دراسات تربوية
قطوف تربوية حول قصة أصحاب القرية
دعامتا التغيير الحضاري
(1 ـ 2)
د. حمدي شعيب
وهي القصة التي وردت في سورة يس من الآية (13) إلى الآية (32) .
وهي تحكي قصة رسولين أرسلهما الحق سبحانه إلى إحدى القرى، فكذبهما
أهل تلك القرية، فعززهما الله سبحانه برسول ثالث لتقويتهما؛ فما كان من
أصحاب القرية إلا أن استمروا في رفض الرسالة، بل وهددوا الرسل الثلاثة
بالرجم والتعذيب.
ثم كان هذا الموقف العظيم للرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة، أي
من مكان ليس بالقريب، وكذلك كان يسعى، أي يسرع في مشيته، وهو ما يبين
مدى الجهد الذي بذله للوصول إلى مسرح الأحداث، وهو المكان الذي كان يُبتلى
فيه الرسل، وذلك في مبادرة منه لم يحدها مكان ولا زمان ولا وقت، بل سعى
ووصل في الوقت والمكان المناسبين، وعرض رأيه في القضية، وانتصر لهؤلاء
الرسل ضد رغبة قومه.
واستمر أهل القرية في رفض الرسالة، وكذبوا الرجل المؤمن، ثم أقدموا
على قتله، فلقي الله سبحانه شهيداً، وبشره الحق سبحانه بالجنة، فتمنى لو أن
قومه يعلمون بمصيره وحسن عاقبته.
وبعد ذلك جاءت التعقيبات القرآنية الخاصة، والتي تبين مصير أهل القرية
المكذبين؛ حيث أصابتهم صيحة الدمار، فأهلكتهم، فأصبحوا ميتين خامدين، كما
تخمد النار. وهي سنة الله عز وجل الإلهية مع المكذبين.
ثم كانت التعقيبات القرآنية العامة، والتي تعلن الحسرة على كل من لا يقرأ
التاريخ، ويشاهد سننه سبحانه الإلهية مع أعداء الدعوة، ومكذبي الرسالة، على
مر تاريخ المسيرة الدعوية، ولا يعتبر بها، ولا يعي معنى الرجوع إليه سبحانه
للمحاسبة والجزاء.
* أهمية الرؤية المنهجية:
وعندما ننظر إلى هذه القصة القرآنية العظيمة، برؤية منهجية شاملة واعية،
نجد أن لها بُعدين:
البعد الأول الظاهر القريب: هو أن هذه القصة تتكون من جولات ثلاث:
الجولة الأولى: هي جولة المواجهة بين الرسل - عليهم الصلاة والسلام -
وبين أصحاب القرية.
الجولة الثانية: هي جولة المواجهة بين الرجل المؤمن وقومه.
الجولة الثالثة: هي جولة التعقيبات القرآنية الخاصة والعامة.
أما البُعد الآخر البعيد: فهو البعد التربوي العظيم الذي نستشعر من خلاله أن
هذه القصة قد أوردت تلك التجربة الدعوية من ملفات تاريخ مسيرة الحركة الدعوية
كمثال ثابت، وترجمة تطبيقية لسنَّتين اجتماعيتين عظيمتين من سننه سبحانه
الإلهية.
والسنن الإلهية منها السنن الإلهية الكونية في الآفاق، أي في مجال عالم المادة.
ومنها كذلك السنن الإلهية الاجتماعية في الأنفس، أي في عالم البشر والأحياء
عموماً.
وهذه السنن هي آياته سبحانه الدالة على صدق الرسالة، من حيث البرهان
على إعجاز الله جل وعلا في الخلق، وعلى تفسير التحولات الاجتماعية
والتغييرات الكونية والحضارية: [سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ أَوَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ] (فصلت: 53) .
وهذه السنن الإلهية لها سمات ثلاث:
أ - الثبات: أي لا تتبدل ولا تتغير: [سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن
تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً] (الأحزاب: 62) .
ب - العموم: أي أنها تشمل كل البشر والخلائق، دون تفريق، ودون
استثناء، وبلا محاباة: [لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلاَ أَمَانِيِّ أَهْلِ الكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ
بِهِ] (النساء: 123) .
ج - الاطِّراد: أي التكرار أينما وجدت الظروف المناسبة مكاناً وزماناً
وأشخاصاً وأفكاراً: [قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] (آل عمران: 137) .
وهي عبارة عن قوانين وقواعد أشبه ما تكون بالمعادلات الرياضية، قد خلقها
الحق سبحانه لتنظم وتحكم حركة الكون والحياة والأحياء، وتحكم حركة التاريخ،
وتنظم ناموسية التغيير، وتتحكم بالدورات الحضارية، موضحة عوامل السقوط
وعوامل النهوض الحضاري.
