مجله البيان (صفحة 4603)

دراسات في الشريعة

العلاقات الإسلامية النصرانية

رؤية شرعية في الماضي والحاضر والمستقبل

(2 ـ 2)

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي [*]

العلاقات التاريخية بين المسلمين والنصارى هي الجبهة الساخنة ذات الشوكة

والمواجهة، والكر والفر، والمد والجزر. وقد قصد الكاتب إلى وضع خطوط عامة

بارزة لتكوين خلفية تاريخية؛ يستصحبها الناظر للأحداث الراهنة، ويستشرف بها

المستقبل، فقسم تلك العلاقات إلى مراحل بحسب الأطوار التي مرت بها، فذكر في

العدد السابق: المرحلة النبوية، مرحلة الخلفاء الراشدين، مرحلة عصر الفتوحات،

مرحلة الحروب الصليبية. ويكمل لنا في هذا العدد استعراض مراحل العلاقات

بين المسلمين والنصارى في رؤية شرعية بين الماضي والحاضر والمستقبل.

- المرحلة الخامسة: (690هـ - 1213هـ) :

لم تكد تُطوى صفحة الصليبيين في بلاد الشام، وهم يستقلون مراكبهم هاربين

من عكا سنة تسعين وستمائة (690هـ / 1291م) ؛ حتى فتحت صفحة جديدة

من صفحات المواجهة الإسلامية النصرانية، لكن ميدان المعركة انتقل هذه المرة

إلى الطرف الآخر، وعلى وجه التحديد: الحدود الشرقية للإمبراطورية البيزنطية،

والمتاخمة لممالك السلاجقة المسلمين.

لقد شهد النصف الأخير من القرن السابع الهجري نشأة إمارة صغيرة لقومٍ من

الترك النازحين إلى هضبة الأناضول، فراراً من بطش المغول، وإثر مشاركتهم

في بعض المعارك المحلية منحهم سلطان «قونيه» ثغراً على حدود سلطنته مع

الإمبراطورية البيزنطية، انطلق منه هؤلاء المجاهدون يُثخنون في الأرض،

ويوسعون نفوذهم، حتى تأسست لهم دولة مستقلة على يد أميرهم عثمان بن

أرطغرل، صارت فيما بعد أطول دولة في التاريخ عمراً، عرفت باسم الدولة

العثمانية [1] .

اتجه آل عثمان إلى قتال الروم، ووطئت أقدامهم أراضٍ لم يطأها فاتح مسلمٌ

من قبل. فقد تمكن السلطان عثمان (699 - 726هـ) من توسعة الإمارة التي

ورثها عن أبيه أرطغرل أكثر من ثلاثة أضعاف ما كانت عليه، وتمكن من النفاذ

إلى بحر «مرمرة» سنة سبع وسبعمائة. وفي آخر أيامه تم فتح مدينة بيزنطية

عظيمة هي «بروسه» ، فنقل إليها خليفتُه وابنه السلطان «أورخان» كرسي

مملكته؛ ليكون قريباً من ساحات الفتوحات الجديدة في أوروبا الشرقية، فافتتح

مدينة «نيقوميدية» ، و «أزينق» من بلاد اليونان، وفتح مدينة «غليبولي»

التي تعد مفتاح القسطنطينية؛ في سنة ثمانٍ وخمسين وسبعمائة. وفي عهد ابنه

السلطان الشهيد «مراد الأول» (761 - 792هـ) تم فتح «أدرنة» ، في

العام التالي لحكمه، ونقل إليها عاصمة مملكته، وأخضع معظم الأراضي البيزنطية؛

بحيث صارت «القسطنطينية» محاصرة تماماً بالأراضي العثمانية، والتي

بلغت حدود مملكة الصرب، وبلغاريا، وألبانيا.

وقد تحالف ملوك البوسنة، وصربيا، والمجر ضد العثمانيين إثر سقوط

أدرنة، بمباركة وتأييد من البابا «أربانوس» ، وهاجموا المدينة المفتوحة،

فهزمهم السلطان عندها هزيمة منكرة في سنة خمسٍ وستين وسبعمائة (765هـ /

1363م) .

وتتواصل الفتوح العثمانية حتى تسقط بلغاريا في أيدي المسلمين، ويأسرون

أميرها. وأمام هذا السيل الجارف من الانتصارات؛ يتحالف أمراء أوروبا الشرقية

ضد السلطان مراد الأول، فتدور معركة حامية الوطيس من معارك الإسلام الفاصلة

سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة (792هـ / 1389م) ، عرفت باسم «قوصووه» ،

ينتصر فيها العثمانيون، ويؤسر ملك الصرب، ويُقتل. ولكن السلطان مراد

يقضي نحبه بطعنة غادرة من جندي صربي، وهو يتفقد ساحة المعركة. وقد خلَّف

أراضيَ شاسعة، تبلغ خمسة أضعاف ما ورثه عن أبيه أورخان، في مدى ثلاثين

سنة تقريباً قضاها رحمه الله في الفتوح والجهاد.

وفي عهد ابنه السلطان «بايزيد الأول» ، الملقب بـ «الصاعقة» ؛

استمرت الجيوش العثمانية النظامية المعروفة بـ «الإنكشارية» تنتقص أوروبا

من أطرافها بطموحات عالية، وهمة ماضية، ففتح رومانيا، وألبانيا، وجزيرة

رودس، وحاصر «القسطنطينية» سبعة أشهر كاملة. فقام ملك المجر

«سيجسموند» بالاستنجاد بالبابا لتكوين حملة صليبية أوروبية، حملت شعار:

(سحق الأتراك أولاً، ثم احتلال القدس) . وتجمعت جيوش مَجَريَّة، وألمانية،

وفرنسية، وإنجليزية، وإيطالية، وإسبانية، بلغ تعدادها مائة ألف مقاتل، وعبرت

نهر الدانوب، لتصطدم بجيوش بايزيد الصاعقة، على مقربة من مدينة نيكوبولي

«نيقوبوليس» ، فتُصعق بهزيمة نكراء سنة تسع وتسعين وسبعمائة (799هـ /

1396م) ، كانت هزيمة لأوروبا كلها على يد آل عثمان.

لقد كان بايزيد الصاعقة يطمح إلى اجتياح أوروبا كلها وكان الأوروبيون

يدركون ذلك، فحينئذٍ يتجدد الحلف (النصراني المغولي) الذي سبق أن أبرمه

النصارى مع «هولاكو» ، لكن في هذا المرة مع طاغية مغولي آخر هو

«تيمورلنك» ؛ فـ (في سنة اثنتين وثمانيمائة اجتمع كثير من ملوك الروم الذين

اقتلع ملكهم السلطان يلدرم [2] بايزيد، وساروا إلى تيمور مستغيثين به، يشكون

إليه من السلطان بايزيد، ويرغّبونه في المسير إلى الروم، يستنجدون به عليه في

رد ممالكهم، فأجاب تيمور سؤالهم، وسار بجيوش كثيرة ... ) [3] . وكانت نهاية

هذا السلطان المجاهد أن وقع أسيراً في يد تيمور، وتوفي في عاصمته تبريز.

