المسلمون والعالم
ملحمة بغداد
هل تغير وجه العالم؟
د. عبد العزيز كامل
kamil@albayan-magazine.com
يبدو أن التغيير الذي تريد أمريكا إحداثه في منطقة الشرق الأوسط انطلاقاً من
بغداد؛ سوف يشمل نظام العالم كله لا نظام المنطقة فحسب، فمنذ بدأت حرب
الإرهاب الأمريكية ضد العرب والمسلمين في محطتها الأولى بأفغانستان؛
والأحداث تسير بما يشير إلى قدر إلهي غالب؛ تبدو فيه الولايات المتحدة ماضية
في طريق الاستدراج بقيادة طاقم الشر في الإدارة الأمريكية، فهي تمضي إلى حتفها
مع حلفها المساند لها في الظلم مهددة الحضارة الغربية بأسرها بالسقوط؛ بكل ما
تحمله من مظاهر خدَّاعة لم يُقَدَّر لها أن تُكشف على حقيقتها مثلما يحدث اليوم،
فالعالم يتغير، وفي طريقه إلى مزيد من التغير، لا وفق «نظام عالمي جديد» ،
بل وفق انقلاب دولي شامل، يجعل من حرب العراق بداية لانهيار المؤسسات
العالمية والإقليمية، فمجلس الأمن والأمم المتحدة وحلف الأطلسي والاتحاد
الأوروبي والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، كلها تواجه تغييراً جذرياً،
ربما يلغي بعضها بشكل نهائي، وللولايات المتحدة الدور الأساس في ذلك التغيير
الذي قد يعود عليها بالتدمير.
* شكراً للطاغوت الأبله:
- لم يشهد تاريخ الولايات المتحدة بروز طاغوت متجبر مثل جورج بوش،
ولكن يبدو أن انتقام الله تعالى من الأمريكيين على جرائمهم التاريخية؛ بدأ بعد أن
تولى رئاستهم ذلك الرئيس الأخرق، فهو على ما نرى أداة انتقام إلهية، سُلط
الأمريكيون به على أنفسهم ليخربوا بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، فابتداء جورج
بوش عهده باستفزاز المسلمين عن طريق المساندة الكاملة لمجرم الحرب شارون،
مع وصفه بأنه رجل سلام؛ ألَّب على الأمريكيين الغضب، وألهب إرادة الانتقام
التي تصاعدت وتضاعفت حتى بلغت ذروتها بحادثة 11/9/2001م، والتي أفقدت
الإدارة الأمريكية صوابها وعقلها، فراح الرئيس الأمريكي وأركان إدارته يتخبطون
في سياسات هوجاء، تسير على عكس ما يريده الأمريكيون، ولا نشك أن هذا من
مكر الله بالذين يمكرون السوء، فيعاملهم الله بضد قصدهم، ويجعل نتائج أعمالهم
عليهم، ولو رحنا نتأمل كيف أضر الرئيس الأمريكي بأمريكا من حيث يريد لها
النفع، أو كيف نفع أعداءها من حيث أراد بهم الضر لما انتهى بنا العجب!
[وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ
أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ] (النمل: 50-51) .
- أراد طاغوت أمريكا أن يقود العالم في حرب استئصال لما سماه بالإرهاب؛
فإذا به يساهم من حيث لا يدري في إقامة أكبر يقظة جهادية على مستوى الأمة
منذ قرون؛ حيث أسهمت إجراءات الحرب الإرهابية التي شنها على الإسلام باسم
الحرب على الإرهاب؛ في استثارة الحمية لدى الآلاف، بل الملايين من شباب
العالم الإسلامي، والذين بدؤوا يدركون أن أمريكا تستهدف دينَهم قبل دنياهم،
وعِرْضَهم قبل أرضهم، وهُويَّتَهم قبل ثقافتهم.
