المسلمون والعالم
كمال السعيد حبيب
صمد العراق عشرين يوماً في وجه القوات الأمريكية الغازية، ولم تصمد
بغداد العاصمة أكثر من يومين، كان الناس في العالم العربي والعالم كله ينتظرون
المعركة الفاصلة التي سيُقتل العلوج على أبوابها، وكان الغزاة والعالم كله يترقبون
المعركة الكبرى.. معركة بغداد، وكانت التوقعات تتحدث عن صمود للمدنية
يستمر لأربعة أشهر على الأقل؛ بيد أن الاقتحام الأمريكي السهل لها كان مفاجئاً
بكل المقاييس.
في تقديرنا؛ قصة أو لغز سقوط بغداد هو تلخيص أمين لحالة النظام البعثي
في العراق، فالنظم الشمولية لا يمكنها الصمود في معركة حقيقية أمام الأعداء، إن
عنف هذه النظم وغشمها ووحشيتها تكون ضد مواطنيها لكنها تصبح خائفة مذعورة
جبانة أمام التحديات الخارجية، سقوط بغداد كان عنواناً لسقوط نظام صدام الوحشي،
فالناس في العاصمة حيث يكونون أقرب لمعرفة طبيعة النظام لم يجدوا لديهم
الدافع للمقاومة للدفاع عن شخص صدّام والحلقة الطبقية المحيطة به، وخاصة أنه
في لحظات الخطر تُختبر النيات والإرادات، ويبدو كل شيء على حقيقته، ومع
عنف الضربات الأمريكية الوحشية على العاصمة فإن فرزاً حقيقياً حدث؛ حيث
شعر قادة البعث أنهم غير قادرين على المقاومة؛ فإما القتل وإما الأسر [1] .
كما أن الناس في العاصمة وجدوا أن التكلفة العالية التي يدفعونها من دمهم
وبيوتهم وحياتهم هي أثمن من بذلها لأجل نظام البعث الوحشي.. وتبقى الدلالة
الأساسية، وهي أن الهزائم في المعارك الكبرى هي هزائم للأنظمة التي دخلتها
وليست هزائم فقط لجيوشها، ومن ثم فسقوط البعث جاء على أسنة الأسلحة
الأميركية وتحت سنابكها، وتبقى المقاومة العراقية في أم قصر، والناصرية،
والنجف، وكربلاء، وحتى في بغداد نفسها عنواناً على جسارة الشعوب وقوتها،
فالذين قاتلوا لمدة عشرين يوماً كانوا تعبيراً عن إرادة الشعب العراقي في رغبته في
الدفاع عن وطنه، شاهدنا الضابط الذي نفذ أول عملية استشهادية، والسيدتين اللتين
استشهدتا، والرجل العجوز الذي أسقط الطائرة، لكن هؤلاء جميعاً كانوا تعبيراً عن
روح الشعب العراقي والأمة العربية والإسلامية، ولم يكونوا في شيء تعبيراً عن
النظام القمعي الوحشي لصدّام.
ويمكن القول إن روح الشعب العراقي العربية والإسلامية تجلت في المقاومة
بعيداً عن العاصمة، أما العاصمة التي تمثل القلب الحيوي للدولة؛ فكانت تعبيراً
عن روح النظام الذي انهار بسرعة أمام الضربات الأمريكية، ولم يكن أعضاؤه
مستعدين للشهادة، فالمعلومات تتحدث عن أن قيادات حزب البعث لما رأوا القاصمة
الأمريكية قالوا إننا سنقتل أو نؤسر، وعمموا تعليمات على القيادات العليا
بالانسحاب المنظم إلى منازلهم.
إن الناس في العالم العربي كانوا يطمحون إلى معركة مشرِّفة على أسوار
بغداد؛ تكبِّد الأمريكان خسائر كبيرة لإنقاذ العالم العربي والإسلامي بل والعالم كله
من جنونهم، لكن سنن الله غالية، وما كان لنظام فاشي أذاق الشعب العراقي
الويلات أن ينتصر في معركة فاصلة كبيرة تحدد ملامح العالم في القرن الحالي.
هل للمرء أن يتساءل، ويثير علامات الاستفهام حول أسباب دعم الأمريكان
لمثل هذه النظم الاستبدادية؟
إن السبب الرئيس فيما نعتقد هو نزع إرادة المقاومة والصمود لدى الشعوب
حين يدعوها داعي الجد والخطر، وحين تتعرض لخطر حقيقي يهدد وجودها
وحياتها، فمعظم مشكلات الدول التي تم استعمارها من العالم الغربي تم زرعها من
قِبَل المستعمرين قبل رحيلهم، ويمثل التلاعب بالجانب الإثني والعرقي والسلالي
أحد أهم أدوات الدول الاستعمارية في صناعة المشكلات، في الدول التي كانت
مستعمرة في إفريقيا وآسيا، أما الأدوات الحديثة لزرع المشكلات، والتي تقوم بها
أمريكا خاصة؛ فهي دعم النظم الاستبدادية وتقويتها حتى لا تبقى للشعوب إرادة
حين تتعرض مجتمعاتها للخطر.