والسنن الإلهية الاجتماعية هي المرتكز الذي على أساسه يقوم مجال واسع في
المنهج، وهو الفقه الاجتماعي والحضاري، وهذا الفقه يقوم على دراسة عوامل
قيام وسقوط الحضارات.
وقد جاءت التأكيدات القرآنية المستمرة والمتعددة، على ضرورة دراسة هذا
الفقه، ووضحت أن مدخله هو السير في الأرض، وفتح ملفات الأمم السابقة،
لاستجلاء سننه سبحانه لفقهها، ولمعرفة حسن تسخيرها: [قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ
ثُمَّ انظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المُكَذِّبِينَ] (الأنعام: 11) .
والقصص القرآني ما هو إلا برهان ثابت، وتطبيق عملي موثوق حول
فاعلية تلك السنن.
أما عن السنَّتين الاجتماعيتين:
أولاً: السنة الإلهية الاجتماعية الأولى: فقد وضحت تجربة أصحاب القرية
كغيرها من التجارب الدعوية التي وردت في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة
أن عملية التغيير الحضاري، وبعث أي أمة جديدة، إنما تقوم على دعامتين
أساسيتين، أو قاعدتين رئيسيتين، هما:
الدعامة الأولى: هي وجود القاعدة الصلبة التي تقود التغيير، وتكون بمثابة
الطليعة الفاعلة، والأداة المحركة، والقوة المنفذة، والتي تمثلت في وجود هؤلاء
الرسل الكرام، وحركتهم بالرسالة داخل تلك القرية.
الدعامة الثانية: هي وجود القاعدة الجماهيرية، أو الرأي العام الذي يناصر
الرسالة، ويحب دعاتها ويكره أعداءها، ويحرص على انتصارها؛ والتي تمثلت
في حركة الرجل المؤمن الذي جاء يناصر الرسالة، ويدافع عن الدعوة، ويؤيد
الدعاة.
ثانياً: لقد بينت القصة سُنَّة إلهية اجتماعية أخرى؛ حيث أوردت صورة من
صور سُنَّة التدافع الحضاري، أو قانون المدافعة القرآني.
وهي السنَّة الإلهية الاجتماعية التي تبين إرادة الحق سبحانه في أن يستمر
الصراع والتنافس والتدافع، سواء كان فردياً أو جماعياً، بين الحق والباطل، بين
الخير والشر، بين الإيمان وأهله والكفر وأهله، ما دامت السماوات والأرض؛
وذلك حتى تتم عملية انتقائية لتفرز الأصوب والأبقى والأصلح في كل شيء، سواء
كانت أفكاراً أو آراء أو أفراداً أو أمماً، فإذا توقفت تلك العملية التدافعية الحضارية
المختلفة الصور كان الفساد في الأرض، وهذا من فضله سبحانه من أجل ديمومة
واستمرارية العملية الاستخلافية الإعمارية في الأرض: [وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ] (البقرة:
251) ؛ حيث نجد أن هذه التجربة وكذلك كل التجارب الدعوية التي عرضها
القرآن الكريم، والسيرة النبوية الشريفة قد عرضت أمرين مهمين بارزين:
الأمر الأول: مدى حرص الرسل والدعاة على توصيل عقيدتهم ودعوتهم إلى
جماهير الشارع بكل الوسائل.
الأمر الثاني: مدى حرص أعداء الدعوة على كل عمل مضاد، يواجه هذه
العدوى الدعوية، ويؤدي إلى عملية عزل الدعوة عن الناس، وتحجيم الدعاة، وإن
أدى الأمر إلى سجنهم أو نفيهم أو قتلهم.
* مخزون الأمة المعرفي:
تبدأ القصة بهذا التوجيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم: [وَاضْرِبْ لَهُم
مَّثَلاً] (يس: 13) . وهو توجيه يدعوه أن يذكر مثلاً توضيحياً يقرب المعنى
للأفهام حول القضية التي كانت موضوع الساعة آنئذ، وهي بيان إحدى صور
حركة الداعية بالفكرة أو بالدعوة داخل المجتمع البشري، وبيان طبيعة البشر أمام
الرسالة، وانقسامهم إلى فصيلين، أو إلى فريقين، وبيان مصير كل منهم، والذي
يكون بناء على موقفهم من الرسالة قبولاً أو رفضاً؛ وذلك في أسلوب قصصي
يوضح الأسلوب التقريري الذي ورد في آيات مطلع السورة حول:
الفصيل الأول: فريق أصحاب القلوب المغلقة على دعوة الرسل، المكذبين
للرسالة، الرافضين للهداية، وهم أصحاب القرية، فكانت رسالة تهديد واضحة
لقريش، ولأعداء الدعوة، في كل عصر.