- وأراد الطاغية أن يوحد العالم خلفه في تلك الحرب المعلنة؛ فإذا به يسهم
بحربه الطائشة في العراق في تفكيك ما سُمي قبل شهور بـ (التحالف الدولي ضد
الإرهاب) ، حتى إن بعض الأطراف كالصين وروسيا وإيران بدأت تقدم
المساعدات لأعداء أمريكا من وراء الكواليس؛ نكاية في تلك الدولة الراغبة في
الإضرار بالجميع لحماية مصالحها فقط، ولأول مرة ينجح رئيس أمريكي في عزل
أمريكا وتكثير أعدائها بتلك الصورة المدهشة.
- وأراد بوش أن يسهم مع المنافقين في العالم الإسلامي في تشويه صورة
الإسلاميين؛ بتصويرهم أعداء للعدالة والحرية والإنسانية؛ فإذا به يُكسبهم مصداقية،
وينشئ تعاطفاً شعبياً جارفاً لهم في أكثر البلدان.
- وأراد الـ (بوش الأصغر) أن يكمل ما بدأه الـ (بوش الأكبر) ؛ من
التمكين لأمريكا بالتفرد على قمة القطب الأوحد في قيادة العالم؛ حيث كان التخطيط
أن يظل القرن الحادي والعشرين أو نصفه على الأقل أمريكياً؛ فإذا به يمهد بصلفه
وغروره لميلاد عالم متعدد الأقطاب في بداية العام الثالث فقط من القرن الجديد،
فالعالم الآن يشهد ميلاد قطب أو أقطاب جديدة؛ بعد المواقف الرعناء لإدارة بوش
قبل وأثناء الحرب العراقية في المحافل الدولية؛ حيث أخرج ضغائن فرنسا، وأثار
قلق الصين، وأمعن في الاستهانة بروسيا وألمانيا، وهذه ليست قوىً هامشية في
العالم، فهي قادرة إذا تكتلت أن ترغم أمريكا على التنازل عن عرش التفرد بالقطبية،
وتزاحمها فيها.
- وأراد بوش استغلال نظم الزيف والدجل المسماة بـ (الشرعية الدولية) ؛
لتكمل أمريكا من خلالها استعباد العالم وإخضاع الشعوب؛ فإذا بجورج المشؤوم
يُنَكِّل بتلك الشرعية المزعومة، ويظهرها أمام العالم على أنها شريعة شيطانية ما
اختُرعت إلا لإضفاء الشرعية على هيمنة قوى الظلم الخمس صاحبة الفيتو على
مقدرات بقية شعوب العالم ومصائرها، وقد أوجد بوش شعوراً متزايداً بأن تلك
المؤسسة الدولية، ومنظمتها العالمية (الأمم المتحدة) لا تستحق أن تبقى؛ بعد
مهزلة التفرد الأمريكي دون قراراتها وتوصيات أعضائها في أزمة العراق، ولا
أظن أن تبقى تلك المنظمة بنظامها القديم الذي أغرى أمريكا باللعب بها، بل لا بد
أن تسعى الدول المتضررة إلى تطويرها في وجه أمريكا، أو إلغائها وابتكار لعبة
دولية أخرى تُحَيِّد السيطرة الأمريكية على المنظمات الدولية.
- وأراد بوش أن يصور أمريكا على أنها حامية قيم العالم (الحر) ، وأنها
مسؤولة عن حماية الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان؛ فإذا ببوش نفسه، بعد
أقل من عام ونصف على بدء حملته الصليبية، يدمر أمام العالم تلك القيم، فيهين
الديمقراطية في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ويدوس حقوق الإنسان في جوانتانامو
والعراق، ويقمع الحرية في فلسطين والسودان، وغيرها.. وهو بذلك لا يحطم
القيم التي طالما تفاخر بها الأمريكيون على الشعوب فحسب؛ بل يطحن معها
الأسس التي قامت عليها (نظرياً) الحضارة الغربية كلها، تلك الحضارة التي دللت
بتطبيقها لها على عنصرية فجة؛ إذ لا ترى تلك القيم الغربية جديرة إلا بالإنسان
الغربي في بلاده، أما بقية الشعوب فالحرية ضارة بها، والديمقراطية لا تصلح لها،
وحقوق الإنسان محجوبة عنها، ولا أظن أن أحداً أضر اليوم بذلك الثالوث القيمي
العنصري حتى في بلاده مثل جورج بوش.
