مجله البيان (صفحة 4578)

دراسات تربوية

أزمة.. ومواقف

باسل بن سعود الرشود

وتجيء الأزمة كالكير الذي يُذهِب خَبَثَ الحديد، كالنار التي تحرق الأرض

فتعود أخصب من أخصب منها، كالحُمَّى تأخذ الجسد وتطرحه وتمتصه لتطهره من

الذنوب.. وتجيء الأزمة وفي طيها خير للأمة:

لعل عتبك محمود عواقبه ... وربما صحت الأجسام بالعللِ

وهكذا لا تنفك الأمة في كل زمن عن أزمة تكون لها كالصدمة الكهربائية التي

تنفضها وتحرك دماءها الساكنة

... إنها دروس في استثمار الأزمات:

فيا ابن الإسلام! قد أقبلت عليك أزمة.. ولا بد لك من موقف، فهاك هذه

المواقف:

1 - تثبيت الناس:

الأزمات عواصف تهز الأمة؛ ولا بد للأمة من تثبيت..

الهلع الذي يغمر القلوب الضعيفة يجعلها كالخشبة على ظهر الموجة، كورقة

في ممر الريح.

القلوب الضعيفة عرضة للمد والجزر، ولجذب الشياطين.. واليقين هو حظ

المؤمنين.

فيا أيهذا الداعية! إذا جاءت الأزمة فصِحْ بأعلى صوتك: «يا عباد الله!

فاثبتوا» [1] ، «بشِّر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر والتمكين في الأرض،

فمن عمل عملَ الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة نصيب» [2] .

يا أخا الدرب! هوِّن عليك الأمر لا بد من زوال المصابِ ...

سوف يصفو لك الزمان، وتأتيك ظعون الأحبة الغيابِ ...

وليالي الأحزان ترحل، فالأحزان مثل المسافر الجوابِ ...

في الغار.. في أزمة الهجرة.. تجمَّع شرذمة من دولة قريش يطاردون رأس

الأمة صلى الله عليه وسلم؛ يلاحقونه في الجبال.. في الكهوف.. في كل الدروب؛

يرسلون العيون، يتتبعون الآثار، حتى وقفوا على رأسه، وهنا يلتفت أبو بكر

رضي الله تعالى عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خائفاً عليه.. ولم يعلم أن

في جوف الجبل مَنْ هو أشد ثباتاً من الجبل!

قال أبو بكر رضي الله عنه: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في الغار

فرأيت آثار المشركين؛ قلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم رفع قدمه رآنا! قال:

«ما ظنك باثنين الله ثالثهما!» [3] .

ويستمر الثبات والتثبيت؛ قال أبو بكر: واتبَعَنَا سراقة بن مالك ونحن في

جَلَدٍ من الأرض؛ فقلت: يا رسول الله، أُتينا! فقال: «لا تحزن؛ إن الله معنا» ،

فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على سراقة فارتطمت فرسه إلى بطنها [4] ..

[إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الغَارِ إِذْ

يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا

وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ العُلْيَا] (التوبة: 40) .

2 - وتثبيت العلماء:

والعلماء بشر؛ تعصف بهم الفتن كما تعصف بالناس، ويرتفع الإيمان

وينخفض، وتشتد العزيمة وترتخي، ويميل ويثبت، وما زال السلف يوصي

بعضهم بعضاً أن اصبروا:

في موقف ينسى الحليم سداده ... ويطيش فيه النابه البيطارُ

قال الذهبي في ترجمته لإمام السنة والثابت يوم المحنة أحمد بن حنبل:

«قال صالح بن أحمد: سمعت أبي يقول: صرنا إلى الرحبة، ورحلنا منها في

جوف الليل، فعرض لنا رجل، فقال: أيكم أحمد بن حنبل؟ فقيل له: هذا. فقال

للجمّال: على رِسلك. ثم قال: يا هذا، ما عليك أن تُقتل ها هنا وتدخل الجنة؟ ثم

قال: أستودعك الله. ومضى فسألت عنه فقيل لي: هذا رجل من العرب من ربيعة

يعمل الشعر في البادية، يقال له: جابر بن عامر، يُذكر بخير ... !

قال أحمد بن حنبل: ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة

أعرابي كلمني بها في رحبة طوق؛ قال: يا أحمد، إن يقتلك الحق مت شهيداً،

وإن عشت عشت حميداً. فقوَّى قلبي» [5] .

ضع في يديَّ القيدَ، ألهبْ أضلعي ... بالسوطِ، ضع عنقي على السِّكينِ

لن تستطيع حصار فكري ساعة ... أو ردَّ إيماني ونور يقيني

فالنورُ في قلبي، وقلبي في يدَيْ ... ربي، وربي حَافظي ومُعيني

فهذه أزمة (فتوى) .. أزمة (كلمة الحق) .. جاء فيها الأعرابي الضعيف لم

يحقر نفسه يُثَبِّتْ فيها عَلَمَ الأمة..؛ فلم تكن هناك كلمة أقوى منها في قلب أحمد،

[وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا

بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ] (وَالعصر: 1-3) .

3 - ترسيخ الإيمان:

في الأزمة تُقبل القلوب على خالقها.. تلتفت إلى أعلى، [وَظَنُّوا أَن لاَّ مَلْجَأَ

مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ] (التوبة: 118) ، وكلما رأت القلوب أن الدنيا أدبرت عنها

أقبلت هي على الآخرة! فيا أيهذا الداعية! .. خذ بزمام القلوب وقدها إلى الله.