الفصيل الثاني: فريق الذي يتبع الذكر ويخشى الرحمن بالغيب، أصحاب
الفطر السليمة لدعوة الحق المستقيمة، فيقبل الرسالة، ويتبع الرسل، كما يمثله
الرجل المؤمن.
وكانت رسالة تثبيت وتبشير للجماعة المسلمة من أصحاب الرسول صلى الله
عليه وسلم، ولكل المؤمنين في كل عصر. و [لَهُم] تشمل كل من يحضره
المثل، سواء في ذلك أعداء الدعوة من الكافرين وهم مشركو مكة في ذلك الحين أو
المؤمنون؛ وذلك لأن المنهج القرآني كان يرسخ قواعد ثابتة لقضية عامة، وسنة
إلهية اجتماعية، يلزم أن يفقهها الجميع.
ويرى «المحققون المنصفون من العلماء على أن قصص القرآن واقعي وليس
رمزياً، وحقيقي وليس تمثيلياً» [1] .
ولأن الفائدة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؛ فإننا نستشعر من هذا التوجيه
الإلهي أنه توجيه لكل داعية أن يستخدم الأمثلة التوضيحية لبيان عقيدته، ولتوضيح
قضيته.
وهي أيضاً دعوة صريحة لقراءة التاريخ، وفتح ملفات الأفراد والأمم السابقة،
بغرض التذكير والموعظة، واستجلاء الدروس.
لذا فإننا نضع أيدينا على مرتكزات ثلاثة تكوّن الثلاثية المعرفية المطلوبة من
أجل إعادة صياغة وتشكيل العقلية المسلمة:
أ - فهم جيد للرسالة.
ب - فقه بصير بالواقع يتم من خلاله تقريب العقيدة والقضية بأمثلة توضيحية،
من خلال البيئة المحيطة والمألوفة للسامعين.
ج - قراءة عميقة للتاريخ يتعرف بها على السنن الإلهية الكونية والاجتماعية
الثابتة والمطردة أي المتكررة، والعامة التي تنطبق على أي واقع بشري مشابه،
وعلى ضوئها يمكن تفسير مغزى المقولة: التاريخ يعيد نفسه، أو ما أشبه الليلة
بالبارحة.
وانطلاقاً من هذه الثلاثية المعرفية يتم إعادة صياغة العقلية المسلمة، حتى
تصل إلى حالة الوعي المنشودة، وهي الحالة التي يمكن من خلالها استقراء الواقع
وأحوال الحاضر على ضوء تجارب ورصيد الماضي، مما يعين على النظرة
المستقبلية الاستشرافية.
وإذا ارتقت العقلية المسلمة إلى حالة الوعي المنشودة تلك، فيمكننا أن نقول
إننا قد نجحنا في عملية تصحيح وتنقية للمخزون المعرفي داخل عقل الأمة.
ومصادر هذه الثلاثية المعرفية التي هي مرتكز تشكيل العقلية المسلمة:
1 - القرآن الكريم.
2 - السنة النبوية المطهرة.
3 - فقه الواقع.
4 - قراءة التاريخ.
وهذه المصادر هي المرتكزات الأربعة التي تكوِّن المخزون المعرفي لأمة
الدعوة والرسالة، أمة الوسطية، والمناط بها دور الخلافة الراشدة والشهادة على
البشر.
وعن طريق هذا المخزون المعرفي العظيم يمكن إعادة صياغة للعقلية المسلمة،
فتتكون حالة معرفية أو إدراكية راقية لعقل الأمة، وحصول أو تكوين ما يسمى
بـ (منظومة الوعي البشري) عند أفراد الأمة.
وهذه المنظومة المنشودة للوعي البشري هي عبارة عن حالة معرفية راشدة
يمتزج فيها الوعي بالماضي والحاضر والمستقبل، فتؤدي إلى الدراية والوعي،
بكل شهود التاريخ البشري وبكل سنن الله عز وجل الإلهية في الأنفس؛ أي في
عالم الأحياء، وهي السنن الإلهية الاجتماعية، وفي الآفاق؛ أي في عالم المادة،
وهي السنن الإلهية الكونية.
وخلاصة ذلك أن يبلغ عقل الأمة مرحلة الرشد المعرفي والإدراكي، مما
يساعده على تحمل عبء المواجهة الحضارية. فالقضية هي قبول العقل المسلم
للتحدي الحضاري ليقتحم حلبة الصراع الحضاري. ومنظومة الوعي البشري هي
الحصانة ضد أخطار التحدي الحضاري الداخلي والخارجي.
* الدعامة الأولى للتغيير الحضاري:
وهي وجود القاعدة المؤمنة الصلبة؛ وهي الطليعة الفاعلة التي تقود التغيير،
وتتحمل عبء المواجهة، وتكون بمثابة الأداة المحركة، أو القوة المنفذة. وقد ورد
الحديث عنها في آيات الجولة الأولى من القصة، وهي جولة المواجهة بين الرسل
وبين أصحاب القرية. [وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ *
إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ * قَالُوا مَا أَنتُمْ
إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا
إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ * قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا
لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ
مُّسْرِفُونَ] (يس: 13-19) .