- أحب بوش أن يدعم وجود أنظمة النفاق العميلة في أنحاء عديدة من العالم
الإسلامي؛ فإذا به يهدد الدعائم التي يقوم عليها استقرار تلك الأنظمة، بمبالغته في
إحراجها، وإظهار عمالتها أمام شعوبها، وجرأته على إعمال المبدأ الأمريكي
العريق في تقديم المصلحة الأمريكية فوق كل اعتبار، وإصراره على التعامل مع
القادة والزعماء بفوقية وعنجهية؛ تسهم الآن إلى حد كبير في توهين سند
الأمريكيين في بلدان المسلمين؛ بحيث ظهر لأكثر الشعوب على وجه يشبه المفاجأة
أن ما يتحدث به الحكام عن «الاستقلال» و «الإرادة الوطنية» و «المصلحة
العليا للشعب» ما هي إلا شعارات جوفاء تُخفي أشكال التبعية، والعمالة، وفقدان
الاستقلال.
وكل هذه الإنجازات وغيرها؛ يتبرع راعي الجبروت الأمريكي بتعجيل
تحقيقها ببلاهة لا يُحْسَد عليها؛ تعجيلاً للأجل المحتوم للأمة الأمريكية؛ إلحاقاً بما
سبقها من الأمم: [وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ]
(الأعراف: 34) .
* (حرب الفرات) والفرصة السانحة:
- كان الحديث عن المشروع الصهيوني الأنجلوساكسوني (إسرائيل الكبرى
من النيل إلى الفرات) منذ بضع سنوات فقط؛ يعني عند بعض الناس ضرباً من
«الأوهام» ، ولوناً من «السطحية» ، وشكلاً من أشكال التأثر بـ
(نظرية المؤامرة) ؛ إذ استغرب هؤلاء الحديث عن مثل تلك المؤامرات
«النظرية» في ظل واقع متغير، أصبح فيه الأمريكيون والإنجليز أصدقاء،
وأصبحت فيه فرص التعايش مع اليهود ممكنة الوقوع وقريبة المنال. إلا أن المتابع
لانتظام تنفيذ اليهود لمخططاتهم بمؤازرة من النصارى، في ظل غفلة وغياب
المسلمين، كان لا يسعه إلا أن يخاف من مجيء الوقت الذي تتهيأ فيه الظروف
لاستكمال ذلك المشروع، مثلما تهيأت أو هُيئت من قبل الظروف لاغتصاب أرض
فلسطين، ثم إقامة الدولة عليها، ثم اتخاذ العاصمة لها.
الأمريكيون والإنجليز يريدون احتلال العراق، وكلما اقتربوا من نهر الفرات،
اقترب الإسرائيليون منه، وقد أعادت هذه الأحداث الحديث عن المشروع العتيد
(إسرائيل الكبرى) ، ذلك المشروع القديم قدم التوراة المحرفة، والحديث حداثة
حرب العراق وقت كتابة هذه السطور. المشروع ليس مجرد وجود نص في التوراة
(لنسْلِكَ أُعطي هذه الأرض، من نهر الفرات إلى نهر مصر الكبير) [التكوين:
12] ، بل هو أيضاً محتوى الخطة التي أودعها هرتزل في كتابه (الدولة
اليهودية) ، ومنذ بداية القرن الميلادي الماضي، وذلك المشروع يمضي بلا توقف
، عبر مراحل من الحرب المدبرة، أو السلام الخادع، كل مرحلة تقطع شوطاً على
درب التنفيذ [1] .
