مجله البيان (صفحة 4637)

ملفات

التغيير القادم

تغيير الخطط.. في مواجهة خطط التغيير (?)

فقه الوفاق.. متى نحييه..؟!

د. عبد العزيز كامل

kamil@albayan-magazine.com

أصبح الإجماع الدولي على استهداف الإسلاميين أمراً محيراً، وأصبح انحياز

الملحدين إلي جانب النصارى، وانسجام النصارى مع اليهود، وتلاقي اليهود مع

الوثنيين، واتفاق أهل النفاق مع كل هؤلاء على ضرب الإسلام وإذلال المسلمين؛

من المحن الدهماء، والفتن التي تدع الحليم حيران، فحتى الدعوات السلمية،

والجهود الخيرية، والمقاومات المشروعة للاحتلال في مثل فلسطين والشيشان

والفلبين والعراق وأفغانستان، أصبح كل ذلك محرَّماً مجرَّماً، ومعارضاً مطارداً!

إنه إجماع غير مسبوق للاعتداء على المسلمين؛ فقد كان الأعداء يتناوبون

ذلك الاعتداء على بعض الأطراف ولكنهم يَدَعون بعضها، ويصادمون بلداً

ويصالحون آخر، أما اليوم فهم مجمعون ومجتمعون على الحرب والضرب في كل

حدب وصوب [أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ] (الذاريات: 53) .

ولكن دهشتنا وحيرتنا، وانزعاجنا واستغرابنا من ذلك (الإجماع والاتفاق) لا

يدانيه في الدهشة والانزعاج، والحيرة والاستغراب، إلا ما يقابله ما يشبه

(الإجماع) - من هؤلاء المستهدَفين - على عدم الاجتماع، من شِبه الاتفاق منهم

على عدم الاتفاق. لا أقصد على مستوى الزعامات والقيادات فقط؛ فذلك أمر قد

كثر الكلام فيه، وسبق التعرض له، ولكن أقصد على مستوى القواعد العريضة،

والبُنى التحتية لهؤلاء الإسلاميين المستهدَفين.

انظر حولك ترَ عجباً: جهوداً مبعثرة، وإمكانات مهدرة، مع صفوف متناثرة،

وقلوب متناكرة! .. ما هذا يا أمة الإسلام؟! أفي مثل ذلك الليل البهيم نظل نسهر

على التخاصم والتنافر، وننام على التنازع والتدابر؟! أين الصف المرصوص،

أين قلب الرجل الواحد، وتداعي الجسد الواحد، وخفض الجناح ولين الجانب،

والتآخي والتصافي والتراحم والتواد؟! حقاً لقد صنع الشقاق والجفاء منا غثاء،

حتى تعاوت علينا كلاب الأرض، وتعاونت علينا ذئابها، وصدق فينا قول الرسول

صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة على

قصعتها، قالوا: أوَ مِنْ قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا، بل أنتم كثير،

ولكنكم غثاء كغثاء السيل» [1] ، نعم نحن كثير كثير.... ولكن الشقاق والجفاء

حوَّلنا إلى ذلك الغثاء.

* هناك مشكلة:

لقد وُفقت الصحوة الإسلامية في تجاوز عقبات كثيرة في أثناء مسيرتها في

العقود الأخيرة، فأحرزت إنجازات، وانتزعت نجاحات، واختطت طريقها وسط

كثير من العراقيل والعقابيل بتوفيق وسداد.

ولكننا يجب أن نعترف أنها أخفقت ... نعم أخفقت في تأمين الحد الأدنى من

وحدة الأمة، بتقصيرها في بذل الحد الأدنى من العوامل «الشرعية» لوحدة هذه

الأمة، لا على المستوى العام فقط، بل على المستوى الخاص أيضاً مستوى

الإسلاميين العاملين.

إنني أزعم أن هناك قسماً كبيراً من الشريعة التي نتنادى بتطبيقها وإقامة

أحكامها، نقوم نحن الإسلاميين إلا من رحم الله بتجافيه والإهمال فيه، وهو ذلك

القسم الذي يشمل الأحكام والهدايات والآداب التي تتضمن تأليف القلوب وتوحيد

الصفوف؛ فوحدة هذه الأمة منهجياً وقلبياً، مطلب من مطالب الشريعة كبير،

ومقصد من مقاصد الإصلاح عظيم، ولا أدري؛ كيف خلت مناهج أكثر الجماعات

الإسلامية إن لم تكن كلها من مراعاة تحقيق ذلك المقصد في الواقع العملي؟!

صحيح أنه كانت هناك دائماً مساحة للكلام على (الوحدة الإسلامية) من

الناحية النظرية، ولكنها من الناحية العملية كانت توظف في الغالب لصالح الوحدة

الحزبية أو الفكرية أو التنظيمية، ولن أدلل على ذلك بأكثر من شهادة الواقع على

ذلك، مما يعرف الجميع تفاصيله.

* معاتبات (أخوية) :

* «المسلم أخو المسلم» [2] هذه مقولة نبوية، وشِرعة إلهية، وهي مع ذلك

بدهية أولية من بدهيات الإسلام، ليست من مسائل الخلاف الوعر أو البحث الدقيق.

ولكن تعالوا ننظر في واقعنا - نحن الإسلاميين -: هل ينظر كل منا إلى الآخر هذه

النظرة، وهل يطبق معه هذه البدهية؛ فـ «لا يظلمه ولا يسلمه ولا يحقره» ؟!

* «ترى المؤمنين في تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا

اشتكى عضو تداعى له سائر جسده بالسهر والحمى» [3] ، كلمات مضيئة من

مشكاة النور النبوي؛ فهل تربت الأجيال في الفصائل والتجمعات، على ذلك الخُلق

السامي مع (كل المؤمنين) ، ولو كانوا مخالفين في «الانتماء» ، أو مغايرين في

«الفكر» ؟!