قام السلطان «محمد الأول» (816 - 824هـ) بلمِّ شعث الدولة بعد

تمزيقها، وإخماد الفتن والانشقاقات، حتى استقرت الأمور، وخلفه ابنه السلطان

«مراد الثاني» (824 - 855هـ) ، وجرت بينه وبين ملوك أوروبا وبابواتها

حروبٌ وملاحم عظيمة، تراوحت بين نصر وهزيمة، ٍ ولكنها أسفرت في نهاية

المطاف عن إخضاع الصرب، والبوسنة، وبلاد المورة، وضرب الجزية على

الأقاليم المجاورة.

ولما آل الأمر إلى «محمد الثاني» (855 - 886هـ) الملقب بالفاتح،

استهل ولايته بالتهيؤ لفتح القسطنطينية، فتم ذلك فعلاً سنة سبعٍ وخمسين وثمانيمائة

(857هـ / 1453م) ، وكان حدثاً مهماً اهتز له العالم الإسلامي فرحاً وسروراً،

وهز أوروبا وسائر النصارى في العالم حزناً وثبوراً. وسقطت الدولة البيزنطية

العريقة، وعُدّ ذلك التاريخ مبدءاً للتاريخ الحديث؛ لجلالة المناسبة، وعميق آثارها.

وتحولت مدينة قسطنطين «القسطنطينية» إلى مدينة الإسلام «إسلامبول» ،

وصارت كنيستها العظمى «أياصوفيا» جامعاً للمسلمين [4] .

وقد تابع السلطان محمد فتوحاته حتى أخضع بلاد المورة، والصرب،

والبوسنة، والأرناؤوط، وألبانيا، إلى سنة إحدى وسبعين وثمانيمائة (871هـ /

1467م) . ثم ولَّى وجهه نحو بلاد القرم، فأخضعها سنة تسع وسبعين وثمانيمائة

(879هـ / 1475م) . أما أهم دولتين في أوروبا ذلك العهد؛ وهما جمهوريتا

البندقية، وجنوة، فقد اضُطرتا للصلح مع السلطان محمد الفاتح، والتنازل عن

كثيرٍ من المواقع.

لقد كان النصف الثاني من القرن التاسع الهجري يمثل قمة تألق الدولة

العثمانية، وقوتها، ونفوذها؛ بحيث لا تساميها دولة من دول العالم آنذاك. وكان

فاتح القسطنطينية يطمح إلى فتح «روما» معقل البابوية؛ لولا أن عاجله الأجل

سنة ست وثمانين وثمانيمائة (886هـ / 1481م) ، بعد حكم دام أكثر من ثلاثين

سنة، أبلاها في الحروب، والفتوح، وتسطير الأمجاد الخالدة، رحمه الله رحمة

واسعة.

وفي نهاية القرن التاسع سجل التاريخ ثلاثة أحداث كبار:

1 - سنة ستٍ وثمانيمائة (886هـ / 1481م) وصل الرحالة البرتغالي

«فاسكو دي جاما» إلى الهند؛ عن طريق رأس الرجاء الصالح.

2 - سنة سبعٍ وتسعين وثمانيمائة (897هـ / 1492م) وصل الرحالة

الإسباني «كريستوفر كولومبس» إلى إحدى جزر الهند الغربية، كما كان يظن،

وتم اكتشاف قارة أمريكا.

3 - في العام نفسه كان سقوط «غرناطة» ، آخر ممالك المسلمين في

الأندلس، على يد النصارى الإسبان، وجرى طرد المسلمين من إسبانيا إلى الشمال

الإفريقي.

لقد كان للحدثين الأولين آثار استراتيجية واقتصادية بالغة الأثر في تغيير

ميزان القوى لصالح الغرب النصراني، كما كان للحدث الثالث أثر نفسي في رد

الاعتبار، والثأر الديني لنصارى أوروبا لقاء الهزائم المتكررة التي مُنوا بها في

الجانب الشرقي من قارتهم، ولا سيما سقوط القسطنطينية.

وتجددت الأمجاد الإسلامية في عهد أشهر سلاطين «آل عثمان» ، وهو

السلطان «سليمان القانوني» (926 - 974هـ) ، الذي هز أركان أوروبا

بفتوحاته العظام، وجهاده الدؤوب، في كل صوب. ومن أشهر مآثره:

- فتح «بلغراد» سنة سبع وعشرين وتسعمائة (927هـ / 1521م) .

- هزيمة الجيش المجري، وحلفائه الألمان، والنمساويين في معركة

«موكر» .

- حصار «فيينا» عاصمة النمسا سنة خمسٍ وثلاثين وتسعمائة (935هـ /

1529م) .

- تجريد حملة عثمانية بقيادة السلطان، عُرفت باسم الحملة العثمانية على

ألمانيا، لتأديب أسرة «هابسبرج» العريقة، اخترقت البلقان، والمجر، والنمسا،

وصولاً إلى ألمانيا، فاضطر فرديناند ملك النمسا؛ إلى التوقيع على معاهدة صلح

مذلة، ودفع جزية سنوية قدرها ثلاثون ألف دوق ذهباً للخزينة العثمانية.

- استعادة مدينة «بودين» المجرية سنة ثمانٍ وأربعين وتسعمائة (948هـ /

1541م) ، وتحويل أضخم كنائسها إلى جامعٍ للمسلمين، وتعيين ملكٍ للمجر من

قِبَل السلطان.

- القضاء على حملة صليبية بإشراف البابا بول الثالث، ومشاركة ملكي

النمسا والمجر سنة إحدى وخمسين وتسعمائة (951هـ / 1543م) ، وإلزامهما

بدفع الجزية.

كانت هذه الانتصارات المجيدة في ميادين القتال البرية، يقابلها على ثبج

البحار انتصارات مماثلة جعلت من البحر الأبيض المتوسط شبه بحيرة عثمانية،

تروح فيها أساطيلهم وتغدو، كما جحافلهم البرية، فمن أشهر الوقائع البحرية في

عهد السلطان سليمان القانوني:

1 - فتح جزيرة «رودس» سنة ثمانٍ وعشرين وتسعمائة (928هـ /

1522م) .

