قضايا دعوية
بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:
من الحركة الإسلامية إلى حركة الإسلام!
(3 ـ 3)
د. فريد الأنصاري [*]
بعد أن ألقى الكاتب الضوء على مفهوم (بعثة التجديد) في الحلقة الأولى،
وبيان أنها حركة الإسلام أكثر مما هي حركة إسلامية، وناقش مدى تأثر الحركات
الإسلامية بأجواء العولمة، شرع في الحلقة التالية في بيان معالم البعثة الجديدة،
والتي تمثلت في: التداول القرآني، الإمامة العلمية، يسر الدعوة وبساطة
المفهومات، التنظيم الفطري.
ويتواصل حديث الكاتب في هذه الحلقة الأخيرة، والتي يقدم فيها رؤيته
لقضايا التجديد.
- البيان -
* بعثة التجديد المقبلة في ظل الاجتياح العولمي:
تجديد العمران الديني للإنسان هو القضية الأولى لبعثة التجديد:
ليس المقصود بالعمران في اصطلاح هذه الأطروحة هو تخطيط البناء المادي
وهندسته، كلا! وإنما المقصود به هندسة المذهبية الحضارية الكامنة في الإنسان،
والتي كان بمقتضاها كما كان.
العمران إذن: هو الإنسان؛ بما هو عقيدة وثقافة، وبما هو حضارة وتاريخ،
وبما هو فكر ووجدان، وبما هو نفس ونسيج اجتماعي.
وكما يكون فكر الإنسان وتصوره للحياة تكون عمارته، فالمادة في هذا تبع
للفكر. وكما كانت بعثة محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تقوم على نظام
أولويات؛ فكذلك كل بعثة تجديدية يجب أن تقوم على ذلك النظام من الأولويات،
بلا حرفية ولا ظاهرية، وإنما بمنهجية مقاصدية؛ حفاظاً على سر الإرث النبوي،
وطلباً للصواب في المنهج، ورغبةً في استجابة النتائج بإذن الله.
ودورنا اليوم هو تجديد ذلك العمران؛ بدءاً بتجديد الإنسان حتى تجديد
السلطان.
الإنسان هو أول عناصر العمران، وأول مرتكزاته، فهو الذي يعطي للبناء
معناه العمراني، وقصده الكامن فيه هو الذي يجعله مسجداً أو خمارة! قال عز وجل:
[إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ
يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسَى أُوْلَئَكَ أَن يَكُونُوا مِنَ المُهْتَدِينَ] (التوبة: 18) ، الإنسان إذن
هو أساس العمران، ولذلك كان محل خطاب الرحمن بالقرآن.
و (العمران القرآني) له أصول رئيسة في بناء النفس والمجتمع، إليها تستند
هندسته، وعليها يقوم بناؤه، فهي التي كانت تمثل اللبنات الكبرى في بناء (البعثة
المحمدية) وعمارتها، عليها كانت تدور أولوياتها التي نحسب أنها ثابتة، لا تتغير
بمصر، ولا تتبدل بعصر، وهي: التوحيد، والعبادة، والمجتمع، والعلم. وغاية
ذلك كله هو إقامة العمران الوجداني والمادي؛ لعبادة الله الواحد القهار. وبيان تلك
اللبنات - على الإجمال - هو كما يلي:
1 - التوحيد: وذلك بالدعوة إلى عقيدة السلف الصالح، كما قررها العلماء،
وكما كانت في الصدر الأول من الإسلام، عند الصحابة والتابعين، لكن ليس
بالمنهج الجدلي الكلامي الذي آلت إليه عند المتأخرين الجدليين، كلا! فذلك هو
أيضاً ابتداع في المنهج. وإنما بالمنهج القرآني التربوي الذي يقوم على التعرف
على الله والتعريف به؛ تربيةً وتزكيةً؛ لتحصيل الخوف والرجاء، والرغبة
والرهبة؛ عبادةً لله الواحد القهار، وذلك من خلال استغلال المقاصد التعبدية،
والأهداف التربوية للأسماء الحسنى والصفات العلى.
وليس بالجمود على استظهار الحدود والتعريفات لمفهومات الربوبية والألوهية
والأسماء والصفات، على وزان فصول المناطقة ورسومهم! فذلك منهج عقيم لم
يزد الأمة إلا خبالاً! وإنما باستثمار ذلك عقيدةً تربوية، تملأ القلب علماً وورعاً،
وتنتج خلقاً قرآنياً في النفس وفي المجتمع [1] ، والبناء القرآني للتوحيد هو الكفيل
بتكوين الشخصية المسلمة الجامعة لصفتي (القوة والأمانة) ، واللتين بهما يكون
الإنسان المسلم كما سبق بيانه فاعلاً في التاريخ أو لا يكون؛ إذ إن (التوحيد) من
حيث هو منهج القرآن في التعرف إلى الله والتعريف به، والذي هو جوهر المنهج
السلفي الأصيل لا الجدلي الدخيل؛ يُخَرِّج من العامة: أجيالَ الربانيين، ومن القادة:
الفقهاءَ المجاهدين.
واجتماع العامة والخاصة على هذه (الثنائية التربوية) العظيمة؛ هو خير ما
يقوم عليه النسيج الإسلامي السليم، ومن لم يراع ذلك كان عمله مخروماً من إحدى
الجهتين، وغراس (التوحيد) بالمفهوم الذي وصفنا من التخلق بأخلاق القرآن هو
الكفيل بالجمع بينهما في التربية القرآنية.