على الدعاة أن يستثمروا الأزمة.. أن يجعلوها موسماً إضافياً من مواسم

الدعوة.. فهو موسم حافل، عليهم أن يضيفوا إلى نشاطاتهم برنامجاً اسمه: برنامج

الأزمة، ولجنة اسمها: لجنة الأزمة، عليهم أن يضخوا القلوب بمعاني الإيمان

والتوكل والرغبة والرهبة والإنابة، أن يصيحوا بهم، أن يلقوا لهم بحبل التوبة في

لُجَّة الأزمة.. الأزمة لا تخلو من فتنة وظلمة وجفاف وتيه؛ وفي الإيمان نور

وغيث وهداية.. الأزمة تصيب القلوب.. تغمرها بالخوف والفوضى وتزاحم

الإيمان.. فلا بد أن تملأ قلبك، أن تتصل بالله، أن تضخ القلوب بمغذيات الإيمان؛

[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ]

(الأنفال: 45) .

عن هند الفراسية أن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: استيقظ

رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فزعاً يقول: «سبحان الله! ماذا أنزل الله من

الخزائن، وماذا أنزل من الفتن! مَنْ يوقظ صواحب الحجرات يريد أزواجه لكي

يصلين؟ رُبَّ كاسية في الدنيا عارية في الآخرة» [6] ، قال ابن حجر رحمه الله:

«وفي الحديث استحباب الإسراع إلى الصلاة عند خشية الشر؛ كما قال تعالى:

[اسْتَعِينُوا بْالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ] (البقرة: 153) ، وكان

صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر فزع إلى الصلاة، وأمر مَنْ رأى في منامه ما

يكره أن يصلي..، وفيه التسبيح عند رؤية الأشياء المهولة، وفيه تحذير العالم

مَنْ يأخذ عنه من كل شيء يتوقع حصوله، والإرشاد إلى ما يدفع ذلك المحذور»

[7] . وقال في موضع آخر: «في الحديث الندب إلى الدعاء، والتضرع عند

نزول الفتنة، ولا سيما في الليل لرجاء وقت الإجابة؛ لتُكشف أو يَسْلم الداعي ومَنْ

دعا له» [8] .

وأزيد: ولتكون الصلاة زاداً في طريق الأزمة المظلمة: «بادروا بالأعمال

فتناً كقطع الليل المظلم؛ يصبح الرجل مؤمناً ويُمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً

ويصبح كافراً؛ يبيع دينه بعرض من الدنيا» [9] ، [وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ

التَّقْوَى] (البقرة: 197) .

عن معقل بن يسار رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:

«العبادة في الهَرْج كهجرة إليّ» [10] .

4 - توضيح الدين:

في الأزمات يكثر السؤال، والقيل والقال، تتفرع الأسئلة.. تتزايد، ويفجر

الموقف الواحد ألف سؤال وسؤال..

وتتلفت الأمة إلى قامات العلماء ليسمعوا الكلمة.. والكلمة هنا غالية، غالية

لأنها قد تكلف الإنسان رأسه.. أو ظهره.. أو وظيفته، أو على الأقل ذماً ونفوراً..!

وغالية لأنها قد تخالف هوى مَنْ فوقه أو مَنْ تحته أو مَنْ معه، أو حتى هوى

نفسه!

وحينئذ فلا بد من قيام لله بتوضيح الدين؛ خاصة إذا مُسَّت الأمة في عقيدتها،

وشُوِّش التوحيد، وهُشِّمت الثوابت، ونطق الرويبضة، فهنا: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ

غَنِياًّ أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُوا الهَوَى أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ

اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً] (النساء: 135) ، و «اللَّي» : هو الكذب أو

التحريف، و «الإعراض» : كتمان الحق؛ وآفة الشهادة من أحد هذين.

قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: حدثني أبو معمر القطيعي قال: لما أُحضرنا

إلى دار السلطان أيام المحنة، وكان أحمد بن حنبل قد أُحْضِر؛ فلما رأى الناس

يُجيبون وكان رجلاً ليناً فانتفخت أوداجه، واحمرت عيناه، وذهب ذلك اللين،

فقلت: إنه قد غضب لله، فقلت: أبشر؛ عن أبي سلمة، قال: كان من أصحاب

رسول الله صلى الله عليه وسلم من إذا أريد على شيء من أمر دينه، رأيت حماليق

عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون [11] .

ثمن المجد دمٌ جُدنا به ... فاسألوا كيف دفعنا الثمنا!

وافتح كتب التاريخ؛ لتجد صفحات أول أزمة بعد حياة الرسول صلى الله

عليه وسلم؛ أزمة تشتبك فيها السياسة الخارجية بالسياسة الداخلية بمسائل التوحيد

والفقه؛ فيأتي عَلَمُ الأمة أبو بكر فيقول كلمة يوضح بها الدين.

في الصحيحين أن أبا هريرة رضي الله عنه قال: «لما توفي رسول الله

صلى الله عليه وسلم وكان أبو بكر رضي الله عنه، وكفر من كفر من العرب،

فقال عمر رضي الله عنه: كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم:» أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله؛ فمن قالها فقد عصم مني

ماله ونفسه إلا بحقه، وحسابه على الله «؟ فقال: والله! لأقاتلن مَنْ فرَّق بين

الصلاة والزكاة؛ فإن الزكاة حق المال. والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها. قال عمر رضي الله عنه: فو

الله! ما هو إلا أن قد شرح الله صدر أبي بكر رضي الله عنه فعرفت أنه الحق»

[12] !