2 - كسر الأسطول الصليبي المتحالف في موقعة «بَرَوَزة» سنة خمسٍ

وأربعين وتسعمائة (945هـ / 1538م) ، الذي دعا لتكوينه البابا «بول الثالث» ، وقاده أشهر القادة البحريين في العالم حينذاك «أندريا دوريا» ، وضم ثلاثمائة

قطعة بحرية. فهزمهم القائد العثماني «خير الدين برباروس» ، والذي لم يكن

تحت يده سوى مائة وعشرين قطعة.

3 - هزيمة أسطول «شرلكان» ملك الألمان سنة ثمان وأربعين وتسعمائة

(948هـ / 1541م) ، وصده عن مهاجمة الجزائر.

4 - تحرير «طرابلس الغرب» من احتلال فرسان مالطة النصارى،

ومحاصرتهم سنة تسع وخمسين وتسعمائة (959هـ / 1552م) ، على يد قبطان

البحر العثماني «طورغود رئيس» .

5 - كما قامت القوات البحرية العثمانية بأربع حملات بحرية تأديبية

للبرتغاليين المعتدين على مسلمي الهند، بعد اكتشافهم طريق رأس الرجاء الصالح،

منذ عام أربعٍ وأربعين وتسعمائة (944هـ / 1538م) إلى أربعٍ وستين وتسعمائة

(964هـ / 1557م) .

توفي السلطان سليمان القانوني، بعد حكم دام ثمانٍ وأربعين سنة، عام أربعٍ

وسبعين وتسعمائة (974هـ / 1566م) .

يقول الدكتور محمد حرب: (كان عهد القانوني قمة العهود العثمانية، سواءً

في الحركة الجهادية، وفي الناحية المعمارية، والعلمية، والأدبية، والعسكرية.

كان هذا السلطان يؤثر في السياسة الأوروبية تأثيراً عظيماً، وبمعنى أوضح؛ كان

هو القوة العظمى دولياً في زمنه، نعمت الدولة الإسلامية العثمانية في عهده بالرخاء

والطمأنينة) [5] .

شهد آخر القرن العاشر، بعد وفاة سليمان القانوني، فتح العثمانيين لجزيرة

«قبرص» ، وانتزاعها من أهل «البندقية» ، سنة تسع وسبعين وتسعمائة

(979هـ / 1751م) ، ثم أعقبه اتحاد نصراني مكون من إسبانيا، والبندقية،

والبابوية، أخذوا المسلمين على حين غرة، وهزموهم في معركة «لينتر البحرية»

في السنة نفسها.

أما القرن الحادي عشر الهجري فقد كان قرناً جهادياً، حافظ العثمانيون فيه

بشكلٍ عام على تفوقهم العسكري، وأخضعوا الشعوب الأوروبية المتمردة، كما

أضافوا عدداً من الفتوحات والانتصارات المهمة.

ومن أبرز أحداث ذلك القرن على صعيد العلاقات الإسلامية النصرانية:

1 - فتوح في المجر، زمن السلطان «محمد الثالث» (1003 -

1012هـ) ، ثم نصر عظيم على التحالف الأوروبي في سهل «كرزت» ،

سنة أربعٍ بعد الألف (1004هـ / 1596م) .

2 - تأديب المتمردين من أهل بولونيا، وهم من القوزاق، والقضاء على

المتحالفين معهم من الروس، والفرنسيين، والنمساويين، سنة ثلاثين بعد الألف

(1030هـ / 1621م) .

3 - انتزاع جزيرة «كريت» من البنادقة، سنة ثمانين بعد الألف

(1080هـ / 1669م) .

4 - غزو بولندا سنة ثلاث وثمانين بعد الألف (1083هـ / 1672م) .

5 - حصار مدينة «فيينا» سنة إحدى وتسعين (1091هـ / 1680م) ،

ثم حصارها مرة ثانية سنة أربعٍ وتسعين (1094هـ / 1683م) ، وتم فك

الحصار على أيدي قوات مشتركة من النمسا، وألمانيا، وبولونيا، وسائر الأمم

الأوروبية، وأوقعت بالمسلمين خسائر فادحة. ويبدو أن هذه الحادثة رفعت

معنويات النصارى المنحطة، وأيقظت فيهم روح الأمل في التحرر من الهيمنة

العثمانية. ويصف أحمد زيني دحلان تلك التغييرات بقوله: (.. وبعد تلك الوقائع

الشديدة، والحروب المهولة، أخذ البابا يحرض أهل أوروبا على طرد المسلمين من

قرة بلادهم، فاجتمعت العساكر من كل الجهات، وعزموا على إخراج المسلمين من

أوروبا ... وزحفوا على بلاد الدولة العثمانية من جميع الأطراف، فكانت عساكر

الدولة تحارب الإفرنج من جملة أماكن، والبابا يحرض الإفرنج على التجلد والقتال،

وأنجدهم بجيوش كثيرة) [6] .

وفعلاً؛ مُني العثمانيون في نهاية القرن الحادي عشر بخسائر فادحة، بلغت

إلى حد حصار النمساويين لبلغراد. وبعد معارك متعددة في عهد السلطان

«مصطفى الثاني» (1106هـ / 1615م) تراوحت بين النصر والهزيمة؛

وقعت معاهدة «كارلونز» سنة عشر ومائة بعد الألف (1110هـ / 1699م) .

لقد تم في هذه المرحلة نشر الإسلام في مواطن كثيرة من آسيا، وأوروبا، لم

تبلغها دعوة الإسلام من قبل، واعتنقت شعوب وأعراق بأكملها هذا الدين في فترة

وجيزة. فقد اعتنق الألبان الإسلام، وظلوا يشكِّلون غالبية سكان ألبانيا على الرغم

من عمليات التهجير والاضطهاد النصراني، والشيوعي، والتي تمت فيما بعد. كما

دخل «البوغوميليون» [7] في دين الإسلام أفواجاً، في بلاد البوشناق، وبلغاريا،

وغيرهما. كما انتشر الإسلام في رومانيا، واليونان، وقبرص. وكذلك الحال في

الجانب الآسيوي من القرم، والشراكسة «الداغستان» وغيرهم. وامتزجت هذه

القوميات في هذا الكيان الإسلامي الكبير، وانتقلت أعداد كبيرة من الألبان،

والأرناؤوط، والشركس، والقرم إلى المشرق الإسلامي؛ في مصر، والشام،

والعراق. كما استقر عشرات الآلاف من الأتراك المسلمين في البلاد المفتوحة شرق

أوروبا، وأشادوا معالم الإسلام التي لا تزال شواهدها باقية حتى يومنا هذا في دول

البلقان. وصار المسلمون على الرغم من كل ما تعرضوا له من صنوف القهر

والفتنة، ولا يزالون جزءاً لا يتجزأ من بنية الشعوب الأوروبية الشرقية. ولولا

الوضع القلق، والفتن، والقلاقل المتتابعة، لاعتنقت تلك الشعوب الإسلام

بالكلية.