* ثم.. ما حقيقة هذا «الانتماء» ، عندما يتعارض مع الانتماء المعقود في

السماء؟ وما قيمة ذلك «الفكر» الذي لا ينطلق من الفقه القرآني والهدى الرسولي

عندما يدعو ذلك الفكر إلى قطيعة وجدانية بين المؤمنين الذين «تتكافأ دماؤهم

ويسعى بذمتهم أدناهم، ويجير عليهم أقصاهم، وهم يد على من سواهم» [4] .

* أمْرُ الله لهذه الأمة بالاعتصام بحبله تكليف للعامة والخاصة؛ فكيف ننادي

في العامة بالاجتماع تحت راية الإسلام، ونحن غارقون في الفرقة، والناس يروننا

ونحن حملة الراية أوْلى الأمة بذلك الاجتماع؟

* «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضُه بعضَه. وشبك بين أصابعه» [5] ،

هل أقمنا البنيان على مبدأ الأخوة والمحبة في الله، حتى يشد بعضه بعضاً، أم أقيم

ذلك البنيان على أسس من المحبة في....، وفي......، وفي....، وفي....

حتى أصبحت مبانينا يهد بعضها بعضاً، بدلاً من أن يشد بعضها بعضاً؟!

* تنادينا بأهمية الحوار، حتى نادى بعضنا بضرورة الحوار مع (الآخر)

يعني الكفار والحوار مع (الآخر) من المارقين والعلمانيين الفجار، وقد سمعنا

كثيراً عن حوارات (التقارب بين الأديان) و (الحوار الإسلامي المسيحي)

وحوارات (التقارب بين السنة والشيعة) والحوارات بين الإسلاميين والقوميين

والليبراليين، ولكن: أين حوار الإسلاميين مع الإسلاميين؟ حوار السُّنة مع السُّنة؟

حوارات جماعاتها مع جماعاتها، وقياداتها مع قياداتها، ودعاتها مع دعاتها؟ أم أن

الحوار مع (الأخ) مؤخر دائماً حتى ينتهي الحوار مع (الآخر) ؟!

* نتحسس في الكلام كثيراً ونتدسس في الأسلوب غالباً ونهادن أو نداهن في

العبارة أحياناً إذا كان الكلام مع (الآخر) ولو كان هذا الآخر منافقاً معلوم النفاق،

أو فاجراً يكرمه الناس مخافة شره، أو كافراً لا حرمة له ولا ذمة، خوفاً على

شعوره (الرقيق) أن يخدش، وحسه (المرهف) أن يمس، أما إذا جاء الحديث

مع، أو عن، أو إلى ذلك الأخ (المخالف) أو فعند الكثيرين منا إلا من رحم الله

فلا تحسس ولا تدسس ولا مجاملة ولا حتى حسن مجادلة، مع أن حسن المجادلة

مطلوب مع أهل الكتاب، فكيف بمن جعلته الشريعة في منزلة الأقربين من الأهل

والأصحاب؟!

* كلما ندب دعاة الوفاق أنفسهم لمحاولة إصلاح ذات البين بين خواص الأمة،

انبرى لهم دعاة الشقاق متهمين إياهم بأنهم أصحاب نهج (عاطفي) ، أو أن

الواحد منهم مجرد (واعظ) لا يرقى إلى مستوى فوق الخطب والمواعظ!! نقول:

هبهم (عاطفيين) فمتى أصبح شأن المؤمنين في (تراحمهم وتوادهم وتعاطفهم)

أمراً مستهجناً؟ وهل تستنزل الرحمة إلا بذلك التراحم وتلك العاطفة فيما بين

المسلمين؟ ثم.. ماذا يُنقم من (الموعظة) ، ولماذا يُهوَّن من شأنها، مع أن القرآن

كله (موعظة) وكذلك التوراة المنزلة من عند الله، والإنجيل المنزل من عند الله.

قال سبحانه عن القرآن: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي

الصُّدُورِ] (يونس: 57) ، وقال عن التوراة: [وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ

شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْء] (الأعراف: 145) ، وقال عن الإنجيل:

[وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ] (المائدة: 46) ،

وليست المواعظ في الرقائق والسلوكيات فحسب بل إن الأمر بالنظر في جوهر

الرسالة وهو التوحيد موعظة، والنهي عن الشرك موعظة، قال سبحانه: [قُلْ

إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لله مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ]

(سبأ: 46) ، وقال: [وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ

الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ] (لقمان: 13) .

* فلسفة (ليس في الإمكان أحسن مما كان) تكاد تحكم النظرة «التجميدية»

للواقع الإسلامي، على ما هو عليه من تشرذم وفرقة، مع أن النظرة الشرعية

«التجديدية» تدعو دائماً لإحياء ما اندرس من معالم الدين، ومنها وفي مقدمتها

بعد التوحيد عقيدة الولاء والبراء، التي هي أوثق عُرى الإيمان.