* المأزق الأمريكي:
حتى اليوم، وعلى الرغم من سقوط النظام العراقي؛ فإن الولايات المتحدة
الأمريكية لم تُعلن بعد أنها انتصرت، وتفيد المعلومات أن الجنود الأمريكيين لم
يسيطروا إلا على حوالي 40% من الأراضي العراقية، ولا تزال الـ 60% الباقية
خارج سيطرتهم، وبينما أسقطت الجحافل الأمريكية نظام صدّام القمعي؛ فإنها لم
تستطع أن تملأ الفراغ الذي تركه، وشجعت إطلاق الفوضى، وأطلقت العصابات
المجرمة لتدمر المؤسسات والوثائق والمكتبات والمتاحف، وكأنها تريد الانتقام من
العراق دولة وشعباً.
وعلى الرغم من وصول «جاي جاردنر» ومعه أكثر من عشرين قيادة
أمريكي؛ يفترض أنها ستتولى المرحلة الأولى من إعادة الحياة للمؤسسات العراقية
التي حطمتها الآلة العسكرية الأمريكية الغاشمة؛ فإن أمريكا تبدو في مأزق حقيقي؛
فهي حتى الآن لم تحدد بعد الطريقة التي ستدير بها العراق، ولم تحدد بعد كيف
سيكون تعاملها مع العراق، وهناك نظريتان في هذا السياق يتنازعان الفكر
الأمريكي تجاه العراق؛ بصرف النظر عن الدعاية التي أطلقها بوش حين تحدث
عن «عراق جديد يكون نموذجاً لدول الشرق الأوسط» .
النظرية الأولى: يمثلها «روبرت كابلان» [2] ، وذلك في مقال له بعنوان:
«سيناريو لمرحلة ما بعد صدّام» ، وفيه يدعو إلى التحرر من أي إغراءات
تبشيرية فيما يتصل بإرساء الديمقراطية والحرية في بلد ليست الديمقراطية من
تقاليده، ويدعو صراحة إلى بناء نظام علماني مستبد، لكنه يتحدث عن الاستبداد
المستنير، إن أصحاب هذه النظرية يتحدثون عن أمريكا بوصفها قاعدة احتلال
عسكري في منطقة حساسة جغرافياً، وهذا الوجود سوف يفرض نفسه على المنطقة
وعلى الدول المجاورة التي ستضطر للتكيف مع هذا الوجود، ففي السياسة؛ يمثل
الجوار الجغرافي محدداً للسلوك السياسي، ووجود دولة جارة لقوة عسكرية عدائية
سوف يجعل هذه الجارة تأخذ في حسابها رغبات هذه القوة العسكرية الجبارة.
النظرية الثانية: ويمثلها مثقفون عرب في البلاط الأمريكي، وهم ما نطلق
عليهم «المثقفون الأمريكان» [3] ، وهم يتبنون ضرورة التدخل الأمريكي في
العلاقة بين الحكام المستبدين والشعوب في العالم العربي؛ بحيث يدعم التدخل
الأمريكي قوى الإصلاح التي تؤمن بالقيم الغربية، كما يجب أن تتعامل أمريكا مع
الطبقة الوسطى في العالم العربي وتتخلى عن دعم الحكام المستبدين؛ لأن هذا الدعم
وإن كان حرم أعداء أمريكا من الوصول إلى السلطة؛ لكنه أدى إلى انتشار
الكراهية والاحتقان الذي عبر عن نفسه في قلب أمريكا نفسها، كما أن السكوت
على الحكام المستبدين جعل من عروض الإسلاميين للشعوب إغراءاً بانتشالهم إلى
وضع أفضل.
وعلى المستوى الميداني يصعب على الولايات المتحدة أن لا تكون قوة احتلال
واستعمار في العراق، فهي أمَّنت فقط وزارة النفط من بين جميع الوزارات
والمؤسسات العراقية التي جرى نهبها والأمريكان يشاهدون ويدعمون؛ ومن ثم فما
يهمها بالأساس هو النفط، كما أن الشركات الأمريكية هي التي تتولى اليوم مسألة
عقود الإعمار، وعقود تأمين آبار النفط وإنتاجها، وعقود تأسيس شرطة وجيش
عراقيين، بل إن أمريكا تتعاقد مع شركات أمريكية لإعادة بناء النظام التعليمي في
العراق؛ بحيث يكون متوافقاً مع المرحلة الاستعمارية الجديدة.