أما القرن الثاني عشر الهجري، فقد كان قرن المجابهة مع الروس الذين

نهضت دولتهم على يد قيصرهم «بطرس الأكبر» ، والذي اعتدى على الأراضي

العثمانية في «أزاق» ، فأعلنت إستانبول الحرب على روسيا سنة ثلاث وعشرين

بعد المائة والألف (1123هـ / 1711م) ، وانتصرت على القوات الروسية عند

نهر «بروث» ، حتى حاق الخطر بالقيصر، فلجأت زوجته «كاترينا» إلى

إبرام معاهدة «بروث» المذلة لهم. ثم استغلت روسيا انشغال العثمانيين بمحاربة

العجم فتحالفت مع النمسا، وأشهرت الحرب ضدهم، فمنيتا بالهزيمة سنة ثمانٍ

وأربعين (1148هـ / 1735م) .

وهكذا انقضى النصف الأول من القرن الثاني عشر، وكفة المسلمين راجحة

على الروس، بالإضافة إلى استرجاع بلاد المورة من جمهورية البندقية، سنة سبعٍ

وعشرين (1127هـ / 1715م) . أما النصف الثاني منه، فكانت الكفة تميل فيه

لصالح الروس؛ فقد هُزم العثمانيون في موقعة «شكزم» ، سنة اثنتين وخمسين

(1152هـ / 1715م) . وتبعها توقيع معاهدة بين الطرفين في بلغراد، وسرعان

ما نقضت «كاترينا الثانية» ، ملكة روسيا، المعاهدة، واعتدت على بلاد

«القرم» ، فأعلنت الدولة العثمانية الحرب على روسيا سنة اثنتين وثمانين

(1182هـ / 1768م) ، ولكنها هُزمت في معركة «جزيرة خيوش» البحرية،

سنة أربعٍ وثمانين (1184هـ /1770م) . ثم عقدت معاهدة «كجوق كينارجه»

سنة 1188هـ، ثم معاهدة «القسطنطينية» سنة 1198هـ إثر ضم روسيا بلاد

القرم إليها سنة (1197هـ / 1783م) . واستمر التفوق الروسي في مطلع

القرن الثالث عشر على حساب الممالك العثمانية في صربيا، والمجر، حتى

أُبرمت معاهدة «باسي» ؛ بتوسط دولة إنجلترا، ودولة بروسيا.

لقد شاخ هذا المحارب القديم، وأثخنته الجراحات الداخلية والخارجية،

وتكالبت عليه الأعداء ينهشونه من كل جانب، وهو يحاول أن يستمسك ويستقيم،

ولكنه يترنح ويهتز أمام أمم فتية، ناشطة، يؤلف بينها الحقد الصليبي، وتراث

التاريخ، كما يطعن في خاصرته الباطنيون من أحفاد هولاكو، وتيمورلنك، في

أجزاء كثيرة من بدنه المترهل.

- المرحلة السادسة: (1213هـ - 1368هـ) :

تمثل هذه المرحلة فترةً تمتد من قيام الحملة الفرنسية على مصر، سنة ثلاثة

عشر بعد المائتين وألف (1213هـ / 1798م) ، وتنتهي بالإعلان عن قيام دولة

يهود (إسرائيل) ، فوق أرض فلسطين عام (1368هـ / 1948م) .

والسمة العامة لهذه المرحلة هي التقهقر السياسي، والعسكري، والعلمي،

للأمة الإسلامية، مقابل النمو الأوروبي المطرد في جميع المجالات المادية؛ مما

أفضى إلى انهيار الخلافة العثمانية، وطي بساطها من أوروبا الشرقية، ثم احتلال

البلدان الإسلامية العريقة من قِبَل الاستعمار الأوروبي؛ بشكل لم يسبق له مثيل،

حتى في الحروب الصليبية.

والمتغير الوحيد في هذه المرحلة عن مرحلة الحروب الصليبية؛ أن

الحكومات الأوروبية المتأثرة بالثورة الفرنسية (1789م) العلمانية؛ باتت أكثر

دهاءً، وغزت المجتمعات الإسلامية بأسلحتها المتفوقة، تحت شعارات منمقة لا

تحمل الطابع الديني الصليبي، بل تحاول أن تتجنب استفزاز المشاعر الإسلامية،

وتتستر تحت لافتات سياسية مثل: «الانتداب» و «الوصاية» و «الحماية»

... إلخ.

ومن أبرز الحوادث التاريخية التي ترسم معالم هذه المرحلة، ما يلي:

1 - الحملة الفرنسية على مصر: سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف

(1213هـ / 1798م) . بعد عشر سنوات تقريباً من قيام الثورة الفرنسية جرد

«نابليون بونابرت» حملة بحرية للاستيلاء على مصر؛ أسوة بأسلافه الصليبيين

الذين كان آخرهم «لويس التاسع» .

2 - الحملة الإنكليزية على مصر: سنة اثنتين وعشرين ومائتين وألف

(1222هـ / 1807م) ، فاستولوا على الإسكندرية في محرم، ثم تصدى لهم

«محمد علي باشا» (1183 - 1265هـ) فهزمهم، وعقد معهم صلحاً،

فغادروا البلاد في شهر رجب من تلك السنة [8] .

3 - ثورة اليونان: أدى الضعف الذي أصاب الدولة العثمانية، وهزائمها

المتوالية أمام الجيوش الروسية في البلقان، إلى طمع اليونانيين في الاستقلال.

فشبت نار الثورة في بلاد المورة، سنة سبع وثلاثين ومائتين وألف (1237هـ /

1826م) ، فعقدت الدول الأوروبية الكبرى مؤتمراً في لندن ذلك العام، بدعوى

الاحتجاج على الممارسات غير الإنسانية لإبراهيم باشا، ودمروا السفن العثمانية

والمصرية، واحتلت فرنسا بلاد المورة سنة أربع وأربعين (1244هـ / 1828م) ،

ثم أرغمت روسيا، والدول الأوروبية العثمانيين على القبول باستقلال اليونان

في معاهدة «أدرنة» ، سنة خمسٍ وأربعين ومائتين وألف (1245هـ / 1829م) .

4 - احتلال فرنسا للجزائر: سنة ست وأربعين ومائتين وألف (1246هـ /

1830م) بدعوى أن أهلها كانوا يعتدون على مراكبهم البحرية! وظلت الجزائر

رهينة الأسر مدة مائة وخمسة وثلاثين عاماً، حتى انسحابهم منها سنة إحدى

وثمانين وثلاثمائة وألف، تحت وطأة الجهاد الإسلامي المستميت (1381هـ /

1962م) .

