إسماعيل بن صالح آل عبد الرحيم
أحسب أن المجتمع يستطيع الخلاص من مفاسد كثيرة لو أنه تحكم في أوقات
فراغه، لا بالإفادة منها بعد أن توجد، بل بخلق الجهد الذي يستنفد كل طاقة،
ويوجه هذا وذاك إلى ما ينفعه في معاشه ومعاده، فلا يبقى مجال يشعر امرؤ بعده
أنه لا عمل له.
إن الفراغ في الشرق يدمر ألوف الكفايات والمواهب، ويخفيها وراء ركام
هائل من الاستهانة والاستكانة، كما تختفي معادن الذهب والحديد في المناجم
المجهولة!
يروى عن عمر بن الخطاب أنه قال: إني لأرى الرجل فيعجبني، فإذا سألت
عنه فقيل لا حرفة له، سقط من عيني.
وقال أيضاً: إني لأكره أن أرى أحدكم سبهللاً (أي فارغاً) لا في عمل دنيا ولا
في عمل آخرة..
وقال حكيم: من أمضى يوماً من عمره في غير حق قضاه، أو فرض أداه،
أو مجد أثله، أو حمد حصله، أو خير أسسه، أو علم اقتبسه، فقد عق يومه،
وظلم نفسه!
والفراغ داء قتال للفكر والعقل والطاقات الجسمية، إذ النفس لابد لها من
حركة وعمل، فإذا كانت فارغة من ذلك تبلد الفكر وثخن العقل وضعفت حركة
النفس واستولت الوساوس والأفكار الرديئة على القلب، وربما حدث له إرادات
سيئة شريرة ينفس بها عن هذا الكبت الذي أصابه من الفراغ [1] .
وقد نبه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- إلى غفلة الألوف من الناس عما
وهبوا من نعمة العافية والوقت فقال: «نعمتان من نعم الله مغبون فيها كثير من
الناس: الصحة والفراغ» [2] .
ويقصد بالفراغ: الخلو من المشاغل والمعوقات الدنيوية المانعة للمرء من
حيث الاشتغال بالأمور الأخروية.
وفى الحديث الآخر: «اغتنم خمساً قبل خمس» -وعد منها - «وفراغك
قبل شغلك» [3] .
يقول بعض الصالحين: فراغ الوقت من الأشغال نعمة عظيمة، وكان السلف
الصالحون يكرهون من الرجل أن يكون فارغاً لا هو في أمر دينه ولا هو في أمر
دنياه.. ولهذا قيل: الفراغ للرجل غفلة وللنساء غلمة: أي محرك للغريزة.
ويشتد خطر الفراغ إذا اجتمع مع راغ الشباب الذي يتميز بقوة الغريزة
والجدة [4] وفى هذا يقول أبو العتاهية:
إن الشباب والفراغ والجدة ... مفسدة للمرء أي مفسدة!
ويقول آخر:
لقد هاج الفراغ عليه شغلاً ... وأسباب البلاء من الفراغ
ولقد قطع الله تعالى المعذرة لأهل الفراغ بقوله: [وجَعَلْنَا اللَّيْلَ والنَّهَارَ آيَتَيْنِ
فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ولِتَعْلَمُوا عَدَدَ
السِّنِينَ والْحِسَابَ وكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً] [الإسراء: 13] فأتاح لهم التكسب
من نعم الله وفضله والنظر في مخلوقاته والتفكر فيها واسترجاع طاقات العقل بما
ينفع من أمور الدنيا والآخرة.
وبتعدد أنواع الفراغ يمكننا تقييم الحالات التي يصاب بها الشخص من إهدار
الأعمال على هامش المفسدة، فجعل الله صفة (الفراغ العقلي) للدواب وذلك لأنها
غير مهيئة لاستخدام عقلها، فشابهها الإنسان عندما يعطل دور عقله في تحصيل
العلوم النافعة، وهذا هو سر تمييز عمر بن الخطاب رضي الله عنه للرجال حين
قال: أصل الرجل عقله، وحسبه دينه، ومروءته خُلُقه [5] .