* شرعيون لا قدريون:

نحن نؤمن بالقدر، لكننا لا نؤمن «بالقدرية» فالقدرية (العقدية) بنوعيها

[6] ، ابتداع في الدين، وشذوذ في الاعتقاد، عافى الله تعالى منه أهل السنة

والجماعة، ولكن نوعاً جديداً من (القدرية الفكرية) بدأ ينتشر بين المسلمين،

يشيع بينهم نوعاً من الهزيمة، ولوناً من السلبية، تقعدهم عن العمل بتكاليف

الشريعة ومحكمات الأحكام احتجاجاً بالقدر؛ وذلك في صنوف من الأقاويل، منها

مثلاً: أن هزيمة أعداء الأمة والتمكين للإسلام لن يكون إلا في زمان المهدي،

ومنها: أن انتصارنا على اليهود لن يكون إلا في زمن الدجال..! ومنها: وهذا

هو المقصود هنا أن وحدة الأمة لن تتحقق أبداً؛ لأن القدر محتوم بدوام الافتراق؛

فلهذا فإن من العبث كما يقولون السعي في الوفاق والاتفاق، بل إن بعضهم تنطع

وعدَّ الدعاء بجمع كلمة المسلمين من التعدي في الدعاء؛ لأن ذلك يتعارض مع القدر

المعلوم باستحالة هذا الجمع!! ولو أنصف هؤلاء من أنفسهم، لعلموا أن الاعتصام

بحبل الله حكم شرعي للتنفيذ لا حكم قدري للتعجيز، أو من باب (التكليف بما لا

يطاق) ؛ فاجتماع قلوب المسلمين على العمل بالدين هو الدين، وتفرقهم وتنازعهم

وفرقتهم بمزاعم قدرية أو حزبية أو مصلحية هو هدم لأهم عوامل التمكين؛ ألم يأمر

الله تعالى بالاجتماع في قوله سبحانه: [وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا]

(آل عمران: 103) ؟ إن هذه الآية أصل في فقه الوفاق، وقاعدة من قواعد

العلاقات بين المسلمين، ولو كان الاجتماع والوفاق مستحيلاً قدراً، لما جاء الأمر

به شرعاً. قال الإمام الطبري - رحمه الله - في تفسيره لهذه الآية: «يعني بذلك

جل ثناؤه: وتعلقوا بأسباب الله جميعاً، يريد بذلك تعالى ذكره: وتمسكوا بدين الله

الذي أمركم به، وعهده الذي عهد إليكم في كتابه إليكم من الألفة والاجتماع على

كلمة الحق، والتسليم لأمر الله» [7] ، ولو كان ذلك الاجتماع غير مقدور لما فُسرت

الآية بذلك. وقال المفسر ابن عاشور - رحمه الله - عند كلامه على هذه الآية:

«هذه الآية أصل عظيم من أصول الأخلاق الإسلامية» وعلل ذلك بأنها تشتمل

في أولها على النهي عن الموت على غير الإسلام، بما يستوجب النهي عن

مفارقة الإسلام طول الحياة، وأنها تشتمل كذلك على الأمر الشرعي بالاعتصام

وعدم التفرق بما يستوجب الأخذ بأسباب ذلك وقال - رحمه الله -: «أمرهم بما

فيه صلاح حالهم في دنياهم، وذلك بالاجتماع على هذا الدين وعدم التفرق

ليكتسبوا باتحادهم قوة ونماءً» [8] فأين هذا من قول من يقول: إن الفرقة قدر

غالب، وضربة لازب؟!

إن الأمر بالاجتماع هو أمر بمسبباته من الأوامر الشرعية، كما أن النهي عن

الفُرقة هو نهي عن مسبباتها من المناهي الشرعية، ولذلك قال العلامة أبو السعود

في تفسير الآية نفسها: [وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران: 103) : «لا تُحدِثوا ما

يوجب التفرق ويزيل الألفة» [9] .

وما يوجب التفرق ويزيل الألفة، نعرفه جميعاً في كثير من المجالس

والمنتديات، وفي أكثر المجادلات والحوارات الخالية من أدب الحوار الإسلامي،

وإذا كان بذل الأسباب لتقوية أواصر الأخوة بين المسلمين واجباً شرعياً، فإن مع

ذلك الواجب واجباً آخر أوجب، وهو أن يكون هذا الإخاء مبنياً على الالتفاف حول

ثوابت هذا الدين ومحكماته. والدعوة إلى وحدة العمل الإسلامي هنا ليست دعوة إلى

تأليف القلوب على مفهوم مقلوب، أو منهج مبتدع، أو اعوجاج ظاهر عن الأصول

الثابتة؛ ولكنها دعوة إلى التآلف على الهدى المحكم، والثوابت المجمع عليها [10] ؛

وهذه مساحتها أكبر بكثير من مساحة المسائل المختلف فيها. وأكثر ما تعج به

الساحة الإسلامية من خلافات واختلافات، إنما هو في مسائل قد تختلف فيها

الأنظار ويسوغ فيها الاختلاف.

ولوحدة الجماعة المسلمة كما يقول سيد قطب - رحمه الله - «ركيزتان تقوم

عليها لتحقق وجودها وتؤدي دورها: الركيزة الأولى هي الإيمان والتقوى المأمور

بها في قوله تعالى: [اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ] (آل

عمران: 102) ، والركيزة الثانية هي ركيزة الأخوة.. الأخوة في الله على منهج

الله، لتحقيق منهج الله؛ فهي أخوة إذن تنبثق من التقوى والإسلام، من الركيزة

الأولى.. أساسها الاعتصام بحبل الله، أي عهده ونهجه ودينه، وليست مجرد

تجمع على أي تصور آخر، ولا على أي هدف آخر، ولا بواسطة حبل آخر»

[11] .