ضجرَ الحديدُ من الحديد ولم يزل ... في نصر «دين محمد» لم يضجرِ

حلف البليد ليظفرن بمثله ... حنثت يمينك يا بليدُ فكفِّرِ

واعلم أن المعاني المجردة من التطبيق قد يتمدد العلماء وأنصاف العلماء

وأرباعهم في تنظيرها؛ يرفعون ويخفضون، ويحكمون ويوجبون ويحرمون،

ويرسمون المواقف، فإذا وقعت الأزمة ووجب أن تُترجم تلك المعاني إلى مواقف،

إلى حركة، إلى ثمن، إلى نعم أو لا؛ فهنا تكعُّ النفوس، أو يتغير الموقف، خوفاً

أو ضعفاً أو جهالةً إلا من شاء الله.

وقد تكون المسألة بغاية الوضوح وقت الرخاء؛ فإذا وقعت الواقعة فكأنما

غشيتها غمامة!

ولقد تساءل أحدهم يوماً فقال: «هل غابت معاني القرآن في أحداث العراق؟

.. فالناظر إلى حال أهل الإسلام تجاه نازلة العراق يرى انحساراً وذهولاً عن

معاني القرآن، ومن ذلك قوله تعالى: [وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ] (المائدة:

51) ، فمظاهرة الكفار على أهل الإسلام ردة وخروج عن الملة ... وها هو شيخ

الإسلام ابن تيمية مع سعة علمه ورحابة صدره يقرر ذلك بكل صرامة قائلاً:

» فمن قفز منهم إلى التتار كان أحق بالقتال من كثير من التتار؛ فإن التتار

فيهم المكره وغير المكره، وقد استقرت السنة بأن عقوبة المرتد أعظم من عقوبة

الكافر الأصلي، من وجوه متعددة «؛ مع أن الحكم على التتار في حد ذاته مشكل

على بعض أهل العلم، لكن الإمام ابن تيمية يقطع بكفرهم، وكفر من لحق بهم

وظاهرهم؛ فما ظنك بالقتال مع الأمريكان الصليبيين المقطوع بكفرهم وظلمهم

واستبدادهم؟! .. ولم يقتصر علماء الدعوة السلفية على مجرد تنظير هذه المسألة؛

بل نزّلوا هذا الحكم الشرعي على ما يلائم من الوقائع وبكل رسوخ وتحقيق،

والناظر إلى رسالتيّ» الدلائل «للشيخ سليمان بن عبد الله بن محمد بن عبد

الوهاب، و (النجاة والفكاك من مولاة المرتدين وأهل الإشراك) للشيخ حمد بن

عتيق، ومناسبة تأليفهما يدرك جلياً صرامة هؤلاء الأعلام تجاه هذه القضية» [13] .

5 - استشعار الأزمة:

وقد تمر الأزمة بالأمة فلا يبالي الرجل بما كان وما يكون، العالم يضطرم

وهو في ثلاجة؛ كأن الأزمة مجرد شهر جديد من شهور السنة؛ تسير حياته فيه

كما سارت في الشهر الذي قبله؛ لم يغير جدوله، ولم يُعِدّ نفسه، ولم يضع بصمته

في صفحة الأزمة، وربما دهمته الأزمة وخنقته وقد فرّط.

لقد كان الإمام مالك رحمه الله يترك التحديث في رمضان ليفرغ إلى الصلاة

والذكر، ولقد عرض للأمة نازلة توجب الاشتغال بما هو أعظم من نوافل الذكر

والصلاة.

وأعظم من ذلك أن ترى ذا العلم وذا الدعوة يرى الأزمة تركض إليه وإلى

قومه، في يدها الفتنة والضلال، تقسم بالله لأغوينكم أجمعين، ولأقتلنكم، ولأقطعن

أيديكم أرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم؛ وهو لم يحرك ساكناً، ولم يسكِّن متحركاً،

ليس لغفلة أو لجهالة أو لعجز فيُعذر؛ بل تعامياً وتماوتاً، وموت القلوب أشد من

موت الأبدان:

أبني! إن من الرجال حجارةً ... في صورة الرجل السميع المبصرِ

فطن بكل مصيبة في ماله ... وإذا أصيب بدينه لم يشعرِ

وقد غضب ابن القيم رحمه الله تعالى يوماً، فقال في (أعلام الموقعين) كلاماً

جزيلاً طويلاً، ننقله لك بطوله وعرضه، حيث كان كتلة من المعاني:

«ولله سبحانه على كل أحد عبودية بحسب مرتبته - سوى العبودية العامة

التي سوَّى بين عباده فيها -؛ فعلى العالم من عبوديته نشر السنة والعلم الذي بعث

الله به رسوله ما ليس على الجاهل، وعليه من عبودية الصبر على ذلك ما ليس

على غيره، وعلى الحاكم من عبودية إقامة الحق وتنفيذه وإلزامه من هو عليه به،

والصبر على ذلك والجهاد عليه ما ليس على المفتي، وعلى الغني من عبودية أداء

الحقوق التي في ماله ما ليس على الفقير، وعلى القادر على الأمر بالمعروف

والنهي عن المنكر بيده ولسانه ما ليس على العاجز عنهما..

وتكلم يحيى بن معاذ الرازي يوماً في الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن

المنكر، فقالت له امرأة: هذا واجب قد وُضع عنا. فقال: هبي أنه قد وُضع عنكن

سلاح اليد واللسان؛ فلم يوضع عنكن سلاح القلب! فقالت: صدقت، جزاك الله

خيراً.

وقد غرَّ إبليس أكثر الخلق بأن حسَّن لهم القيام بنوع من الذكر والقراءة

والصلاة والصيام والزهد في الدنيا والانقطاع، وعطلوا هذه العبوديات فلم يُحدِّثوا

قلوبهم بالقيام بها، وهؤلاء عند ورثة الأنبياء من أقل الناس ديناً؛ فإن الدين هو

القيام لله بما أمر به، فتارك حقوق الله التي تجب عليه أسوأ حالاً عند الله ورسوله

من مرتكب المعاصي؛ فإن ترك الأمر أعظم من ارتكاب النهي من أكثر من ثلاثين

وجهاً ذكرها شيخنا رحمه الله في بعض تصانيفه.

