مجله البيان (صفحة 462)

منبر الشباب

وجهة نظر

أبو زكريا عباس

لقد امتن الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة أن جعلها أمة وسطاً، وهو شرف

يجب أن يحافظ عليه المسلمون، حتى لا تغرق سفينة الأمة في بحار الفتن، ولا

تضطرب بأمواج الفرقة والشقاق. إلا أن هذا الشرف -وللأسف الشديد- قد ضاع

فيما ضاع من خصائص هذا الدين ومقوماته، حتى أصبح اختلال التوازن وعدم

الاعتدال والحيدة عن الوسطية سمة مميزة للمسلمين، وخصوصاً في العصر

الحاضر، ولقد حدث هذا بتأثير من قوتي شد وجذب، إحداهما جنحت إلى التفريط، وهو تقصير في أداء الواجب مذموم، والأخرى جنحت إلى الإفراط، وهو غلو

منهي عنه حتى في شعائر التعبد.

ثم نتج عن هذا تخلخل بناء الإسلام الكامل، حتى أصبحت كثير من المفاهيم

الإسلامية أشلاء متناثرة على أرض الإسلام لا تمثل شيئاً من حقيقته في واقع

المسلمين.

ومن المؤسف جداً أن يسري هذا الداء العضال إلى كيان الدعوة المتماسك

وبنيانه المرصوص لينخر فيه كما ينخر النمل الأبيض في الورق العتيق، حتى

يفقده صفة تداعي سائر الأعضاء لشكوى العضو الواحد.

حدث هذا حتى في صفوف الدعاة المخلصين حينما فقدت نظرية النسبة

والتناسب في أساليب الدعوة من أجل البناء المتكامل المتين. ومن هنا تشعبت

الطرق واختلفت الموارد وتعددت المناهج للدرجة التي تجعل اللبيب حيران،

والطبيب الماهر عاجزاً عن تشخيص الداء، ناهيك عن معرفة الدواء.

فتارة تكون مصيبة المسلمين في حسه هي مجرد جهلهم بهذا الدين، وعدم

النضج الفكري الذي ينشئ لديهم القناعة التامة بدينهم، ولذلك فالعلاج الذي ينبغي

أن يوصف في مثل هذه الحالة هو عرض نظرية الإسلام وحقائقه وأصوله العامة،

وكشف القناع عن زيف الحضارة الغربية الكافرة، وفضح المخططات اليهودية

الخبيثة، وفضح عوار السياسة، وحبائلها؛ حتى يتضح الصبح لذي عينين،

ويتسنى للمسلمين القناعة الفكرية بما يملكون من كنوز السعادة، ومفاتيح القيادة،

التي تجعلهم بحق خير أمة، وبعدها يصبح السلوك والتعامل الإسلامي أسهل من

شرب الماء البارد!

وهو في نظره تارة أخرى جهل عوام المسلمين وكثير من أبناء الإسلام،

وخصوصاً أهالي القرى النائية والبوادي والبلدان الفقيرة التي أطبقت على أهلها

الأمية بأحكام الإسلام الفقهية وأركانه الأساسية، فهم في أشد حاجة لمن يعلمهم أمور

دينهم، وحينئذ فالعلاج الناجع هو صرف الجهود لتعليمهم وشد الرحال لتدريسهم

وتوجيههم.

ومرة ثالثة: أن المشكلة تكمن في الجهل ولاشك، ولكن المبادئ العامة

للإسلام معلومة ومعروفة لدى الكثير من أبنائه، فلماذا لا يكون هناك الفهم العميق

للعلوم الإسلامية وذلك بالعكوف على طلب العلم الشرعي ومعرفة القواعد الفقهية

والمصطلحات الحديثية، لأنه حينما يعكف أبناء المسلمين وطلاب العلم على دراسة

العلم ومسائله، فسوف تحل مشاكلهم الناتجة عن الجهل تلقائياً، بالإضافة إلى أن

العلوم والمناهج الإسلامية بحاجة إلى تصفية وتنقيح حتى يستقي أبناء المسلمين من

معين صاف صحيح.

ومرة أخرى: ربما يكون هذا تضييعاً للوقت وتبديداً للجهود، فالعلم ليس كل

شيء، والناس بحاجة فقط إلى تنبيه ووعظ وإرشاد وجلاء للقلوب التي غلب عليها

الران، لأنهم مسلمون، وقلوبهم طيبة، ونياتهم حسنة، ولا يحتاج كبير جهد،

فالعلة فقط هي أنهم انشغلوا بدنياهم عن آخرتهم وبهواهم عن أوامر ربهم، فلذلك

ليسوا في حاجة إلا إلى كلمات الوعظ والنصح والخطب المنبرية التي توقظ القلوب

من غفلتها، وتنفض عنهم غبار الشهوات والشبهات فيعودون إلى الله ربانيين حنفاء.