وقد يقول قائل: وهل حققت التجمعات الإسلامية في العالم الركيزة الأولى

حتى تنتقل إلى الركيزة الثانية؟ والجواب: إن الفصائل التي ندعو إلى التوافق

القلبي والتوفيق المنهجي بينها؛ هي تلك التي لم تخرج عن (الجماعة) بالمعنى

الشرعي، أي التي لم تخالف الأصول العامة لأهل السنة والجماعة، وهذا حال

أكثر الفصائل المشهورة والمعنية بالكلام هنا فيما نعلم فهؤلاء وحدتهم المنهجية

متقاربة، ولكنهم فرطوا كثيراً في وحدتهم الأخوية الوجدانية. أما الزاعمون بأن

اجتماع الكلمة ووحدة القلوب من الممنوع قدراً، بناء على أحاديث الافتراق، وتفرد

الطائفة الناجية، فنقول لهم: حديثنا هو عن اجتماع فصائل العاملين من تلك الطائفة،

وليس عن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً من الطوائف البدعية المخالفة في أصول

الاعتقاد؛ فلهؤلاء شأن آخر، ثم إنه لا يمكننا أن نضرب الشرع بالقدر، للهروب

من الشرع احتجاجاً بالقدر؛ فهل إذا أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بوقوع هذه

الأمة قدراً في التشبه بأعدائها في قوله: «لتتبعن سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر،

وذراعاً بذراع، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه وراءهم» [12] هل يعني ذلك

أننا غير مأمورين شرعاً بترك هذا التشبه؟! وهل يعني تقدير وقوع الفتن ألاَّ يفر

المرء من الفتن؟ أو أن تقدير غربة الدين يعفينا من العمل على إزالة تلك الغربة

عن الدين؟

إن الوحدة بين المسلمين فريضة توصل إليها فرائض، وشرعة تتضمن العديد

من التشريعات؛ فالأمر بالأخوة الإيمانية هو أمر بالعديد من شعب الإيمان الموصلة

لها، هو أمر بخفض الجناح، وحسن الظن، والعفو والصفح، وصنائع المعروف،

وإبداء النصيحة، وقبول النصيحة، والرفق في النصيحة، والإخلاص في

النصيحة، والستر على العيوب، والرفق في الأفعال واللين في الأقوال، والدفع

بالتي هي أحسن، والصبر على التي هي أقوم من مواقف العدل وسياسة الإحسان،

إلى غير ذلك من العديد والعديد من شعب الإيمان.

أكاد أجزم بأن أكثر شعب الإيمان توصلنا إلى الاعتصام بحبل الله، وكيف لا؟

ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد جعلها أهم روابط الإيمان في قوله عليه

الصلاة والسلام: «أوثق عرى الإيمان الموالاة في الله والمعاداة في الله، والحب

في الله والبغض في الله» [13] .

وأكاد أجزم - في الوقت نفسه - بأن الشقاق لا يحصل إلا بعد الوقوع في

العديد من شعب العصيان التي يزينها الشيطان ليوقع المسلمين في الافتراق والشقاق.

* الحاضر الغائب (لعنه الله) :

أعني به ذلك العدو المبين الذي قال الله تعالى عنه: [إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ

فَاتَّخِذُوهُ عَدُواًّ] (فاطر: 6) ؛ فمن عظيم عداوته، وشدة أذاه لأولياء الرحمن أنه

يتربص بأُخوَّتهم، ويستهدف محبتهم، ويحرص لعنه الله على أن ينال حظه من

مجموع المؤمنين بالمعاصي الجماعية، بعد أن ينال من آحادهم بالمخالفات الفردية،

وذلك بأن يضل الجميع عن أعظم محاب الله، وهو الحب في الله، فينشر البغضاء،

ويشيع الكراهية، ويبث الأحقاد والضغائن والإحن، ليظفر عليه اللعنة من وراء

ذلك بكم كبير من الكبائر ... نعم الكبائر والآثام التي يقع فيها المتدابرون

والمتباغضون والمتنازعون المتفرقون.

تصور معي شخصاً، لا يقيم علاقته مع إخوانه المسلمين على الميزان

الشرعي للأخوة الإيمانية، فيقع كما نشاهد كثيراً في بغض أخ له بغير حق، وفي

عداوته لغير الله، إنه سيحوز بلا شك، من وراء ذلك الخلل الشرعي في علاقته

بأخيه، عدداً غير قليل من كبائر الذنوب وموبقات الآثام، وقد لا يشعر بذلك لتزيين

الشيطان له سوء عمله حتى يراه حسناً.

- إنه قد يحتقره، واحتقار المسلم من الكبائر «بحسب امرئ من الشر أن

يحقر أخاه المسلم» [14] .

- وقد يهجره هجراً غير شرعي فوق ثلاث، وذلك لا يحل له، لقوله صلى

الله عليه وسلم: «لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام» [15] .

- وقد يعتدي عليه في عرضه أو ماله أو نفسه، وذلك من الكبائر [إِنَّ اللَّهَ

لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (البقرة: 190) .

- وقد يسبه أو يتشاجر معه وذلك من الكبائر؛ لأن «سباب المسلم فسوق

وقتاله كفر» [16] .

- وقد يسيء به الظن؛ وذلك لا يحل بحال؛ لأن [بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ]

(الحجرات: 12) .

- وهو في الغالب سيستحل غيبته ويقع في عرضه، وذلك من الكبائر؛ لأن

الله قال: [وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً]

(الحجرات: 12) .

- وهو لا بد واقع في همزه ولمزه، وذلك من الكبائر؛ لأن الله قال: [وَيْلٌ

لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ] (الهمزة: 1) ، وقال: [وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُم] (الحجرات:

11) .

- وأخونا هذا أو أختنا سيقعان غالباً في السخرية من إخوانهم أو أخواتهن،

وذلك من الإثم؛ لأن الله تعالى يقول: [لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا

خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنّ] (الحجرات: 11) .

- وقد يصعِّر أحدهم خده لأخيه، أو يتكبر عليه، أو يمنع عنه الماعون، أو

يخذله أو يسلمه، أو يوشي به أو يتجسس عليه أو يؤذيه بأي نوع متعمدٍ من الأذى،

وكل ذلك من الكبائر أو الآثام التي كثر التحذير منها في نصوص الشريعة، والتي

أجمل الله ذمها وذم أهلها في قوله سبحانه: [وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ

بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً] (الأحزاب: 58) .

