المسلمون والعالم
أمريكا ترسم حدوداً دموية في بغداد
كمال السعيد حبيب
* في المشهد العراقي لدينا مستويان من الصور:
المستوى الأول:
هو صور السياسيين وصنَّاع القرار الأمريكي، والذين يبشرون الشعب
العراقي بأن اللحظة التي كان ينتظرها من الحرية قد حانت، وأن المجتمع الجديد
الذي يحمله الأميركيون لأهل العراق؛ هو مجتمع الديمقراطية والتعددية والكرامة،
وأن الحرب هي ضد الحاكم الظالم صدام حسين.
المستوى الثاني:
هو صور الدبابات والمقاتلات العملاقة وهي تدك المنازل، وتقتل المدنيين
والأطفال، وتُهلك الحرث والنسل، إنها الحرب الغاشمة بكل معاني الكلمة.
فكيف يمكن أن تستقيم العلاقات بين صور هذين المستويين في المشهد الحزين
الذي يواجهه العراق؟! كيف تستقيم صور الدم والغزو والقتل، مع صور الإخراج
المسرحي الذي تبثه القنوات الأمريكية والبريطانية للساسة وهم يتحدثون عن قيم
الحرية والديمقراطية والكرامة الإنسانية؟!
في الواقع.. الحضارة الغربية في طورها الإمبراطوري تحاول أن تُركِّب
الصورتين في مشهد واحد له طابع الدم والنار وطابع القيم الإنسانية، فالإمبراطورية
الرومانية التي تمثل المرجعية الأساسية للتفكير الغربي كانت تسعى إلى فرض قيمها أو سلامها على العالم مستخدمة الحديد والنار، حيث تعتقد أن العالم يجب أن يتبع
قانونها الإمبراطوري بوصفه القانون الأفضل له، وكأن العلاقات بين القوة وبين
القيم في الحضارة الغربية هي علاقة حيلية مراوغة، يجري فيها توظيف القيم
لمصلحة القوة!
وحين تحولت روما إلى النصرانية؛ فإن الخط الإمبراطوري ذا الطابع
الإمبريالي ظل قويّاً لم يخفت، وظل المفهوم الغربي للحرب التي أطلق عليها
(الحرب العادلة) ، ظل هذا المفهوم أي مفهوم العدل كما يفهمه الغرب؛ أي أن
الحرب العادلة هي التي تحقق المصلحة بالمفهوم الصليبي.. لقد طبعت روما
النصرانية بطابعها أكثر مما استلهمت منها.
وظلت ازدواجية القيم مسألة ثانية في علاقة الغرب بالعالم، وفي علاقة
الغرب بالآخر، وباسم الصليب شنت أوروبا الصليبية على العالم الإسلامي حروباً
دامت أكثر من قرنين، واحتلت مدنه وبلاده، وفرضت عليه في قلب بلدانه وحشية
دموية راح ضحيتها ما يقرب من مئة ألف نفس.
ومع الكشوف الجغرافية وظهور الموجات الاستعمارية الأولى؛ ظهر مفهوم
(عبء الرجل الأبيض) ؛ أي مسؤولية الرجل الأبيض نحو تحضير العالم وتحديثه،
وهي القصة نفسها التي يطلقها الأمريكان اليوم؛ أي أن هناك عبئاً حضاريّاً نحو
العالم يقومون به، وهذا العبء لم يفرضه على المستعمرين القدامى أحد، كما لم
يفرضه أحد على المستعمرين الجدد.
وذهبت تحليلات غربية ذات طابع تقدمي [1] إلى أن الاستعمار يحمل وظيفة
حضارية تجاه الدول المستعمَرة، فهذه الدول لا بد من تحديثها وإدخالها ولو بالقسر
والقوة عالم الحداثة والصناعة والتقدم الغربي.