ومرة رابعة أو خامسة يملي عليه أن مكمن الضعف وسر الانحطاط ليس هذا

أو ذاك، فإن المسلمين ليسوا بحاجة إلى الدروس والخطب فهي تلقى عليهم بكرة

وعشياً، دون أن تغير من واقعهم شيئاً إن الطريق هو الطريق التربوي، فالمسلمون

في أمس الحاجة إلى قدوة حسنة، وأنموذج عملي يسيرون على خطاه، وبذلك

تستقيم خطوات المجتمع كله - حتى وإن كانوا لا يدركون من العلم إلا قليلا! -

والبلسم الشافي حينئذ هو أن يربى شباب الإسلام بخاصة لأنهم عدة الأمة وعتادها

بوسائل التربية المختلفة التي تتفق وروح الإسلام في سلوك عملى، وتعايش واقعي، حتى يمثلوا القدوة المطلوبة للمسلمين بل وللناس أجمعين! .

وأخيراً يجد من يقول له: ألم تقرأ التاريخ؟ ألم تعرف نقطة الانحراف وبداية

خط الانكسار؟ ألم تدر أن المسلمين لم يصبهم ما أصابهم إلا حينما تخلوا عن الجهاد

المقدس، وأعرضوا عن هذه الفريضة العظيمة التي بواسطتها تظهر عزة الإسلام

وقوة المسلمين؟ فلماذا - إذاً - تذهب بعيداً، إن العلاج بين يديك. إنه إحياء هذه

الشعيرة والانخراط في سلك المجاهدين في سبيل الله فإما النصر وإما الشهادة، وهذه

نهاية الأرب وغاية المقاصد ... وماذا تريد بعد الشهادة في سبيل الله؟ .

ويترك صاحبنا تائها في طريق الصحوة، لا يدري أين يسير ... ومن أن

ينطلق. وهل يترك جميع هذه الوسائل؟ وما هو الحل الصحيح إذن؟ هل يسلكها

جميعاً؟ وكيف يتم له ذلك؟ هل يسلك أحدها؟ وماذا يختار منها؟ هل يختار

أشرفها وأرفعها في نظره؟ أم يختار أسهلها وأقصرها عليه؟ ولماذا؟ وما هو

ضابط المسألة؟ ثم ماذا يكون موقفه بعد ذلك من الطرق الأخرى؟ .

والسؤال الأخير الذي نطرحه عليه: أليست جميع هذه الأساليب صحيحة،

وإن كان الخطأ والقصور قد يطرأ على أي منها، وإن كان الإفراط أو التفريط قد

يتسلط على أي منها، ولعل الجواب يكون (نعم) ! ولكن الأمر الذي يندى له الجبين

أن تغيب عن أذهان كثير من سالكي هذه السبل تلك الحقيقة، ويظن كل من سلك

طريقا منها-سواء لقناعته به، أو لميول ورغبات نفسية معينة لديه، أو لقدرات

وملكات وهبها الله إياه، أو لضرورة الواقع والظروف الزمنى، ومتطلبات المرحلة، أو لغيرها من الأسباب -أن هذا فقط هو سبيل الدعوة الصحيح والوحيد. فيظل

يدعو إليه ويضخم هذا الجانب على حساب الجوانب الأخرى، وربما يحققها ويلقي

اللوم على إخوانه السائرين فيها، بل وربما يدعو إلى حصر جهود المسلمين -كل

المسلمين-في رقعة محصورة وزاوية ضيقة فتكون بؤرة مضيئة حقاً، ولكن حولها

هالة كبيرة من الغبش والظلام..

وإنما ظن هذا وأمثاله هذا الظن لغلبة هواه الذي جعله ينظر إلى الأمر من

زاوية ضيقة، أو لأنه يرى أن التوازن والتوافق بين جميع هذه الأساليب ضرب

من المستحيل، وما درى أنها جميعاً روافد تصب في مصب واحد، وأن الجمع

بينها ممكن جداً، والدليل على ذلك أنه وجد في سلف هذه الأمة من تحققت فيه هذه

الجوانب المختلفة، وهو فرد واحد. فهو المعلم، وهو الداعية. وهو المربي.

وهو المجاهد. وهو الواعظ وهو وهو. إلى غير ذلك، فإذا أمكن تحقيق هذا

التوازن في حياة شخص أفلا يمكن تحقيقه في حياة أمة؟

طور بواسطة نورين ميديا © 2015