5 - احتلال الإنكليز لعدن، والسيطرة على مضيق باب المندب: سنة أربع

وستين ومائتين وألف (1264هـ / 1839م) . وقد بقيت تحت نير الاحتلال حتى

سنة سبع وثمانين وثلاثمائة وألف (1387هـ / 1967م) .

6 - سقوط رومانيا، واستقلالها عن الدولة العثمانية: سنة ثلاث وسبعين

ومائتين وألف (1273هـ / 1857م) ، بعد حكم دام أكثر من أربعة قرون

ونصف.

7 - حرب القرم: بين الحكومة العثمانية وحلفائها الإنكليز والفرنسيين من

جهة، وروسيا من الجهة الأخرى، سنة تسع وستين ومائتين وألف (1269هـ /

1853م) ؛ بسبب تحرشات الروس بالعثمانيين، وإهانتهم إياهم. واستمرت حتى

توقيع معاهدة «باريس» ، سنة ثلاث وسبعين (1273 هـ / 1856م) . وقد

أنهكت هذه الحرب الدولة العثمانية، وفقدت أجزاء من أراضيها، وزادت من نفوذ

الإنكليز، والفرنسيين، في سياسات الحكومة العثمانية تجاه الأقليات النصرانية.

8 - سقوط الهرسك: سنة ثلاث وتسعين ومائتين (1293هـ / 1876م)

بمساندة الروس، والدول المجاورة، في أول ولاية السلطان عبد الحميد الثاني، وقد

امتدت الحرب، وتقهقر العثمانيون إلى قرب أدرنة. وأعقب ذلك معاهدة تقضي

بتملك الروس لتلك البلاد، ويبقى للعثمانيين أدرنة، عاصمتهم القديمة، وما يليها

إلى إستانبول، مع تحميلهم دفع غرامة الحرب. وتلتها معاهدة «برلين» 1878م

التي كانت أشد إذلالاً.

9 - احتلال الفرنسيين تونس: سنة سبعٍ وتسعين ومائتين وألف (1297هـ /

1881م) ؛ بدعوى تأديب بعض قبائل العرب المعتدين! وظلت تونس بأيديهم

ثمان وسبعين سنة، حتى نالت استقلالها سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف

(1375هـ / 1956م) .

10 - احتلال الإنكليز لمصر: سنة ثمانٍ وتسعين ومائتين وألف (1298هـ /

1882م) للقضاء على ثورة «عرابي باشا» ، والتحكم في ولاتها من أحفاد

محمد علي باشا، ثم احتلال السودان تبعاً لمصر. وقد ظل الإنكليز في مصر حتى

سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة (1373هـ / 1954م) ، وفي السودان إلى ما بعد

ذلك بسنتين.

11 - انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول: في مدينة «بال» بسويسرا سنة

1897م، والذي ضم زعامات اليهود في العالم، لرسم الخطط للسيطرة على العالم،

وإنشاء وطنٍ قومي لهم في فلسطين.

12 - سقوط بلغاريا: سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وألف (1328هـ /

1908م) ، بعد حكم دام أكثر من خمسة قرون.

13 - قيام ثورة جمعية الاتحاد والترقي العلمانية التركية، وخلع السلطان

عبد الحميد الثاني: سنة تسع وعشرين وثلاثمائة وألف (1329هـ / 1909م) ،

والذي كان آخر خليفة عثماني فعلي، وذلك لوأد فكرة الجامعة الإسلامية التي صار

يدعو إليها لمواجهة التسلط الأوروبي.

14 - سقوط ألبانيا وانتزاعها من الدولة العثمانية: سنة اثنتين وثلاثين

وثلاثمائة وألف (1392هـ / 1912م) بعد حكم إسلامي دام قرابة أربعة قرون

ونصف.

15 - احتلال فرنسا لمراكش، وتقاسمها مع إسبانيا الأراضي المغربية:

سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة وألف (1321هـ / 1955م) ، حتى نالت

الاستقلال سنة خمس وسبعين وثلاثمائة وألف (1375هـ / 1955م) . وبقيت

مدينتا «سبتة» و «مليلة» تحت الحكم الإسباني إلى الآن.

16 - احتلال إيطاليا لليبيا: سنة أربعٍ وثلاثين وثلاثمائة وألف (1334هـ /

1914م) . وقد ظلت أسيرة في أيديهم قرابة نصف قرن حتى سنة إحدى وسبعين

وثلاثمائة وألف (1371هـ / 1951م) .

17 - إبرام اتفاقية (سايكس - بيكو) : سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف

(1326هـ / 1916م) بين فرنسا، وبريطانيا، بشأن اقتسام المنطقة العربية

المتبقية من تركة الرجل المريض، أي الدولة العثمانية، وهي العراق، وسوريا

الكبرى، والخليج العربي، وفلسطين، والأردن، باسم «الحماية» لحكومات

مصطنعة، تنشأ بعد مسرحية (الثورة العربية الكبرى) التي يعلنها الشريف حسين

بن علي في الحجاز؛ ضد العثمانيين في تلك السنة، وتُدعم من قِبَل طرفي الاتفاقية.

وقد كشف البلاشفة بنود هذه الاتفاقية في العام التالي.

18 - صدور وعد رئيس وزراء بريطانيا «بلفور» : سنة سبع وثلاثين

وثلاثمائة وألف (1337هـ / 1917م) بتعهد من الحكومة البريطانية لليهود

بإنشاء وطن قومي للشعب اليهودي فوق أرض فلسطين. وفي العام نفسه دخل القائد

الإنكليزي «اللنبي» مدينة القدس هاتفاً: (الآن انتهت الحروب الصليبية) . كما

دخلوا بغداد، وفي السنة التالية دخل الفرنسيون بيروت.

19 - اندلاع الثورات العربية في فلسطين، وسوريا، ضد الانتداب الأجنبي:

سنة أربعين وثلاثمائة وألف (1340هـ / 1920م) ، وقمعها من قبل القوات

الغازية المتفوقة عسكرياً، كما في موقعة «ميسلون» ، قرب دمشق في العام نفسه.

وتتبع الإنجليز لفصائل المجاهدين التابعين لعز الدين القسام رحمه الله، في

فلسطين. ثم توقيع معاهدات استعمارية مع الحكومات المحلية في كل من سوريا،

وفلسطين، ولبنان، والعراق، ومصر، سنة ست وثلاثين وثلاثمائة وألف

(1336هـ / 1956م) .

