مجله البيان (صفحة 4568)

دراسة في انعكاسات الانتفاضة على الواقع السكاني والاجتماعي والفكري في الكيان الإسرائيلي

المسلمون والعالم

دراسة في انعكاسات الانتفاضة

على الواقع السكاني والاجتماعي والفكري في الكيان الإسرائيلي [*]

في كتابه (يوم الحساب) ؛ يرى المفكر والكاتب الإسرائيلي الشهير «باروخ

كلمبرينغ» انتفاضة الأقصى نقطة تحوُّل مهمة في تاريخ الدولة العبرية، ويشير

المفكر الذي يتلقف القائمون على دوائر صنع القرار في الدولة العبرية كتاباته إلى

أن انتفاضة الأقصى قد «عرَّت» الكثير من المسلَّمات والفرضيات التي كانت

تحكم تعامل الدولة العبرية مع الشعب الفلسطيني، وفي الوقت نفسه يؤكد أن

الانتفاضة قد عصفت بالنظم البنيوية للمجتمع (الإسرائيلي) بشكل ضاعف حجم

التحديات التي تقف أمام هذا المجتمع.

ويرسم المفكر الصهيوني علامات استفهام كبيرة حول قدرة المجتمع

الصهيوني على مواجهة ما يسميه «الآثار الكارثية للانتفاضة على المجتمع

(الإسرائيلي) » .

أما المفكر والجنرال المتقاعد «رؤفين فيدهستور» فيصل إلى حد اعتبار

انتفاضة الأقصى أهم تحد يواجه الدولة العبرية، ولا يخفي «فيدهستور» شعوره

بالخوف من أن تمثل الانتفاضة تهديداً وجودياً للدولة العبرية [1] .

وفي هذه الدراسة مناقشة لمظاهر تأثير انتفاضة الأقصى على التركيبة

السكانية في الدولة العبرية، إلى جانب تشخيص مظاهر تأثيرها على المجتمع

(الإسرائيلي) فكرياً واجتماعياً.

أولاً: الانعكاسات على الواقع السكاني:

* نزوح المستوطنين عن المستوطنات، وتقلص عدد المتجهين للاستقرار فيها:

تدل المعطيات الرسمية الإسرائيلية على أن اندلاع انتفاضة الأقصى،

وعمليات المقاومة الفلسطينية التي تتخللها قد أدت إلى تآكل المسوِّغات التي جعلت

المستوطنات اليهودية في أرجاء الضفة الغربية وقطاع غزة بيئة مغرية للاستقرار

بالنسبة لكثير من اليهود.

وقد وجد هذا التأثير ترجمته في مظهرين مهمين:

الأول: تقلص عدد اليهود الذين يتجهون للاستقرار في هذه المستوطنات.

المظهر الثاني: نزوح الكثير من المستوطنين عن هذه المستوطنات.

وحسب معطيات مكتب الإحصاء المركزي الإسرائيلي؛ فإنه في عام 2002م

طرأ انخفاض بنسبة 62% على عدد اليهود الذي قدموا للاستقرار في المستوطنات؛

عما كان عليه الحال في عام 1999م [2] .

أما فيما يتعلق بنزوح المستوطنين عن مستوطناتهم؛ فحسب معطيات حركة

«السلام الآن» الإسرائيلية؛ فقد نزح في عام 2002م حوالي 45% من

المستوطنين اليهود؛ بحيث اتجهوا للاستقرار داخل حدود (إسرائيل) .

والمستوطنات التي تعرَّض سكانها بشكل مباشر لعمليات المقاومة؛ كانت حركة

النزوح عنها أكبر بشكل واضح، فمثلاً مستوطنة «عموانئيل» ، الواقعة شمال

نابلس، والتي تعرضت لعمليتين استشهاديتين نفذتهما كتائب عز الدين القسام

(الجناح العسكري لحركة حماس) ؛ فقد هجرها 60% من سكانها [3] .

ويشير البرفيسور «حانوخ بيرمان» المختص بدراسة اتجاهات

المستوطنين؛ إلى أن الانتفاضة والعمليات الفدائية الفلسطينية قد أثرت بشكل

كبير في ذلك القطاع من المستوطنين الذي قدم للاستقرار في الضفة الغربية وقطاع

غزة لأسباب اقتصادية، وللبحث عن ظروف حياة أسهل، مع العلم أن هذا القطاع

يشكل أكبر من 60% من المستوطنين.

ويؤكد «بيرمان» أنه بالنسبة لهذا القطاع من المستوطنين؛ فإنه في حال

توفر جهة حكومية إسرائيلية تبدي استعدادها لتعويضهم عن المنازل التي بنوها،

وتضمن لهم توفير فرص عمل في مكان آخر؛ فإن أياً من هؤلاء لن يبقى في

المستوطنات؛ حيث يصرح هؤلاء أنهم لم يقدموا لدوافع إيديولوجية، ومن ثم فإنهم

لا يجدون أن هناك أي مسوّغ يدفعهم للتضحية بالبقاء في هذه المستوطنات [4] .

لكن على الباحثين هنا توخي الحذر في التعاطي مع المعطيات التي تقدمها

المؤسسات الرسمية الإسرائيلية بشأن مظاهر تأثير الانتفاضة في الاستيطان، فمثلاً

يتعمد مجلس المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية وقطاع غزة دوماً الادعاء بأن

الانتفاضة لم تؤد إلا لزيادة عدد المستوطنين، ويمارس مجلس المستوطنات اليهودية

ضغوطاً كبيرة على العديد من مؤسسات الدولة ووزاراتها لكي توائم معطياتها بشأن

الاستيطان مع هذا التوجه [5] .

* انخفاض الهجرة، وتعاظم الهجرة العكسية:

وقد تركت الانتفاضة تأثيرها بشكل واضح في حركة الهجرة اليهودية إلى

(إسرائيل) ، ففي عام 2002م طرأ انخفاض بنسبة 23% على عدد المهاجرين

اليهود الذين وصلوا إلى الدولة العبرية من أرجاء العالم [6] .

ويؤكد «سالي مريدور» رئيس الوكالة اليهودية (المؤسسة الصهيونية التي

تعنى بتهجير اليهود من أرجاء العالم إلى الدولة العبرية) أن اليهود الذين ينتشرون

في أرجاء العالم عندما يشاهدون عبر شاشات التلفزة أشلاء سكان المدن الإسرائيلية

وهي تتطاير في أعقاب تنفيذ عمليات التفجير التي يقوم بها الفلسطينيون؛ فإنهم

سيفكرون ألف مرة قبل التوجه إلى (إسرائيل) .