ومن خلال تدبر الآيات يمكننا أن نبحث حول بعض صفات هذه القاعدة.
ونقول بعض الصفات أو السمات؛ لأننا سنلتزم بما ورد عنها في آيات الجولة
الأولى من القصة. وكذلك سنرتب السمات على حسب ورودها في سياق الآيات،
وليس على حسب أولويتها، أو أهميتها.
- السمة الأولى: الإيجابية:
يقول الحق سبحانه إن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - قد جاؤوا إلى القرية،
وتحركوا إليها ولم يقعدوا في مكانهم؛ وذلك كما نستشعر مغزى الوصف القرآني:
[إِذْ جَاءَهَا] ؛ أي إنهم قد تحركوا منطلقين بعقيدتهم، وبدؤوا تجربتهم الدعوية
التغييرية بالوصول إلى تلك القرية. ولم يحدد السياق القرآني أي قرية تلك، وإن
كان بعض المفسرين قد حدد أنها (أنطاكية) ، فالعبرة ليست بالاسم، والبحث عنه
لن يفيد تربوياً.
ولم يقعد هؤلاء الرسل في مكانهم ليأتيهم الناس، بل حضروا إليهم. ولأن من
هذه الظواهر المميزة لهذا الوجود الكبير ظاهرة الحركة المستمرة، أو الحيوية
المتجددة التي لا تأسن، أو (الظاهرة الارتحالية) التي تشمل الكون والحياة وكذلك
الإنسان.
وهذه الظاهرة الحيوية، يستشعرها المرء في كل شيء، في هذا الوجود
الكبير.
والله عز وجل يصور هذه الحركة الكونية المستمرة في أكبر جرم كوني نراه،
وهو الشمس؛ فهي في حركة دائبة سرمدية لا تهدأ، أو هي تجري فعلاً، لمستقر
ونهاية لا يعلمها إلا الله عز وجل: [وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ
العَلِيمِ] (يس: 38) .
وهذه الحركة الدائبة ليست عشوائية، بل تحكمها قوانين ثابتة، وهي سنن
إلهية لا تتبدل ولا تتغير إلا بإذنه تعالى تحافظ على سيرها في توافق عجيب ينتظم
فيه كل شيء، بما فيه ظاهرتا الليل والنهار: [لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ
القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ] (يس: 40) .
وكذلك لو تأملت أصغر جرم كوني وهو الذرة؛ لوجدت أن العلماء قد أثبتوا
أن الحركة المستمرة الدائبة لمكوناتها هي إحدى سماتها ومميزاتها الثابتة.
لذا فإن المسلم يدرك أنه جزء من هذا الوجود الكبير الساجد المسبح لربه
سبحانه، ويعلم أن الله عز وجل لا يهب نعمه العظيمة إلا لمن يسعى في أسباب
الحصول عليها؛ أي يتعامل بطبيعة إيجابية مع النعم والمقدرات التي وهبها له الحق
سبحانه.
وذلك كما ورد عن الرجل الصالح ذي القرنين: [إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ
وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً] (الكهف: 84-85) .
وتدبر سنة الله عز وجل في مجال نعمة الرزق: [وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ
تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِياًّ] (مريم: 25) .
إن «الرزق وإن كان محتوماً؛ فإن الله تعالى قد وكَّل ابن آدم إلى سعي ما
فيه؛ لأنه أمر مريم بهز النخلة لترى آية، والأمر بتكليف كسب الرزق سنة الله
تعالى في عباده. وإن ذلك لا يقدح في التوكل» [2] .
أما في مجال التربية؛ فإن الأساس هو الحركة والانطلاق والاختلاط في دنيا
الناس؛ لأن الله عز وجل قد ربط بين خيرية هذه الأمة، وبين خروجها للناس لكل
الناس، لتتحمل واجبات القوامة والشهادة، وذلك لتأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن
المنكر، حاملة عقيدتها الربانية الخالدة السامية، ألا وهي الإيمان بالله تبارك وتعالى:
[كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ
بِاللَّهِ] (آل عمران: 110) .
وبناء هذه الأمة لا يكون إلا من خلال الواقع، والحركة بالمنهج خلال هذا
الواقع.
وشواهد القرآن الكريم كثيرة، وكلها تدل على أن من يحمل رسالة عليه أن
يقوم بها، ويتحرك بها، ويدرك تبعاتها.
لذا فقد كانت الخطوة الأولى للحبيب صلى الله عليه وسلم هي القيام بالأمر
العظيم، وهو الدعوة، وتطليق الراحة والدعة، وذلك استجابة للأمر الإلهي: [يَا
أَيُّهَا المُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً] (المزمل: 1-2) .
