الطاعة مع التفوق المشبوه، وإما الرسوب والحرمان من

امتيازات كثيرة للطالب سيء الحظ الذي تقع العيون المفترسة عليه وتختاره.

وإن كان التجسس الاقتصادي الذي يحدث من خلال المؤسسات الأجنبية داخل

الوطن يمكن أن يحد من أنشطته إلى حد ما وجود الجهات الأمنية الوطنية،

والوجود الانتمائي بين أفراد العائلة والمجتمع الوطني، إلا أن الأمر يزداد خطورة

في حالة الابتعاث إلى الخارج؛ حيث تجد الفريسة نفسها؛ وحدها في أرض الغربة

والبريق الذي يعمي الضمائر، أو حيث تضيع خرائط الإرشاد إلى الطريق السلوكي

الصائب.

- مؤسسات المساعدات الأجنبية بالداخل والخارج وتشمل المنظمات

الدولية:

لا يعقل أن تقوم جهة أجنبية خاصة إذا كانت من دولة غنية قوية بتقديم

مساعدات نقدية أو عينية أو غيرها لدول أخرى ضعيفة أو حتى قوية مثلها إلا إذا

كانت تطلب أو تخطط لاستنزاف مقابل أكثر قيمة مما قدمت، وكلنا نعرف ذلك دولاً

وفئات وأفراداً، ومع هذا تدفن الرؤوس في الرمال مظنة أن ذلك وضعاً كافياً لستر

ما تمتلئ به الأيدي والأجنحة من مبادلات مشبوهة وإخفائه.

وبالإضافة إلى مخاطر تكبيل الدول المدينة بمزيد من الديون، وإغراقها في

سلسلة تراكمية من المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن ذلك، مع توجيه

الدول المدينة إلى إنفاق هذه الديون في أنشطة سلبية، كالمشروعات غير الإنتاجية،

والإسراف في إقامة المهرجانات والمسابقات التافهة، وإقامة التماثيل بدلاً من

المرافق العامة؛ فإن الجهات المانحة عادة ما ترمي بمساعداتها استزراع خلايا

تجسسية في شكل منشآت تقام داخل أراضي الدول الفقيرة؛ بحجة المساعدة

والإشراف على كيفية استثمار ما تقدمه من منح، وتلك الجهات تسمح لنفسها بأن

تفرض على الدول المدينة تقديم تقارير مفصلة عن جميع مراحل ذلك الاستثمار،

وذلك ما تفعله أيضاً المنظمات الدولية، وعلى رأسها البنك الدولي وصندوق النقد

الدولي، وللأسف الشديد؛ فإن ذلك يتيح لتلك الجهات المريبة ليس فقط التدخل في

الشؤون الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية للدول المحتاجة، وإنما أيضاً

تستغل حاجة تلك البلاد المجني عليها في إجبارها على تعرية كل قطاعاتها الحيوية،

وتقديم كل معلومة صغيرة أو كبيرة عنها لتلك الجهات، وللأسف أصبح كل

طلبات تلك الجهات المريبة مجابة تحت وطأة الحاجة، وزيادة حدة آلام القيود التي

تتكبل بها من جراء سلسلة المديونيات التراكمية التي لا تنقطع.

- حركات الاستشراق:

على الرغم من الدعاية العامة لتلك الحركات واعتبارها حركات غربية تسعى

لإنصاف الفكر الشرقي، وتهتم بجذب الأضواء إلى الفكر الإسلامي على وجه

أخص؛ فإن المتعمق في تلك الحركات وفي ثمارها يكتشف أنها في غالبيتها العظمى

تُستخدم أداة لتحقيق الغزو الثقافي المناهض، وتدعيم حركة التغريب، مع تشويه

معالم الفكر الإسلامي، كما أن تلك الحركات يمكن أن تستخدم أقنعة وسواتر

لصفقات تجسسية مريبة تجمع من خلالها أكبر قدر من المعلومات السرية المستهدفة؛

خاصة ما يتعلق منها بالحركة الثقافية والفكرية داخل المجتمع الشرقي، تلك

المعلومات التي يمكن أن تستخدم بعد ذلك في توجيه العادات والتقاليد والسلوكيات؛

بشكل يضمن مزيداً من التبعية الاقتصادية للدول المصدرة لتلك الحركات المريبة،

مثل العمل على نشر الاستهلاك الترفي المحاكي للغرب، والقضاء التدريجي على

الهوية الذاتية الدينية والمتحفظة والأخلاقية، والتي كان أبناء الشرق يتميزون بها

على كثير من أبناء الغرب حتى وقت كان قريباً.

- وسائل الصحافة والإعلام والنشر:

وهي من أخطر وسائل التجسس؛ للتقارب الشديد في طبيعة العمل في كلا

المجالين، حيث إن كلاً من المجالين يركز اهتمامه على استجلاب أكبر قدر من

المعلومات لتقديم صورة أكثر تميزاً من غيره، كما أن الادعاء بالعمل الإعلامي أو

النشر يمكن أن يدفع بالفريسة إلى منح كل المعلومات المطلوبة بالوقوع تحت تأثير

البريق الإعلامي والشهرة التي يمكن أن تتاح لها، بل إن المعلومات يمكن

استجلابها بمزيد من اليسر إذا ما كانت تؤخذ من مجلات أو كتب أو وثائق منشورة

ومتاحة للجميع، ومن الأمثلة على ذلك أن اليابان قد تمكنت من الحصول على

أسرار إنتاج الترانزستور التي كانت تمتلكها إحدى شركات إنتاج الراديو الأمريكية،

وذلك من خلال الاطلاع على خبر حول ذلك الإنتاج من خلال إحدى المجلات

العامة المنشورة، والتقط جواسيس الصناعة اليابانيون ذلك الخبر، وتمت إعادة

طبخه وبلورته بحيث تمكنت اليابان في النهاية من إنتاج الترانزستور بشكل أكثر

تطوراً، ثم سارعت اليابان إلى الحصول على براءة اختراعه وحق تطويره قبل أن

تقوم الشركة الأمريكية الأصلية بالقيام بذلك.

- محطة الخطوط الساخنة:

ففي الآونة الأخيرة، انتقلت إلى البلاد العربية موضة غربية تسمى بالخط

الساخن الذي يستقبل مكالمات مجانية من فئات معينة خاصة من الشباب؛ بحجة

الاستماع إلى مشاكلهم فقط الاستماع، ومن العجيب أن من يعمل على تلك الخطوط

قد يكون من جهات أجنبية بحجة (التطوع) في مجال العمل الاجتماعي للدول

المحرومة، كما تبين أن بعض تلك الخطوط تقوم بها عناصر وطنية ولكن تحت

إشراف جهات أجنبية.

والواقع أن تلك الخطوط الساخنة التي تعمل طوال اليوم يمكن أن تكون أداة

تجسس خطيرة لاستجلاب معلومات ديموجرافية خطيرة، والتعرف على المشكلات

الاجتماعية التي تسود المجتمع؛ مما يساعد في تحديد نقاط الضعف في المجتمع،

ومن ثم أماكن تصويب أسلحة الدمار المستهدفة، مثل تحديد أماكن تجمعات الشباب،

وكيفية نشر مشكلة الإدمان بينهم بأسهل طريقة ممكنة، وما أسهلها من طريقة

لاستجلاب المعلومات من أفواه مصادرها الأصلية التي تمثل الأهداف الرئيسة

لعمليات التدمير المخطط للموارد البشرية المنتجة!