ولنا ها هنا كلمة ذهبية جمعت بينهما، رويت بأسانيد صحيحة عن عدد من
الصحابة، منهم الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود، في أثر صحيح مليح، قال
رضي الله عنه: «المتقون سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة!» [2] .
2 - العبادة: وأهم رموزها فريضة الصلاة: فالصلاة هي عماد الدين،
وهي العهد الذي بين الرسول وبين المسلمين! لكن تجديد الصلاة إنما معناه بعث
مضمونها في الأمة، وإحياء دورها العظيم الواصل بالله، الناهي عن الفحشاء
والمنكر، والحافظ لحدود الله. وإحياء عمارتها ومركزيتها، من المساجد والجوامع،
وإظهار ما تبثه من مقاصد في المجتمع. ومهم جداً أن تعلم أن أول عمل في
الإسلام - بعد الإيمان - أُمِرَ به رسولُ الله صلى الله عليه وسلم هو الصلاة! وأول
عمارة بناها النبي صلى الله عليه وسلم في الإسلام هي المسجد! فتدبر هذا ثم أبصر!
واقرأ مقاصد الحديث العجيب؛ إذ قال صلى الله عليه وسلم: «أتاني جبريل في
أول ما أوحي إلي، فعلمني الوضوء والصلاة، فلما فرغ من الوضوء أخذ غرفة من
الماء فنضح بها فرجه» [3] .
الصلاة مفتاح صلاح المجتمع، وأول أعمال التجديد فيه، وبقدر إقبال الناس
عليها يكون تقويم مراحل البعثة، ومعرفة ما قطعته من أشواط. نعم؛ الصلاة من
حيث هي عبادة؛ لا من حيث هي عادة يمارسها المسلم كما يمارس عادة شرب
القهوة، أو قراءة جريدة الصباح والمساء! بل الصلاة بما هي رباط وجداني،
وحركة فردية وجماعية تصل الناس بالله عقيدةً وشريعةً، وتصنع عمارتهم الإيمانية
في طريق بعثة التجديد [4] . ولك أن تتدبر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا، ويرفع به الدرجات! إسباغ الوضوء
على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة.. فذلكم
الرباط! فذلكم الرباط! فذلكم الرباط!» [5] . فمن ها هنا البدايات والمنطلقات؛
لعمران الوجدان وبناء الإنسان؛ لمن يدرك حقاً: كيف تقوم أركان بعثة التجديد في
المجتمع.
3 - المجتمع: ونواته الأولى إنما هي (الأسرة) بالمفهوم الإسلامي،
فالأسرة مفتاح فريد لكل تجديد، الأسرة هي أساس المجتمع، والخلية الأولى من
نسيجه الكبير. بتماسكها يتماسك المجتمع كله، وبتمزقها يتمزق كله، ثم ببقائها
سليمةً معافاةً يَسْلَمُ التدين ويستمر، وبفسادها أو خرابها يفسد ويخرب، ألم تر أن
الله عز وجل قد أعطى للأسرة أولوية الأولويات في التشريع القرآني؛ بينما أحال
كثيراً من بيان تفاصيل التشريعات الأخرى بما في ذلك أركان الإسلام وفرائضه
الكبرى على بيان السنَّة، أو استنباط الاجتهاد؟! وإنما اكتفي في القرآن بتشريع
مبادئها وأصولها؛ بينما تولى جل وعلا بنفسه سبحانه تفصيل قضايا الأسرة في
القرآن العظيم، وبَيَّنَ فيه أحكامها الكلية والجزئية؛ إلى درجة من التفصيل لم تكد
تبقي للسنة من ذلك إلا قليلاً، ولم تكد تبقي للاجتهاد بعدهما شيئاً!
إن هذا الصنيع الرباني في حد ذاته خطاب منهجي؛ لمن فكَّر في تجديد
العمران.
ولقد شهد التاريخ أن الدين في كثير من البلاد؛ لم تحفظه لا هيأة كبار العلماء،
ولا وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، ولا الجمعيات والجماعات الإسلامية
القديمة والحديثة. وإنما حفظه الله بالأسرة! هذه الخلية الدعوية العجيبة التي بقيت
على فطرتها الدينية، وأساسها الإسلامي، كما كان الشأن في الجمهوريات الإسلامية
التي بقيت ردحاً من الزمن ليس باليسير، تحت الحصار الحديدي لدولة الإلحاد
الكبرى: (الاتحاد السوفياتي) البائد! وكذا صنوه (الاتحاد اليوغوزلافي) . لقد
انبعثت الحياة الإسلامية في تلك الجمهوريات من جديد في غياب المؤسسات الدينية
الممنوعة، وغياب كل أشكال التدين السنّي والبدعي سواء! ولم يبق لديهم من
الإسلام إلا نظام حياتهم الخاص بالأسرة، وثقافتها الدينية المتوارثة، وكان ذلك
وحده كفيلاً بحفظ جمرة الإسلام متوقدةً عدة أجيال، تحت رماد الكفر والإلحاد!