وكما رسم الصليبيون والاستعمار حدوداً دموية في العلاقات بينهم وبين الدول
والعوالم التي استعمروها؛ فإن الأميركيين اليوم يرسمون حدوداً دموية جديدة في
قلب العالم العربي، هذه الحدود الدموية التي خطتها القنابل ورسمتها الدماء والنيران
ستمثل في تقديرنا معلماً جديداً في العلاقة بين العالم الإسلامي، وبين (أميركا
وبريطانيا) اللذين يمثلان القوى الإمبراطورية في العالم الغربي.
وتمثل التصريحات الأميركية أي المستوى الأول من الصور في المشهد
العراقي الحزين التسويغ الأخلاقي من المنظور الإمبراطوري للمصالح الأميركية في
الطرق، وكما هو معلوم؛ فإن بدايات الحرب يمكن التحكم فيها بينما مساراتها
وتطوراتها ومآلاتها تظل محمَّلة بالمفاجآت والألغاز، ويبدو أن نغمة الحرب الأولى
قد تبددت في نفس صناع القرار الأمريكي؛ فإذا بهم يتحدثون عن مفاجآت الحرب
وإمكان امتدادها وطولها..
إننا بإزاء حرب صليبية جديدة على العالم الإسلامي تدخل طوراً جديداً أكثر
وحشية وخطراً:
فالحرب الصليبية على أفغانستان كانت بعنوان (مقاومة الإرهاب) ، واليوم
الحرب على العراق بعنوان (نزع أسلحة الدمار الشامل) ، وفي الجعبة المزيد من
العناوين الجديدة التي تحمل المستويين نفسهما من الصور، كما هو الحال اليوم في
المشهد العراقي، وكما كان الحال في المشهد الأفغاني.. صورة صنَّاع القرار
واللوبي الحاكم يتحدث عن عالم جديد لم يطلبه أحد منهم، وصورة الدم والدمار
والنار والخراب والأشلاء التي تعصف بأرواح الأبرياء، بل والمغلوبين على أمرهم
والمغرر بهم؛ ممن يُدنيهم طواغيت الحكم في أميركا إلى أن يكونوا وقوداً لنار
شهواتهم وأهوائهم المريضة.
* الرؤية الغربية للحدود:
يشير المعنى اللغوي لكلمة (الحد) إلى أنه منتهى الشيء، وهو الحاجز أو
الفاصل بين شيئين لئلا يختلط أحدهما بالآخر أو يعتدي أحدهما على الآخر، فالحد
هو أداة للتمييز ووسيلة لمنع الاعتداء، أو بقول آخر هو إثبات للهوية، وتأكيد
للذات على المستوى الداخلي عبر وجود سلطة سياديَّة على إقليم دولة (ما)
ومواطنيها، وفي الوقت نفسه حماية هذا الإقليم ومواطنيه من أي اعتداء خارجي،
ولا تمثل الحدود بين الدول والحضارات مجرد خطوط سياسية تُرسم على الخرائط؛
وإنما تمثل في جانبها الأهم وعيّاً ثقافيّاً وحضاريّاً؛ خصوصاً في مواجهة الذين
يقفون وراء هذه الحدود، أو الذين يريدون أن يرسموا هذه الحدود بالقوة وفق قيمهم
ومصالحهم.
والعدوان (الأميركي البريطاني) على العراق اليوم سيعقبه احتلال لفرض
نموذج لعراق على المقاس الأميركي.. إنهم يريدون عراقاً أميركيّاً روحاً ودماً،
وليس عراقاً عربيّاً أو إسلاميّاً.. وهم من منطلق إمبراطوري يريدون اختبار
الخريطة الأمريكية الجديدة لعالم الشرق الأوسط في ظل الهيمنة الإمبراطورية
الأمريكية الجديدة، فالعراق ورسمه هو الأنموذج الذي تسعى أميركا إلى فرضه
على المنطقة بعد اختباره في بغداد.