ويؤكد «مريدور» أنه لولا حدوث اضطرابات كما في الأرجنتين لكانت

نسبة انخفاض الهجرة اليهودية إلى (إسرائيل) أكبر مما عليه الآن [7] .

وهنا يجدر التنبيه إلى نقطة مهمة، وهي أنه يتوجب النظر بالشك إلى

معطيات الدوائر الرسمية الإسرائيلية في كل ما يتعلق بمعدلات الهجرة، وقد أكد

الصحافي «رونين بريغمان» أن هناك دلائل تؤكد أن الانخفاض في عدد اليهود

الذين هاجروا إلى الدولة العبرية خلال عام 2002م هو أكبر من الأعداد التي تفصح

عنها الوكالة اليهودية [8] .

وقد انخفضت نسبة الهجرة اليهودية على الرغم من أن الوكالة اليهودية

بالتعاون مع وزارة الاستيعاب الإسرائيلية قامت خلال عام 2002م بحملات

«توعية» في جميع الدول التي توجد فيها أقليات يهودية؛ من أجل إقناعها أنه

من الأجدر باليهود العيش في (إسرائيل) ، وأن الانتفاضة لا تؤثر بشكل فعليّ

في مجريات الحياة في الدولة.

ويشير «يولي أدلشتاين» ، نائب وزير الاستيعاب الإسرائيلي إلى أن انتفاضة

الأقصى كان لها تأثيران سلبيان على حركة الهجرة اليهودية إلى (إسرائيل) :

الأول: الخوف من العمليات الاستشهادية التي تنفذها الحركات الفلسطينية.

الثاني: بسبب التدهور الاقتصادي الناجم عن الانتفاضة، فلم تعد (إسرائيل)

مغرية لكثير من قطاعات اليهود في أرجاء العالم [9] .

لكن يتضح أيضاً أن الانتفاضة لم تؤثر سلباً فقط على حركة الهجرة اليهودية

إلى (إسرائيل) ، بل إنها شجعت وبشكل كبير الهجرة العكسية من (إسرائيل) إلى

العالم الخارجي، وهذا يتضح بشكل واضح حتى من المعطيات الإسرائيلية الرسمية

نفسها.

ويتضح أيضاً أنه مقابل كل مهاجرَيْن يهوديَيْن وصلا (إسرائيل) في عام

2002م؛ غادر يهودي آخر (إسرائيل) إلى الخارج، في حين أن تقديرات

الجهات الرسمية ذات العلاقة بالهجرة تؤكد أن نسبة المهاجرين من (إسرائيل)

ستصل إلى 50% من المهاجرين لها [10] .

لكن انتفاضة الأقصى لم تجبر فقط المهاجرين الجدد على مغادرة الدولة

العبرية؛ بل إنها دفعت فئتين من أهم الفئات في المجتمع الإسرائيلي للهجرة:

الفئة الأولى: قطاع المستثمرين ورؤوس الأموال، فحسب معطيات جمعية

الصناعيين في (إسرائيل) ؛ فقد غادر (إسرائيل) في كل من عام 2001م، وعام

2002م أكثر من 850 مستثمر إسرائيلي يملكون رأس مال يفوق عشرين مليار

دولار [11] .

وهنا يتوجب الإشارة إلى ما أصبح معروفاً للجميع، وهو قيام شركة بناء

كندية عملاقة ببناء عشرات الفيلل لرجال الأعمال الإسرائيليين في كندا بناءً على

طلبهم، وذلك تمهيداً لانتقالهم للعيش هناك بشكل دائم، ونظراً للإقبال على عروض

الشركة الكندية؛ فقد قامت الشركة بنشر إعلانات في الصحف وقنوات التلفزة

الإسرائيلية.

أما الفئة الثانية: فهم أصحاب المؤهلات العلمية والأكاديمية الذين تعذر

استيعابهم في المرافق الاقتصادية؛ بسبب التدهور الاقتصادي الذي أدت إليه

الانتفاضة، فغادروا (إسرائيل) ، وبشكل خاص إلى الولايات المتحدة وأوروبا.

وهنا يتوجب الإشارة إلى أن الدولة العبرية تُعَدُّ دولة رفاهة؛ حيث إن الفرد

يحصل على مخصصات اجتماعية كبيرة ومتنوعة، ابتداءً بمخصصات البطالة،

ومخصصات الأطفال، فضلاً عن التسهيلات التي تُمنح للأسر كثيرة الأولاد، ولولا

مواصلة الدولة دفع هذه المخصصات؛ فإنه مما لا شك فيه أن ظاهرة الهجرة

العكسية ستكون أوسع مما هي عليه الآن، مع العلم أن قدرة الدولة العبرية على

مواصلة دفع هذه المخصصات في المستقبل غير مضمونة؛ في ضوء التدهور

الحاصل في الاقتصاد الإسرائيلي.

* الهجرة الداخلية:

على الرغم من أن منطقة (تل أبيب) وما يحيط بها من مدن شكَّلت وما

زالت تشكِّل نقطة جذب لمعظم الإسرائيليين؛ لكونها تضم البنية التحتية الصناعية

والتجارية في الدولة العبرية، فضلاً عن انتشار مرافق اللهو والترفيه فيها، لكن مع

ذلك فقد أدت الانتفاضة إلى انتقال عدد من اليهود القاطنين في هذه المنطقة إلى

أطراف الدولة العبرية خلال العامين الماضيين، فمن المعروف أن منطقة تل أبيب

والمنطقة المجاورة لها، والتي يُطلق عليها منطقة «المركز» ؛ قد شهدت العدد

الأكبر من العمليات الاستشهادية في انتفاضة الأقصى.

وحسب «رون خولدائي» رئيس بلدية «تل أبيب» ؛ فإن هناك علاقة

وثيقة بين هذه الظاهرة والعمليات الاستشهادية، ويؤكد أن قسم «الرفاهية

الاجتماعية» في البلدية قد أعد دراسة أكدت أن معظم الذين تركوا المنطقة أقدموا

على ذلك بسبب الخوف من إمكانية تعرضهم للأذى في عمليات استشهادية [12] .