كان العراق على مائدة التخطيط لدى من وضعوا ما عُرف في حقبة
الثمانينيات الماضية بـ (مخطط الدويلات الطائفية) ، وهو مخطط نشرت محتواه
مجلة (كيفونيم) الإسرائيلية، عن تقرير للمنظمة الصهيونية العالمية بالقدس، وقد
طُرحت خلال ذلك التقرير تصورات وخيارات الدولة العبرية لما يمكن أن يُنفذ في
المناطق المحيطة بـ (إسرائيل) ؛ لقطع شوط جديد على طريق (إسرائيل
الكبرى) ، وفي الفقرة الخاصة بالعراق قال التقرير: «أما العراق؛ فهي غنية
بالبترول، وفريسة لصراعات داخلية، وسيكون تفكيكها أهم بالنسبة لنا من تفكيك
سوريا [2] ؛ لأن العراق يمثل على الأجل القصير أخطر تهديد لإسرائيل» [3] .
هذا الكلام قيل قبل أن تبدأ حرب الخليج الأولى، وحرب الخليج الثانية،
لنصل الآن إلى حرب الخليج الثالثة التي مهد لها ما سبقها.
خلال العقد المنصرم رُسمت خطوط استراتيجية جديدة، جرت تحركات
بشأنها للتمهيد لما يحدث الآن من تغيير لخريطة الشرق الأوسط وغيرها من الأماكن
المهمة في العالم؛ مما يخدم المصلحة المزدوجة للولايات المتحدة و (إسرائيل) ،
وكانت بداية ذلك حرب الخليج الثانية، والتي زلزلت استقرار المنطقة تمهيداً لإيجاد
(نظام إقليمي جديد) ؛ يضمن سيطرة إسرائيل على منطقة الشرق الأوسط سلماً أو
حرباً، وهو ما يمهد في الوقت نفسه لإيجاد (نظام عالمي جديد) يضمن هيمنة
الولايات المتحدة على العالم، وبالفعل أعلن بوش الأول عن بدء (النظام العالمي
الجديد) بعد حرب الخليج الثانية، ثم أعلن شمعون بيريز عن (النظام الإقليمي
الجديد) أو نظام (الشرق أوسطية) ، ولكن مشروع بيريز الذي كان يرمي في
النهاية إلى التمكين لـ (إسرائيل الكبرى) سلمياً، فشل أو أُفشل، وفشل أيضاً
جورج بوش الأب في التمكين لـ (النظام العالمي الجديد) سلمياً بسبب سقوطه
السريع، فجاء الآن كل من بوش بن بوش وشارون (ابن....) لتحقيق
المشروعَيْن عسكرياً لا سلمياً؛ مشروع الهيمنة الأمريكية على العالم، ومشروع
الهيمنة الإسرائيلية على الشرق الأوسط.
أما المشروع الأمريكي؛ فقد تطور من مسمى (النظام العالمي الجديد) إلى ما
يسمى (مبدأ بوش الجديد) الذي أعلن عنه في 20/9/2002م؛ تحت ذريعة حماية
الأمن القومي الأمريكي، ومبدأ بوش يمثل انقلاباً في طريقة الولايات المتحدة لأجل
السيطرة على العالم؛ حيث انحاز إلى الطرق العسكرية بدلاً من الأساليب السلمية،
ويوازي هذا الانقلاب الأمريكي انقلاب إسرائيلي على الطرق السلمية لتحقيق
مشروعها الخاص بها في الشرق الأوسط. وهو ما يقوم به شارون عملياً منذ بدأت
الانتفاضة؛ حيث يتوقع أن ينتقل في المرحلة المقبلة من الحرب الداخلية إلى
الحرب الخارجية لتغيير التركيبة الإقليمية لصالح دولة اليهود.