لذلك كان التشريع القرآني يحصن أحكام الزواج والطلاق والمواريث، وما تفرع
عنها جميعاً، بترسانة عظيمة من الحدود، جعلها الله من حماه ومن محارمه. وإنما
تقوم بعثة التجديد بإعادة بناء كل المفهومات الإسلامية المتعلقة بالأسرة في النفس
وفي المجتمع، وإغفال تجديد هذه المعاني في الأمة لن ينتج عنه بعثة شاملة كاملة.
وللأسرة في الإسلام قيمتان أساسيتان، لا بد من الانتباه إليهما عند التجديد:
الأولى: قيمة العِرض: وذلك على ما قرره علماء المقاصد في أصول
الضروريات الخمس. وإنما العِرض قيمة خلقية، ترجع إلى أخلاق إسلامية كثيرة؛
من أهمها: الحياء والغيرة، فأما الحياء ففيه من النصوص ما يكفي؛ لجعله كلية
من كليات الأخلاق في الإسلام، ومن أجمع ما ورد في هذا حديث النبي صلى الله
عليه وسلم: «إن الحياء والإيمان قُرِنَا جميعاً، فإذا رُفع أحدهما رفع الآخر» [6] .
وأما الغيرة فيكفي فيها حديثه صلى الله عليه وسلم أيضاً: «إن الله تعالى يَغَارُ،
وإن المؤمن يغار. وغيرة الله أن يأتي المؤمن ما حرم الله عليه» [7] . وشرع
لحفظ ذلك عدداً من التشريعات؛ مما يتعلق بأركان الزواج وعقوده وآدابه، وكذا
بعض الحدود الراجعة إلى صونه من كل لوث، كحد الزنى وحد القذف.
الثانية: قيمة النسل: على ما قرره علماء المقاصد أيضاً. و (النسل) مفهوم
كلي في الدين، يقوم عليه عدد كبير من الأحكام الشرعية التي تنظم الحياة الزوجية؛
بما يضمن استمرار هويتها الإسلامية، وانتسابها الديني في ذريتها إلى يوم القيامة!
قال جل وعلا: [وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا
أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ] (الطور: 21) ، وقال
سبحانه: [ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (آل عمران: 34) ، وقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه
يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه. كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء؛ هل تحسون
فيها من جدعاء؟ ثم يقول: [فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ] (الروم: 30) » [8] .
واستمرار (الأسرة) بمفهومها الإسلامي؛ هو الذي يضمن بقاء ثقافة (الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر) على المستوى الشعبي، ذلك أن التحصينات
الأسرية تربي ذوق الجيل؛ بما ينكر كل ما خالف (معروفه) ، وينتصر لكل ما
وافقه.
4 - العلم: مشهورة جداً (ترجمة) الإمام البخاري، في كتاب العلم من
صحيحه، وهي باب: (العلم قبل القول والعمل؛ لقول الله تعالى: [فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ] (محمد: 19) . فبدأ بالعلم) [9] . والعلم باعتباره قضية من قضايا
(بعثة التجديد) ركن من أعظم أركان البعث والإحياء؛ غايةً ووسيلةً، فبالعلم كانت
الأمة، وبه تكون مرة أخرى بحول الله. إلا أن لطبيعة العلم المجدد خواص،
نفردها بالدرس لأهميتها فيما يلي:
* تجديد العلم كامن في تجديد مناهجه:
لسنا في حاجة إلى تجديد قضايا العلم؛ بقدر ما نحن في حاجة إلى تجديد
مناهجه، وإنما قضاياه تَبَعٌ لمناهجه، فإذا تجددت هذه؛ تجددت تلك بالضرورة.
والعكس ليس بصحيح!
وتجديد المناهج هو الكفيل بتأطير بعثة التجديد، وإسنادها على المستوى
العلمي الذي هو الوعاء الجامع لحركتها تأصيلاً وتوجيهاً، ومناط التجديد المنهجي
يكون بإحياء الصناعة الفقهية المقاصدية بضوابطها الشرعية؛ بعثاً وتجديداً.
إن مشكلة العلم والعلماء اليوم إنما ترجع إلى ضمور هذه الصناعة وندرتها.
والمقصود بـ (الفقه) هنا: المعنى المصدري للفظ، لا الاسمي؛ أي الفقه
من حيث هو حركة عقلية، ونشاط ذهني بالقصد الأول، ينتجها (العقل المسدَّدُ) ،
لا (العقل المجرَّد) . فالفقه عن الله ورسوله إنما يقع بعقل العالم الرباني الحكيم
والعقل مناط الفهم والتكليف بما كان عبداً لله خاضعاً لسلطانه، وذلك هو (العقل
المسدَّد) . وأما (المجرَّد) فعقل متمرد على الله، متجرد عن تسديد الوحي وتأييده!
وهو عقل الفيلسوف الذي يركّب المقولات على ما يمليه فهمه هو للكون والحياة
دون استناد إلى الوحي، وربما ناقضه ولا يكترث لذلك؛ ما دام عقله قد حكم به!
وفقه (العقل المسدَّد) هو المقصود في حديث النبي صلى الله عليه وسلم:
«نضَّر الله عبداً سمع مقالتي فوعاها، ثم بلغها عني. فَرُبَّ حامل فقه غير فقيه!
ورُبَّ حامل فقه إلى مَنْ هو أفقه منه!» [10] إلخ.
والفقه المقاصدي كان أهم ملامح بعثة التجديد في القرون الهجرية الأولى، مع
الإمام الزهري، وربيعة، وأبي حنيفة، ومالك، والأوزاعي، والليث بن سعد،
والشافعي، وأحمد وغيرهم.