* تفاقم الخطر السكاني (الديموجرافي) :

رأت الحركة الصهيونية، وجميع دوائر صنع القرار في الدولة العبرية؛ أن

الحفاظ على التفوق السكاني (الديموجرافي) لليهود في فلسطين هو أهم هدف

يتوجب، ليس فقط تأمينه في الوقت الحاضر، بل والحرص على ضمانه في

المستقبل، ولما كانت الهجرة اليهودية لفلسطين هي أهم وسيلة لتعزيز الثقل السكاني

(الديموجرافي) لليهود؛ فإن أي عامل يؤثر سلباً في الهجرة اليهودية؛ إنما يفاقم

الخطر السكاني (الديموجرافي) ، وفي المؤتمر الذي عقده «مركز هرتسليا متعدد

الاتجاهات» ، طالب وزير البنى التحتية الصهيوني «إيفي إيتام» ، رئيس حزب

«همفدال» الديني باعتبار انتفاضة الأقصى أحد أهم العوامل التي تعمل على

تقليص الفجوة بين عدد اليهود والفلسطينيين في أرض فلسطين، ولذا لم يتردد

«إيتام» في وصف الانتفاضة بأنها «خطر وجودي من الطراز الأول» [13] .

ثانياً: الانعكاسات على الواقع الاجتماعي:

* تغير أنماط الحياة والسلوك الاجتماعي لدى الإسرائيليين:

تشير الدكتورة «سيغال أهارونشكي» أستاذة العلوم الاجتماعية في جامعة تل

أبيب إلى أنه منذ تأسيس الدولة العبرية وحتى الآن لم يؤثر حدث في أنماط الحياة

والسلوك الاجتماعي للإسرائيليين مثلما أثرت انتفاضة الأقصى.

وحسب معطيات دائرة العلاقات العامة في شركة «إيغد» الرسمية للنقل

العام؛ فقد أدى الخوف من العمليات الاستشهادية إلى حدوث انخفاض بنسبة 43%

على عدد الإسرائيليين الذين يستخدمون عادة وسائل النقل العامة حتى أواخر عام

2002م؛ حيث إنها كانت هدفاً مفضلاً لمنفذي العمليات الاستشهادية، وفي البداية

حدث ارتفاع في عدد المتجهين لاستخدام القطارات، لكن بعد أن تم استهداف

القطارات ومحطات السكك الحديدية من قِبَل المقاومين الفلسطينيين حدث انخفاض

على عدد الذين يستخدمون القطارات، وفي المقابل زادت نسبة الذين يستخدمون

سيارات الأجرة «التاكسي» ، وأولئك الذين يتجهون لأعمالهم مشياً على الأقدام،

ونظراً لاستهداف الفنادق والمطاعم بالعمليات الاستشهادية؛ فقد زادت نسبة

الإسرائيليين الذين أصبحوا يقيمون حفلاتهم الخاصة في بيوتهم بدلاً من إقامتها في

الفنادق والمطاعم، وحسب معطيات اتحاد الفنادق في إسرائيل؛ فإنه خلال عام

2001م وحتى أواخر عام 2002م طرأ انخفاض بنسبة 61% على عدد

الإسرائيليين الذين يحتفلون بمناسباتهم الخاصة في الفنادق والمطاعم وصالات اللهو

الكبيرة، وفي الفترة نفسها طرأ انخفاض بنسبة 59% على عدد الشبان اليهود الذين

يتجهون للمراقص الليلية في أعقاب استهدافها من قِبَل الاستشهاديين [14] .

وبسبب الخوف من العمليات الاستشهادية حدث انخفاض في عدد الإسرائيليين

الذين يتجهون إلى شبكات التسوق الكبيرة، وحسب معطيات اتحاد الغرف التجارية

في الدولة العبرية؛ فقد طرأ انخفاض بنسبة 35% على أرباح شبكات التسوق

الكبيرة بسبب تقلص عدد الإسرائيليين الذين يتجهون إليها [15] ، مع العلم أن هذه

الشبكات كانت أيضاً هدفاً لعدد من العمليات الاستشهادية.

إلى ذلك؛ أدت الانتفاضة إلى تقلص عدد الإسرائيليين الذين يقضون إجازاتهم

في المنتجعات السياحية في مدن وسط (إسرائيل) بنسبة 43% في عام 2001م،

وفي الوقت نفسه زادت نسبة الإسرائيليين الذين يتجهون إلى مدينة «إيلات»

للاصطياف؛ لأن الإسرائيليين يعتقدون أنها بعيدة عن أيدي منفذي العمليات

الاستشهادية [16] .

إلى جانب ذلك زادت نسبة الموسرين الإسرائيليين الذين يتجهون إلى قضاء

إجازاتهم في الخارج في عام 2001م بدلاً من قضائها في (إسرائيل) ؛ كما دلت

على ذلك معطيات اتحاد شركات السفر والسياحة الإسرائيلية.

إلى ذلك؛ أدت الانتفاضة إلى اتجاه مزيد من الإسرائيليين إلى تقليص عدد

الساعات التي يقضونها خارج البيت ليلاً، فحسب استطلاع أجراه معهد «سميث»

لاستطلاعات الرأي، عرضت نتائجه القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي

(23/6/2002م) ؛ فإنه بعد عامين من الانتفاضة؛ أصبح 40% من الإسرائيليين

يحرصون على العودة إلى البيت مبكراً بسبب الوضع الأمني المتدهور الذي ارتبط

بالانتفاضة.

وواضح تماماً أن اتجاه الإسرائيليين لتغيير أنماط حياتهم مرتبط بشكل أساسي

بتدهور مستويات الشعور بالأمن الشخصي في الدولة العبرية نتيجة الانتفاضة،

وهنا يتوجب الإشارة إلى أن قدرة الإسرائيليين على موائمة أنماط حياتهم مع ما

تفرضه الانتفاضة ليست بالنسبة نفسها، وأنه يمكن الافتراض أن من يخفق في

موائمة نفسه مع الانتفاضة؛ فإنه قد يندفع نحو الهجرة للخارج.

* رفض الخدمة العسكرية في الأراضي المحتلة عام 1967م:

انشغلت (إسرائيل) على مدى العامين الماضيين بظاهرة رفض الخدمة

العسكرية في الأراضي المحتلة؛ حيث إن عدد الشبان الإسرائيليين الذين يرفضون

الخدمة في الجيش الإسرائيلي يصل إلى ألف شاب، وهؤلاء يرفضون الخدمة

لأسباب ضميرية؛ بمعنى أنهم لا يريدون أن يكونوا جزءاً من جيش احتلال يمارس

القمع ضد الشعب الفلسطيني، وإن كان مكتب الناطق بلسان جيش الاحتلال يدَّعي

أن عدد الرافضين للخدمة يصل في أحسن الأحوال إلى أربعمائة شاب فقط، لكن

حركة «السلام الآن» الإسرائيلية تؤكد أنه منذ اندلاع انتفاضة الأقصى وحتى

نهاية عام 2002م؛ فقد بلغ عدد الجنود والضباط الذين يرفضون الخدمة في الجيش

لأسباب ضميرية أكثر من ألف جندي وضابط [17] .