- حركات تهجير العناصر المتميزة من الشباب:

ففي الآونة الأخيرة انتشرت الإعلانات الأجنبية البراقة عن عمالة الشباب،

وقبولهم للهجرة الدائمة إلى الجهات الأجنبية المعلنة، والتي عادة ما تكون من الدول

المتقدمة الغنية التي تصورها أجهزة الإعلام المحلية أنها جنة الله في الأرض،

والمنقذ الوحيد لطموحات الشباب الوطني البائس الذي تنهشه مشكلات البطالة

وضيق ذات اليد، وبطبيعة الحال؛ فإن مثل تلك الإعلانات تتيح للجهات الأجنبية

المعلنة ولسفاراتها الاستحواذ على كمٍّ عظيم من الاستمارات التي يسجلها هؤلاء

الشباب الضائع الحائر بمحض إرادتهم، موضحين فيها كل ما يتعلق بهم وبأسرهم

من بيانات شخصية ومهنية وغيرها، وبطبيعة الحال، يمكن من خلال بيانات هذه

الاستمارات التعرف بسهولة على بيانات ديموجرافية لا حصر لها على مستوى

الدولة كلها، كما أنه من خلال تلك الاستمارات شرعية المظهر؛ يمكن اقتناص

الشباب المتميز (خاصة من كان يعمل منهم، أو من ذويهم في مناطق حساسة

بالوطن) ؛ لكي يتم تجنيدهم للعمل في مجال الجاسوسية الاقتصادية أو غيرها

للأسف ضد مصالح وطنهم.

- السياحة:

ويمكن اعتبارها بحق الوجه الآخر لعملة واحدة مع الجاسوسية الاقتصادية

وغيرها؛ خاصة في حالة سياحة المؤتمرات والندوات، وسياحة المهرجانات الفنية

المتخصصة، وغيرها من أنواع السياحة الموجهة التي تتيح عرض البيانات

المتخصصة في يسر وسهولة لمن تم تدريبه وإعداده، وذلك بارتداء عباءة السياحة

ذات تأشيرات الدخول الفضفاضة، وهي قناة مثلى لأصحاب الأنشطة الإنتاجية لكي

يقوموا بدراسة الأسواق العالمية في أماكنها الأصلية، وبشكل طبيعي وصادق، ومن

الشواهد التي تكررت مؤخراً بكثرة نلاحظ كثرة وجود عملاء أجانب يطيلون

جولاتهم التسوقية داخل محلات البقالة الكبرى المتناثرة في المناطق المختلفة،

ويدّعون حيرتهم الشرائية نتيجة لجهلهم بلغة المجتمع الموجودين فيه، بينما

ترصدهم بعض أعين المواطنين المثقفين المدققة لتضبطهم وهم يلتهمون كل البيانات

المسجلة على البضائع المتراصة بعيونهم؛ بشكل يوحي بأن تلك العيون البشرية تم

تدريبها لكي تصبح كاميرات تجسس تلتقط، وتحفظ كل بيان مكتوب على تلك

المبيعات المتاحة للجميع، وترصد كل حركة لعمليات الطلب لتلك المبيعات.

ولا يجب أن نتعجب بعد هذا عندما نكتشف غزو المنتجات الصينية واليابانية

والتايوانية وغيرها مما يأتي من قبل دول غير إسلامية للأسواق الإسلامية؛ بحيث

أصبحت تتنافس مع المنتجات المثيلة الوطنية، بل وتزيحها عن مكانها لتتربع

مكانها بكل ثقة، حتى إن كانت تلك المنتجات تشبع حاجات ذات ضوابط أو

متضمنات دينية (مثل بوصلات الصلاة، وسجاجيد الصلاة، والمنتجات الغذائية

المكتوب عليها حلال، حتى إن كتب ذلك على البسكويت أو منتجات الأسماك التي

تجهل الجهات الأجنبية أنها في الأصل حلال) ، بل إنها أصبحت تزاحم منتجات

التراث الأصيل، ونجحت في التفوق في كثير من الأحيان عليها، كالحال بالنسبة

لفوانيس رمضان التي تم تطويرها بشكل معاصر يتضمن مسجلات لبعض الأغنيات

الشهيرة، وحتى الأكلات الشعبية؛ مثل الملوخية التي تشتهر بها مصر والسودان،

والطعمية المشهورة في كثير من المناطق العربية تم سرقة أفكارها لنجدها تُضم

بكل تبجح في قوائم الملكية الفكرية للدول السارقة!

