مجله البيان (صفحة 4602)

ما كان أحد أحب إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم

دراسات في الشريعة

ما كان أحد أحب إلي من رسول الله

صلى الله عليه وسلم

د. عبد العزيز آل عبد اللطيف [*]

«خرج الركب العراقي - سنة 394هـ - حاجّاً إلى بيت الله الحرام زمن

خوف وهلع من الأعراب وسرّاق الحجيج، فلما فرغوا من الحج عزم أميرهم على

العود سريعاً إلى بغداد وأن لا يقصدوا المدينة النبوية خوفاً من أولئك السرّاق، فقام

شابان قارئان على جادة الطريق التي منها يعدل إلى المدينة النبوية، وقرأا: [مَا

كَانَ لأَهْلِ المَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُوا عَن رَّسُولِ اللَّهِ وَلاَ يَرْغَبُوا

بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ] (التوبة: 120) ، فضج الناس بالبكاء، وأمالت النوق

أعناقها نحوهما، فمال الناس بأجمعهم والأمير إلى المدينة النبوية فزاروا وعادوا

سالمين إلى بلادهم ولله الحمد والمنة» [1] .

إن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أعظم الفرائض، كما قال تعالى:

[قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا

وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي

سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ] (التوبة:

24) .

قال القاضي عياض عن هذه الآية: «فكفى بهذا حضاً وتنبيهاً ودلالة وحجة

على إلزام محبته، ووجوب فرضها، وعظم خطرها، واستحقاقه لها صلى الله

عليه وسلم؛ إذ قرّع تعالى من كان ماله وأهله وولده أحبّ إليه من الله ورسوله،

وأوعدهم بقوله: [فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ] ثم فسّقهم بتمام الآية، وأعلمهم

أنهم ممن ضلّ ولم يهده الله» [2] .

وقد حقق الصحابة رضي الله عنهم أسمى الأمثلة في محبة رسول الله صلى

الله عليه وسلم: «فكان عمر الفاروق رضي الله عنه - يقول للعباس - عم رسول

الله صلى الله عليه وسلم: أن تُسْلِم أحبّ إليَّ من أن يسلم الخطّاب؛ لأن ذلك أحبّ

إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وسئل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه:» كيف كان حبكم لرسول الله

صلى الله عليه وسلم؟ قال: كان والله أحبّ إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا،

ومن الماء البارد على الظمأ « [3] .

وها هو عمرو بن العاص رضي الله عنه يقول وهو في سياق الموت:» ما

كان أحد أحبّ إليّ من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا أجلّ في عيني منه،

وما كنتُ أطيق أن أملأ عينيّ منه إجلالاً له، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني

لم أكن أملأ عينيّ منه « [4] .

إن جنس المحبة أصل كل فعل وحركة في هذا العالم؛ فكل عمل في العالم

فهو صادر عن محبة وإرادة [5] ، ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأمور

القلبية الوجدانية، وهذه المحبة توجب لوازمها ومقتضياتها من الأعمال والأقوال.

فمحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم توجب الذبّ عن رسول الله صلى الله

عليه وسلم، والانتصار لسنته والاحتساب على من تطاول عليه، وتأمّل ما جاء في

حديث ابن عباس رضي الله عنهما حيث قال:» إن أعمى كانت له أم ولد تشتم

النبي صلى الله عليه وسلم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر،

قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فأخذ

المِغْول [6] فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها، فوقع بين رجليها طفل، فلطخت

ما هناك بالدم، فلما أصبح، ذُكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمع

الناس فقال: أنشد الله رجلاً فعل ما فعل لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى

الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول

الله! أنا صاحبها، كانت تشتمك، وتقع فيك، فأنهاها فلا تنتهي، وأزجرها فلا

تنزجر، ولي منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت

تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فوضعته في بطنها، واتكأت عليها حتى قتلتها،

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا اشهدوا أن دمها هدرٌ» [7] .

فتأمل ما قام به هذا «البصير» رضي الله عنه من الانتصار لرسول الله

صلى الله عليه وسلم؛ فمع كونه أعمى، وتلك المرأة أم ولده، إضافة إلى كونها

رفيقة به، وله منها ابنان في غاية الحسن والجمال، مع ذلك كله، فقد قدّم محبة

رسول الله صلى الله عليه وسلم والذبّ عنه على سائر تلك المحبوبات فرضي الله

عنه.