والواقع فإن فكرة الحدود السياسية والجغرافية هي أحد مكونات الفكر
الإمبراطوري، فالجيبوليتكا والمجال الحيوي ارتبط بالأطماع الهتلرية في البلدان
المجاورة، وبعد سقوط الاتحاد السوفييتي البائد عادت فكرة الحدود للظهور مرة
أخرى في الفكر الغربي الأمريكي؛ بوصفه فكراً يسعى إلى الهيمنة، ففي دراسة
«لبرنارد لويس» بعنوان (صراع الثقافات: المسيحيون والمسلمون واليهود في
عصر الاكتشاف) ، يقول: (هناك ثلاثة أحداث فاصلة في العلاقة بين العالم
الإسلامي والغرب؛ تمثل حدوداً فاصلة بينهما وهي: سقوط غرناطة في يناير
1492م، حيث أدى هذا السقوط لِسَمّ صراع امتد لثمانية قرون بين الإسلام
والمسيحية. ثم طرد اليهود من إسبانيا باعتبارهم الخطر الأكبر على المسيحية، لقد
كان على اليهود: إما اختيار التعميد أو المفاوضة. والحد الثالث هو اكتشاف أميركا،
حيث يرى أن اكتشاف أميركا من قِبَل العالم النصراني تعد نقطة تحول في التاريخ
الإنساني، ومكوناً رئيساً في انتقالها إلى الحداثة، والأهم من ذلك؛ فإن اكتشاف
أمريكا كان انتصاراً غربيّاً على الأعداء الذين دُمِّروا قبل أن يصلوا إليها) . هنا
رؤية (برنارد لويس) للحدود هي من منظور ثقافي، وهو يؤسس بوصفه ممثلاً
للفكر الإمبراطوري الأميركي والغربي للحدود من منظور صراعي ودموي، فهذه
الأحداث أو الحدود الفاصلة التي تأسس عليها الوجود الغربي المعاصر نجد أنها
ملطخة بالدموية والعنف.
وفي دراسة صموئيل هانتنجتون عن صدام الحضارات يتحدث عن الحدود
الحضارية ويقول: (الخطوط الفاصلة بين الحضارات ستكون هي خطوط المعارك
في المستقبل) .
ويذكر في موضع آخر من دراسته: (إن خطوط التقسيم بين الحضارات
تحل محل الحدود السياسية والأيديولوجية للحرب الباردة؛ باعتبارها إشارات
وميض للأزمات والمذابح منذ أن بدأت الحرب الباردة؛ عندما قسَّم الستار الحديدي
أوروبا سياسيّاً وأيديولوجيّاً، وانتهت الحرب الباردة مع انتهاء الستار الحديدي،
ومع اختفاء الانقسام الأيديولوجي لأوروبا؛ فإن الانقسام الثقافي لأوروبا بين
المسيحية الغربية من ناحية والمسيحية الأرثوذكسية والإسلام من جانب آخر قد عاود
الظهور) .
ودراسة هانتنجتون وهو أحد أهم الرموز الفكرية التي تضع الأفكار
والتصورات للإدارة الأمريكية الحالية تتحدث عن الحدود الحضارية كبديل للحدود
الجغرافية والسياسيّة.. وهذا ما نقصده حين نقول: إن أميركا تعتمد حدوداً ذات
طابع دموي في علاقتها بالعالم الإسلامي في بغداد، فاقتحام بغداد واحتلالها ومحاولة
بناء نموذج لدولة وفق الإرادة الأمريكية يمثل في تقديرنا أحد الأطوار المهمة في
العلاقة بين العالم الإسلامي والعالم الغربي، يستعيد فيه العالم الإسلامي ذكريات
الهجمة الصليبية وذكريات الهجمة الاستعمارية.. وذكريات التتار الذين اقتحموا
مدينة بغداد عام 1258م قبل أن توجد أمريكا بمئات السنين، والعديد من المحللين
حتى الأمريكان أنفسهم يتحدثون عن التتار الجدد الذين يستعدون لاقتحام بغداد
واحتلالها.