وقد تحدَّثَتْ عن المشروعَيْن منذ أكثر من عشر سنوات مؤسسة (هيرتاج)
التي تعد أهم مراكز البحوث المتخصصة في الفكر والتخطيط السياسي في الولايات
المتحدة، وهي ذات توجه يميني متشدد، ومعروفة بارتباطها الوثيق بتيار
المحافظين الجدد في الحزب الجمهوري الذي ينتمي إليه بوش وفريقه المسعور،
وقد أشار الجزء المتعلق بالشرق الأوسط إلى استغلال المبدأ المعروف في علم
الاستراتيجية بـ (لحظة الاقتناص) أو (استغلال الفرص السانحة) ، والتي تعني
الاستمرار في تهيئة الظروف للخطط؛ حتى يجيء أوان تنفيذها، ولو استغرقت
التهيئة عشرات السنين.
من الأمور اللافتة للاهتمام جداً في أحداث الحرب الأخيرة؛ أن الحرب التي
نشبت ضد العراق تطلق عليها بعض الأوساط الأمريكية اسم (الفرصة السانحة) ،
ومما يلفت الانتباه أكثر وأكثر ترادف الأخبار وتواترها عن مشاركة إسرائيلية فعلية
في تلك الحرب، ولعل الأيام القادمة تكشف عن أبعاد تلك المشاركة وعن موقع
مخطط (إسرائيل الكبرى) من تلك الحرب السابعة من حروب ما كان يعرف بـ
(الصراع العربي الإسرائيلي) .
* حلف الإرهاب الساكسوصهيوني، وعاقبة الظالمين:
- في تحالف نصراني يهودي غير مسبوق بدت الولايات المتحدة الأمريكية
في الآونة الأخيرة مصرَّة على سلوك سبل الأمم الطاغية التي عرَّضت أنفسها لبأس
الله وانتقامه، فخلال الشهور القليلة الماضية فقط استطاعت أمريكا مع حلفها أن
تحوز شهادة عالمية من أكثر شعوب الأرض بأنها ظالمة ومسرفة في الظلم، وأي
أمة يُشهد عليها بذلك، ويصبح هذا الوصف غالباً عليها تصبح عرضة للهلاك ولو
بعد حين: [وَتِلْكَ القُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً] (الكهف:
59) ، وإذا نظرنا فقط لظلم الأمريكيين للشعب العراقي بين حربي الخليج الثانية
والثالثة، لتعجبنا من عظيم حلم الله تعالى على عباده عندما يطغون ويبغون.
والوقت لا يزال مبكراً للحديث عن نتائج الإجرام الأمريكي في حرب الخليج الثالثة،
لكن ما سبقها يشير إلى ما يمكن أن يحدث الآن، والأرقام تتحدث عن ملامح هذا
البغي والطغيان، فبحسب تقارير منظمة اليونيسف التابعة للأمم المتحدة، والتي
نشرتها صحيفة الواشنطن بوست في 12/3/2003م؛ فإن ضحايا الحصار
الأمريكي الممتد إلى اثني عشر عاماً يزيد أضعافاً كثيرة عن ضحايا حرب الخليج
الثانية، فبينما أدت تلك الحرب إلى مقتل ما لا يقل عن 30 ألف عراقي؛ بينهم
خمسة آلاف مدني؛ فإن العراق يخسر شهرياً خمسة آلاف طفل من جراء الحصار؛
أي ستين ألف طفل في العام، ولهذا قال تقرير اليونيسف المذكور إن ضحايا
الحصار كان يمثل حرب خليج أخرى تتجدد كل عام منذ انتهاء حرب 1991م.