نحن اليوم في حاجة على مستوى تجديد الفقه إلى ثلاثة أعمال منهجية:
الأول: بعث الثقافة الفقهية القديمة:
ومن الحِكَم المأثورة عن بعض العلماء قولهم: (أول التجديد قتل الماضي
بحثاً!) ، وإنما المقصود ببعث الثقافة الفقهية: بعث المفهومات والمصطلحات
الضرورية في العلم، وتجديد تداولها؛ ذلك أن دروس معاني المصطلحات الفقهية
وضياعها، هو مما يسبب غاية الاختلال في الفهم، والانحراف في التطبيق؛ مما
قد ينتج غلواً في الدين، وخروجاً عن مقاصده الشرعية؛ فتنزل أحكامه على غير
منازلها!
ذلك أن بعض أعلام الدعوة اليوم مثلاً لا يعرفون من نصوص القرآن
والحديث إلا حكمين شرعيين اثنين: الوجوب والتحريم! فكلما ورد الأمر عندهم
حملوه على أصله من الوجوب! وكذا يحملون النهي مطلقاً على أصله من التحريم؛
ليس لأنهم يجهلون القاعدة المدرسية المشهورة: (الأصل في الأمر الوجوب؛ إلا
أن تصرفه قرينة إلى الندب أو الإباحة. والأصل في النهي التحريم؛ إلا أن
تصرفه قرينة إلى الكراهة) ، كلا! فهو يحفظها، لكنه لا يفقهها! فهو بكل سهولة
(حامل لدليل الفقه) وليس (بفقيه) ؛ وبينهما فرق كبير، وهو ما عبّر عنه
الحديث النبوي السابق ذكره: (فرُبَّ حامل فقه ليس بفقيه!) ؛ إذ لا يعرف مثلاً
كيف يراعي عناصر السياق الثلاثة: من القرائن، والسوابق، واللواحق. ولا
كيف يراعي قواعد الدلالة ويوظفها، ولا ما يُعْمِلُ من مناهج الاستدلال وما يُهْمِل،
حسب طبيعة الحكم الشرعي ومجاله، من العبادات أو العادات! فحملوا الناس على
العنت جهلاً بصناعة الفقه، ومالوا عن الوسط والاعتدال، وخرجوا عن حد
الإجماع الذي جعل الأحكام التكليفية موزعة على الخمسة المعروفة: الوجوب،
والندب، والإباحة، والكراهة، والتحريم. لقد كانت هذه الأمور معلومة من الدين
بالضرورة، بل كانت ثقافة شعبية يوم كان (الفقه) إمام الأمة، ومنهج تلقيها عن
الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
إن الفقه صناعة لا بد من إحيائها بالبحث في مناهجها؛ حتى تصبح في
متناول (التداول الثقافي) للأمة.
ويمثل المصطلح الفقهي عنصراً من أهم عناصر الإحياء الثقافي، وقناة من
أخطر قنوات التداول المفهومي لمنهج التفكير الفقهي، ولذا فهو يعتبر من أهم
أولويات البحث العلمي لمن رام القبض على العلم من صلبه لا من مُلَحِه وحواشيه.
وللأسف فإن غالب البحوث العلمية اليوم في الدراسات الأكاديمية تعاني من الهزال
الشديد في المنهج؛ ذلك أنها تعاني أزمة في الاستراتيجية العلمية، وأزمة في
الشروط المنهجية.
أما الأزمة الاستراتيجية؛ فهي تتمثل في غياب القصد العمراني في البحث
الذي يراعي حاجات الأمة الكبرى في بناء التفكير المنهجي، وتوفير مادة علمية
صالحة لبناء المستقبل العلمي في المجال الشرعي، وذلك لما طغى على أغلب تلك
البحوث من الارتجال ونفسية ردود الأفعال، فكلما ألقى الإعلام على الأمة شيئاً من
القضايا، أو كلما أثار (الآخرون) شيئاً من الشبهات؛ رأيت البحوث على عرض
العالم الإسلامي وملء جامعاته ومعاهده؛ تنصبُّ على موضوع الشبهة بالبحث
لبضع سنين! بينما كان يكفي ذلك أن يصدر فيه (تأليف) فقط، أو حتى عدة
(تآليف) لا (بحث) . وفرق عندي بين مفهوم (البحث) ومفهوم (التأليف) ،
فالتأليف: جمع لما هو موجود من العلم، وتصنيف له، ثم عرض له بمنهج إنشائي.
فالمؤلف يجمع الأفكار أو يعيد إنتاجها، ثم يعرضها عرضاً حسناً في كتاب. أما
(البحث) : فهو كشف عن مجهول [11] ، إنه تجديد في بناء العلم، أو زيادة - مهما
قلت - في صرحه وعمرانه. وما أدق كلمة لأبي بكر ابن العربي المعافري -
رحمه الله - في هذا، قال: «ولا ينبغي لحصيف أن يتصدى إلى تصنيف؛ أن
يعدل عن غرضين: إما أن يخترع معنى، وإما أن يبتدع وضعاً ومبنى. وما سوى
هذين الوجهين فهو تسويد الورق، والتحلي بحلية السرق!» [12] .