ومن له خبرة بما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه هو

وأصحابه؛ رأى أن أكثر من يشار إليهم بالدين هم أقل الناس ديناً والله المستعان،

وأي دين وأي خير فيمن يرى محارم الله تُنتهك، وحدوده تُضاع، ودينه يُترك،

وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُرغب عنها، وهو بارد القلب، ساكت

اللسان شيطان أخرس؛ كما أن المتكلم بالباطل شيطان ناطق، وهل بليَّة الدين إلا

من هؤلاء الذين إذا سلمت لهم مآكلهم ورياساتهم فلا مبالاة بما جرى على الدين،

وخيارهم المتحزن المتلمظ، ولو نُوزع في بعض ما فيه غضاضة عليه في جاهه أو

ماله؛ بذَّل وتبذَّل، وجدَّ واجتهد، واستعمل مراتب الإنكار الثلاثة بحسب وسعه!

وهؤلاء مع سقوطهم من عين الله ومقت الله لهم؛ قد بُلوا في الدنيا بأعظم بليَّة

تكون وهم لا يشعرون؛ وهو موت القلوب، فإن القلب كلما كانت حياته أتم كان

غضبه لله ورسوله أقوى، وانتصاره للدين أكمل، وقد ذكر الإمام أحمدُ وغيره أثراً؛

أن الله سبحانه أوحى إلى ملك من الملائكة أن اخسف بقرية كذا وكذا. فقال: يا

رب! كيف وفيهم فلان العابد؟ فقال: به فابدأ؛ فإنه لم يتمعر وجهه فيَّ يوماً قط.

وذكر أبو عمر في كتاب التمهيد أن الله سبحانه أوحى إلى نبي من أنبيائه أن قل

لفلان الزاهد: أما زهدك في الدنيا فقد تعجلت به الراحة، وأما انقطاعك إليّ فقد

اكتسبت به العز، ولكن ماذا عملت فيما لي عليك؟ فقال: يا رب! وأي شيء لك

عليّ؟ قال: هل واليت فيَّ ولياً أو عاديت فيَّ عدواً؟» انتهى [14] .

إذن؛ أول قواعد استثمار الأزمة أن تستشعر الأزمة! والباقي في الطريق!

لستَ بحاجة لأن أقول لك: إن التفاعل المطلوب مع الأزمة هو التفاعل

الإيجابي؛ التفاعل الذي يدفعك، ويحركك، ويرفع وعيك، وليس هو القلق

والخوف والقنوط، ليس هو الهمَّ الذي يحاصرك، ويقتل حماسك وعقلك وفكرتك،

ويجمد أعضاءك.

6 - استنهاض الهمم:

السيوف والقنابل قبل أن تقصف الرؤوس تقصف الهمم! وجيوش الهموم

تسبق جيش الناس لتحارب العزائم، تخوفها، تخوّرها، تسحبها إلى الوراء،

تجذبها إلى الأرض.. وعلى الأمة أن تستنهض هممها، وأن تشعلها.. بل تفجرها

تفجيراً..

استنهاض الهمم بالآي، بالحديث، بالخطبة، بالقصة، بالشِّعر.. بالموقف

الشجاع.

لما خرج المسلمون إلى مؤتة للقاء النصارى قال المسلمون: صحبكم الله ودفع

عنكم، وردكم إلينا صالحين. فقال عبد الله بن رواحة:

لكنني أسأل الرحمن مغفرةً ... وضربةً ذات فرغٍ تقذف الزبدا

أو طعنةً بيدَي حرانَ مجهزةً ... بحربةٍ تنفذ الأحشاء والكبدا

حتى يقال إذا مروا على جدثي: ... أرشده اللهُ من غاز وقد رشدا

وخرج جيش المسلمين بثلاثة آلاف، وجيش الصليب يموج بمائتي ألف

مقاتل، كفتان غير متكافئتين في نظر الحسبة العسكرية الفقيرة، «فلما بلغ ذلك

المسلمين أقاموا على (معان) ليلتين ينظرون في أمرهم، وقالوا: نكتب إلى

رسول الله صلى الله عليه وسلم نخبره بعدد عدوِّنا؛ فإما أن يمدنا بالرجال، وإما

أن يأمرنا بأمره فنمضي له. فشجع الناس عبد الله بن رواحة وقال: يا قوم، والله!

إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبون؛ الشهادة، وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا

كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى

الحسنيين؛ إما ظهور وإما شهادة. فقال الناس: قد والله! صدق ابن رواحة.

فمضى الناس» [15] ، وقد والله! صدق ابن رواحة.

وفي القرن السابع؛ جاء التتار يزحفون من مشرق الأرض، يأكلون الأخضر

واليابس والبلدان والقرى والناس، يسيلون في كل واد، يبتلعون كل شيء..

سقطت الهند والسند وما وراء النهرين وفارس، وابتلعوا بغداد عاصمة الخلافة،

وقضموا من الشام وفلسطين،.. وذعر الناس، وهُزموا هزيمتهم النفسية،

وهربوا وهربت قبلهم هممهم! وظن بعضهم أنها القيامة، وأنهم يأجوج ومأجوج،

وظن بعضهم أن لا طاقة لنا اليوم بهولاكو وجنوده، وطفق عُبّاد التراب والكراسي

من النصارى والمتمسلمين إلى الإخذاء للتتر، وفتحوا الأبواب ودفعوا الأموال،

«حتى أمدهم البعض بجند مسلمين ليشاركوهم في احتلال المواقع الإسلامية

الأخرى، يضاف إلى ذلك أن النصارى في بلاد الشام وأرمينية خصوصاً ملك

أرمينيا هيثوم قدَّموا كل دعم للمغول، وشاركوهم في غزو بعض مدن الشام، ومنها

حلب ودمشق، حتى تمكنوا من الوصول إلى فلسطين» [16] .