وفي ظل النظام العالمي الجديد المفتوح على مصراعيه يمكن أن نقول إن

السياحة أصبحت في ثوبها الجديد سياحة معلومات وأفكار أكثر منها سياحة ترفيه

واستجمام!

والواقع أن ما سبق عرضه هو غيض من فيض لا ينتهي من الأمثلة على

مجالات التجسس الاقتصادي، والمناطق الخصبة التي من السهل أن يترعرع فيها،

وإن كان هذا لا ينفي الجوانب المشرقة والمشروعة لاستخداماتها، ولكننا نركز على

ما يمكن أن يثير القلق، ويتطلب الحيطة والحذر.

* ويبقى التساؤل عن أهم الأهداف والآثار المرجوة من عمليات التجسس

الاقتصادي:

يوضح دكتور حازم البيلاوي في رؤيته للعصر الجديد أن المعلومات يمكن أن

تكون وسيلة لتحرير الفرد والمجتمع، ولكنها يمكن أن تتحول إلى وسيلة قهر

واستعباد.

ونلتقط نقطة استكمالية من الأمريكي «ألبير ميشيل» الذي يوضح من خلال

استقرائه لمناظرة ذاتية للنظام الرأسمالي؛ أن قوة الاقتصاد المعاصر تعتمد على

عنصرين جوهريين هما: قدرة صناعية فريدة، و (عدوانية تجارية عنيدة) ،

ومن ذلك يتضح أن الهدف الأساس من التجسس الاقتصادي هو الحصول على أكبر

كمٍّ من المعلومات المناسبة والكافية لضمان تحرير المجتمع من عبودية التبعية

للآخر، أو امتلاك زمام السلطة والهيمنة على الآخرين، وتوجيههم بالشكل الذي

يضمن تبعيتهم له، وعدم تنافسهم معه في المجالات والأنشطة الاقتصادية المختلفة؛

من صناعة وتجارة وزراعة وغيرها، حتى يضمن ذلك المجتمع الاستحواذ على

أكبر جزء ممكن من كعكة الموارد المتاحة في العالم أجمع، غير أنه يجب التنبيه

إلى أن ذلك الهدف يمكن أن تسعى إليه عناصر فردية أو فئوية أو دولية؛ أي أن

عمليات التجسس الاقتصادي ليس شرطاً أن تتم على نطاق الدول، ولكنها يمكن

أيضاً أن تحدث بين أفراد يتنافسون على المصالح نفسها، أو منشآت اقتصادية

متنافسة أو غيرها من الأشكال التبادلية الأخرى، ولكن تركيز منظورنا على

المستوى الدولي يضمن وصول رؤيتنا للشكل الأكثر شمولية؛ حيث يصبح من

الأكثر يسراً بعد ذلك الانتقال إلى الرؤى الجزئية الأكثر تعمقاً؛ حين تدعو الحاجة

إلى ذلك.

وبالإضافة إلى الهدف العام السابق توضيحه؛ فإن هناك أهدافاً أخرى متداخلة

نذكر منها:

- تطويع القوانين الدولية لصالح الدول الكبرى والمالكة لزمام المعلومات

والتقنيات، وضد مصالح الدول الضعيفة والفقيرة بالمعلومات والتقنيات، ومن أهم

الأمثلة على ذلك قوانين الملكية الفكرية المبتدعة في ظل اتفاقات التجارة الخارجية

والجات وأخواتها، والتي تنطوي على استغلال كبير للدول الضعيفة التي قد تكون

مالكة فعلية لبراءات إنتاج كثيرة، ومع هذا فافتقارها إلى تقنيات حفظ أسرارها

الإبداعية يعرضها لسرقة الدول الأقوى لها؛ بحيث تصبح ملكاً لهم بحكم وضع اليد!