وتسعى أمريكا أيضاً على المستوى الميداني إلى التلاعب بالمرجعية الشيعية
في العراق؛ بحيث تضمن ولاء الشيعة في العراق لها حتى تُفقد إيران تأثيرها
المرجعي في شيعة العراق، بل إن أمريكا لم تتردد في الاستعانة بصفوف حزب
البعث نفسه فضلاً عن زعماء القبائل وبقايا الحرس الصدّامي القديم؛ لتؤسس على
أركانهم النظام الجديد الذي تسعى إليه، وهو ما يؤيد لدينا احتمال اتباع الإدارة
الأمريكية على المستوى الميداني ومستوى الممارسة لنصائح فريق «كابلان» ؛
في بناء نظام علماني مستبد في العراق؛ بحيث يكون هذا النظام أداة طيعة في يدها؛
وبحيث يبقى هذا النظام أداة لكبت حريات الشعوب والجماهير التي تكره أمريكا
وتراه قوة احتلال يجب التخلص منها.
وكما هو معلوم فإن خلافاً حقيقياً بين بريطانيا وبين أمريكا حول دور الأمم
المتحدة؛ حيث تريد بريطانيا أن يكون للأمم المتحدة دوراً سياسياً في العراق، بينما
ترى أمريكا أن الأمم المتحدة يمكن أن يكون لها دور إنساني، فهي ترى أن جنودها
وقوتها العسكرية هي التي فرضت الأوضاع الجديدة في العراق، وأنها يجب أن
تكون القوة التي تقرر والقوة التي تجني النصر، وبالطبع فإن القوى الدولية الأخرى
مثل: روسيا، وفرنسا، وألمانيا تمثل ضغطاً على أمريكا، لكن يمكن شراؤهما
بإعطائهما بعضاً من مغانم الحرب الأمريكية في العراق، وجميع هذه القوى تحدثت
عن رغبة في نصر أمريكي بالعراق، لكنه نصر يجب أن يأخذها في الحسبان.
وتواجه أمريكا مأزقاً حقيقياً في العراق؛ حيث يمكن وهو ما نتوقعه أن تتولد
قوة جديدة شابة في العراق ترى أن قوة أمريكا قوة احتلال تعيد إلى الأذهان
الاحتلال البريطاني، وتنشط هذه القوة الجديدة في مواجهة الخطط الأمريكية، وإذا
كان الناس في العراق عبّروا عن ابتهاج بسقوط النظام العراقي الذي دام لأكثر من
25 عاماً، حتى لو أبدوا ترحيباً بأمريكا في محطة التغيير هذه لكنهم لن يرحبوا بها
كقوة احتلال أبداً، ولا يزال الشعب العراقي يتمتع بخصائص وصفات نفسية دينية
ووطنية عميقة جداً، وفي مثل حالات الفراغ السياسي وانهيار الأنظمة كما يحدث
في العراق؛ فإن الشعوب هي التي تسعى إلى ملء الفراغ عبر حركة المجتمع
والأمة وليس وفق خطط المحتل.
وفي العراق تبقى الثقافة العربية والإسلامية من جانب والتحيز الأمريكي
للكيان الصهيوني من جانب آخر عائقين مهمين أمام إنفاذ هذه الخطط كما هو مقرر
لها في البنتاجون أو البيت الأبيض، فهناك خصوصية في الثقافة العربية تجاه
المحتل فالعربي والمسلم يمكن أن يضحي بالحرية الفردية من أجل حرية وطنه
الكبير، أو ما يطلق عليه «الوطنية» ، أو ما يطلق عليه «الحفاظ على حدود
الوطن أو الإقليم» ، أو بالتعبير الإسلامي «الذود عن البيضة» و «حماية دار
الإسلام» ، وهناك خصوصية في الثقافة العربية الإسلامية تجاه اليهود وتجاه
فلسطين.
وإذا كان «كابلان» يقرر وجود الأمريكان بوصفهم قوة استعمارية محتلة في
العراق؛ فإن هناك قوة شعبية تستلهم الإسلام في مقاومة المحتل كما في فلسطين،
ويكفي أن نتذكر أن مخيم جنين صمد أمام القوة الصهيونية بكل جبروتها لمدة عشرة
أيام وأسقط منها 26 جندياً؛ منهم جنرال كبير، ومن ثم فأمريكا تواجه مأزقاً حقيقياً
في العراق يصنعه أولئك المحافظون الجدد في البيت الأبيض، والذين يضعون
الخطط على الأوراق بشكل طفولي يثير السخرية، وهم منفصلون عن الواقع
وعاجزون عن فهم الشعوب.