وعندما حكى القرآن الكريم عن ذلك الصحب المؤمن، وتجربتهم الدعوية
التغييرية، وضّح أنهم قد تحركوا بعقيدتهم إلى عالم الواقع: [إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا
رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهاً لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً] (الكهف:
14) .
وكذلك عندما بدأ العبد الصالح تجربته التعليمية التربوية مع موسى - عليه
السلام - انطلق به ومعه وتحركا عملياً: [فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا
أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِداَراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ
لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً] (الكهف: 77) .
والداعية عندما يعلم أنه جزء من كل، فهو أحد أعضاء ذلك الركب العظيم،
(ركب المرتحلين) الذي يشمل هذا الوجود الكبير.
لذا كان عليه أن يفهم معنى ومدى أهمية التوافق والتناغم مع حركة الوجود
المطيع والمسبح لربه، ويدرك خطر النشاز.
فالمطلوب منه ليتوافق ولا يشذ شرطان:
أولاً: عليه أن يتوافق عقدياً بأن يتطور ويستزيد ويتحرك، ولا يقف أسيراً
لمرحلة فكرية معينة؛ وذلك من خلال فقه جيد وواع، ليوازن بين ثوابت لا يحيد
عنها، ومتغيرات تعطيه حقه من المرونة والحركة والإبداع.
ثانياً: عليه أن يتوافق عملياً ويتناسق جسدياً ومادياً، بالحركة والقيام
والانطلاق والاختلاط والخروج للناس لنشر رسالته. فلا يكون مثل بعض الناس
الذين يُؤْثِرون التصومع والتقوقع والتحوصل بل والتشرنق، سواء في ذلك الفكري
العقلي أو المادي الجسدي. وهذا لا ينطبق فقط على الأفراد، بل على الدعوات
والجماعات.
فالحياة حركة حيوية تتميز بالظاهرة الارتحالية.
والوجود ما فيه إلا معبود يُعبد؛ ولا يتغير سبحانه، ... وعابد يَعبد؛ يتميز
بأنه متغير وارتحالي.
- السمة الثانية: الجماعية:
وقد أخبر القرآن الكريم عن إرسال رسولين اثنين إلى أهل القرية، ثم
عززهما برسول ثالث.
ولقد ورد أنهم أكثر من رسول في أكثر من موضع في السياق، في قوله
تعالى:
1 -[وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا المُرْسَلُونَ] (يس:
13) .
2 -[فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ] (يس: 14) .
3 -[قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ] (يس: 16) .
4 -[قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا المُرْسَلِينَ] (يس: 20) .
ومع علمنا بأن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية تبين أنها
تبدأ من عقيدة عظيمة في قلب رجل عظيم، ثم يتحرك بعقيدته منتقلاً بها من مرحلة
النظرية إلى مرحلة العمل والتطبيق. ويبدأ في عملية التجميع المنظم، فيحرك
المجموع حوله، حتى ينتقل بالعمل من الحركة الفردية إلى الحركة السياسية
المنظمة.
وهذه الجماعة المنظمة، أو هذا التحرك يقوم على دعامتين:
الدعامة الأولى: الطليعة المؤمنة بالرسالة.
الدعامة الثانية: الرأي العام المناصر.
ثم يبدأ الصراع، أو التدافع الحضاري، بين أصحاب وحملة الرسالة، وبين
أعدائها.
ويتحدد مصير الرسالة، أو التغيير الحضاري بناءً على نتيجة هذا الصراع.
وفي هذه القصة ولأمر ما بدأ التحرك بالرسالة الربانية، برسولين قيل إنهما
رسل عيسى - عليه السلام -، وبعض المفسرين رجح أنهما أرسلا من قِبَله سبحانه،
ثم قواهما الحق جل وعلا برسول ثالث.
«فهي قرية أرسل الله إليها رسولين، كما أرسل موسى وأخاه هارون
- عليهما السلام - إلى فرعون وملئه، فكذبهما أهل تلك القرية، فعززهما الله برسول
ثالث يؤكد أنه وأنهما رسل من عند الله، وتقدم ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم من
جديد: [فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ] (يس: 14) » [3] .
«ولعل هذا هو الراجح؛ لأنه هو المتفق مع ظاهر النص القرآني» [4] .
وهذا الاستثناء من القاعدة الذي نجد فيه أن التحول والتغيير الحضاري قد بدأ
بحركة أكثر من فرد؛ فلقد وضحته الآيات أنه كان للتعضيد والتثبت والتصديق،
والتقوية والإعزاز. كما في قوله سبحانه: [فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ] (يس: 14) .
وفي قصة موسى - عليه السلام -: [وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً
فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ
وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الغَالِبُونَ]
(القصص: 34-35) .