فخرج إليهم جيش الإسلام من مصر يتقدمهم المظفر قطز رحمه الله، وكان

حديث عهد بالولاية ليس له غير أشهر، وكان ذا صلاح وتقى، بعيداً عن الخمر

واللهو، كثير الصلاة في الجماعة.

وقد أرسل هولاكو خطاباً عنيفاً يتهدد فيه المسلمين ويتوعدهم، ومما قال فيه:

«نحن قد فتحنا بغداد بسيف الله تعالى! وقتلنا فرسانها، وهدمنا بنيانها، وأسرنا

سكانها! .. فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء، فتندموا

ويعود عليكم الخطا، فنحن ما نرحم من بكى، ولا نرقّ لمن شكا! وقد سمعتم أننا

فتحنا البلاد، وطهرنا الأرض من الفساد! .. فالحصون لدينا لا تُمنع، والعساكر

لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع! فإنكم أكلتم الحرام، ولا تعفّون عند كلام،

وخنتم العهود والأيمان! وفشا فيكم العقوق والعصيان!» إلى آخر الرسالة.. [17] .

ولما جاء الخطاب جمع قطز القضاة والعلماء، والقادة والأمراء، وأطلعهم

عليه واستشارهم، فمنهم قال بالاستسلام والصغار، ومنهم من أشار بالفرار، وقال

بعضهم: إلى المغرب أو اليمن حيث لم يصل المغول بعد! فغضب قطز وقال:

«يا أمراء، لكم زمان تأكلون أموال بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون! وأنا

متوجه، فمن اختار الجهاد ليصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته؛ فإن

الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين» [18] .

فخرج بنفسه رحمه الله، والتقى الجيشان في (عين جالوت) في غور

الأردن، وتردد بعض الأمراء في القتال، فقال قطز: أنا ألقى التتار بنفسي.

فتشجع الأمراء والقواد. وعندما لامه بعض الأمراء وقال: يا خوند لم لا ركبت

فرس فلان؛ فلو كان رآك بعض الأعداء لقتلك وهلك الإسلام بسببك؟! فقال: أما

أنا فكنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله ربٌّ لا يضيعه؛ قد قُتل فلان وفلان

وفلان وعدَّد خلقاً من الملوك فلم يُضع الله الإسلام! «.

وفي هذه المعركة حمل التتار بقيادة» كتبغانوين «على ميسرة المسلمين

فكسروها؛ ففزع المسلمون وانكشفوا، فلما رأى ذلك المظفر رحمه الله رمى

الخوذة من على رأسه وصرخ فيهم المظفر رحمه الله: وا إسلاماه! وا إسلاماه!

وا إسلاماه! فتشجعت الهمم:

من لي بجيلٍ نداء الموت يطربهُ ... وللرصاص بساحاتِ الفدا زجلُ

لبيك لبيك يا صوت الجهاد فقد ... أجابك القلبُ والأشواقُ والمقلُ

لو لم تسرْ بنا قدمٌ سارت بنا مهجٌ ... تكاد عنا إلى لقياك ترتحلُ

» ثم أيَّد الله المسلمين وثبتهم، فحملوا حملة صادقة على التتار فهزموهم

هزيمة لا تُجبر أبداً، وقتل «كتبغانوين» في المعركة، وأُسر ابنه، وكان شاباً

حسناً، فأُحضر بين يدي المظفر قطز، فقال له: أهرب أبوك؟ قال: إنه لا يهرب.

فطلبوه فوجدوه بين القتلى فلما رآه ابنه صرخ وبكى، فلما تحققه المظفر قال: نام

طيباً، كان هذا سعادة التتار وبقتله ذهب سعدهم. وهكذا كان كما قال، ولم يفلحوا

بعده أبداً، وكان قتله يوم الجمعة الخامس والعشرين من رمضان، لعنه الله تعالى «

[19] .

7 - تجميع الصفوف:

تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً ... وإذا افترقن تكسرت آحاداً

وقد علم الناس أن الريح أشدَّ من الرياح، وإذا كانت اليد الواحدة لا تصفق؛

فإن الأيدي المختلفة ما لم تُضبط تعترك وتتخاصم.

لا شك؛ لن تجعلها صفاً واحداً، لكن استووا وتراصوا، وأتموا الصف الأول

فالأول! ..

نحتاج إلى رص الصفوف والقلوب والجهود، ونحتاج إلى نشر أدب الخلاف

وفقه الأخوة مع قاموس نظيف للألفاظ، ونحتاج ثالثاً إلى النصح والتصحيح، وبيان

الحق والصبر على ذلك.. ولا شك أن المقصود ليس هو الاجتماع فقط، وليس هو

كونك على شيء من حق فقط، ولكن المقصود الاجتماع على الحق، والله يقول:

[وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُوا] (آل عمران: 103) ، وأول من

نحتاج إلى الالتفاف حوله ورص الصف معه: العلماء والمجاهدون والدعاة.

نحتاج إلى ترشيد الجهود، إلى التسامي عن المعارك الهامشية حول اسم

ورمز، أو المجادلة عن حظ النفس باسم الدفاع عن الدين..، أو الأنانية الفكرية

الضيقة في (أنا) الفردية أو (نحن) الحزبية.