- التوظيف السياسي والاقتصادي للأحكام وللنصوص الدينية، فبالإضافة إلى

حركات الاستشراق التقليدية، زاد الإقبال المكثف على التعرف على كل ما يكتب

في الدين خاصة ما يتعلق منه بالإسلام، ويبدو هذا على وجه الخصوص بعد أحداث

الحادي عشر من سبتمبر بأمريكا، وعلى عكس ما يتصوره العامة؛ فإن ذلك

الاهتمام بالتعرف على المؤلفات الإسلامية وتجميع ما تحتوي عليه من نصوص لا

يرجع بالضرورة إلى رغبة في اعتناقه، ولكن كل ما يحدث من (بلطجة دولية)

ضد الدول الإسلامية الآن يؤكد أن الهدف من ذلك هو تجميع أكبر قدر من

المعلومات عن ذلك العالم الإسلامي الذي يشكل سكانه المسلمون أكثر من سدس

سكان العالم، وينتشرون في أكثريات أو أقليات بشرية عبر جميع المناطق

الجغرافية في العالم، وتزيد الأطماع حين نعلم من الدراسات والوثائق المتخصصة

أن المنطقة الإسلامية تُعَدُّ الآن أغنى مناطق العالم برأس المال [1] .

إن حقيقة الأمر تؤكد أن هناك أنشطة مكثفة ومتلاحقة للتجسس الشامل على

اقتصاديات العالم الإسلامي؛ بهدف التعرف الدقيق على ما يمتلك من ثروات وسلب

تلك الثروات بالسلاح المباشر تارة، وبتغريب التعليم وإلغاء الهوية الذاتية في أغلب

الأحوال.

وبعد ظهور بعض البوادر الناجحة لتطبيق نظم للاقتصاد الإسلامي، مثل

انتشار البنوك الإسلامية، وشركات الاستثمار الإسلامية المتفوقة، وبعد ظهور

التفوق الاقتصادي الإسلامي الشامل في بقع دولية بعينها، مثلما حدث في ماليزيا

وإندونيسيا، كان من المتوقع والمنطقي أن تحدث تلك الحملات الشرسة لتجميع كل

معلومة حول المسلمين والإسلام والنظم التي يعيشون في ظلها؛ من أجل الانتقال

إلى خطوة أخرى لتشويه معالم تلك النظم انتقالاً إلى خطوة نهائية، يتحقق بها

الهدف النهائي من تلك الأنشطة المعلوماتية، وهو القضاء على الهوية الإسلامية،

والانتماء الديني، والاستحواذ على ما يذخر به من خبرات وفيرة، ولا غرو؛ فقد

واجه المسلمون مسبقاً خطر الزحف الأحمر، فنال من قوته بعض الشيء، وها هو

خطر زحف الرأسمالية الاستعمارية يأتي مهرولاً وهاتفاً: لقد تخلصنا من الخطر

الأحمر، ويتبقى لنا الخطر الأخضر؛ فهلم ندمره!

ويؤكد تلك النيات تردد شعار مستحدث بين كثير من الأوساط الثقافية والعلمية

المشبوهة؛ تطالب بإنشاء (دين جديد) يتلاءم مع روح العصر؛ فهل من مدرك؟!

- نشر بعض العادات والسلوكيات الضارة، خاصة بين القوى الإنتاجية

والقيادات المهمة بالمجتمع المستهدف؛ بما يضمن التدمير الذاتي له مثل الإدمان

والإسراف البذخي والإنفاق غير الإنتاجي، وتفيد المعلومات هنا في تحديد الفئات

المستهدفة بالمجتمع والوقوف على نقاط الضعف الميسرة لتحقيق الأهداف التدميرية،

ويلحق بذلك تحقيق أهداف أخرى شبيهة بشكل غير مباشر؛ مثل نشر الأوبئة

والأمراض الغامضة والملوثات البيولوجية التي تساعد على إضعاف القوى المنتجة،

والقوى العسكرية والدفاعية للمجتمع بشكل يجعله صيداً سهلاً.