فلابد من إدراك أهمية ملء الذهن بما ينفع، فإذا عاش الإنسان في فراغ عقلي
فإنما كتب على حياته الدمار، وأما من ملأ عقله بما ينفعه في دنياه وأخرته فالفوز
حليفه في الدنيا والآخرة، وذلك لأنه كان يغذي عقله لما خلق له في تدبر أمر الله
جل علاه والحقوق اللازمة له والتفكر في مخلوقات الله كما أمر تبارك وتعالى بذلك
حين قال: [وسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ والشَّمْسَ والْقَمَرَ والنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إنَّ
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ] [النحل: 12] .
وأما الفراغ القلبي.. فأوضح الله تبارك وتعالى أن ملء الفراغ القلبي يكون
بالإيمان، وهذا ما أكده ابن مسعود رحمه الله حين طلب منا أن نتفقد قلوبنا في
المواطن الإيمانية بقول: (اطلب قلبك في ثلاثة مواطن: عند سماع القران، وفى
مجالس الذكر، وفي أوقات الخلوة، فإن لم تجده في هذه المواطن فسل الله أن يمن
عليك بقلب فإنه لا قلب لك) [6] .
وما عليك في هذه المرحلة إلا أن تقض على هذا الفراغ بتقوية صلتك بالله،
حتى تضع في قلبك إيماناً قوياً، بدل فراغ قاتل يسمم حياتك.
والنفس إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل، وذلك هو الفراغ النفسي.. فمن
أطلق لنفسه العنان تهوي به ذات اليمين وذات الشمال، فإن هذه صورة تمثل
النفوس الفارغة التي صورها لنا سيد قطب بقوله: (إنها صورة (النفوس الفارغة)
التي لا تعرف الجد، فتلهو في أخطر المواقف وتهزل في مواطن الجد، وتستهتر
في مواطن القداسة..
والنفس التي تفرغ من الجد والاحتفال بالقداسة تنتهي إلى حالة من التفاهة
والجدب والانحلال، فلا تصلح للنهوض بعبء ولا الاضطلاع بواجب، ولا القيام
بتكليف وتغدو الحياة فيها عاطلة هينة رخيصة [7] .
فهذه هي حالة النفوس الفارغة. فلا قول ولا عمل ولا إيمان ولا دين همها
اللعب واللهو في الدنيا ويتبعه حسرة وندامة يوم القيامة.
إن إدراك الإنسان قيمة الزمن، وإيجاد الحل للفراغ ليس إلا إدراكاً لوجوده
وإنسانيته ووظيفته في ركام هذه الحياة.
فأين الذين قاموا بما تقتضيه هذه الخصال فإن الحساب عسير. يقول الحسن
البصري رحمه الله: أدركت أقواماً كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصاً على
دراهمكم ودنانيركم! .
ويقول ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم
غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزد فيه عملي.
وإذا كان هذا هو حرص سلفنا على الوقت وتقدير قيمته وخطره، فإن مما
يدمى القلب، ويمزق الكبد أسى وأسفاً: ما نراه -البوم - عند المسلمين من إضاعة
للأوقات فاقت حد التبذير إلى التبديد. حتى يجلسون الساعات الطوال من ليل أو
نهار حول مائدة النرد أو رقعة الشطرنج، أو لعب الورق. أو غير ذلك -مما يحل
أو يحرم - لا يبالون لاهين عن ذكر الله وعن الصلاة، فإذا سألتهم عن عملهم هذا
قالوا بعبارة تفقدك الأمل فيهم (نقتل الوقت) ، وما يدرون أنهم يقتلون أنفسهم في
الحقيقة، وسوف يندمون حين يقال لهم: [أَوَ لَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ
وجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ] [فاطر: 37] .
إذاً فالفراغ داء قتال إذا لم يمضه صاحبه بما ينفع وإذا أراد الله سبحانه بالعبد
خيراً أعانه بالوقت وجعل وقته مساعداً له، وإذا أراد شراً جعل وقته عليه، وناكده
وقته حتى يفقد وظيفته في هذه الحياة.
وأفضل ما تصان به حياة إنسان أن يرسم لها منهاجاً يستغرق أوقاتها، ولا
تترك فرصة للشيطان أن يتطرق إليها بوسوسة، أو إضلال، فإن ذلك هو بداية
حمل النفس على المتاعب العقلية والبدنية من غير عمل ناجح.