وجاء في مغازي الواقدي: «أن مروان بن الحكم وكان أميراً على المدينة،

قال لابن يامين اليهودي: كيف كان قتل ابن الأشرف؟ قال ابن يامين: كان غدراً،

ومحمد بن مسلمة رضي الله عنه جالس شيخ كبير، فقال: يا مروان أيُغدَّر

رسول الله صلى الله عليه وسلم عندك؟ والله ما قتلناه إلا بأمر رسول الله صلى الله

عليه وسلم، والله لا يؤويني وإياك سقف بيت إلا المسجد، وأما أنت يا ابن يامين

فلله عليّ إن أفلتَّ وقدرتُ عليك وفي يدي سيف إلا ضربت به رأسك، فكان ابن

يامين لا ينزل من بني قريظة حتى يبعث له رسولاً ينظر محمد بن مسلمة، فإن

كان في بعض ضياعه [8] نزل فقضى حاجته ثم انصرف، وإلا لم ينزل؛ فبينا

محمد بن مسلمة في جنازة وابن يامين في البقيع، فقام محمد إلى جرائد رطبة من

النخل، فلم يزل يضربه بها جريدة جريدة حتى كسّر ذلك الجريد على وجهه ورأسه

حتى لم يترك به مَصَحّاً [9] ، ثم أرسله ولا طَباخَ [10] به، ثم قال محمد بن مسلمة:

واللهِ لو قدرتُ على السيف لضربتك به [11] » .

وإن محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم توجب تعظيمه وتوقيره وإجلاله،

«ولما سئل مالك بن أنس رحمه الله عن أيوب السختياني قال: ما حدثتكم عن أحد

إلا وأيوب أفضل منه، وقال: وحجّ [أيوب] حجتين فكنتُ أرمقه ولا أسمع منه،

غير أنه كان إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه، فلما رأيتُ منه

ما رأيت، وإجلاله للنبي صلى الله عليه وسلم كتبتُ عنه.

وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذُكر النبي صلى الله عليه وسلم يتغيّر

لونه، وينحني حتى يَصْعُب ذلك على جلسائه؛ فقيل له يوماً في ذلك، فقال: لو

رأيتم ما رأيت، لما أنكرتم عليّ ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان

سيّد القراء، لا نكاد نسأله عن حديث أبداً إلا يبكي حتى نرحمه» [12] .

إن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم وسط بين الإفراط والتفريط، والغلو

والجفاء، وقد قرر ابن عبد الهادي هذه الوسطية بقوله: «إن التعظيم [لرسول الله

صلى الله عليه وسلم] محله القلب واللسان والجوارح؛ فالتعظيم بالقلب ما يتبع

اعتقاد كونه رسولاً من تقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين،

ويصدق هذه المحبة أمران:

إحداهما: تجريد التوحيد؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كان أحرص الخلق على

تجريده حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات.. ومدار دينه على هذا

الأصل الذي هو قطب رحى النجاة ولم يقرره أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم

بقوله وفعله وهديه وسدّ الذرائع المنافية، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته

على ذلك لا بمناقضته فيه.

الثاني: تجريد متابعته وتحكيمه وحده في الدقيق والجليل من أصول الدين

وفروعه، والرضا بحكمه والانقياد له والتسليم، والإعراض عمن خالفه وعدم

الالتفات إليه حتى يكون وحده الحاكم المتبع المقبول قوله، كما كان ربه تعالى وحده

المعبود المألوه الذي إليه الرغبة والرهبة.. وأما التعظيم باللسان فهو الثناء عليه بما

هو أهله مما أثنى به على نفسه وأثنى به عليه ربه من غير غلو ولا تقصير؛ فكما

أن المقصر المفرط تارك لتعظيمه فالغالي المفرط كذلك.

وأما التعظيم بالجوارح فهو العمل بطاعته والسعي في إظهار دينه وإعلاء

كلماته ونصر ما جاء به وجهاد ما خالفه» [13] .

إن أعظم دواعي محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أمران:

أحدهما: النظر إلى شمائله وأخلاقه؛ فقد كان صلى الله عليه وسلم: «أكمل

الناس تربية ونشأة، لم يزل معروفاً بالصدق والبر والعدل، ومكارم الأخلاق،

وترك الفواحش والظلم، وكل وصف مذموم، مشهوداً له بذلك عند جميع من يعرفه

قبل النبوة، وممن آمن به وكفر بعد النبوة، لا يعرف له شيء يعاب به، لا في

أقواله، ولا في أفعاله، ولا في أخلاقه، ولا جرت عليه كذبة قط، ولا ظلم، ولا

فاحشة، وكان خلقه وصورته من أكمل الصور وأتمها وأجمعها للمحاسن الدالة على

كماله» [14] .

والآخر: النظر إلى إحسانه وإنعامه على أمته من رأفته بهم، ورحمته لهم،

وهدايته إياهم، وشفقته عليهم، وأنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، ورحمة للعالمين،

ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، ويتلو عليهم آياته، ويزكيهم

ويعلمهم الكتاب والحكمة [15] .

قال الحافظ ابن حجر: «فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى

الله عليه وسلم الذي أخرجه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان إما بالمباشرة وإما

بالسبب علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه

بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته

أوفر من غيره؛ لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن

الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه» [16] .

فاللهم صلّ وسلِّم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015