لما اقترب التتار من دمشق سنة 702هـ في شهر شعبان، جاء شيخ الإسلام

العالم المجاهد ابن تيمية فحرَّض الناس على القتال، وكان الناس قد خافوا،» ولم

يبق حول القرى والحواضر أحد، وامتلأت القلعة والبلد، وازدحمت المنازل

والطرقات، واضطرب الناس، وخرج الشيخ تقي الدين ابن تيمية صبيحة يوم

الخميس من الشهر المذكور من باب النصر بمشقة كبيرة، وصحبته جماعة ليشهد

القتال بنفسه ومن معه؛ فظنوا أنه إنما خرج هارباً، فحصل اللوم من بعض الناس،

وقالوا: أنت منعتنا من الجفل وها أنت هارب من البلد؟ فلم يرد عليهم!! « [20] .

وكلام سيئ قد وقرت ... أذني عنه وما بي من صمم!

ابن تيمية يهرب من البلد؟! سبحان الله! ولكن الوقت عنده رحمه الله ليس

وقت أنت هربت وأنا لم أهرب!

نحتاج كذلك إلى تقليل القيادات! نعم؛ من المستحيل حالياً على الأقل أن

تجعل الأمة تحت قيادة واحدة، ويفيئون إلى راية واحدة، ويستمعون لشيخ واحد أو

صوت واحد، ومع ذلك فلا يصلح أبداً أن تموج الأمة في عشرات آلاف الرؤوس

في عشرات الآلاف من الطرق والتوجهات! ، وتكون كما قيل:» جاءت إليك

لجنة، تبيض لجنتين، تفقسان بعد جولتين عن ثمان، وبالرفاء والبنين تكثر

اللجان! «.

فلو فاءت كل فئة إلى أكبر رأس لها من أهل العلم تحسبه يخشى الله ويعلم عن

الله وأنه على الحق؛ فتستمع له، وترد إليه وتصدر عنه، وتقترب منه، وتناقشه

فيما ترى، ولا مانع أن تخالفه في الرأي والعمل إذا صحَّ عندها الدليل، ولكن على

الأقل ألا تخبط في الآراء خبط عشواء.

والمقصود هنا قلة القيادات الموجِّهة، أما قيادات العمل والتفعيل والتنفيذ فنعم،

بل وزد؛ لأن الأمة لن تستوعبها الرؤوس ولا الجماعات الموجودة ولو تضاعفت،

بل ينبغي أن نفعِّل الأمة كل الأمة..

8 - تفعيل الأمة كل الأمة:

كل الأمة؛ الصغير والكبير، والرجل والأنثى، الغني والفقير وما بينهما،

الصحيح والمريض، والأعرج والمشلول، حتى البر والفاجر وآخرين خلطوا، بل

حتى المبتدع ونصف المبتدع وربعه ما لم يخرج عن الإسلام؛ هذا فضلاً عن

الجماعات المسلمة بكل الأسماء وفي كل الاتجاهات..

تريد مهذباً لا عيب فيه ... وهل عود يفوح بلا دخانِ؟

العمل للأمة واجب الجميع؛ لأنها أزمة الجميع، ولأنَّا نحتاج إلى كل الطاقات،

وهي أوسع من فئة أو أفراد أصلحوا ما بينهم وبين الله، وبالطبع؛ فلا بد أن

يكون التفعيل وفق ما يرضي الله، وأن تصب مصلحته فيما يرضي الله، وأن يبقى

النصح والعتاب، وربما البغض في الله، بما يوافق شرع الله..

نحتاج أولاً: إلى إيقاظ الأمة، إلى نفض بقايا النوم، إلى إحياء الموات

وبعث الجماد.

نحتاج ثانياً: إلى تجييش الأمة، إلى الكلمة التي تستنهض همتها؛ إلى

الصورة، والخطبة، والقصة، والعاطفة.

نحتاج ثالثاً: إلى التغاضي شيئاً ما، وإلى تهدئة لهجة العتاب شيئاً ما، وإلى

تأجيل الخصومات الداخلية وتجاوز الخلافات الشكلية.

في الخندق، والأزمة أزمة الأحزاب.. يعمل الجميع، الرجال يحفرون،

ويحملون الصخور، ويحرسون الثغور، سلمان يخطط، وعلي يقصف رأس من

يعبر الخندق، وعبد اللَّه بن رواحة وخوات بن جبير يتحسسان أخبار قريظة،

حتى امرأة جابر تصنع طعاماً يبارك الله فيه فيكفي أهل الخندق، وحتى عبد الله بن

الزبير الفتى الصغير يراقب من على سور الحصن، وحتى عبد الله بن أم مكتوم

الرجل الضرير يوليه رسول الله صلى الله عليه وسلم» مديراً «لأمور المدينة..

في أزمة الردة، تنتفض الأمة كلها: أبو بكر يفتي ويوجه ويعقد الألوية، بل ويقاتل

بنفسه في ذي الحسي والقصَّة، علي والزبير وطلحة وسعد يحرسون أنقاب

المدينة، وآل مقرن في معركة مع الأعراب، وأسامة إلى الروم، وخالد إلى

البطاح، وعكرمة إلى اليمامة، وعمرو إلى الشمال، والعلاء إلى البحرين،

وعدي يثبت أهل الطائف، وسهيل يثبت أهل مكة، إلى آلاف الأسماء والمهمات

خلفها الأمة كلها..