لكن هناك نسبة آخذة بالتعاظم داخل الأوساط الشبابية اليهودية ترفض الخدمة

في الجيش الإسرائيلي ليس لأسباب ضميرية؛ بل لأنهم يرون أن الخدمة العسكرية

في الأراضي المحتلة أثناء الانتفاضة مع كل ما يتضمنه ذلك من مخاطر؛ إنما

يعكس تكريس للغبن والتمييز الذي تمارسه الدولة ضدهم؛ حيث إن هؤلاء الشباب

يشيرون إلى أن هناك عشرات الآلاف من الشباب اليهود المتدينين الذي ينتمون

للأحزاب الدينية الأرثوذكسية اليهودية؛ يتم إعفاؤهم من الخدمة العسكرية «بدون

وجه حق» ، فقط لأن رؤساء الحكومات الإسرائيلية المتعاقبين يُبدون حرصاً على

ضم الأحزاب الدينية إلى الائتلافات الحكومية التي يشكلونها، وهذه الأحزاب

ترفض تجنيد منتسبيها في الجيش، وفي خضم الانتفاضة تداعى الآلاف من ضباط

وجنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي إلى تشكيل جمعية تُدعى: «كفى

استغلالاً» ، وتدعو إلى إعفائهم من الخدمة العسكرية في الوقت الذي لا يتم فيه

تجنيد أتباع الأحزاب الدينية الأرثوذكسية اليهودية.

وقد أدت سيادة هذا المناخ إلى بروز جماعات ضغط مجتمعية غير سياسية

وحزبية تدعو إلى إعادة الجنود إلى داخل (إسرائيل) ، وعدم إرسالهم للتعرض

للمخاطر في الانتفاضة، والانسحاب من الأراضي المحتلة، مثل جماعة «نساء

بالسواد» ، التي عادت لتنشط بعد اندلاع انتفاضة الأقصى إلى جانب ذلك؛ فإن

هناك تياراً متنامياً داخل الإسرائيليين يرفض التضحية من أجل المستوطنين اليهود

في الضفة الغربية وقطاع غزة. حتى قد وصل الأمر بنائبة يمينية في البرلمان

الإسرائيلي، وممثلة عن حزب الليكود الحاكم وتدعى «نحميا رونين» إلى دعوة

الجيش إلى تسريح زوجها الذي يعمل ضابط احتياط في الضفة الغربية.

وقالت «رونين» في مقابلة مع القناة الأولى في التلفزة الإسرائيلية بتاريخ،

29/8/2002م: «لقد صعقت عندما اكتشفت أن زوجي وعشرة من جنوده يقومون

بحراسة بؤرة استيطانية؛ مكونة من» بيت متنقل «واحد وكلب وحصان،

يعودان لمستوطن لا يصل النقطة إلا مرة في الشهر؛ لذا فأنا لا أخجل من مطالبة

الدولة بتسريح زوجي من هذه الخدمة» .

وتصل «رونين» إلى قناعة مفادها أن ما أطلقت عليه «هذا الغبن

المجتمعي» يستدعي إصلاحاً؛ ولو أدى ذلك إلى انسحاب (إسرائيل) من الضفة

الغربية، على الرغم من أنها تنتمي إلى حزب يرفض الانسحاب لدوافع إيديولوجية.

وعلينا هنا أن نشير إلى أن أهمية هذا التطور تكمن في حقيقة أن الجيش

والخدمة العسكرية كانا دوماً محط إجماع صهيوني عام، ومما لا شك فيه أن

التعرض لمحور هذا الإجماع المهم يمثل تطوراً لم يكن ليتسنى حدوثه لولا

الانتفاضة.

ومما لا شك فيه أن كسر الإجماع الصهيوني حول الخدمة العسكرية في

الجيش يمثل خطراً كبيراً يعمل على تآكل قدرة الدولة العبرية على مواجهة

الانتفاضة ومقاومة الشعب الفلسطيني، من هنا كانت الحساسية الكبيرة التي أبدتها

مؤسسات الدولة لظاهرة رفض الخدمة العسكرية.

* ارتفاع معدلات الجريمة، وزيادة معدلات الطلاق:

حسب المعطيات المتوفرة لدى مكتب الناطق باسم الشرطة الإسرائيلية؛ فإنه

منذ اندلاع انتفاضة الأقصى طرأت زيادة مرتفعة في معدلات الجريمة والعنف داخل

المجتمع الإسرائيلي. وكما تدل هذه المعطيات؛ فإن حجم الجريمة ازداد بنسة

15% في أواخر عام 2001م عما كان عليه في عام 1999م، كما أنه زاد

بنسبة بنسبة 35% حتى منتصف عام 2002م مقارنة مع الفترة نفسها في عام

1999م، حسب معطيات مكتب الناطق باسم الشرطة الإسرائيلية.

إلى ذلك؛ فقد زادت معدلات الطلاق بنسبة 18% حتى منتصف عام 2002م

عما كانت عليه حتى أواخر عام 2000م [18] .

بالنسبة لارتفاع معدلات الجريمة؛ فإن البرفيسور «إيلان يادين» أستاذ

العلوم الاجتماعية في جامعة تل أبيب، يؤكد أن هناك علاقة وثيقة بين انتفاضة

الأقصى وبين زيادة معدلات العنف في المجتمع الإسرائيلي.

ويضيف «يادين» في برنامج «مباط» الإخباري الذي بثته القناة الأولى

في التلفزيون الإسرائيلي بتاريخ (19/5/2002م) أن الضباط والجنود الذين

يخدمون في الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية وقطاع غزة يميلون للعنف بشكل

خاص؛ إذ إن هؤلاء يكونون دائماً مفوضين لاستخدام قدر كبير من العنف ضد

الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة؛ الأمر الذي يفقدهم الاستعداد لإبداء أي

صبر تجاه أي موقف أسري أو اجتماعي يتطلب منهم بعض الصبر.

ويؤكد «يادين» أن الجندي الذي أدى الخدمة العسكرية في الضفة والقطاع

يكون بعد عودته إلى الحياة المدنية مستعداً للتشاجر مع أي شخص في المحيط

الأسري أو العائلة.