وهذه السمة هي مرتكز يؤكد على أهمية الشرط الكمي لجيل التغيير المنشود؛
أي لا بد من حركة جماعية منظمة تقوم بعملية التغيير.
وتدبر قوله صلى الله عليه وسلم: «خير الصحابة أربعة، وخير السرايا
أربعمائة، وخير الجيوش أربعة آلاف، ولا تهزم اثنا عشر ألفاً من قلة» [5] .
والعمل الجماعي وصيته صلى الله عليه وسلم لمن أراد النجاة: «فعليكم
بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية» [6] .
والعمل الجماعي طريق إلى الجنة: «ومن أراد بحبوحة الجنة فليلزم
الجماعة» [7] .
وللجماعة بركة، ينالها حتى من كان في نيته دَخَن؛ لأنهم: «هم الجلساء لا
يشقى بهم جليسهم» [8] .
وتدبر كيف نال كلب أهل الكهف بركة الصحبة الصالحة؛ لأن «من أحب
أهل الخير نال من بركتهم، كلب أحب أهل الفضل وصحبهم فذكره الله في محكم
تنزيله» [9] .
- السمة الثالثة: الربانية:
ثم يوضح السياق المصدر أو المرجعية التي بدأت منها عملية التغيير. وذلك
كما جاء قوله سبحانه في وصف هؤلاء الرسل للدلالة على المشيئة الربانية في تلك
العملية: [إِذْ أَرْسَلْنَا] (يس: 14) .
وأيضاً في وصفهم لأنفسهم، وفهمهم لطبيعتهم: [قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ] (يس: 16) .
إذن فهي طليعة ربانية مرسلة من قبله سبحانه. تقوم على العقيدة الربانية،
وهي الإيمان بالله. وتتحرك بناءً على المشيئة الربانية فتقوم بأعظم وظيفة، ألا
وهي الدعوة إلى الله عز وجل. تؤمن بأنها تتحرك في أرض الواقع لتحقيق قدر الله
في دنيا الناس. أي أنهم مجرد ستار لقدر الله، ينفذ بهم وعليهم سبحانه سننه الإلهية
الكونية والاجتماعية.
وكما علمنا أن قاعدة التغييرات الحضارية، والتحولات الاجتماعية؛ تبين أنها
تبدأ من رسالة عظيمة، في قلب رجل عظيم.
إذن فالعقيدة هي المنطلق الأول في عملية النهوض الحضاري.
وسلوك أي فرد، أو جماعة، أو أمة من الأمم إنما يكون بناءً على الفكرة التي
تحركهم، وطبيعة الرسالة هي التي تحدد طبيعة السلوك، إما حسناً أو سوءاً.
وبناء على هذا السلوك الذي يترجم طبيعة الفكرة المحركة يكون الجزاء
والمصير في الدنيا والآخرة.
إذن فمجال تقييم أي فرد، أو جماعة أو أمة من الأمم، وكذلك أي مشروع
حضاري، يكون بناءً على المرجعية العقدية، أو المنطلق العقدي؛ لأن المنطلق
العقدي هو الجانب النظري الذي يحدد السلوك الذي هو الترجمة العملية للمنطلق
العقدي، والسلوك العملي هو الذي ينبني عليه المصير والجزاء.
ولذلك نستطيع أن نقول ونؤكد على مدى سمو السلوك البشري، وكذلك مدى
رقي أي مشروع حضاري ينطلق من فكرة ربانية، أي قاعدة إيمانية تنبثق من منهج
إلهي، من رب الناس إلى الناس؛ لذا فإن من أعظم سمات الطليعة الرائدة المنفذة
هي الربانية.
والربانية نعني بها أركاناً ثلاثة:
1 - ربانية الرسالة: أي أن المنطلق العقدي يقوم على قاعدة الإيمان بالله.
2 - ربانية الوسائل: أي ربانية وسمو السلوك.
3 - ربانية الغاية: أي أن يكون الهدف النهائي هو هداية الناس لرب الناس،
للفوز بجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين.
- السمة الرابعة: الجدية في التنفيذ:
ولقد جاء في سياق القصة أن عملية التغيير قد بدأت برسولين: [إِذْ أَرْسَلْنَا
إِلَيْهِمُ اثْنَيْن] (يس: 14) . فالرسول الثاني يقوي ويعضد الرسول الأول. ثم
قوى سبحانه هذين الرسولين برسول ثالث، وذلك بعد أن كذب أهل القرية
الرسولين: [فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ] (يس: 14) . وتقدموا ثلاثتهم بدعواهم ودعوتهم
من جديد: [فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُم مُّرْسَلُونَ] (يس: 14) .
فما كان من أصحاب القرية إلا أن شككوا في صدقهم، وفي صدق طبيعتهم
البشرية، وفي صدق فكرتهم: [قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن
شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ] (يس: 15) .