20 - إلغاء الخلافة الإسلامية العثمانية: سنة أربع وأربعين وثلاثمائة وألف

(1344هـ / 1924م) ، بعد حكم دام أكثر من ستة قرون. وانتخاب مصطفى

كمال أتاتورك رئيساً للجمهورية التركية العلمانية الحديثة. وكان ليهود «الدونمة»

الدور الأكبر في اتخاذ هذه الخطوة الخطيرة، ومن خلفهم المؤتمر الصهيوني

العالمي؛ بإثارة الفتن وتشويه صورة السلطان عبد الحميد الثاني، وتأسيس

الجمعيات المناوئة في داخل تركيا وخارجها [9] .

هكذا بدا العالم الإسلامي في القرن الثالث عشر الهجري، إلى منتصف القرن

الرابع عشر، (التاسع عشر الميلادي، إلى منتصف القرن العشرين) !! بدت

صورته كئيبة قاتمة؛ هزائم متلاحقة، فوضى سياسية، جهل، وبدع، وانحرافات

عقدية، ومسلكية، تخلف في جميع مناحي الحياة الفكرية والمادية أزمة ثقة بين

شعوبه، وتحالف مع الأعداء أحياناً، في مقابل قفزات سريعة لدى الأمم النصرانية

في مجال الإعداد المادي، والقوة الصناعية، والعسكرية، والاقتصادية، وتنسيق

دائب على اقتسام التركة، وإذلال الورثة. أدى هذا وذاك إلى قطع شجرة الخلافة

الإسلامية الجامعة من أصلها، بفرع من فروعها، وبأيدي أبنائها، أو هكذا يبدو

ظاهراً على الأقل. ثم نهب ميراث الأيتام وعيونهم زائغة.

لقد كانت الحركات الإسلامية الجهادية التي ظهرت في أجزاء من العالم

الإسلامي إبان فترة الاستعمار الحديث، كانتفاضات الطير الذبيح، سرعان ما

أُخمدت أنفاسه.

جاء النصارى، هذه المرة، دون صلبان، يتقدمهم المستشرقون، وليس

القسس، ويفاوضون بقناصلهم، ومندوبيهم السامين، لا ببطرس الناسك. إنهم هذه

المرة لا يهدمون الجوامع، ويحولونها إلى كنائس وكاتدرائيات، ولكنهم يظهرون

تعظيم الدين والمشايخ، ويدغدغون مشاعر العامة والدهماء. لقد فقهت أوروبا

النصرانية درس الحروب الصليبية، وتحاشت أن تنجب الاستفزازات الدينية أمثال

«نور الدين زنكي» ، و «صلاح الدين الأيوبي» ، و «الظاهر بيبرس

البندقداري» .

جاء النصارى، هذه المرة، باسم السياسة لا برسم الدين، فحققوا ما لم يحققه

أسلافهم المتعصبون. لقد أوهنوا عرى الدين في المجتمعات الإسلامية، وغزوا

الأفكار قبل الديار، وغسلوا الأدمغة، وهزوا الثوابت والعقائد، ونشروا الرذيلة

باسم الحرية، ونفخوا في صورة أهل الذمة باسم حماية الأقليات، وأَحَلُّوا الفكرة

«العلمانية» محل الفكرة الدينية، واستنطقوا بذلك رجالاً من بني جلدتنا،

يتكلمون بألسنتنا.

فيا لها من داهية على المسلمين عظيمة، ونازلة لم يشهد تاريخ الإسلام لها

نظيراً. فالرزايا والبلايا التي وقعت في تاريخ هذه الأمة تكون على الأبدان،

والأموال، والبلدان، ولكن هذه الداهية الأخيرة تستأصل العقول والأفكار، وتورث

الردة والإلحاد، وقد كان؛ فكم التهمت نار المبادئ الضالة التي ولدت، وترعرعت،

في حضن هؤلاء المستعمرين من أبناء هذه الأمة، وسخرتهم في تدميرها. ولولا

أن الله تعالى تكفل بحفظ الذِّكر، وتجديد الدِّين، وبقاء الطائفة المنصورة، وإلا

لكان الإسلام نسياً منسياً.

وبعد هذه القراءة التاريخية لأبرز الأحداث التي رسمت حدود العلاقات

الإسلامية الكتابية، في مراحلها المختلفة، على مدى أربعة عشر قرناً هجرياً، في

مدٍ وجزر على شواطئ البحر الأبيض المتوسط، والدول المطلة عليه، حيث جرت

معظم هذه الوقائع، ندرك مقدار الكم الكبير من الصور والذكريات التي تختزنها كلٌ

من الذاكرتين الإسلامية والنصرانية، وتستدعيها كلما تجدد لونٌ من ألوان المجابهة

والتَّماس. لقد كانت علاقة ساخنة لا تبرد، هادرةً لا تهدأ، متصلة لا تنقطع، أشبه

ما تكون بمعركة حامية الوطيس لا يكف طرفاها عن الكر والفر إلا أن يفنى صاحبه.

إن الذاكرة النصرانية لا يمكن أن تنسى كيف طوي بساطها، وقلص ظلها عن

مقدساتها، ومهد مسيحها، وأرض التوراة والإنجيل، وانتزعت من يدها مواطن

أشرف كنائسها في بيت المقدس، والإسكندرية، وأنطاكية، والقسطنطينية،

وصارت الأرض التي تدر عسلاً ولبناً دار إسلام، فما كان لهم أن يدخلوها إلا

خائفين.

لقد رُوعت النصرانية حين اخترقت جحافل الإسلام شمال إفريقيا، وعبرت

مضيق جبل طارق، واستوعبت شبه الجزيرة الأيبيرية (إسبانيا والبرتغال) ، ثم

تسلقت جبال البرانس، لتمكث في جنوب فرنسا سبعين سنة.

إن الذاكرة النصرانية لا يمكن أن تنسى كابوس العثمانيين، الذين دوخوا

أوروبا، وأَقَضُّوا مضاجع البابوية عدة قرون، وأخضعوا عواصم البلقان تحت

سنابك خيولهم، وهدموا أسوار القسطنطينية، وبلغراد، وبودابست بمدافعهم

العملاقة، وحاصروا «فيينا» ثلاث مراتٍ، وطموحهم لا يقف إلا عند روما،

معقل النصرانية. ولهذا يصب النصارى لعناتهم على الأتراك، ليل نهار، في

أدبياتهم، فضلاً عن صلواتهم.

وبالمقابل؛ فإن الذاكرة الإسلامية لا يعزب عنها تلك الفظائع التي أنزلها

الصليبيون، بوحشية وهمجية، في بيت المقدس، وسواحل الشام، على مدى

قرنين من الزمان. رولا ينسى المسلمون حرب الاستعادة الإسبانية التي جازتهم

على ما ساقوه إلى الأندلس من علمٍ وحضارة جزاء «سنمار» ، وطردتهم شر

طردة، ثم أتبعتها بمأساة «الموريسيكيين» [10] التي تعد من أعظم مآسي التاريخ.