وهنا يفرح الشيطان، ويرقص طرباً، وهو يتفرج على هؤلاء الإخوة الأعداء

الذين قد يقنع منهم بتلك الذنوب من كبائر القلوب، عوضاً عن إيقاعهم في كبائر

الجوارح التي يعلم الملعون أن التورع عنها أسهل من التورع عن ذنوب القلوب.

لن نعجب بعد ذلك، عندما نعلم أن حظ إبليس اللعين من الإيقاع بين المسلمين

يكفيه في نفث عداوته، وإنفاذ أحقاده؛ وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

«إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون، ولكن في التحريش بينهم» [17] ، إن

ذلك التحريش قد يوقعه الشيطان بين أهل الصلاة، بحزازات حزبية، أو خلافات

فكرية، أو فروق طبقية، أو عرقية أو عنصرية، وقد يوقعهم في ذلك بسبب

حواجز وهمية أو أحقاد متوارثة تاريخية، لا بل قد يحرش بين المصلين بمجرد

اختلافات (جغرافية) ليس لأحد فيها اختيار، فيجري على ألسنة المخدوعين به

عبارات الاستثقال والاحتقار لأهل بلد، بل لجهة في البلد الواحد دون جهة كأن

يسخر مثلاً من أهل (الجنوب) في بلدٍ ما، أو سكان (الشمال) في أرض ما،

كما قد يغري أهل (الشرق) بالتكبر على أهل (الغرب) أو العكس، فتنطلق على

ألسنة البعض عبارات النتن الكريه الذي كرم الله المؤمنين عنه، وكرَّههم رسوله

صلى الله عليه وسلم أن يخوضوا فيه، في قوله عليه الصلاة والسلام لمن كادوا أن

يفتنوا بالتحريشات الجاهلية: «ما بال دعوى الجاهلية؟! دعوها فإنها منتنة» [18] ،

يقصد بذلك صلى الله عليه وسلم التعالي بالأحساب والأنساب، والتميز بالأسماء

والألقاب.

أين موقع التحصين من تلك المخاطر في مناهجنا التربوية، وبرامجنا

التعليمية والتثقيفية؟! أظن أن أمامنا الكثير من الوقت، حتى تحل (ثقافة الإخاء)

أو (فقه الوفاق) في قلوب وعقول الناشئين والمُنشِّئين؛ لأن الثقافة المعاكسة،

والفكر المخالف في ذلك، قد كاد يستفرد بالعقول والقلوب حيناً من الدهر، حتى لقد

أثمر هذا الخلل أحوالاً من الخصام شبه العام في غير ما قضية، بما يستوجب بحكم

الشرع والدين إجراء مصالحة شاملة بين أنصار الشرع وأهل الدين ترغم أنف

الشيطان، وتحبط خطط الأعداء.

* الشعيرة الغائبة:

لا بد من عزمة أكيدة على إحباط خطط الشياطين في التفريق بين المؤمنين،

لا بد من أن ينتدب قوم من العقلاء والصلحاء لمهمة إصلاح ذات البين بين خاصة

الأمة فضلاً عن عامتها. لا بد من بذل الجهد واستفراغ الوسع في الإصلاح بين

طوائفها وفصائلها وجماعاتها ومنظماتها. وما نقوله ليس اختراعاً لاقتراح، بل هو

تذكير بشعيرة منسية، يبدو أن الخلافات شغلتنا عنها، والمزايدات زهدتنا فيها.

إن الإصلاح بين المؤمنين فريضة أخرى لا تقل أهمية عن فريضة الاعتصام

بحبل الله؛ فقد خاطب الله تعالى خير أجيال البشر في زمان خير البرية صلى الله

عليه وسلم آمراً إياهم بأن يتقوا الله في الإصلاح، ويندبوا له من يقوم به، فقال جل

شأنه: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] (الأنفال: 1) ، وهل هناك أقدر على

الإصلاح في الأمة منا نحن الإسلاميين؟ وهل هناك أحوج إلى الإصلاح في الأمة

منا نحن الإسلاميين؟ إن الآية أمر إلهي لنا، وللأمة جميعاً بأن نبادر إلى رفع

أسباب الشقاق، وإحلال أسباب الوفاق. يقول ابن كثير - رحمه الله - في تفسيره

لهذه الآية: [فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ] (الأنفال: 1) ، «أي: واتقوا

الله في أموركم، وأصلحوا فيما بينكم، ولا تظالموا، ولا تشاجروا؛ فما آتاكم الله

من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه» ثم أورد عن ابن عباس - رضي الله

عنهما - قوله: «هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا الله ويصلحوا ذات البين»

[19] .

وانتداب طائفة من الإسلاميين العاملين لبذل جهد إصلاحي بين الفصائل

الإسلامية؛ ليس كما يظن البعض كتابة على الرمال أو نطحاً للجبال؛ فهذا من

تسويلات الشيطان وتحريشاته العنيدة، بل إن مجهودات المصالحة لا بد أن تعود

بخير؛ لأن الله تعالى قال في شأن الزوجين: [وَالصُّلْحُ خَيْر] (النساء: 128) ؛

فما بالنا بخيرية الصلح بين جماعتين أو اتجاهين أو أكثر أو أقل؟ إن إصلاح

ذات البين لا بد أن تكون له آثاره وثماره، وقد يكون نصيب المصلحين، ما يعود

على أشخاصهم هم من نفع وبر فضلاً عن دفع الشر والضر؛ فالله تعالى يقول:

[لاَ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ

النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً] (النساء:

114) ، فهل يُزهد في هذا الأجر العظيم، وهل يفرط حريص على الخير في تلك

الفضيلة الكبرى التي جاء الخبر المعصوم بأنها الأفضل بين الأفضل من

الأعمال؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام

والصلاة والصدقة؟ قالوا بلى! قال: صلاح ذات البين؛ فإن فساد ذات البين هي

الحالقة لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين» [20] . بلى والله.. تحلق الدين

وتميت الشعور.