إضافة إلى ما سبق؛ فإن وثيقة غير معلنة للأمم المتحدة، صدرت في
7/1/ 2003م عن مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية (OCHصلى الله عليه وسلم) تحدثت عن
أن 30% من أطفال العراق دون سن الخامسة أي حوالي 1.26 مليون طفل يمكن
أن يموتوا جوعاً بسبب نشوب حرب جديدة، وهذه النسبة تزيد على ربع
مجموع أطفال العراق البالغ عددهم 4.2 ملايين طفل!
والأمريكيون الذين لم يرحموا الصغار؛ يُسرفون ولا يزالون يُسرفون في إبادة
الكبار، فالحرب الدائرة اليوم هي امتداد رهيب للنزيف البشري الذي حدث في
حرب الخليج الثانية، حيث ألقي على الشعب العراقي (141) ألف طن من
المتفجرات؛ منها (350) طن من اليورانيوم المنضب، خلال طلعات جوية بلغت
(112) ألف طلعة.
كل ما يجري على يد الأمريكيين من مظالم في العراق، وما يجري على يد
الصهاينة في فلسطين، إنما تتحمل المسؤولية فيه بشراكة كاملة، راعية الإرهاب
المعاصر ضد المسلمين بريطانيا الحقود التي كانت ولا تزال وراء أكثر نكبات
المسلمين.
وما يحدث ولا يزال يحدث في العراق، هو استئناف عنيد لمسيرة الإرهاب
الساكسوصهيوني المتواطئ منذ أكثر من مئة عام ضد المسلمين، لاستكمال
مشروعي السيطرة العالمية للأنجلوساكسون، والإقليمية لأبناء صهيون.
* الثيران السود ومصارع السوء:
- المَثَل السائر (أُكِلْتُ يوم أُكل الثور الأبيض) لم يعد صالحاً للاستشهاد به
على واقع العرب والمسلمين، فالمَثَل المشهور يحكي قصة ثيران غافلة ساذجة
شاهدت (بسلبية) شقيقها والأسد يفترسه، ثم كررت الموقف السلبي مع باقي
الثيران، حتى جاء دور آخرهم وهو الثور الأسود، فقال تلك الكلمة التي صارت
مثلاً. تلك الثيران كان يمكن وصفها حقاً بأنها غافلة وغير عاقلة، ولكن الثيران
السود في واقع الأنظمة العربية والإسلامية الراهن لم تقف موقفاً سلبياً، ولكن الكثير
منها وقف موقفاً (إيجابياً) مع «الأسد» ؛ فبعض تلك الثيران سمح للأسد بأن
يعتلي ظهره ليقفز منه على ظهر شقيقه، وبعضها فتح له حظيرته ليمر من أجوائها
وسمائها، وآخر يسَّر له المرور من مياهه الإقليمية؛ ممارساً حق (السيادة) في
مساعدة حملات الإبادة، وبعضٌ آخر أمدَّ الأسد بتسهيلات ومكرمات كلما احتاج إلى
عون على عناء التعب من الافتراس، أو أخذ من الأسد معونات ومكرمات في
مقابل سكوته أو مشاركته في خططه، لن أذكر هنا ما يدلل على ذلك من البيانات
والإحصاءات، ولكني أترك للقارئ البحث عن ذلك وهو موجود، وأترك له أيضاً
البحث عن جواب للسؤال الحائر: مَنْ قتل الثور الأبيض في فلسطين، وأفغانستان،
والشيشان، والسودان؛ أهو أسد من الأسود، أم الثيران السود؟!
على كل حال؛ نحن نعتقد أن مصارع السوء تنتظر العديد من الثيران السود،
ولكن أسوأها مصرعاً أكثرها تعاوناً مع الأسد الخسيس!