في القادسية، يفترسون الفرس بجيش فيه سعد بن وقاص القائد المصاب،

وفيه أبو محجن الثقفي شارب الخمر مجلود الظهر ولكنه يحب الله، وفيه ربعي بن

عامر الخطيب المؤمن الذي يقول: إن الله ابتعثنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى

عبادة رب العباد.

بل وانظر إلى زمن صلاح الدين بطل حطين، والمظفر قطز بطل عين

جالوت، وابن تيمية بطل شقحب؛ اقرأ الأخبار، واسبر الرجال، واقرأ الفهارس،

لتجد أن الأمة مع انتصارها لا تخلو من ضعف وتقصير، ومعاص وبدع،

وشغب وخصومات، فالكمال عزيز، ومن اشترط للنصر أن تعود الأمة كلها

» جيلاً فريداً «كجيل الصحابة؛ فقد اشترط محالاً، وغفل عن سيرة

الأمة..

وقد أجمعوا أن الجهاد ماضٍ مع كل إمام مسلم؛ بر أو فاجر، فإذا جاز أن

تقاتل الأمة خلف إمام فاجر في سبيل الله طبعاً؛ ألا يجوز أن يكون في جيشها

الفاجر وشبه الفاجر؟ و» إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر « [21] .

9 - إلى الله:

وأخيراً إلى الله.. وما جعلت هذا الموقف هنا أخيراً لأنه مهمل، ولا أتيت به

تكميلاً للقسمة و» أسلمة «للبيان.. ولكن جعلته هنا ليكون آخر ما تقرأ؛ لتذكره

فلا تنساه، لتحفظه حفظاً وتحفره في ذاكرتك، وتكتبه في يدك، وتجعله في

خاتمك..

إلى الله؛ فالخير بيديه، والشكوى إليه، والأمر منه وإليه.

إلى الله؛ فهو أمان الخائفين، وأنس المستوحشين، ورب العالمين. [فَفِرُّوا

إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ

مُّبِينٌ] (الذاريات: 50-51) .

في يوم بدر جاءت قريش، جاءت بجيش من خيلها وجيش من خيلائها،

جاءت بهيلمانها وانتفاشها، جاءت برؤوسها؛ يسيرون في غابة أشجارها السيوف

والرماح، ألف من المقاتلين الحنقين المغضبين.. خرجوا بطراً ورئاء الناس

ويصدون عن سبيل الله، وزين لهم الشيطان أعمالهم.

وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون في ثلاثمائة رجل، جاؤوا

وليس لهم غير فرسين، وغير جمال يتعاقب على الواحد منها الثلاثة والأربعة

والخمسة، جاؤوا بالثياب المرقعة.. ونام الصحابة» إلا رسول الله صلى الله عليه

وسلم؛ يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح! « [22] .

ذهب إلى الله؛ وقد» بات رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة يصلي

إلى جذع شجرة هناك، ويكثر في سجوده أن يقول: يا حي يا قيوم. يكرر ذلك «

[23] .

جَمَعَ الشجاعةَ والخشوعَ لربِّه ما أحسن المحرابَ في المحرابِ! وأصبح

الصبح، وتراءى الجمعان.. وجاءت الولاءات المتحدة القرشية!» فلما أقبلت

ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل وهو الكثيب الذي جاؤوا

منه إلى الوادي، فقال: «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها؛ تحادك

وتكذب رسولك، اللهم أحنهم الغداة» [24] .

ثم ذهب صلى الله عليه وسلم إلى الله! قال عمر بن الخطاب: لما كان يوم

بدر نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم ألف، وأصحابه

ثلاثمائة وتسعة عشر رجلاً؛ فاستقبل نبي الله صلى الله عليه وسلم القبلة ثم مد يديه

فجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم آت ما وعدتني، اللهم إن

تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تُعبد في الأرض» ، فما زال يهتف بربه ماداً

يديه مستقبل القبلة؛ حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه

على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: يا نبي الله! كفاك مناشدتك ربك، فإنه

سينجز لك ما وعدك، [إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ

المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ] (الأنفال: 9) . فأمده الله بالملائكة « [25] .

علي بن أبي طالب قال:» لما كان يوم بدر قاتلت شيئاً من قتال، ثم جئت

مسرعاً لأنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما فعل، فجئت فأجده وهو ساجد

يقول: «يا حي يا قيوم!» لا يزيد عليها، فرجعت إلى القتال ثم جئت وهو ساجد

يقول ذلك، ثم ذهبت إلى القتال، ثم جئت وهو ساجد يقول ذلك، فلم يزل يقول

ذلك حتى فتح الله عليه « [26] .

إلى الله يوم أزمة الخندق..

يوم بلغت القلوب الحناجر، وخرجت العيون من المحاجر، يرسل رسول الله

صلى الله عليه وسلم حذيفة يستطلع خبر القوم، فيرجع إليه فإذا هو قائم يصلي [27] !

قال حذيفة:» وكان إذا حَزَ بَه أمرٌ صلَّى « [28] :

لله درُّك ما نسيت رسالةً ... قدسيةً وعِداك بالأبوابِ أفديك

ما رمشت عيونك رمشة ... في ساعة والموت في الأهدابِ

وإلى الله.. يوم قتال الترك..

قال الأصمعي: لما صافّ قتيبة بن مسلم للترك، وهاله أمرهم، سأل عن

محمد بن واسع، فقيل: هو ذاك في الميمنة جامح على قوسه، يبصبص بأصبعه

نحو السماء. فقال قتيبة: تلك الأصبع أحب إليَّ من مائة ألف سيف شهير وشاب

طرير! [29] .

وإلى الله.. يوم قتال الروم في (ملاذكرد) عام 463 هـ..