- اختراق صناعة القرارات الاستراتيجية الاقتصادية المحلية لتدميرها، أو

لإعادة توجيهها لصالح الدول أو الجهات القائمة بالتجسس، أو لإحباط سياسات

اقتصادية تتناقض مع مصالح الأطراف المشبوهة؛ مثل سياسات المقاطعة

الاقتصادية لها، أو لإضعاف القدرات الوطنية كوسيلة للتفوق الذاتي وفرض الهيمنة

الاستعمارية.

- تطبيقاً للمبدأ الاستعماري المعتاد (فرِّق تسد) ؛ فإن المعلومات المتحصلة

بدقة عن مجموعة معينة من الدول التي تربطها وحدة مصير أو مصالح أو دين أو

لغة مثل الحال بالنسبة للدول العربية تساعد الجهات المشبوهة على تحقيق أغراضها

المدمرة بتشتيت العلاقات الاقتصادية والاجتماعية بل والعسكرية أيضاً بين تلك

الدول، ومن ثم تجعل عمليات اقتناصها بشكل فردي أكثر سهولة وفعالية، ولا

يخفى على أحد ما يحدث من تخريب متعمد من تلك الجهات المشبوهة للاقتصاديات

العربية الآن نتيجة امتلاكها لمفاتيح جميع أسرارها الاقتصادية والعسكرية، وغيرها

من أسرار استراتيجية كان المفروض المحافظة عليها!

- تحقيق التفوق الاقتصادي بأسرع طريقة ممكنة، وذلك بالبدء من حيث

انتهى إليه الآخرون من معلومات وتقنيات مستخدمة، وذلك مثلما حدث في التجربة

اليابانية، فقد انهار الاقتصاد الياباني تماماً بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن

اليابانيين استطاعوا بذكائهم ودهائهم، وبصبرهم وجديتهم أيضاً، أن يتعرفوا على

كثير من تقنيات التنمية والإنتاج في الدول المتقدمة آنذاك، ولم يقعوا في مصيدة

تبعية التطبيق للوضع على حاله، ولكن تم إضافة الخبرات والمهارات اليابانية على

ما انتهى إليه الآخرون من تقنيات، ومن هنا تمكنت اليابان من النهوض من عثرتها

المدمرة سريعاً، بل وزاحمت دول القمة في مصافها، ونجحت أكثر من هذا في

التربع على قمة كثير من المجالات الإنتاجية والتقنية المتميزة.

- ومن أخطر أهداف الجاسوسية الاقتصادية: خلق معاول هدم بشرية ذاتية

يتم اقتناصها من داخل المجتمع المستهدف وتجنيدها لسرقة المعلومات المطلوبة من

منابعها الأصلية، ثم توظيف تلك العناصر البشرية نفسها بعد إجراء عمليات غسيل

المخ اللازمة كعناصر موالية للجهات المخترقة؛ بحيث تستخدم كأدوات لنشر ما

تريده من أفكار وسلوكيات، وعند الضرورة تصبح دروعاً بشرية واقية وأسلحة

بشرية دفاعية عن تلك الجهات الأجنبية؛ حتى ضد أبناء الوطن الواحد.

ولا نملك في النهاية إلا أن نرسل إشارتنا التحذيرية لمن يريد أن يدرك ويتعظ:

إن من يملك التقنية يملك المعلومة، ومن يملك المعلومة يملك كل مفاتيح القوى،

بل إنه يملكها ذاتها!

تُرى.. كيف تستطيع الدول والجهات المغلوبة على أمرها أن تتخلص من

تلك البراثن المتوحشة لأذرع الجاسوسية الاقتصادية الأخطبوطية؟! إنها قصة

أخرى!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015