ويرى أن هناك علاقة بين زيادة معدلات العنف الأسرى في الدولة العبرية

والخدمة العسكرية في ظل الانتفاضة، ويستند «يادين» إلى معطيات توفرت لديه

تؤكد أن أكثر من 50% من الرجال الذين تفتح ضدهم ملفات تحقيق بسبب الاعتداء

على زوجاتهم هم من الضباط والجنود الاحتياط الذين سبق لهم الخدمة في جيش

الاحتلال ضمن أنشطة مواجهة الانتفاضة.

ويتوقع «يادين» أن تكون هناك آثار كارثية للخدمة العسكرية للجنود في

الضفة الغربية وقطاع غزة على المجتمع الصهيوني؛ في حال تطلب الأمر تواصل

وجود الجنود في المناطق الفلسطينية؛ إذ إن ذلك سيكون كفيلاً بزيادة معدلات

الجريمة والعنف في الدولة العبرية إلى حد كبير.

أما عن زيادة معدلات الطلاق في المجتمع الإسرائيلي في الانتفاضة؛ فإن

«يادين» يشير جازماً إلى أن 40% من النساء اللواتي يرفعن قضايا طلاق

في المحاكم ضد أزواجهن هنَّ زوجات رجال كانوا ضباطاً أو جنوداً احتياطيين

في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ويعدد «يادين» ثلاثة أسباب وراء هذه الظاهرة:

أولاً: غياب الرجال عن البيت بسبب الخدمة العسكرية.

ثانياً: لجوء الرجال للعنف بسبب الخدمة العسكرية في التعامل مع زوجاتهم.

ثالثاً: تدهور الأوضاع الاقتصادية للعائلة بسبب الخدمة؛ إذ إن الكثيرين من

الرجال الذين يخدمون في سلك الاحتياط فقدوا أعمالهم؛ حيث تم استبدالهم بعمال

أجانب، ويجزم «يادين» أن هناك علاقة بين تدهور الأوضاع المادية للعائلة

وبين ارتفاع نسبة الطلاق.

وعندما يتغلغل تأثير الانتفاضة إلى قلب الأسرة الإسرائيلية على هذا النحو؛

فإن هذا يعكس هشاشة المجتمع الصهيوني في مواجهة الانتفاضة، هذا من ناحية،

ومن ناحية ثانية؛ فإن هذا يدل على حقيقة طالما تجسدت في كل مرة تجرؤ فيه

جماعة على استلاب شعب آخر حريته وأرضه، فحصانة المستعمر تتآكل شيئاً شيئاً

بسبب مقاومة الشعب المحتل وإرادته الصلبة في التحرير.

* ازدياد معدلات المرضى النفسيين، والإقبال على المخدرات:

الإسرائيليون الذين يتعرضون للعمليات الاستشهادية، أو أولئك الذين يكونون

شهود عيان عند وقوع هذه العمليات، أو حتى أولئك الذين يتابعون أخبار العمليات

الاستشهادية عبر وسائل الإعلام الإسرائيلية تتأثر أوضاعهم النفسية بشكل مباشر.

فحسب معطيات نقابة الأطباء النفسيين الإسرائيليين؛ فإنه في عام 2002م

بلغت نسبة الإسرائيليين الذين اضطروا لعلاج نفسي بسبب الانتفاضة 55% من

الإسرائيليين الذين زاروا العيادات النفسية [19] .

وقد دلت دراسة أجراها قسم العلوم الاجتماعية في جامعة حيفا أن 45% من

الإسرائيليين الذين ترددوا على العيادات النفسية في عام 2001م؛ قد أكدوا أنهم

كانوا إما ممن أصيبوا في عمليات استشهادية، وإما كانوا شهود عيان لها، وإما أنهم

لم يتعرضوا لها ولم يكونوا شهود عيان لها؛ لكن الخوف من السقوط في هذه

العمليات قد أدى إلى تدهور أوضاعهم النفسية [20] .

لكن تدهور الأوضاع النفسية طال أيضاً الجنود والضباط الذين يخدمون في

الضفة الغربية وقطاع غزة. فقد ذكرت صحيفة «معاريف» بتاريخ (5/11/

2002م) أنه قد تم إقامة قرية خاصة لمعالجة الجنود الذين أنهوا خدمتهم في الضفة

الغربية وقطاع غزة نفسياً.

وتشير الصحيفة بشكل واضح إلى أن الكثير من الجنود قد تدهوروا إلى

تعاطي المخدرات شديدة التأثير، وذلك في محاولة يائسة للتغلب على الأزمات

النفسية التي تعصف بهم.

لكن تأثير انتفاضة الأقصى في المجتمع الإسرائيلي تجاوز هذا المستوى، وإذا

كانت الدولة العبرية تتباهى بأنها جزء من العالم الغربي «المتحضر» الذي تسود

فيه معايير سلوك تعكس هذا «التحضر» على حد الدعاية الإسرائيلية، إلا أن

الانتفاضة خصوصاً قد دللت على أن المجتمع الإسرائيلي يتشرب حتى أحط

مستويات السلوك الاجتماعي وأكثرها تخلفاً، فقد أشارت جميع وسائل الاعلام

الإسرائيلية بتوسع أن الخوف من السقوط في العمليات الاستشهادية قد أنعش أعمال

المشعوذين المعروفين برجال «هكبلا» ؛ بحيث إن هؤلاء يقومون ببيع الجمهور

الواسع الحجب والتعويذات، والتي يدّعون أنها بإمكانهم أن تقيهم من التعرض لأذى

نتيجة لهذه العمليات [21] .

بكلمات أخرى؛ فإن الدولة العبرية التي تتباهى بأنها جزء من العالم الغربي؛

لم يجد المجتمع فيها بداً سوى إبداء أنماط سلوك تشي بهشاشة هذا المجتمع، وعدم

قدرته على مواجهة الضغوط والتحديات التي فرضتها الانتفاضة.

ثالثاً: الانعكاسات على أسس الفكر الصهيوني:

انطلقت الممارسات الإسرائيلية في التعامل مع الشعب الفلسطيني والأمة

العربية من عدة مسلَّمات وموروث فكري، شكَّل ما أطلق عليه في الدولة العبرية

«حدود الإجماع الصهيوني» ، ونحن هنا بصدد الإشارة إلى عدد من هذه

المسلَّمات، ومناقشة تأثير انتفاضة الأقصى في تماسكها:

* عجز القوة عن مواجهة إرادة الفلسطينيين:

أحد أهم المنطلقات الفكرية التي شكلت أرضية مهمة في تعامل المؤسسة

الإسرائيلية الحاكمة مع الشعب الفلسطيني كان التشديد الصهيوني وخاصة وفق

المدرسة اليمينية، على أنه تحت أي ظرف يجب إقناع الفلسطينيين أنهم لن يحرزوا

أي مكسب سياسي من خلال استخدام المقاومة المسلحة، وأنه قبل الشروع في أي

تسوية سياسية؛ فإنه يتوجب انتهاء كل مظاهر المقاومة الفلسطينية دون شروط

مسبقة.