وكيف يغيب عن بال المسلمين صور الإذلال والقمع التي أحلها الغزاة

النصارى بديار الإسلام، على يد نابليون في مصر، وفظائع الروس بالعثمانيين في

بلاد البلقان، والقرم، والداغستان، وأواسط آسيا. وأخيراً تقاسم الدول الأوروبية

لتركة «الرجل المريض» ، كما يقسم المتاع، فيمتصون خيراتها، ويذيقون أهلها

الذل والهوان.

إنه إرث تاريخي لا يتجاهله إلا مغفل مغرور، بلغت به السذاجة مبلغاً عظيماً،

فصار ألعوبةً بيد أعدائه المستبصرين. وهو إرث يتفق اتفاقاً تاماً، جملةً

وتفصيلاً، مع الثوابت العقدية لدى المسلمين في نظرتهم نحو النصارى، ومفرداته

شواهد واضحة كالشمس في رابعة النهار.

- المرحلة السابعة: (المرحلة الراهنة) :

تمثل هذه المرحلة مرحلة الإذلال النصراني، المتلفع بالعباءة الدولية، للأمة

الإسلامية عامة، والعربية خاصة. فالاستعمار النصراني قد حمل عصاه، ورحل

إلى بلاده فعلاً، ولكنه زرع في جسم الأمة الإسلامية نوابت دخيلة. وطعنها عدة

طعنات نجلاء، خلَّفت جروحاً غائرة، لم تتعافَ الأمة منها بعد!!

تبتدئ هذه الفترة منذ أن استنبت النصارى الإنكليز دولة يهود على تراب

فلسطين سنة (1368هـ / 1948م) ، لتحقيق رؤاهم التوراتية التي تفترض

وجود مملكةٍ لأبناء يهوذا، ليتم القدوم الثاني للمسيح. وتمكن النصارى من تقطيع

أوصال الأمة الإسلامية إرباً إرباً، ورسموا بينها حدوداً دولية، بعد أن كانت أمةً

واحدة، يسير المرء من أقصاها إلى أدناها دون أن يُسأل عن هويته. كما استخلف

المستعمرون النصارى على الممالك الإسلامية أنظمةً مواليةً لهم، أو مسالمة، قبل

أن يمنحوها استقلالاً خداجاً، لم يُعِد الأمة إلى سيرتها الأولى، ولم يصبغها بصبغة

الله.

استقلت الدول الإسلامية فوجدت نفسها في عالم متغير بعد الحرب العالمية

الثانية، عالمٍ يرفع شعارات السلام الدولي، والمواثيق الدولية، والتي تعلن المساواة

بين شعوب العالم في الحقوق والواجبات، وتدعو إلى نبذ التمييز على أساس الدين،

والعرق، واللون. وكوّن لتمثيل هذه المبادئ وتطبيقها منظمة عالمية، عُرفت

باسم «هيئة الأمم المتحدة» ، تأسست عام 1945م، وتفرعت عنها الهيئات،

والمنظمات، واللجان العالمية التي تنتظم العالم بخيط واحد، وفق معايير متساوية،

على الأقل من الناحية النظرية [11] .

وعلى الرغم من هذا التظاهر الدولي من قبل النصارى، بإقصاء البعد الديني

في السياسة الدولية، والتستر وراء مسوِّغات اقتصادية، واستراتيجية، وأمنية،

وإنسانية؛ فإنها لم تفلح في حجب الدوافع الدينية المتأصلة لدى القوم، خلال هذه

الفترة، كما تشهد بذلك عشرات الشواهد، مثل:

1- الدعم المتواصل والمتنامي لدولة إسرائيل، من قِبَل جميع الدول

النصرانية.

2- اضطهاد المسلمين في الفلبين من قِبَل الحكومات النصرانية المتعاقبة.

3- اضطهاد الأكثرية المسلمة في الحبشة، وتنزانيا، والعديد من الدول

الإفريقية؛ من قِبَل الأقليات النصرانية الحاكمة.

4- الإبادة الجماعية لمسلمي البوسنة والهرسك، ثم مسلمي كوسوفا، من قبل

الصرب والكروات، في التسعينيات الميلادية.

5- دعم الدول النصرانية للحركات الانفصالية، والأقليات النصرانية في

السودان، وإندونيسيا.

6- الغزو العسكري النصراني لأراضي أفغانستان، والعراق.

لقد بذل النصارى جهدهم، واستفرغوا وسعهم؛ لتنشئة جيل من المسلمين

مبتوت الصلة بعقيدته، مغيَّب عن تاريخه، معمّىً عن حقيقة واقعه. ولكن أصالة

الإسلام من جهة، وتعصب النصارى وعدوانهم السافر من جهة أخرى؛ يوقظ

الحمية الدينية الفطرية التي لا تلبث أن تصبح حركةً واعية، تعيد إلى الأمة كرامتها،

ومكانتها، والقيام برسالتها العالمية.

- المرحلة الأخيرة:

لقد استيقظ المسلمون صبيحة الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م؛ ليجدوا

أنفسهم يتضيَّفون لمرحلة جديدة من مراحل علاقتهم بأهل الكتاب عامة، والنصارى

خاصة. فقد غاب البعد الديني عن الصدارة، في تلك العلاقة، قريباً من ثمانين

سنة، وتحديداً: منذ إلغاء الخلافة العثمانية عام 1924م، ونشوء الحكومات المدنية

(العلمانية) في معظم أرجاء العالم الإسلامي، وانخرط الجميع في معاهدات دولية

ذات صبغة دنيوية، تُقصي الصفة الدينية لمختلف الأطراف، أو هكذا يبدو على

الأقل، ولكنه وضع مؤقت يوشك أن يتهاوى وينهار أمام سنن الله الكونية، فيعود

الأمر جذعاً، وينحاز الناس إلى فسطاطين؛ فسطاط إيمان لا نفاق فيه، وفسطاط

كفر لا إيمان فيه. وسيظل قطباها: المسلمون والنصارى.

إن هذه العلاقة العدائية ستظل إلى يوم القيامة عداوةً أبدية، لإخبار الله

ورسوله صلى الله عليه وسلم بذلك، بحكم اختلاف الاعتقاد من جهة، ولما يتميز به

هؤلاء النصارى، ممثلين بالروم، من صفاتٍ وخصائص نوعية من جهة أخرى

تبقي لهم أسباب القوة المادية، والشوكة الحربية، فلا يزال الناس يجدون منهم بأساً.