* وقفات مع الأحداث:
- أولاً: لا يسع أي مراقب منصف إلا أن يحيي صلابة المقاومين العراقيين
للغزو الصليبي الأنجلو أمريكي في المراحل الأولى، ويحيي صمود شعب العراق
في وجه المحنة الكبرى التي ألمت بهم، ونلمح هنا مستجداً جديراً بالوقوف أمامه
بتأنٍ وروية، من خلال نظرة تجمع بين الواقعية والعلمية، وهو ذلك التغير
الملحوظ وإن كان نسبياً في خطاب بعض القيادات العراقية، السياسية والعسكرية،
فقد بدأ هذا الخطاب يستدعي المعاني الإسلامية، ليخلطها بالمبادئ القومية، بعد أن
كانت المبادئ القومية هي كل شيء في العراق، وهنا نقول: سيسعد كل مسلم أن
يكون هذا التحول حقيقياً، ولو على مراحل، والقلوب بين أصبعين من أصابع
الرحمن يقلبها كيف يشاء، على أنا نقول: إن الشعب العراقي ليس هو البعث، ولا
حتى الجيش العراقي هو البعث، ففي العراق الكثير والكثير من الأمناء على دين
العراق وأمنه واستقلاله كوطن من أوطان المسلمين، وأمثال هؤلاء؛ إنما ينافحون
عن أمة، بقيمها وشعوبها ومقدراتها، لا عن مجرد شخص، وهذا هو الحال أيضاً
في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، ومع ذلك لا ينبغي أن ننكر أثر التغير في
اتجاهات العديد من القوميين في السنوات الأخيرة، بل تحول بعضهم إلى الإسلام
في بعض الأحيان، وأبرز مثال على ذلك ما حدث في حزب العمل الاشتراكي
بمصر، فتغير موازين القوى في العالم، مع تقلب الأحداث ووضوح حقيقة ما
يجري على أرض الصراع ينشئ تحولات تتنامى مع الأيام، فهل يسهم جبروت
الغزاة في العراق، مع تبنيهم للخطاب الديني النصراني واليهودي الفج الصريح،
مع تداعي الشعارات القومية وسقوطها على الأرض من الناحية العملية؛ في إقناع
المزيد من العراقيين بإفلاس القومية العربية كراية وحيدة لمواجهة التحالف الديني
الصهيوساكسوني؟ وهل سيدفعهم ذلك إلى تبني التوجه الإسلامي الذي أثبت قدرته
على تجييش الأمة، وتعبئة الشعوب؟ وهل سيرى أهل العراق حكاماً ومحكومين
في ضوء المحنة، ألا ملجأ من الله إلا إليه؟ لا نريد أن نسرف في التفاؤل، كما لا
ينبغي أن نسرف في الجفاء، فصمود العراقيين أمام الجبروت الأمريكي مطلب
مجمع عليه بين كل من يخشى على هذه الأمة من الاجتياح السهل السريع الذي
كانت تحلم به أمريكا وحلفها المشؤوم.
- ثانياً: الساحة العراقية المستباحة، ليست خاصة بالعرب فقط، ولا
بالعراقيين فحسب، بل إن أرض إبراهيم الخليل ولوط ويونس عليهم السلام،
وأرض الأمجاد الإسلامية في القادسية والمثنى وذي قار، هي مسؤولية كل
مسلم، وفتاوى علماء المسلمين الرسمية وغير الرسمية، التي أجمعت على وجوب
الجهاد على المسلمين لرد العدوان على العراق، كافية لأن تؤرق جفن كل غيور،
حتى يجد له موطئ قدم في المساهمة في أداء ذلك الواجب العيني، حتى يلقى الله
بريئاً من إثم النكول عن الجهاد، أو القعود عن نصرة الدين. يستطيع كل منا أن
يفعل الكثير من الآن، استعداداً لمرحلة قد تكون أشد خطراً، بما قد يفرض
على المسلمين أن يقيموا ساحة جهاد عالمية في العراق ضد الغزاة الجدد، على
أنا لا ننصح تحت أي ظرف بإقامة شرعة الجهاد والتي أفتى بها العديد من أهل العلم
الآن، إلا تحت راية إسلامية خالصة، ولهذا فإن التأني وعدم العجلة ينبغي أن
يضبط حركة شباب الأمة في هذه الظروف المصيرية، كما ينبغي أن لا ينجروا بين
يدي ذلك إلى أي معارك جانبية، فالمرحلة تحتاج إلى توحيد الجهود، ورص
الصفوف مع تنقيتها وتقويتها.