وهذا الفهم جعل دوائر صنع القرار وخاصة في عهد الليكود تستنفد أقصى

طاقة عسكرية في مواجهة المقاومة الفلسطينية، لكن تجربة انتفاضة الأقصى أدت

إلى تآكل هذا المنطلق الفكري بشكل متزايد؛ حيث بات واضحاً بالنسبة للكثير من

المفكرين وجنرالات الجيش، فضلاً عن قطاع مهم من الطبقة السياسية ومن ضمنها

رموز في اليمين الصهيوني أن القوة العسكرية، وحرص (إسرائيل) على استغلال

تفوقها العسكري لن يجبر الفلسطينيين على التسليم.

فقد وقَّع أكثر من مائة مفكر وجنرال متقاعد صهيوني على وثيقة تنص على

أن استخدام القوة المسلحة وحدها في مواجهة مقاومة الشعب الفلسطيني لن تؤدي إلا

لمزيد من التدهور في مستويات الأمن الشخصي بالنسبة لمجمل سكان الدولة العبرية.

وشدد هؤلاء المفكرون والجنرالات على أن الأسلوب الأمثل للخروج من

الضائقة الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تواصل الانتفاضة

هو استئناف العملية السياسية والمفاوضات [22] .

وقد تسربت هذه القناعات حتى للعديد من مفكري اليمين الصهيوني في الدولة

العبرية، فنجد أن «إيال عراد» المستشار الاستراتيجي لأرئيل شارون يقول:

«الجميع بات يدرك أن المخرج من الوضع الحالي لا يمكن أن يكون إلا

بتسوية سياسية، وأن الأنشطة والحملات الأمنية التي يقوم بها الجيش لا يمكنها أن

تضع حداً للانتفاضة» [23] .

ويشهد «بنيامين بن اليعازر» الذي شغل منصب وزير الدفاع في حكومة

شارون قائلاً: «إنني أثق أن شارون وجميع الوزراء بمن فيهم ممثلي الأحزاب

اليمينية والدينية باتوا يدركون أن هناك بوناً شاسعاً بين المسلمات الإيديولوجية

المعششة في أذهانهم، وبين الواقع على حقيقته، وهم في قرارة أنفسهم يثقون أنه لا

يوجد حل عسكري للانتفاضة، وأنه بدون الاستعداد لدفع ثمن سياسي للفلسطينيين؛

فإن الانتفاضة لن تعمل فقط على تحطيم ما تبقى من الشعور بالأمن الشخصي

لسكان الدولة، بل إنها ستعمل أيضاً على تآكل الكثير من المنجزات الاستراتيجية

التي راكمتها (إسرائيل) على مدى عشرات السنين» [24] .

حتى المفكرون الأجانب الذين حاولوا دراسة الانتفاضة؛ قد نصحوا دوائر

صنع القرار في الدولة العبرية بالاستجابة لمطالب الشعب الفلسطيني قبل أن يكون

الأمر متأخراً، ففي يوم دراسي عقد في جامعة تل أبيب بمناسبة مرور عامين على

اندلاع انتفاضة الأقصى، وجه المستشرق الأمريكي «باتريك دويتش» حديثه لعدد

من قادة الدولة العبرية الذين حضروا الندوة قائلاً: «يؤسفني أن أقول لكم إنكم

تقودون دولتكم نحو مغامرة غير محسوبة بالمرة، ففي هذه المعركة لا إمكانية أمامكم

إلا أن تخسروا فقط»

* استحالة ردع الفلسطينيين:

آمنت دوائر صنع القرار في الدولة العبرية منذ تأسيسها أنه يتوجب دوماً

مراكمة عنصر الردع في المواجهة مع العالم العربي، وتتمثل فلسفة الردع التي

تؤمن بها المؤسسات الحاكمة في (إسرائيل) بأنه يتوجب مواصلة تكريس الانطباع

الذي تولد بعد الهزائم التي لحقت بالجيوش العربية في الحروب التي خاضتها ضد

(إسرائيل) ، وهو أن الجيش الإسرائيلي «جيش لا يقهر» ، وأن الدول العربية

تحسن صنعاً مع نفسها عندما تُقبل على كل الخيارات باستثناء الخيار العسكري في

التعامل مع (إسرائيل) .

وكما يؤكد «يوسي بيلين» أحد قادة اليسار الصهيوني وأحد مهندسي اتفاق

«أوسلو» في محاضرة ألقاها أمام طلبة جامعة تل أبيب، بتاريخ (15/6/2001م)

أن اتفاق أوسلو شأنه في ذلك شأن اتفاقية كامب ديفيد مع مصر، واتفاقية وادي

عربة مع الأردن لم يتسن التوقيع عليه إلا بعد أن أدرك العالم العربي أن خيار

المفاوضات هو الخيار الأوحد الذي يمكن أن يعود بالنفع على الدول العربية، وأن

هذه الدول لا يمكنها إلا أن تخرج مهزومة في كل مواجهة عسكرية مع (إسرائيل) .

لكننا نجد أن ثقة الصهاينة بقوة ردعهم قد تضعضعت بشكل كبير في انتفاضة

الأقصى، وكان هذا التضعضع استمراراً لاهتزاز قوة الردع بعد انسحاب جيش

الاحتلال القسري من جنوب لبنان.

ويؤكد الجنرال «داني روتشيلد» الذي كان يشغل منصب مدير قسم

الأبحاث في جهاز الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية؛ أن قوة الردع الإسرائيلي

في الانتفاضة تضررت وتآكلت بشكل كبير.

ويضيف «روتشيلد» قائلاً: «ما دام كان هناك فلسطينيون يؤمنون أنه

بالإمكان تحقيق مكاسب عن طريق القوة والعنف، وما دام لم تقنعهم قوتنا أنهم

يقدمون على انتحار حقيقي عبر إصرارهم على استخدام القوة العسكرية؛ فإنه

يتوجب الاستنتاج بشكل سريع أن عوامل الردع في مواجهتم قد أخفقت» [25] .