إن المسلم يغالي بالوقت مغالاة شديدة لأن الوقت عمره، فإذا سمح بضياعه،
وترك العوادي تنهبه فهو ينتحر بهذا المسلك الطائش، والإسلام دين يعرف قيمة
الوقت وخطر الفراغ، ويقدر خطورة الزمن يؤكد الحكمة الغالية (الوقت كالسيف
إن لم تقطعه قطعك) ، وما فشت المنكرات وازدادت حدة العصيان وانتشار الجرائم
إلا بازدياد نسبة الفراغ، ذلك لأنه يفتح على هؤلاء المجانين أبواباً عديدة.. على
رأس كل باب شيطان يدعو إلى الرذيلة، فعند ذلك هل يتحكم الشخص بعقله أمام
هذه الأبواب فيربي فراغه على التحصيل والاستفادة أم ينفذ من أحد هذه الأبواب؟ ! فالزمن نعمة جلى، ومنة كبرى لا يدريها ويستفيد منها كل الفائدة إلا الموفقون
الأفذاذ، قال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: إن الليل والنهار يعملان فيك
فاعمل فيهما) نعم أنت خلقت للعبادة والعبادة عمل تستلزم منك عدم إهدار أوقاتها بين الغفلة والكسل.. ويقول الحسن البصري: يا ابن آدم. إنما أنت أيام فإذا ذهب يوم ذهب بعضك (، فالإنسان مأمور باغتنام أوقات فراغه. حتى ولو لم تكن مناسبة للاغتنام، لأن الأماني والأحلام لا تصنع حاضراً ولا تبنى مستقبلاً، وهذا ما عناه أحمد بن فارس الرازي بقوله:
إذا كان يؤذيك حر المصيف ... ويبس الخريف وبرد الشتا
ويُلهيك حسن زمان الربيع ... فأخذك للعلم قل لي: متى؟
والأيام تنطوي على ما عمل فيها بلا استرجاع إلى يوم القيامة فأهل الفراغ
تطوى صحائفهم اليومية معظمها على عتبة الفراغ والبطالة. إن هؤلاء هم أولى
بالحجر عليهم من الحجر على أهل إضاعة المال، فهذا يمكن استرجاعه والتصرف
فيه والاستفادة منه أما الوقت فلا!
يقول الإمام الحسن البصري: (ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: يا ابن
آدم، أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني، فإني إذا مضيت لا أعود
إلى يوم القيامة) ولو قلبنا صفحات تاريخنا الإسلامي لوجدناه مليئاً برجال سابقوا الزمان، وملؤوه بالعلم والمعرفة، فتخلد ذكرهم وهم بين طبقات الثرى، كانوا دائماً بين أروقة العلم والعبادة لأن قيمة الزمن عندهم ترتبط بالغاية من الخلق وهي العبادة.
ومع ذلك فإننا نحن الآن لا نبني بفراغنا شيئاً ثمرته خير للأمة والفرد، لأننا
لا نبالي بمرور الوقت الذي استغله وتحكم فيه أعداؤنا، فمثلاً لقد أهدرنا وقت قراءة
القرآن الذي هو الروح لتحريك الأمة وهو مصنع الرجال الأفذاذ.
ولي دعوة في آخر هذا المطاف للشباب لأنهم هم عماد المستقبل، وهم القوة
الدافعة لحضارات الأمم وتقدمها، وهم أصحاب طاقات جبارة تتفجر في وسط العالم
لأنها هي مرحلة الإنتاج، أدعوهم إلى استغلال هذا الوقت العنفواني المزهر في
تربية النفس وصقلها بين أجنحة المواهب، وصرف الهمم إلى الإنتاج البشري
المثمر، ذلك لأني أرى الكثيرين من شباب اليوم فارغي النفوس والقلوب والرؤوس.. فلا علم ولا عمل، ولا دين ولا إيمان ... ولا نرى لهم أثراً على الساحة العالمية
سوى الانتصارات الرياضية، والانخراط في سلك التائهين.. والناظر إلى الغرب
وواقع الشباب فيه يدرك مدى الانحطاط الخلقي الذي يغوص في وحله الألوف من
أصحاب الصرعات الانحرافية التي بدأ. فيروسها ينتقل إلى طاقات الشباب
الإسلامي حتى يعيشوا في خواء روحي وفراغ عقلي. نسأل الله لنا ولهم الهداية
والتوفيق.