* هذا البراء، فأين الولاء..؟

لا أدري، لماذا أشعر كثيراً بأننا شطرنا تلك القضية في واقعنا الإسلامي إلى

شطرين: أحدهما: فاعل حيْ، والثاني: خامل ضامر. أعني بذلك أن مسائل

الولاء، لم تحظ دعوياً وعلمياً بذاك الاهتمام الذي نالته مسائل البراء، بل تكاد

قضايا الولاء الشرعي للمؤمنين بأحكامه ومسائله تذوب وتتوارى خلف قضايا

البراءة الشرعية من الكافرين، مع أن هذه لا تقل أهمية عن تلك، ولهذا اقترنت

هذه دائماً بتلك؛ فهل السبب في ذلك هو أن الأعداء أفلحوا في إحياء مشاعرنا في

البراءة منهم بكثرة اعتدائهم وكشفهم عن أحقادهم؟! ... ربما، وهل ساعد على ذلك

أن علماء دُعاة الصحوة ركزوا كثيراً في طروحاتهم وأدبياتهم على إحياء البراء قبل

الولاء والإخاء؟! ... قد يكون.

الحقيقة الضائعة وسط ذلك، هي أن البراء بلا ولاء لن يجدي كثيراً في

إنهاضنا من كبواتنا؛ فقضية الولاء ليست ذات بعد عقدي فقط، ولكن لها أيضاً بُعد

واقعي، نحياه منذ عهود طويلة، فأنا أزعم، بل دعني أقول: أجزم بأن التفريط

في أسباب الولاء والإخاء بين المسلمين هو تفريط في رأس مالنا، وفي أكبر أسباب

استجلاب النصر لنا.

فعندما امتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأنه أمدَّه بكل أسباب

النصرة والتأييد جعل كل تلك الأسباب: من تنزيل الملائكة، وتثبيت الأقدام،

وإنزال الغيث، وتنزل السكينة على قلوب المؤمنين، مع إلقاء الرعب في قلوب

الكافرين جعل ذلك كله في كفة، وجعل التأييد بالمؤمنين المتآخين المتآلفين في كفة

أخرى، فقال سبحانه: [هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ

أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ]

(الأنفال: 62-63) ؛ فالله تعالى أيد رسوله صلى الله عليه وسلم بمؤيدات

كونية وعلى رأسها الإمداد بالملائكة، ومؤيدات شرعية وعلى رأسها التأييد

بالمؤمنين المتآلفين الذين ألف بينهم هذا الدين بتشريعاته السامية. قال الشيخ

السعدي - رحمه الله - في تفسيره لتلك الآية: «أي أعانك بمعونة سماوية، وهو

النصر منه الذي لا يقاومه شيء، ومعونة بالمؤمنين، بأن قيضهم لنصرك [وَأَلَّفَ

بَيْنَ قُلُوبِهِمْ] فاجتمعوا وائتلفوا وازدادت قوتهم بسبب اجتماعهم» [21] .

إن روح التحقير أو التنفير من شأن ذلك الاجتماع والائتلاف، هو تفجير

لأكبر مستودعات القوة لدى المسلمين، وبعث لأقوى عوامل الفتنة فيما بينهم، مهما

كان المسمى الذي تتسمى به تلك الروح. قال ابن تيمية - رحمه الله -: «كل ما

أوجب فتنة وفرقة، فليس من الدين، سواء كان قولاً أو فعلاً» [22] .

والذين يطوِّلون ذيل البراء، حتى يمدونه إلى ساحة الولاء وبيت الإخاء

بذرائع خلافية، وفي مسائل قد تكون اجتهادية، هؤلاء ينزلون ألواناً من العداوة إلى

غير محلها، مع أننا لسنا أحراراً في أفعال قلوبنا من محبة أو بغضاء، بل نحن

متعبدون بألا نحب إلا لله، ولا نبغض إلا لله.

وتعدي الحدود الشرعية في ذلك وبخاصة في المسائل الاجتهادية لون من

البغي وصنف من العدوان. قال ابن تيمية - رحمه الله -: «الاجتهاد السائغ لا

يبلغ مبلغ الفتنة والفرقة إلا مع البغي، لا لمجرد الاجتهاد، كما قال تعالى: [وَمَا

اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ العِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ] (آل عمران:

19) ، وقال: [إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ] (الأنعام:

159) ، وقال: [وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ

وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ] (آل عمران: 105) .

وقد أرسى شيخ الإسلام قاعدة ذهبية في التعامل بين المسلمين على أساس

مراعاة الموالاة الإيمانية التي عقدها الله تعالى بينهم في قوله عز وجل: [إِنَّمَا

المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ] (الحجرات: 10) ، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم:

» كونوا عباد الله إخواناً « [23] ، فقال عليه رحمة الله:» على المؤمن أن يعادي

في الله، ويوالي في الله، فإن كان هناك مؤمن، فعليه أن يواليه وإن ظلمه؛ فإن

الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية؛ قال تعالى: [وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ

اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا] (الحجرات: 9) فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي،

وأمر بالإصلاح بينهم؛ فليتدبر المؤمن: أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك

واعتدى عليك، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك؛ فإن الله

سبحانه بعث الرسل، وأنزل الكتب ليكون الدين كله لله، فيكون الحب لأوليائه

والبغض لأعدائه، والإكرام والثواب لأوليائه، والإهانة والعقاب لأعدائه، وإذا

اجتمع في الرجل الواحد خير وشر، وفجور وطاعة، وسنة وبدعة، استحق من

الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه

من الشر « [24] ، وقد حرص الإمام - رحمه الله - على بيان الفصل التام بين

طبيعة التعامل مع الكافرين بمقتضى عقيدة البراء، والتعامل مع المؤمنين

بمقتضى عقيدة الولاء، مبيناً أنه لا تنقطع الموالاة عن مؤمن أبداً، فقال:» الحمد

والذم، والحب والبغض، والموالاة والمعاداة، إنما تكون بالأشياء التي أنزل الله بها

سلطانه، وسلطانه كتابه؛ فمن كان مؤمناً وجبت موالاته من أي صنف كان، ومن

كان كافراً وجبت معاداته من أي صنف كان « [25] ، وحذر شيخ الإسلام أيضاً

من إطلاق العنان للنفس لتحب من تشاء وتبغض من تشاء دون تقيد بسلطان القرآن

ومنهاج السنة، فقال:» من الناس من يكون حبه وبغضه، وإرادته وكراهته

بحسب محبة نفسه وبغضها، لا بحسب محبة الله ورسوله، وبغض الله ورسوله؛

وهذا نوع من الهوى، فإن اتبعه الإنسان فقد اتبع هواه: [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ

هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّه] (القصص: 50) « [26] .

إن إحياء الموالاة بين المؤمنين، هو استدعاء لموجبات ولاية الله، وولاية الله

موجبة لرحمته ونصرته، وفي الوقت نفسه فإن التنكر لتلك الموالاة للمؤمنين،

والتماسها عند غير أهلها من موجبات الحرمان من الولاية الإلهية. عياذاً بالله.

قال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ

بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى المُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ] (المائدة: 54) .

قال حَبر الأمة، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما:» من أحب في الله

وأبغض في الله، ووالى في الله وعادى في الله فإنما تنال ولاية الله بذلك، ولن يجد

عبد طعم الإيمان، وإن كثرت صلاته وصومه، حتى يكون كذلك، وقد صارت

مؤاخاة الناس على أمر الدنيا، وذلك لا يجدي على أهله شيئاً « [27] .

* أقَْدِم ولا تتردد!

الإخاء روح يسري، وفقه يُشاع، وثقافة تنتشر، وعلى العكس تماماً، فإن

الجفاء له روحه وفكره وثقافته، ولكل من روح الإخاء والجفاء أهل، ولكل منهما

أنصار ورموز ومنظِّرون ومندوبون، مسوِّقون وموزِّعون. وبقدر ما تُخدم قضايا

الإصلاح يجيء الإصلاح، وبقدر ما تخدم جهود الفرقة، تعم الفرقة، وفي

أوضاعنا المعاصرة، عندي ما يشبه اليقين، بأن الجهود التي تبذل من أجل الوفاق

والائتلاف، لا تبلغ عشر معشار ما بذل ولا يزال يبذل من جهود الشقاق والاختلاف،

وإذا كان قد فرط من أمرنا في ذلك ما فرط، مما لا يرضي الله سبحانه ولا رسوله

صلى الله عليه وسلم، فلا أقل من المسارعة الآن إلى تدارك ما فُرط فيه؛ قبل أن

ينفرط ما تبقى من عقودنا وعهودنا، ويسقط ما تبقى من شعاراتنا ومشاريعنا؛

فالظرف قاهر، والأزمات محكمة، والعدو من كل صنف أصبحوا كصف واحد

برأي واحد في تحدٍ سافر، وعناد خطير، هم فيه أولياء متناصرون، وحلفاء

متعاضدون: [وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ

وَفَسَادٌ كَبِيرٌ] (الأنفال: 73) .

نعم! فساد كبير، أن يتحد أعداؤنا ونتفرق، وفساد كبير أن يتعاونوا على

الإثم والعدوان ولا نتعاون على البر والتقوى، وفساد كبير أن يكونوا على أفجر

قلب رجل واحد منهم، ولا نكون على أتقى قلب رجل واحد منا.

هل بقي هناك متسع للتردد في أهمية وإمكانية، بل فرضية الانتداب

للإصلاح؟! اندب نفسك أخي من الآن، وشارك بعقلك وقلبك وروحك في إشاعة

روح الوفاق والاتفاق، فذاك عمل تغييري كبير، ودور عظيم في (العمل الإسلامي)

لا يحتاج إلى تنظيم أو جماعة، أو تنظير أو تقعير؛ فالأمر في غاية البساطة:

» المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره «اعلم أهمية ذلك

واعمل بذلك، وادع الجميع من حولك إلى إحياء ذلك الهدي النبوي العظيم» لا

يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا، التقوى ها هنا « [28] .

لعل الله أن يجعلنا وإياك من المتقين.

إن روح الإخاء تلتقي مع صفاء الفطرة، وإنه بقدر الغيرة على الدين يكون

الحرص على ائتلاف أهل الدين، وإن من علامة سلامة الفكر والعقل سلامة الصدر،

ومن أمارات رجاحة الرأي الشغف بالوفاق والنفور من الشقاق، وأنت أيها القارئ!

نعم أنت أنت ... لا أراك إلا من الموفورين حظاً في صفاء الفطرة وسلامة

الصدر ورجاحة العقل، فليكن لك رأي، ولتكن لك مشاركة في دفع تيار المصالحة

الإسلامية والولاية الإيمانية نصحاً لله ولرسوله ولخاصة المسلمين وعامتهم.