* مستقبل العالم العربي:
1 - ماذا ينتظر الحكام في العالم العربي بعد كارثة سقوط العراق واحتلاله من
قبل أمريكا؟ إن التصريحات التي تتحدث عن تغييرات جيواستراتيجية في خريطة
المنطقة صحيحة، وهناك خطط يعدها المحافظون الجدد المسيطرون على القرار في
البيت الأبيض تستند إلى ما يطلقون عليه الحسم العسكري والوضوح الأخلاقي،
وهذا الحسم العسكري والوضوح الأخلاقي يستعمل فقط ضد العرب والمسلمين؛
بينما تجاه الكيان الصهيوني تجد رخاوة أخلاقية وهزال عسكري، ومن ثم فالخطر
المحدق بالعالم العربي حقيقي وهو لا يطرق بابه لكنه أصبح في قلبه، فالعراق هو
البداية الشرقية للأمن القومي العربي، وسقوط العراق هو لصالح الكيان الصهيوني
بكل المقاييس؛ حيث زال الخطر الذي كان يمثله العراق على أمن «إسرائيل» ،
وتشير التقارير إلى سحب القوات الصهيونية التي كانت على الجبهة الشرقية، كما
أن البترول العراقي سوف يضخ إلى الكيان عبر بناء خط الموصل - حيفا،
وسوف تسطع من جديد فكرة الشرق الأوسط الذي يحوِّل المنطقة إلى سوق
اقتصادي تكون الهيمنة فيه للمركز الصهيوني، وتتحول البلدان الأخرى إلى مجرد
أتباع هزيلة لهذا المركز.
ولا شك أن الانتصار الأمريكي في العراق سوف يدعم خطط الحكومة اليمينية
في الكيان الصهيوني، والإتيان بحكومة فلسطينية تقبل بخطط شارون، وربما
تسعى إلى فرضها على المقاومة الفلسطينية التي ترفض بقوة أي خطط تفرِّط في
القضية الفلسطينية لمصلحة الخطط الاستعمارية الصهيونية، فأمريكا بوصفها
استعمارية ستدعم الوجود الصهيوني في فلسطين، كما ستدعمه بوصفه وجوداً
اقتصادياً وحضارياً.
2 - بوش أعلن امتلاك سوريا لأسلحة كيمياوية، وأنه لا بد من خضوعها
للتفتيش، ورامسفيلد قال إن قرار ضرب سوريا يعود لقوات التحالف، وتحدث
عن متطوعين سوريين يقاتلون في العراق ضد القوات الأمريكية، كما تحدث عن
ضرورة تسليم سوريا لقيادات النظام العراقي السابق، وتأتي هذه التصريحات بعد
وقت قصير من إعلان المجرم شارون أن التغيير يجب أن يشمل سوريا، وليبيا،
والمملكة العربية السعودية، وقال شارون حرفياً: «إن زوال العراق كتهديد يثير
ارتياحنا، لكن كل المشكلات التي نواجهها لم تنته، فهناك مشكلات مع إيران،
وليبيا، والسعودية، فإيران تضاعف جهودها لتطوير أسلحة الدمار الشامل
والصواريخ البالستية، وليبيا تسعى إلى الحصول على أسلحة نووية، والسعودية
تقدم المساعدات للمنظمات الإرهابية» ، إذن هناك تهديدات حقيقية للدول الثلاث
التي تمثل قاعدة الوجود العربي في المنطقة، وهي سوريا، ومصر، والسعودية،
وعليهم أن يتحركوا قبل فوات الأوان وإلا فماذا ينتظرون؟ هل يقفون صامتين حتى
تأتي القوات الأمريكية لتدق عروشهم كما حدث مع صدّام حسين؟
3 - على الدول العربية هذه أن ترتب بيتها الداخلي للخطة الحقيقية القادمة
بلا محالة، وهذا يفترض قيادة الإصلاح الداخلي، والذي يتمثل في رأب الصدع
الداخلي بين هذه الأنظمة ومجتمعاتها، وخاصة القوى الإسلامية التي ثبت وقت الجد
أنها هي التي تصمد وتقاتل وتقاوم.
إن النظم والجيوش والقادة الرسميون في العالم العربي يواجهون امتحاناً قاسياً،
ونجاتهم هي في العودة لإصلاح ما بينهم وبين شعوبهم ومجتمعاتهم.
إنني أستلهم حديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيح الذي يقول فيه:
«ويل للعرب من شر قد اقترب» [4] .
فإما التحرك للمواجهة، وإما انتظار الفناء والزوال!
[إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ] (الرعد: 11) .