ويصل المفكر والاستراتيجي الإسرائيلي «موتي ليرنير» إلى استنتاج مفاده

أن اقتناء الدولة العبرية لأهم تقنيات الأسلحة، وأشد وسائل الدمار الشامل غير

التقليدية فتكاً لن تضمن لـ (إسرائيل) الأمن، ويذهب إلى حد التأكيد أن هذه

الترسانة العسكرية هي بالضبط التي أدت إلى تدهور وضع (إسرائيل) الأمني.

ويضيف قائلاً: «الجمود الفكري عند صانعي القرار الإسرائيليين جعلهم

يعتقدون أن القوة العسكرية كفيلة بحل المشكلات مع الجيران على الرغم من بطلان

هذه النظرية عدة مرات في الماضي» [26] .

وفي ندوة عقدت بغزة بتاريخ 18/10/2002م؛ يشدد الكاتب والصحافي

الفرنسي «إيلي بوردو» على أن الشعب الفلسطيني قد أثبت أن إرادة الشعوب في

التحرر أقوى دوماً من كل عناصر القوة العسكرية التي تفتقد لأي بعد أخلاقي.

* الانقلاب الفكري في أوساط اليمين الإسرائيلي:

لعل أحد أهم تجليات تأثير انتفاضة الأقصى في قلب الكثير من المسلَّمات

الفكرية قد تجلت بشكل واضح في التحولات التي طرأت على مواقف الجمهور

الانتخابية لليمين الإسرائيلي، فما أدركه معظم المفكرين في الدولة العبرية بات

يتشربه أيضاً جمهور الأحزاب اليمينية. فحتى هذا الجمهور الذي كان يؤمن بأنه

يتوجب الاحتفاظ بالضفة الغربية وقطاع غزة بوصفها (جزءاً لا يتجزأ من أرض

الآباء المحررة) ، كما تشدد أدبيات حزب الليكود على سبيل المثال، حتى هذا

الجمهور قد أدرك أن التشبث بهذه المواقف يتطلب منهم ثمناً أمنياً واقتصادياً

واجتماعياً كبيراً، في الوقت الذي تبين لهم أن القوة العسكرية لجيش الاحتلال

أخفقت وبشكل واضح في توفير الأمن، وكبح المقاومة الفلسطينية التي أصبحت

تهديداً مباشراً لكل إسرائيلي حيثما كان.

هذا الإدراك أدى إلى تغيير مواقف الجمهور اليميني الإسرائيلي من قضايا

مهمة، مثل الموقف من إقامة دولة فلسطينية أو تفكيك المستوطنات، فعلى الرغم

من أن البرامج السياسية للأحزاب اليمينية تصر على أنه يتوجب عدم إقامة دولة

فلسطينية، وأن أكثر ما يمكن الموافقة عليه هو حكم ذاتي للفلسطينيين، وفي الوقت

الذي تشدد فيه هذه البرامج ليس على رفض تفكيك المستوطنات، بل ومواصلة

الأنشطة الاستيطانية بوتيرة أعلى.

على الرغم من ذلك؛ فإننا نجد أن اقتناع جمهور اليمين الإسرائيلي بعجز

القوة العسكرية عن وقف المقاومة الفلسطينية قد أدى إلى تغيير مواقف هذا الجمهور

من هاتين القضيتين، فجميع استطلاعات الرأي العام الإسرائيلي تشير إلى أن أكثر

من 50% من مصوتي اليمين الإسرائيلي يؤيدون إقامة دولة فلسطينية وتفكيك معظم

المستوطنات اليهودية، مع أنه في زخم تطبيق اتفاق أوسلو كان أقل من 25% من

مصوتي اليمين الإسرائيلي يؤيدون إقامة الدولة الفلسطينية، وأقل من 20% يؤيدون

تفكيك المستوطنات اليهودية. ونشير إلى مصوتي اليمين خاصة؛ لأن جمهور

اليسار والوسط لا يبدي معارضة بشكل تقليدي لهاتين المسألتين.

إذن هذا يثبت أن انتفاضة الأقصى قد أجبرت الجمهور الإسرائيلي على تبني

مواقف أكثر مرونة حول القضايا التي تشكل الصراع بين دولة الاحتلال والشعب

الفلسطيني، مع العلم أن الأحزاب اليمينية لا تصر فقط على تجاهل التغيرات في

مواقف جمهورها، بل إنها أضفت مزيداً من التطرف على مواقفها الإيديولوجية،

فنجد أن الدعوة لتطبيق «الترانسفير» عادت بقوة في البرامج الانتخابية من

الأحزاب مثل حزب «التجمع الوطني» ، وحركة «حيروت» ، إلى جانب تبني

مواقف أكثر تزمتاً من ملف القدس، فنجد أن حزب مثل «الاتحاد الوطني»

بزعامة ليبرمان يدعو إلى السيطرة المباشرة على المسجد الأقصى ومنع المسلمين

من الصلاة فيه، ولو تطلب الأمر خوض مواجهة شاملة مع العالم العربي

والإسلامي [27] .

* تراجع الرهان الإسرائيلي على التباين الإيديولوجي بين الفلسطينيين:

المؤسستان السياسية والأمنية في الدولة العبرية كانتا دوماً تراهنان على أن

هناك فروقاً إيديولوجية بين الفلسطينيين يفترض أنها تلزم الدولة العبرية باعتماد

سبل مواجهة مختلفة مع قوى الشعب الفلسطيني المختلفة، على اعتبار أن

المنطلقات الفكرية للفصائل الفلسطينية كانت تقتضي اتباعها أساليب مقاومة مختلفة،

فمثلاً كانت تفترض المؤسسات الصهيونية أنه باستثناء الحركات الإسلامية

الفلسطينية؛ فإن بقية الفصائل الفلسطينية لن تعتمد أسلوب العمليات الاستشهادية؛

لذا عندما حاول قسم الأبحاث في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية في بداية

الانتفاضة تحديد سمت الاستشهادي الفلسطيني؛ استبعد هذا السمت أن يكون

الاستشهادي منتمياً إلى تنظيم غير إسلامي، لكن انتفاضة الأقصى سرعان ما أدت

إلى تغيير هذا الانطباع؛ عندما اعتمدت بقية التنظيمات الفلسطينية العمل

الاستشهادي بوصفه أسلوباً من أساليب المقاومة ضد الاحتلال.