وها أنا ذا أسوق قصتها لك كما حدَّث بها قلم ابن كثير، وما حفزني إلى ذلك

إلا مشابهة الحال للحال، وكيف أن روم الأمس كروم اليوم جمعوا الناس، وساقوا

المدرعات، وخططوا فيما بينهم في اقتسام البلاد!

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:» وفيها [أي سنة 463هـ] أقبل ملك الروم

أرمانوس في جحافل أمثال الجبال، من الروم والكرج والفرنج، وعدد عظيمة

وتجمل هائل، ومعه خمسة وثلاثون ... من البطارقة، مع كل بطريق ما بين ألفي

فارس إلى خمسائة فارس، ومن الغزِّ الذين يكونون وراء القسطنطينية خمسة عشر

ألفاً، ومعه مائة ألف نقّاب وحفّار، وألف روزجاري [أي عامل] ، ومعه أربعمائة

عجلة تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والسروج والعرّادات

والمجانيق، منها منجنيق يمده ألف ومائتا رجل، ومن عزمه قبحه الله تعالى أن

يجتث الإسلام وأهله، أقطع بطارقته البلاد حتى بغداد!! واستوصى نائبها بالخليفة

خيراً! فقال له: ارفق بذلك الشيخ فإنه صاحبنا! ثم إذا استوسقت ممالك العراق

وخراسان لهم؛ مالوا على الشام وأهله ميلة واحدة فاستعادوه من أيدي المسلمين،

واستنقذوه فيما يزعمون، والقدر يقول: [لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ]

(الحجر: 72) . فالتقاه السلطان ألب أرسلان في جيشه وهم قريب من عشرين

ألفاً؛ بمكان يقال له الرهوة في يوم الأربعاء لخمس بقين من ذي القعدة، وخاف

كثرة المشركين، فأشار عليه الفقيه أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري بأن

يكون وقت الوقعة يوم الجمعة بعد الزوال حين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين

[30] .

فلما تواجه الفتيان نزل السلطان عن فرسه وسجد لله عز وجل، ومرغ وجهه

في التراب ودعا الله واستنصره؛ [وبكى وتضرع] ، فأنزل نصره على المسلمين،

ومنحهم أكتافهم؛ فقتلوا منهم خلقاً كثيراً لا يُحصون كثرة، وأسر ملكهم أرمانوس؛

أسره غلام رومي، فأمَّره السلطان وأعطاه شيئاً كثيراً.

وقد كان هذا الغلام عُرض على نظام الملك الوزير في جملة تقدمةٍ فلم يقبله؛

فقال له سيده: إنه.. وإنه.. يثني عليه، فرده [أي رده إلى الجيش] وقال كهيئة

المستهزئ به: لعله يجيئنا بملك الروم أرمانوس أسيراً!! فوقع الأمر كما قال، فلله

الحمد والمنة «.

إليك وإلا لا تُشد الركائبُ ... ومنك وإلا فالمؤمِّل خائبُ

وفيك وإلا فالرجاء مضيعٌ ... وعنك وإلا فالمحدِّث كاذبُ

وإن تعجب فاعجب لقوم يحاربون الله ويعادون دينه ويقاتلون أولياءه، قد

جندوا أنفسهم للشيطان، وقتلوا النفوس وسرقوا الأوطان، ومع ذلك فروا بزعمهم

إلى إلههم!

روت مفكرة الإسلام في موقعها بتاريخ 27/1/1424هـ فقالت:» رغم أن

الجنود الأميركيين الذين يشاركون في القتال ضد العراق هم الذين يواجهون الخطر

في أرض المعركة إلا أنه طُلب منهم الدعاء من أجل رئيسهم جورج بوش،

ووزعت كتيبات على آلاف من رجال مشاة البحرية الأميركية [المارينز] تحمل

عنوان «واجب المسيحي» ، وتحتوي تلك الكتيبات على أدعية، كما تحتوي على

جزء يتم نزعه من الكتيب لإرساله بالبريد إلى البيت الأبيض ليثبت أن الجندي الذي

أرسله كان يصلي من أجل بوش! وطبقاً لأحد الصحفيين المرافقين لقوات التحالف؛

فإن هذا الجزء يقول: (لقد صليت من أجلك، ومن أجل عائلتك، وموظفيك

وجنودنا؛ في هذه الأوقات التي تسودها حالة عدم اليقين والاضطراب؛ ليكن سلام

الله دليلك!) ، ويقدم الكتيب الذي وضعته جماعة تسمى «إن توتش منيستريز»

صلوات يومية من أجل الرئيس الأميركي، وتقول صلاة يوم الأحد: (ادع من

أجل أن يلجأ الرئيس ومستشاروه إلى الله وحكمته كل يوم، ولا يعتمدون على فهمهم

الخاص!!) . أما صلاة الاثنين فتقول: (ادع أن يكون الرئيس ومستشاروه أقوياء

وشجعاناً لعمل الصواب بغض النظر عن النقاد) !! [31] .

وبعد؛ فهذه أزمة، وهذا موقف؛ فيا مسلم.. اثبت وثبِّت، ازرع الإيمان

ووضِّح الدين، اهتم وأشعل الهمة، وحِّد الصف، وفعِّل الأمة، وفر إلى الله؛ جرِّد

حسام العزم وقل: باسم الله، واضرب رأس الأزمة، ولا تعجز، واجمع أصحابك

وكونوا:

رجالاً إذا الدينُ ناداهم ... أجابوا بـ «لبيك» قبل الصدى!

جرى حبُّ نصرته في العروق ... فأضحى بها المنهضَ المقعدا

إذا ابتدؤوا همةً في العلا ... ففي ظلِّه خبرُ المبتدا

طور بواسطة نورين ميديا © 2015