روى مسلم رحمه الله أن المستورد القرشي رضي الله عنه، قال عند عمرو

بن العاص رضي الله عنه: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (تقوم

الساعة والروم أكثر الناس) ، فقال له عمرو: أبصر ما تقول. قال: أقول ما

سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: لئن قلت ذلك، إن فيهم لخصالاً

أربعاً: إنهم لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد

فرةً، وخيرهم لمسكين ويتيم، وضعيف. وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم

الملوك) [12] . وفي لفظ عند مسلم أيضاً: (وأجبر الناس عند مصيبة، وخير

الناس لمساكينهم، وضعفائهم) [13] . وعنه رضي الله عنه قال: بينا أنا عند عمرو

بن العاص، فقلت له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (أشد الناس

عليكم الروم، وإنما هلكتهم مع الساعة) ، فقال له عمرو: ألم أزجرك عن مثل هذا

[14] .

قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الفتن والملاحم التي تكون في آخر

الزمان بين أهل الإسلام وعبدة الصلبان؛ بما لا يدع مجالاً للشك في أبدية هذه

العداوة، وأن ما يجري منهم من مجاملات، إنما هو قشرة رقيقة ظاهرة، تخفي

تحتها عداوة متأصلة، وكيداً خفياً، وإحناً، وأحقاداً، لا يطفئ لهيبها إلا أن نتبع

ملتهم، عياذاً بالله.

ومن أمثلة هذه الأحاديث الصحيحة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا

تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق، أو بدابق [15] ، فيخرج إليهم جيش من

المدينة، من خيار أهل الأرض يومئذٍ، فإذا تصافُّوا قالت الروم: خلُّوا بيننا وبين

الذين سبوا منا نقاتلهم. فيقول المسلمون: لا والله! لا نخلي بينكم وبين إخواننا.

فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً، ويُقتل ثلثهم، أفضل الشهداء عند

الله، ويفتتح الثلث لا يفتنون أبداً. فيفتحون قسطنطينية، فبينا هم يقتسمون الغنائم،

قد علَّقوا سيوفهم بالزيتون؛ إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في

أهليكم. فيخرجون، وذلك باطل، فإذا جاؤوا الشام خرج، فبينا هم يُعِدُّون للقتال،

يسوون الصفوف إذ أقيمت الصلاة؛ فينزل عيسى ابن مريم عليه السلام، فأمَّهم،

فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لانذاب حتى يهلك،

ولكن يقتله الله بيده، فيريهم دمه في حربته) [16] .

وعن يُسيرِ بن جابر قال: هاجت ريح حمراء بالكوفة، فجاء رجلٌ ليس له

هِجِّيرى [17] إلا: يا عبد الله بن مسعود، جاءت الساعة. قال: فقعد، وكان متكئاً

فقال: إن الساعة لا تقوم حتى لا يُقسم ميراث، ولا يُفرح بغنيمة. ثم قال بيده هكذا،

ونحّاها نحو الشام فقال: عدوٌّ يجمعون لأهل الإسلام، ويجمع لهم أهل الإسلام.

قلتُ: الروم تعني؟ قال: نعم، وتكون عند ذاكم القتال ردَّةٌ شديدة، فيشترط

المسلمون شُرطَة [18] للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل،

فيفيء هؤلاء وهؤلاءِ كلٌّ غير غالب، وتفنى الشُّرطة، ثم يشترط المسلمون شُرطة

للموت لا ترجع إلا غالبة، فيقتتلون حتى يحجز بينهم الليل، فيفيء هؤلاء وهؤلاء

كلٌّ غير غالب، وتفنى الشُّرطة، ثم يشترط المسلمون شرطة للموت لا ترجع إلا

غالبةً، فيقتتلون حتى يمسوا، فيفيء هؤلاء وهؤلاء كلٌّ غير غالب، وتفنى

الشرطة. فإذا كان اليوم الرابع نهد إليهم بقية أهل الإسلام فيجعل الله الدَّبْرَة [19]

عليهم، فيقتلون مقتلةً إما قال: لا يرى مثلها. وإما قال: لم يُرَ مثلها، حتى إن

الطائر ليمر بجنباتهم فما يخلِّفهم حتى يخر ميتاً. فيتعادُّ بنو الأب، كانوا مائة، فلا

يجدونه بقي منهم إلا الرجل الواحد. فبأي غنيمة يُفرح، أو أي ميراثٍ يُقاسم.

فبينما هم كذلك إذ سمعوا ببأس هو أكبر من ذلك؛ فجاءهم الصريخ أن الدجال قد

خلفهم في ذراريهم، فيرفضون [20] ما في أيديهم، ويقبلون، فيبعثون عشرة

فوارس طليعة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني لأعرف أسماءهم،

وأسماء آبائهم، وألوان خيولهم، هم خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ، أو من

خير فوارس على ظهر الأرض يومئذٍ) [21] .

وعن ذي مِخبَر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول: (ستصالحون الروم صلحاً آمناً، فتغزون أنتم وهم عدواً من ورائكم،

فتُنصرون، وتغنمون، وتَسلمون، ثم ترجعون، حتى تنزلوا بمرجٍ ذي تلول،

فيرفع رجلٌ من أهل النصرانية الصليب، فيقول: غلب الصليبُ. فيغضب رجل

من المسلمين، فيدقُّه، فعند ذلك تغدر الروم، وتجمع للملحمة) [22] ، وفي رواية:

(وتكون الملاحم، فيجتمعون إليكم فيأتونكم في ثمانين غاية، مع كل غاية عشرة

آلاف) [23] .

وعن عوف بن مالك رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم

في غزوة تبوك، وهو في قبة من أدم، فقال: (اعدد ستاً بين يدي الساعة. وذكر

السادسة: ثم هدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر، فيغدرون، فيأتونكم تحت ثمانين

غاية، تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً) [24] . وفي رواية عنه عند أحمد: (قلت:

وما الغاية؟ قال: الراية، تحت كل راية اثنا عشر ألفاً. فسطاط المسلمين يومئذٍ

في أرضٍ يقال لها الغوطة، في مدينة يقال لها: دمشق) [25] . وفي رواية عن

عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما: (وهدنة تكون بينكم وبين بني الأصفر،

ليجمعون لكم تسعة أشهر، كَقَدْر حَمْل المرأة، ثم يكونون أولى بالغدر منكم ... )

[26] .

تلك طبيعة العلاقة مع عبّاد الصليب في الماضي الحاضر والمستقبل. وصدق

الله إذ يقول: [وَلَن تَرْضَى عَنكَ اليَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى

اللَّهِ هُوَ الهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ العِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ

وَلاَ نَصِيرٍ] (البقرة: 120) ، [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ

يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ البَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ

بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ] (آل عمران: 118) .

ألا فليعِ المسلمون ذلك، وليعدوا أنفسهم للملحمة، بالعلم والإيمان، والعدة

والعتاد.. [الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ

اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ

كَثِيراً وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015