فأعلن الرسل صدق مرجعيتهم الربانية؛ فهم رسل الله جل وعلا، وبينوا
صدق فقههم لدورهم، وهو البلاغ: [قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا
إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] (يس: 16-17) .
فتشاءم أهل القرية منهم وتوقعوا منهم الشر: [قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ] (يس:
18) . ثم هددوهم: [لَئِن لَّمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ] (يس:
18) .
فما كان من الرسل الكرام إلا أن ردوا عليهم بثقة: [قَالُوا طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن
ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ] (يس: 19) .
من هذا السياق نستشعر سمة مهمة جداً تتصف بها الطليعة الربانية، ألا وهي
الإصرار على القيام بالأمر الموكول، والجدية في تحقيق الغاية من المهمة.
وهذه الجدية نلمسها من خلال تدبر جانبين أو أمرين:
الأمر الأول: دور المشيئة الإلهية في جدية إتمام المهمة، من حيث إرسال
رسولين، ثم تقويتهما برسول ثالث.
الأمر الثاني: نستشعرها من خلال دور وسلوك الرسل الكرام، وجدية أخذهم
بمهمة الدعوة إلى الله عز وجل رغم كل العوائق التي واجهتهم، فكلما ظهرت عقبة،
مثل التكذيب، أو التشكيك، أو التهديد ولو بالقتل، نجد أن هناك حلولاً وردوداً
مقنعة ومفحمة تبين مدى الإصرار على إنجاز المهمة الربانية الشريفة.
وهذا التعاضد بين الدور الإلهي والدور البشري، في تحقيق أي عمل، يكون
على أساس قاعدة الجزاء من جنس العمل، وهي القاعدة التي تربط بين نوع
وطبيعة مصير الفرد أو الجماعة بناءً على طبيعة ونوع العمل الذي يؤدونه.
فالهداية الإلهية لا تكون إلا لمن جد في طلب الهداية والعمل لها، وتدبر هذا
الحديث القدسي: «يا عبادي! كلكم ضال إلا من هديته؛ فاستهدوني أهدكم» [10] .
وكذلك أمر الجدية. وتدبر هذه الجدية، عندما وجد الحق سبحانه يحيى
- عليه السلام - يعد نفسه بجدية منذ نعومة أظافره، ويقول لأقرانه من الصبيان
الذين دعوه للعب: ما للعب قد خلقنا!! فأنعم الله عليه بنعمة الفهم لكتابه سبحانه
وهو التوراة، وهو لمَّا يزل بعدُ صغيراً. ثم أمره أن يواصل المسيرة ويأخذ الأمر
بالجد والاجتهاد، والإصرار: [يَا يَحْيَى خُذِ الكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحُكْمَ صَبِياًّ]
(مريم: 12) .
(فإن كمال الإنسان مداره على أصلين: معرفة الحق من الباطل، وإيثار
الحق على الباطل. وما تفاوتت منازل الخلق عند الله تعالى في الدنيا والآخرة إلا
بقدر تفاوت منازلهم في هذين الأمرين؛ وهما اللذان أثنى الله بهما سبحانه على
أنبيائه - عليهم الصلاة والسلام - في قوله تعالى: [وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ
وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ] (ص: 45) . فالأيدي: القوة في التنفيذ.
والأبصار: البصائر في الدين. فوصفهم بكمال إدراك الحق وكمال تنفيذه) [11] .
وقد علَّم الحق سبحانه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكل داعية يأتي من
بعده أن هذا المنهج آخر حكم عدل، وأنه جد وحق: [إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ
بِالْهَزْلِ] (الطارق: 13-14) .
وإنه لدرس لكل من أراد أن يكمل المسيرة، ويشارك الطليعة المؤمنة في
همومها، وعبئها، أن يدرك مدى جدية المنهج، وجدية الطريق، وجدية التبعة.
وإنه لدرس عظيم أن ندرك قاعدة الجزاء من جنس العمل.
- السمة الخامسة: فهم الدور الموكول، وهو البلاغ المبين:
وتحكي القصة أن الرسل الكرام عندما واجههم أهل القرية المكذبين الرافضين
للفكرة؛ حيث: [قَالُوا مَا أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ
تَكْذِبُونَ] (يس: 15) . فكان ردهم الواثق الهادئ: [قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ
لَمُرْسَلُونَ * وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] (يس: 16-17) .
أي إن تكذبونا فليس هذا ينقص من الأمر شيئاً فيكفي أن الله عز وجل يعرفنا،
ويعرف مهمتنا، وكذلك إن تكذبونا، فلن نحاسب على استجابتكم، بل سيحاسبنا
الله عز وجل على المهمة التي حمَّلنا إياها، وهي البلاغ، والبلاغ المبين الواضح
الجلي.