وبالمناسبة؛ فقد رأيت عدة (بحوث) أُنجزت في موضوع المرأة في
السنوات الأخيرة، أو سُجّلت لنيل بعض الشهادات، وبالاستقراء كانت القضايا
المدروسة في أغلب هذه البحوث هي هي! والمنهجية المتبعة هي هي! والنتائج
المتوصلة إليها هي هي! لماذا؟ السبب يسير: هو أن موضوع (المرأة في
الإسلام) قد قُتل بحثاً من لدن الدارسين. وما بقي فيه مجال إلا (للتأليف)
بالاصطلاح المذكور! وما كان ينبغي أن نكون كلما ألقى شيطان الغرب في روع
عملائه ومقاوليه شبهةً؛ أن نهب بكل طاقاتنا لإصدار البحوث، وإنجاز
الأطروحات!
إن الأمة اليوم في حاجة إلى البحث في التراث الفقهي، أصوله وفروعه،
تحقيقاً وتخريجاً وتجديداً؛ بما يضمن تطوير مناهجه وبث ثقافته. كما أنها في
حاجة استعجالية لوقف النزيف الحاصل اليوم في الجامعات العربية والإسلامية،
حيث تهدر الأموال، والطاقات، والأعمار؛ في إصدار وفرة من التآليف باسم
البحث العلمي!
إنه لا بد من بناء (استراتيجية البحث العلمي) لدراسة الجدوى من كل عمل؛
قصد تحقيق بعثة التجديد في الجامعة؛ بما يغطي حاجات الأمة المستقبلية في فقه
الدين والدنيا، ومن أجل ذلك؛ لا بد من إنجاز العنصر الثاني من الأعمال المنهجية
الثلاثة للتجديد الفقهي، وهو:
الثاني: تجديد أصول الفقه ومقاصد الشريعة:
وليس معنى ذلك عندي إلغاء العمل بالقياس، ومسالك التعليل، على ما يراه
بعض الفضلاء [13] . كلا! فلا تزال المنهجية الأصولية في أغلب قواعدها صالحة
للإعمال والاستعمال، في إنتاج التفكير الفقهي الجديد وضبطه، وإنما هي في حاجة
إلى كشف رصيدها العلمي الضخم أولاً، ثم تطوير قواعدها الإجرائية؛ بما يضمن
استيعاب قضايا العصر الحديث بشكل مناسب لمقاصد الشريعة ثانياً.
فهي إذن؛ في حاجة إلى (تكميل) أكثر مما هي في حاجة إلى (تغيير) ،
هذه حقيقة يعرفها من خبر مناهج الاستنباط الفقهي في مصادرها الأصيلة، وذلك
على الأقل في هذه المرحلة من تاريخ الأمة العلمي. قلت: هذا لمن كان يعرف
طبيعة المادة الأصولية والمقاصدية حق المعرفة؛ من خبراء الميدان. فالدرس
الأصولي غني جدّاً بالتنوع المنهجي، وبالتعدد الإمكاني لمسالك البحث والاستنباط؛
بما يكفل تغطية أغلب الحاجات العلمية للأمة، في العصر الحديث.
والقياس المعياري - ولا أقول (الضيق) - وُضِعَ لأسباب حضارية،
وحاجات علمية، ما تزال قائمة إلى اليوم. ووضعت له منافذ للتوسعة، تبرز حيث
تنتصب حاجتها علمياً. من مثل القواعد المآلية، كقواعد الاستحسان، وسد الذرائع
وفتحها، وقاعدة مراعاة الخلاف، وقاعدة اطراد المصالح الكلية ... إلخ [14] .
إن الحاجة اليوم هي في تجديد الضوابط الأصولية، والقواعد المقاصدية،
فيما يتعلق بفقه الأولويات والموازنات، وكذا قواعد ترتيب الحجاج والاستدلال.
فأصول هذه الأمور تكاد تنعدم، فالخبراء يستنبطون مفهوماتها لأنفسهم، ويبقى
غيرهم من أهل العلم تائهين في فتنة تعارض الظواهر ومقتضيات الدلالات، فتدخل
الأمة بذلك في فتنة ردود الأفعال، من مثل ما يحصل اليوم من افتراقٍ مفتونٍ،
ينشق بين قوم لا يشتغلون بالسنة مكتفين فقط بالقرآن! وبين قوم آخرين لا
يشتغلون بالقرآن مكتفين فقط بالسنة! وبين قوم آخرين لا يقبلون اجتهاداً في الدلالة
ولا في مقاصد الشريعة؛ ولا نظراً في تحقيق المناط بين عموم وخصوص! وقوم
غيرهم تسيبوا في تفسير الخطاب الشرعي بما يخالف الأصول الكلية والثوابت
الشرعية. كل ذلك ردود أفعال لا شعورية؛ بسبب غياب العدل في العلم، والقصد
في المنهج.
إننا في حاجة إلى تكميل أصول الفقه بقواعد، تضمن بناء مراتب التشريع؛
ليس بمعنى الترتيب المعتاد للأصول: الكتاب فالسنة فالإجماع فالقياس، كلا! فهذا
ترتيب مدرسي، لا إشكال فيه ولا خلاف، وإنما القصد منه بيان قوة الحجة الكلية
للدليل. وأما قواعد الترتيب التشريعي المطلوب تجديدها؛ فهي المتعلقة بترتيب
التفكير الفقهي، والضابطة لمراحله الذهنية؛ بدءاً بمرحلة الفهم للنص: كيف يتم؟
ثم مرحلة الاستنباط منه: كيف تقع؟ ثم مرحلة التحقيق للمناط: كيف تتنزل
أحوالها ومآلاتها بين العموم والخصوص؟ وما يعتري كل ذلك من تقديم وتأخير،
أو استثناء وتخصيص، للأدلة بعضها على بعض، وبعضها من بعض، إلى غير
ذلك من سائر الأحوال، والممكنات الاستدلالية في الدرس الأصولي والمقاصدي.