ويقر وزير الخارجية الإسرائيلي الأسبق شمعون بيريز أن الانتفاضة قد

قلصت الفروق الإيديولوجية بين الفلسطينيين في كل ما يتعلق بمواقفهم من القضايا

التي تشكل الصراع، حتى شخص مثل السفير الأمريكي الحالي في الدولة العبرية

«دان كيرتسير» ، يهودي ومعروف بتعصبه لإسرائيل؛ ضاق ذرعاً بما أسماه

«الغباء الذي يميز تفكير دوائر صنع القرار الإسرائيلي» ، ففي مقابلة مع

القناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي، بتاريخ 19/11/2002م، قال

«كيرتسير» : «إن التوسع في استخدام القوة ضد الفلسطينيين لم ينجح إلا في

تجميعهم وتوحيدهم، وحشرهم في معسكر واحد ضد (إسرائيل) » .

* الصهاينة: الإسلام أهم قوة دفع وراء الانتفاضة:

لا يختلف اثنان من المفكرين والاستراتيجيين الإسرائيليين على أهمية الدور

الذي يقوم به الدين الإسلامي في تحريك انتفاضة الأقصى، وبالنسبة لـ «فرايم

سنيه» الجنرال المتقاعد وأحد قادة حزب العمل؛ فإن الدين الإسلامي يمثل أهم

مصدر لتأجيج انتفاضة الاقصى، وينصح «سنيه» بالتعجيل بحل الصراع مع

الشعب الفلسطيني عبر تسوية سياسية؛ بناءً على أن مثل هذه التسوية ستقلص دور

الإسلام في الصراع، وهذا يخدم المصلحة الإسرائيلية [28] .

أما المفكر الإسرائيلي الكبير «أوري بار يوسيف» فإنه يؤكد في كتابه

(المشاهد الذي نام) فيذهب أبعد من ذلك؛ عندما يحذر من مغبة عدم حل القضية

الفلسطينية وبأقصى سرعة؛ حيث يرى أن بقاء هذه القضية دون حل يوسع دائرة

العداء للدولة العبرية في أرجاء العالم الإسلامي.

ويضيف: «إن المسلمين الفلبينيين والصينيين والأتراك والأمريكيين

والأوروبيين مثل المسلمين الأفارقة؛ يشعرون تجاهنا بعداء شديد كلما ذكر اسم

القدس في أي نشرة أخبار، هذا يمثل بؤرة شعور هؤلاء الناس، ولا يمكن أن

نطبع وجودنا ووجود دولتنا في هذا العالم بدون القضاء على كل الأسباب التي تجعل

المسلمين في العالم يكرهوننا» .

* سقوط مقولة: «إسرائيل واحة الديمقراطية» في المنطقة:

عكفت إسرائيل وآلتها الدعائية على الزعم دوماً بأنها الدولة الوحيدة التي يحكم

فيها نظام ديمقراطي في منطقة الشرق الأوسط.

وقد تساوقت المنظومة الغربية مع هذه الدعاية وتعاملت مع إسرائيل والعالم

العربي وفق هذه الدعاية، لكن الانتفاضة قد كشفت الوجه الآخر للدولة العبرية،

حيث أثبتت الانتفاضة أن النظام السياسي في الدولة العبرية سرعان ما يتخلى عن

المضامين الديمقراطية في لحظات الاختبار الحقيقية. وقد ظهر هذا في الانتفاضة

على النحو الآتي:

1 - معروف أنه من أهم مزايا النظام الديمقراطي أن تخضع المستويات

العسكرية في الدولة لدوائر صنع القرار السياسي المنتخبة ديمقراطياً، لكن في

إسرائيل قد حدث العكس تماماً؛ إذ تبين خلال انتفاضة الأقصى أن الجيش

والمؤسسة الأمنية هي التي تقرر والحكومة تتبنى هذه القرارات، وفي كثير من

الأحيان مرغمة. وقد عدد المعلق العسكري الإسرائيلي الكبير «روني دانئيل»

عشرات الحوادث التي اضطرت فيها الحكومة لتعديل مواقفها للتوافق مع مواقف

المؤسسة العسكرية [29] .

2 - الصحافة الحرة هي أحد أهم ركائز أي ديمقراطية، وقد دلت تجربة

الانتفاضة على أن الصحافة الإسرائيلية قد تحولت إلى بوق دعاية خاص بالحكومة،

وتجندت بشكل كامل من أجل خدمة المؤسسة الحاكمة، وتبنت الرواية الرسمية

الإسرائيلية؛ على الرغم من أن هذه الرواية مختلقة في كثير من الأحيان. ويكفي

هنا أن نشير إلى أنه منذ مطلع عام 2001م وحتى الآن قد أعد خمس وعشرين

بحثاً أكاديمياً حول تغطية الصحافة الإسرائيلية لأحداث الانتفاضة، وقد دلت جميع

نتائج هذه البحوث على أن الصحافة الإسرائيلية قد تحولت إلى مجرد بوق للدعاية

التي تناسب أنظمة غير ديمقراطية.

3 - النظام القضائي في الدولة العبرية وفر الغطاء القانوني لكل عمليات

المس بحقوق الإنسان الفلسطيني، فما يعرف بـ «محكمة العدل العليا» أضفت

صفة قانونية على الجرائم بحق الإنسانية التي يرتكبها جيش الاحتلال ضد الشعب

الفلسطيني، فهذه المحكمة أجازت أن يقوم الجيش بعمليات التصفية والاغتيال التي

هي في الحقيقة عمليات إعدام خارج نطاق القانون، كما أجازت قيام الجيش بتدمير

منازل أسر الاستشهاديين؛ على الرغم من أن هذا الإجراء هو صورة من صور

العقاب الجماعي، إلى جانب الاعتقال الإداري الذي يتم دون مذكرة اتهام، فضلاً

عن الكثير من عمليات المس بحقوق الإنسان الفلسطيني.

لدى إجراء عملية تقييم شامل لتأثير الانتفاضة في الدولة والمجتمع

الإسرائيلي؛ فإننا نجد أن هذه الانتفاضة قد هزت هذا المجتمع من الداخل

بشكل قوي، وأظهرت بشكل واضح هشاشته، كما أن الانتفاضة تواصل إثبات

بطلان المنطلق الإسرائيلي المؤمن بالقوة في مواجهة إرادة الشعب الفلسطيني

في التحرر، فالانتفاضة تثبت لمزيد من الإسرائيليين أنه يجدر بهم أن يتوقفوا

عن الوهم القائل إنه بالإمكان احتمال الثمن الباهظ الذي يدفعونه بسبب احتلالهم

للأرض الفلسطينية.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015