فإلى هنا نكون قد أعذرنا إلى الله عز وجل، وبلغناكم الرسالة: [وَمَا عَلَيْنَا
إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] .
ومن خلال رد الرسل الكرام ندرك سمة مهمة أخرى من سمات أي طليعة
مؤمنة، وهي فقه المهمة وفقه الدور المطلوب.
وهذه المهمة هي البلاغ، التي هي مهمة رسله سبحانه وأنبيائه: [فَهَلْ عَلَى
الرُّسُلِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] (النحل: 35) .
والبلاغ لا بد أن يكون مبيناً واضحاً جلياً لا غموض فيه، كما جاء على لسان
الرسل الكرام: [وَمَا عَلَيْنَا إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] .
وهذه المهمة يأتي التأكيد عليها دوماً، عند وصول الرسالة إلى طريق مسدود،
كما جاء في سياق القصة.
وكما أخبر ربنا على لسان صالح - عليه السلام - عندما كذبه قومه، وعقروا
الناقة، ثم أخذتهم الرجفة المهلكة، فأعلن عليه السلام أنه قد أدى ما عليه، فبلغ
رسالة ربه: [قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا
عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ المُرْسَلِينَ * فَأَخَذَتْهُمُ
الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ * فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ
رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ] (الأعراف: 76-79) .
وحتى نعي خطورة هذه السمة، ألا وهي الدور البشري، في تحقيق أي أمر،
لا بد أن نوضح قاعدة مهمة، وهي أن ركيزتي تحقيق أي عمل أو أي إنجاز
سواء على المستوى الفردي، أو على المستوى الجماعي، بل حتى في مجال
التغيير الحضاري، وكل التحولات الاجتماعية هما الترجمة الواقعية للآية الكريمة:
[إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ] (الفاتحة: 5) .
فالعابد يعبده سبحانه فيقوم بوظيفته المناطة به، وهي العبودية لله عز وجل ثم
يطلب الهداية والعون من المعبود سبحانه؛ لأن العبد دوماً في فقر وحاجة إلى الرشد
وإلى الإعانة في كل سكناته، ولا يهدي إلى الخير، ولا يعين عليه إلا الحق سبحانه.
والمعبود سبحانه يرشد ويهدي ويعين ويوفق هذا العابد للقيام بأمر العبودية؛
لذا فإن أي عملية تحول حضاري كما تدبرنا الآية الكريمة السابقة، وكما نتأمل في
هذه التجربة الدعوية تقوم على ركيزتين أساسيتين:
القاعدة الأولى: الدور الإلهي.
وتلك هي الإرادة أو المشيئة الإلهية في عملية التغيير، أو هو قَدَر الحق
سبحانه.
وهذه هي أولى القواعد المهمة في عملية التغيير الحضاري، وهو الدور
الإلهي، أو دور القدرة الإلهية في تحقيق العمل.
وفي القصة التي بين أيدينا نجد أن هذا الدور يترجم في إرادة الحق سبحانه
في عملية التحول الاجتماعي؛ حيث أرسل الرسل الثلاثة إلى القرية.
القاعدة الثانية: الدور البشري.
وهو الفاعلية أو الحركة الإيجابية البشرية، التزاماً بأمر الله عز وجل.
حيث نجد أن هؤلاء الرسل الكرام، أو تلك الطليعة المؤمنة، قد تحركت
بفكرتها الربانية، وذلك بعد صياغتها إيمانياً، وعلى أساس التربية الربانية على
الفكرة الربانية. تحركوا لمهمة أو دور عظيم، ألا وهو البلاغ، أو الدعوة إلى الله
عز وجل. وكأن حركتهم ومشيئتهم دائرة صغرى، داخل دائرة كبرى هي المشيئة
الإلهية.
فتدبر دور قدر الله سبحانه في ناموسية التغيير التاريخي، والتحول
الحضاري، وهو دور لا يلغي دور البشر بل يتوافق ويتناغم معه. وهو ملمح
تربوي يعطي الداعية ثقة في فاعليته وفي طريقه ثم في غايته. فإن كان له مشيئة
يتحرك من خلالها في حرية؛ فإنما هي تحت رعاية المشيئة الإلهية. ووجود
إحداهما لا تلغي وجود الأخرى.
إذن فهنالك رعاية وحفظ وقوة تجري به وعليه أقدار الله وسننه في الأنفس
والآفاق.
والمشيئة البشرية تدعوه للعمل والفاعلية والذاتية في التحرك، والأخذ بكل
الأسباب، حتى يؤدي مهمته البلاغية، المبنية الواضحة.
والمشيئة الإلهية تدعوه، إن أتت النتائج على نحو ما قدر لها فليرضَ وليفرح،
وإن لم تأت على نحو ما خطط لها، فلا يعجز ولا يحزن وليصبر، ثم ليبحث
عن أسباب الخلل!