ثم أيضاً القواعد المقعِّدة لقوة التحقيق والتطبيق على الواقع الإنساني، وميزان
أولوياتها على وزان قوة الحكم الشرعي، وإنما يكتسب قوته بمصدره ومآله، فليس
ما شرع في القرآن من حيث القوة كما اشتغلت السنة بتشريعه، ولا ما شرع في
السنة كما اشتغل الاجتهاد بتشريعه. وليس ما أجمل في الكتاب كما فصل فيه. هذا
ترتيب لا تكاد تجد له في أصول الفقه قواعد إلا قليلاً.
وعدم اعتبار هذه المعاني الكلية، والترتيبات الاستدلالية مما سبق ذكره إجمالاً
يؤدي إلى أحد غُلوّين: غلو في اعتبار القرآن بلا سنة، أو السنة بلا قرآن، أو
غلو في اعتبار النصوص مطلقاً بلا فقه، ولا منهج معلوم، وإنما هي الفوضى في
المنهج وفي التفكير!
كما أننا في حاجة - بعد ذلك - إلى تكميل قواعد تحقيق المناط بمعناه العام
والخاص [15] . وتطوير ذلك من مجال النفس إلى مجال المجتمع، ذلك أن كثيراً
من التضارب بين العلماء والدعاة اليوم، في الفتاوى وفي رسم التوجهات الفقهية؛
يرجع في غالبه إلى غياب ما يمكن تسميته بفقه (تحقيق المناط الاجتماعي) . وهو
صناعة أصولية درج بعضهم على تسميتها اليوم: (بفقه التنزيل) . وهذا لا يزال
في حاجة إلى تأصيل وتقعيد، وما صنف من هذا في التراث القديم هو فعلاً في
حاجة إلى (تجديد) بعض نماذجه؛ خاصة في مجال المعاملات والعادات؛ إذ فقه
تحقيق المناط في مثل هذه الأمور مرتبط بطبيعة الزمان وأهله، يتغير بتغيرها،
وقد تغير فعلاً منه الكثير الكثير، فلا بد من تجديد ذلك، على شروط العلم،
وقواعد المنهج الأصولي والمقاصدي.
وأما تجديد مقاصد الشريعة من أصول الفقه، فهو أولاً بالصياغة المنهجية؛
لما يوجد منها منثوراً في كتب الفقه وأصوله، ومعلوم أن من فعل ذلك من العلماء
الأقدمين والمحدثين في الأمة قليل، فلا يذكر منهم غير الشاطبي في الأقدمين
وشراحه من المحدثين كالطاهر بن عاشور والدكتور أحمد الريسوني، المفاهيم
المقاصدية لا تزال مبثوثة في كتب الأقدمين ليس فقط في الكتب المشتهرة بذلك
كقواعد الأحكام للعز بن عبد السلام، كلا! وإنما في كتب الفقه مطلقاً وفي كل كتب
الأصول، بل في كتب التفسير أيضاً وفقه الحديث، وهي تحتاج إلى كشف أولاً،
ثم إلى صياغة علمية منهجية على وزان القواعد والأصول.
ويضاف إلى ذلك ثانياً ما دعت إليه الحاجة المعاصرة؛ من تقعيد القواعد؛
مما يُقَصِّدُ الشارع تقصيداً شرعياً، في تفسير النصوص الكلية؛ لاستيعاب
المفهومات الجديدة للمصالح والمفاسد والحقوق؛ بما ينضبط إلى أحكام الشريعة.
والتفكير المقاصدي ضرورة من ضرورات البعثة، وأصل من أصول
التجديد، فبغيره تتيه الأمة بين الظواهر؛ بما قد يرفع شوكة الفكر الخارجي من
جديد، أو يدخلها بالضد في متاهات التحليل الباطني، ويبقى الوسط بعيداً عن لسان
الميزان! وشيء من هذا وذاك مع الأسف هو حاصل، ولله عاقبة الأمور.
ثالثاً: تجديد (أصول الفقه السياسي) :
إن هذا الاصطلاح دال على مفهوم هو في الحقيقة من مفهومات علم أصول
الفقه بمعناه العام، لكننا أفردناه بالذكر ها هنا لجهل بعض الناس به؛ بل لإنكارهم
إياه مطلقاً! ثم لما له من خطورة في بعثة التجديد، خاصة في زماننا هذا.
إن (أصول الفقه السياسي) أمر لازم بالضرورة عن فقه تحقيق المناط في
أصول الفقه، وأمر لازم بالضرورة أيضاً عن فقه (اعتبار المآل) في مقاصد
الشريعة، كما قرره الإمام الشاطبي [16] ، ثم هو قبل هذا وذاك ضرورة من
ضرورات الاجتهاد المعاصر، لا يكون العالم اليوم مجتهداً بحق؛ إلا بتحصيل
درجة الاجتهاد فيه.