* ملامح الحدود الدموية الجديدة:
الحدود الجديدة التي يجري رسمها الآن في العراق، أو التي ستُرسم في بغداد،
لها ملامح نتصورها كالآتي:
1 - ظهور خط جديد للمواجهة بين أميركا كقوة احتلال في العراق، وبين ما
يمكن أن نطلق عليه (أممية جهادية) ذات طابع إسلامي مقاوم؛ ترى أن مقاومة
أي احتلال أمريكي لأرض العراق باعتبارها أرضاً إسلامية فرض عين،
والمتصور أن خط المواجهة الجديد سيتواصل مع خطوط جهادية مماثلة، كما هو
الحال في كشمير والشيشان وفلسطين وأفغانستان، كما يتصور أن تكون القواعد
الأمريكية في البلدان العربية والإسلامية والتي استخدمت للانطلاق لضرب العراق
قواعد احتلال مقصودة هي الأخرى بالجهاد والمقاومة، كما يتصور أيضاً أن يحدث
فرز بين القوى السياسية والشعبية في العراق؛ بحيث يتصدر القيادة في المواجهة
مع قوى الاحتلال القوى الجهادية الإسلامية التي ترى أن كرامة الأمة وشرفها في
الميزان، وأعتقد أن خط الموجهة الدامي في العراق هو الذي سيحدد مستقبل
المنطقة العربية بكاملها، كما سيحدد مستقبل العلاقات بين العالم الإسلامي والغرب.
2 - ظهور خط ممتد للمواجهة مع أميركا يتسع حول نقطة المحور في
المواجهة بالعراق؛ بحيث تصبح المصالح الأمريكية مقصودة بالمقاومة والمواجهة
في كل العالم الإسلامي، بل وفي كل العالم حتى في داخل أميركا نفسها؛ ذلك لأن
العدوان الأميركي على العراق هو عدوان نموذجي لا توجد أي شبهة في كونه
مقصوداً بالدفع والمواجهة والمقاومة من جانب القوى الإسلامية المجاهدة في العالم
الإسلامي.
3 - تصاعد موجات التظاهرات في العالم العربي والإسلامي وفي العالم كله،
وردود الأفعال الدولية التي ترى أن الحرب الأمريكية هي حرب عدوانية، وأنها
احتلال واضح ومدان، ومن ثم فإنه يعطي لخط المقاومة شرعية معنوية على
المستوى الرمزي والمعنوي، ولا شك أن موجات التظاهر هي تعبير عن نوع من
الوعي المتصاعد بين الجماهير الإسلامية، ومن المتصور أيضاً أن يؤدي تصاعد
موجات التظاهرات والنزوح في العالم الإسلامي إلى تصاعد الشعور بأهمية الإسلام
ومفهومات الجهاد والمقاومة في دفع الهجمة الأمريكية الشرسة على العالم الإسلامي.
4 - تطويل أمد الحرب سوف يكشف عن الطبيعة الوحشية للإدارة الأمريكية،
والتي سوف تضطر للتخلي عن اصطناع صورة المحررين والفاتحين إلى صورة
الغزاة المتوحشين الذين لن يترددوا في استخدام أفتك أنواع الأسلحة وأكثرها دموية
من أجل تحقيق أهدافهم؛ بحيث يحاولون تنفيذ ما يتصورونه (الصدمة والرعب) ،
وهنا لا يستبعد أن يتحول الرأي العام حتى داخل أميركا بقوة لمقاومة توجهات هذه
الإدارة، ومن الواضح أن سير العمليات يتجه ليتخذ صورة حرب الشوارع التي لا
يمكن للجيوش النظامية أن تحسمها.
5 - خط المواجهة الذي يُقَدَّر أن يكون في بغداد سوف يكون فرقاناً بين الحق
والباطل، ونعتقد أن هذه المواجهة ستكون فارقة، وأن الله سبحانه وتعالى سينتصر
للحق بإعادة أميركا إلى كونها دولة وليست إلهاً يقرر شؤون الكون، [فَأَمَّا الزَّبَدُ
فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْض] (الرعد: 17) ، [وَنُرِيدُ
أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ]
(القصص: 5) .