* وقد يقول قائل:

وما علاقة هذا الكلام بملف (التغيير القادم) أو موضوع (تغيير الخطط في

مواجهة خطط التغيير) ؟ وهنا أقول: إن كل خطط الأعداء قد وضعت على

افتراض بقاء المسلمين عامة، والإسلاميين منهم خاصة في حال من الوهن

والتشرذم والفشل الناتج عن التنازع والتخالف والفرقة؛ فهم يعلمون عنا من خلال

المنافقين بيننا كل ذلك، ولهذا فهم يخططون وينفذون وهم آمنون من أي (مفاجآت)

تضامنية على المدى القريب والمتوسط والبعيد، ظانين أن هذه الأمة قد فُرغ منها،

فأيس عوامها من زعمائها، وانفصلت قمتها عن قاعدتها على المستوى العام

والخاص.

فدورنا الآن أن نغير خطنا في الفرقة والشقاق إلى خطط للوحدة والألفة

والوفاق. وحتى لا نكون (قدريين) أو (عاطفيين) أو (واعظين) فقط! فهذه

بعض خطوات (عملية) يمكن أن نفتتح بها عهداً جديداً لمرحلة جديدة لعمل إسلامي

قائم على أسس الإخاء والتناصح والتراحم:

1 - انتصاب جمع من أهل العلم والدعوة والفكر، من أنحاء مختلفة، لمهمة

وضع ورقة عمل، لما يمكن أن يكون (ميثاق عمل إسلامي) يوضح بصورة

علمية منهجية الخطوط العريضة التي ينبغي أن يتوافق العاملون في أهل السنة

جميعاً على الالتقاء حولها، مع بيان ما يجوز وما لا يجوز الاختلاف حوله، وإبراز

ماهية خلاف التنوع الجائز المحمود، وخلاف التضاد المحرم المذموم، وأخلاقيات

المسلم عند وقوع الاختلاف ونحو ذلك، على أن تنطلق هذه الورقة من أساس راسخ

قائم على علمي أصول الفقه وأصول الاعتقاد.

2 - إبراز أهم الدراسات الجادة في فقه الخلاف، وأدب الحوار، وأصول

الجدال بالحسنى، واستخلاص أهم ما يمكن توظيفه (عملياً) من تلك الدراسات في

تنقية الأجواء الإسلامية، والمسارعة إلى ما يمكن أن يكون (حملة مصالحة)

علمية وإعلامية، ترتكز على مفاهيم الوفاق والاتفاق والأخوة في ظل (عقيدة)

الولاء والبراء، و (شريعة) الاعتصام بحبل الله، و (شعيرة) إصلاح ذات البين

و (سلوك) المحبة والإخاء، وذلك لدفع تيار عام في الأمة يدعو إلى مصالحة

إسلامية، وأتصور أن العديد من منابر الدعوة، ودور النشر، ووسائل الإعلام

الإسلامي المقروءة والمسموعة والمشاهدة، يمكن أن يقوم القائمون عليها بدور فاعل

في ذلك، يحتسبون فيه الأجر، ويساهمون من خلال ذلك في المسيرة التي طالما

طالب الناصحون للأمة بتفعيلها وهي (ترشيد الصحوة الإسلامية) .

3 - إضافة بند جديد إلى ما اشتهر مؤخراً بعمليات (المراجعة) بحيث

تنطلق من ذلك البند عملية (مراجعة) جديدة وجادة للبرامج التربوية في التجمعات

الإسلامية، لتنقيتها من كل ما لا يرضي الله ورسوله، من شوائب التعصب

والتحزب، وآفات الفرقة والاختلاف، وهي موجودة بنسب متفاوتة في تلك البرامج،

ولكن مراجعتها تحتاج فقط إلى نوع من التجرد والإخلاص.

4 - عند صياغة برامج تربوية جديدة؛ فمن المهم إعطاء قضية الولاء

والإخاء والتآلف بين المسلمين، مساحتها الكبيرة الجديرة بها، حتى تتربى الأجيال

الناشئة على غير ما تربت عليه الأجيال التي سبقتها، وسيساعد على تلك النقطة ما

جاء في النقطة رقم (?) . فمن غير المنتظر أن تزول (آثار العدوان) الشيطاني

على أُخوتنا الإسلامية بين يوم وليلة، بحدث قدري بحت كما سبقت الإشارة ولكنه

التواصي بالحق والصبر، حتى تنمو ثمرات البر والتقوى.

5 - من المهم إجراء دراسات محايدة لفهم خلفيات الخلافيات، ورصد

العوامل التاريخية والشخصية فيها؛ فكثير من الخلافات متوارثة دون تمحيص،

والعديد منها أسبابه نفسية قبل أن تكون فقهية أو فكرية، وبالإمكان حصر مسائل

الاختلاف الحقيقية بين فصائل أهل السنة المعاصرين، وإخضاعها لبحوث علمية

جادة، أو استصدار فتاوى معتمدة فيها، من أهل العلم والفتوى، لتقليل مساحات

الاختلاف كلما أمكن.

6 - يمكن استحداث منابر متخصصة في شؤون العمل الإسلامي تسعى في

جهود (التقريب) بين أهل السنة؛ بحيث يكون بعضها على شكل مجلات، أو

برامج أو مواقع، أو على الأقل زوايا خاصة بذلك، تسمح بفتح حوار يدار بأسلوب

راقٍ، ونفوس صافية، أو مستعدة للصفاء.

أعرف أن هناك العديد والعديد مما يمكن إضافته من مقترحات لدى المهتمين،

من أجل جهد أكبر في إحياء الوفاق الإسلامي، ولعل جهودنا جميعاً تتضافر حسبة

لله للمساهمة في تغيير الخطط، قبل أن تدهمنا جميعاً خطط التغيير.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015