لكن لا بد من بيان أمر:
لقد قررنا في كتابنا (البيان الدعوي) تأخرَ الرتبة التشريعية للأحكام السياسية
في الإسلام؛ بما يعني عدم مفتاحية الشأن السياسي دعوياً [17] ، فذلك أمر آخر تماماً
ومختلف عما نحن فيه، إن ذلك يتعلق ببناء (البرنامج السياسي) في المجال
الدعوي. ونحن نفرق بين (البرنامج السياسي) و (أصول الفقه السياسي) ،
فالأول فقه جزئي تطبيقي، والثاني كليات وقواعد، بمعنى أن (البرنامج السياسي)
ما هو إلا عنصر جزئي من عناصر (أصول الفقه السياسي) ، كنسبة فقه
المواريث مثلاً إلى مجموع الفقه، بل إلى كلي أصوله. ولذلك رأينا أن (البرنامج
السياسي) بما هو علم جزئي ليس هو المفتاح الأساس لبعثة التجديد الإسلامي،
وهو ما اصطلح عليه اليوم بـ (المشاركة السياسية) في المجال الحزبي، بل هو
أمر مقصود بالتبع، وليس بالأصالة في تجديد العمران الديني للمجتمع.
أما الثاني - أعني فقه الكليات السياسية، أو أصول الفقه السياسي - فهو
منهج معرفة سنن التحولات، وسنن التوقعات والمآلات، فيما يتعلق بتدبير شؤون
المجتمعات، على المستوى المحلي والإقليمي والعالمي، وبهذا كان مصدراً من
مصادر فقه الدعوة الإسلامية. ومن ظن أن العالم الإسلامي قطعة معزولة، أو
بالأحرى يمكن عزلها عن السياسة الدولية؛ فهو ما يزال يعيش خارج التاريخ! [18]
وبمثل هذه الأخطاء القاتلة، في الفهم وفي المنهج؛ يتم استغفال بعض العلماء
وتوظيفهم - على جلالة قدرهم -، والدفع ببعض الجماعات الإسلامية؛ بما يؤدي
بها إلى الانتحار في نهاية المطاف! أو إلى زيادة تمزيق مِزَقِ الأمة؛ بما يؤخرها
عشرات السنين إلى الوراء!
إن (أصول الفقه السياسي) ضرورة من ضرورات الاجتهاد اليوم، لا يجوز
لعالم أن يتصدى للإفتاء في الشأن الإسلامي العام، المتربط بمصائر الشعوب
الإسلامية، وأمنها الاستراتيجي المادي والمعنوي؛ إلا بتحصيل درجة الاجتهاد فيه،
فلا بد إذن من إحكامه، وبناء قواعده، واستنباط مناهجه؛ لضمان تفكير فقهي
سليم، يبني ولا يهدم، ويرشد ولا يضلل.
إن أصول الفقه السياسي هو قواعد لفهم ما يجري في العالم، وقواعد لاستنباط
ما يناسبه من أحكام وفتاوى على موازين الكتاب والسنة. وأي فتوى تُنَزَّلُ على
محلها بغيره؛ فهي رمية من غير رام. وإنما جاء الدين ليتنزل على واقع الناس بما
هو موصوف في الزمان والمكان، و (أصول الفقه السياسي) هو الكفيل بذلك
الوصف، في مجال تدبير الشأن العام.
ويمكن أن تستقرئ قواعده زيادة على التراث الأصولي والمقاصدي من قواعد
العلوم السياسية والاقتصادية والإعلامية. فهذه ثلاثة مجالات، هي من الخطورة
بحيث يُعتبر الخوض في محاولة بناء الأمة، وتجديد بعثتها من دون مراعاتها؛
ضرباً من المغامرة بمصيرها، ونوعاً من المقامرة بوجودها، وقد عُلِم شرعاً تحريم
كل عقد بني على الغرر والمقامرة.
إن تجديد العلم بتلك المواصفات معناه تجديد العلماء؛ لأنهما متلازمان كتلازم
الصفة مع الموصوف، فالعالم الفقيه حقاً: إنما هو الذي بقدر ما يجتهد في استنباط
الأحكام من النصوص، أو من عللها، أو حكمها؛ يجتهد أيضاً في تربية الجيل بها.
ولا يكون ذلك إلا بمعرفة الزمان وأهله، على ما قررناه في (أصول الفقه
السياسي) ، فذلك هو الإمام المنتصب، أو العالم الوارث، المبعوث للتجديد بإذن
الله.
* خاتمة:
إن الاستعمار الأمريكي الصهيوني للعالم الإسلامي اليوم، مشرقه ومغربه،
سيؤدي بحول الله إلى تحول كبير في بنية الأمة الإسلامية. ويكون ذلك بأحد أمرين:
الأول: حرب عالمية بين الأمة بعد تجددها القريب وبين أعدائها.
والثاني: انهيار ذاتي لبنية العولمة والنظام العالمي الجديد. وكلاهما وارد.
ومن هنا تظهر حاجتنا إلى الفقهاء الحكماء، بما وصفنا وبيَّنا، لإدارة بعثة
التجديد، من القرآن إلى العمران.
فأما الاحتمال الأول؛ فلعله أشد وطأةً، وأكثر توقعاً بمستقبل آت بإذن الله؛ إذْ
لا نرى أحداث العالم الإسلامي اليوم إلا ناراً تنضج جيله الحامل لأمره.
إن العدوان الأمريكي الفظ، المستمر على الأمة الإسلامية، والسرطان
الصهيوني بفلسطين، والتطبيع المفروض من قبل الغرب، والتواطؤ المفضوح مع
ذلك كله من قِبَلِ الأنظمة العربية، هذا مع استمرار الإذلال للشعوب المسلمة،
والتقليل والتذبيح الجماعي، والتمزيق لخرائط العالم الإسلامي، وانتهاب الثروات،
كل ذلك يصنع في الأمة أجيالاً مقاتلة، ونفسية جهادية. لكن الله وحده عليم بموعد
الإبَّان!
ومن هنا وجب توجيه تجديد العلم، والبحث الأكاديمي إلى الفقه وأصوله
ومقاصده، كما أشرنا قبل. إن الفقيه الحكيم هو القيادة الرشيدة للأمة عبر التاريخ،
في محنها وأزماتها؛ تماماً كما كان فقهاء الصحابة عند الفتنة، وكما كان ابن تيمية
عند انهيار المشرق ودخول التتار إلى قلب الأمة.
إن النار الشديدة التي تلهب العالم الإسلامي اليوم؛ بما لم يسبق له مثيل في
تاريخه الحديث؛ إنما تنضج فيه أطباق الجيوش المجاهدة، وقيادتها الفقهية الربانية
المؤمنة.
إنها تباشير الخير إذن، لكن طبعاً من خلال الدماء والمعاناة، وتلك سنة الله
في التاريخ، فلم ينتصر بنو إسرائيل في عهد موسى - عليه السلام - على فرعون،
وحضارة الفراعنة؛ إلا من بعد تذبيح وتقتيل: [إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ
وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ
المُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ
الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا
يَحْذَرُونَ] (القصص: 4-6) .
وكذلك كانت سنة الله في الأمم المستضعفة وطغاتها، وكذلك هي جارية في
هذه الأمة إلى يوم القيامة، كما قال تعالى في طغيان بني إسرائيل وإفسادهم:
[وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً
* فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ
وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً] (الإسراء: 4-5) .
إن الفرعونية هي أوج مرض الطغيان؛ إذ يبلغ مرحلة (المرض المخوف) !
حيث يدعي الألوهية والتحكم في مصير الأرض والشعوب، كما سبق قوله تعالى:
[إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ
أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ] (القصص: 4) ، وإنما كان
ذلك بمقتضى الوهم الفرعوني بإدعائه الألوهية، كما في قوله تعالى: [فَكَذَّبَ
وَعَصَى * ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى * فَحَشَرَ فَنَادَى * فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى * فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ
الآخِرَةِ وَالأُولَى * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَى] (النازعات: 21-26) ، وقوله
سبحانه: [وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي] (القصص:
38) ، وهو بالضبط حال الطغيان الأمريكي الصهيوني اليوم في العالم! وقد ثبت
في سنة الله الجارية؛ أن الطغيان بمجرد ما يصل مرحلة تحدي رب الكون؛ فإن
الله تعالى يأخذه أخذ عزيز مقتدر! وما نحسب النظام العالمي الجديد إلا وصل تلك
المرحلة، أو قاربها! وهذا بيّن من خلال لغة إعلامه، ومنهج اقتصاده، وصور
حروبه. فالتأله والتعدي على سلطان الله جل وعلا في الأرض؛ هو السمة الغالبة
على طبيعة الطغيان الأمريكي، وما نرى إلا أن مرحلة (الأخذ) قد قربت؛ بمعنى
ما سبق من قوله تعالى: [فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى] (النازعات: 25) .
سواء ترجح الاحتمال الأول أم الثاني؛ فإن الاستخلاف لن يكون في هذه
الأمة إلا بعد صلاحها، فاقرأ هذا البلاغ القرآني العظيم وتدبر: [وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي
الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغاً لِّقَوْمٍ
عَابِدِينَ] (الأنبياء: 105-106) . إن الصلاح بفعل ما ذكرنا آت بالجملة،
وعودة الناس إلى دين الله أفواجاً رغبة شعبية عارمة، ومن مختلف الشرائح
والطبقات، لكن البداية الحقيقية لن تكون إلا بما بدأ به العهد الأول، والبعثة الأولى،
فهي لم تبدأ بالسيف يوم بدأت، ولا بالقتال. وإنما بدأت بالقرآن! إن أول شيء
حدث في الأمة لتكون أمةً هو نزول القرآن! فتدبر هذه الحقيقة فإنها غير معتادة
تماماً! القرآن الذي بدأ يتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم فوق مرتفع جبل
النور بضواحي مكة؛ كان هو منطلق العمل لبناء صرح هذه الأمة، ثم جعل يسري
بين الناس همساً؛ حتى صار (تداولاً اجتماعياً) و (مجالس) بين الدور والشعاب،
إلى أن صار حديث المنابر بالمدينة، ونزهة المجالس على ملأ العالمين بالجزيرة
العربية كلها، إلى أن عمت أنواره، وغلبت كل أضواء العالمين.
ولذلك نقول: القرآن أولاً يا دعاة الإسلام! فإن القرآن أول القطر النازل من
مطر بعثة التجديد، والله الموفق للخير والمعين عليه، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ] (آل عمران: 200) .