- ثالثاً: الإسلاميون بعلمائهم ودعاتهم وجماعاتهم وجمعياتهم، ينبغي أن
يكونوا في مقدمة صفوف الأمة في هذه الأيام العصيبة، بالقول والعمل، لا بالقول
فقط، فالله تعالى يقول: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً
عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ] (الصف: 2-3) ، وقد شهدت الآونة الأخيرة
ظاهرة لافتة، وهي تصدر العوام من القوميين والوطنيين لقيادة دفة الأمة، وتراجع
الصوت الإسلامي في كثير من البلدان، حتى من بعض الجماعات التي اتخذت من
الجهاد شعاراً لها، فلما جاء وقت الجهاد اكتفت بالقول عن العمل، أو بالسكوت عن
القول، وهذا من الخذلان عياذاً بالله. فالإسلاميون أولى الأمة بالتصدي لقضاياها،
وعلماؤهم أولاهم بحمل أمانتها، ولن يكون ذلك كذلك حتى يجتمعوا على كلمة سواء
من دين الله، علماء وعوام وطلاب علم، ينافحون عنه صفاً كأنهم بنيان مرصوص،
وإذا لم يكن هذا أوان وحدة الصف واجتماع الكلمة فمتى يكون؟! [وَإِن تَتَوَلَّوْا
يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ] (محمد: 38) .
- رابعاً: أمام أمتنا الإسلامية في هذه الأيام فرصة عظيمة، في أن يتأهلوا
لشرف عظيم ومنقبة كريمة، خص الله بها هذه الأمة، وجعلها سمة بارزة من
تاريخها، وهي: أنه سبحانه يجعل هلاك الظالمين على أيدي مجاهديها، فإذا كان
هلاك الظالمين والكافرين في الأمم السابقة، يتم من خلال انتقام إلهي بتسليط
ظواهر الطبيعة عليهم، أو تسليط بعضهم على بعض في شكل انتقام قدري، فإن
انتقام الله تعالى من الكفار الظالمين في تاريخ هذه الأمة، شاء الله تعالى أن يظهره
في شكل انتقام شرعي، فقد جعل الله من أمر تعذيب الكفار المجرمين شريعة وديناً،
فقال سبحانه: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ
صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ] (التوبة: 14) ، والكفار قبل ذلك كانوا يعذبون بأمور قدرية
طبيعية [فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُم مَّنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُم مَّنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ
وَمِنْهُم مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُم مَّنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُوا
أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ] (العنكبوت: 40) . وهذا لا ينفي إمكان تعذيب الجبارين
المعاندين لأمة محمد بالأمور القدرية أيضاً مع الأمور الشرعية، ولهذا قال الله تعالى
لنبيه صلى الله عليه وسلم: [قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ
نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ]
(التوبة: 52) ، ومن تأمل في تاريخ هذه الأمة، يجد الأقدار تجري بما يمكِّن
المسلمين من جريان سنة الانتقام الشرعي من الكفار على أيديهم، فقد كان هلاك
مشركي قريش على يد المسلمين في بدر، وسقوط الفرس على أيديهم في القادسية،
وإذلال الروم على أيديهم في تبوك واليرموك وحطين، كما أن سقوط القسطنطينية
كان على أيدي المجاهدين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وحتى في عصرنا، فقد أبى الله تعالى أن يجعل شرف إسقاط اتحاد الإلحاد
الروسي إلا على أيدي مجاهدين من جميع بلدان المسلمين في مرحلة الجهاد الأفغاني
السابق.
ولهذا نقول: لعل الله تعالى يهيئ لأهل الإسلام فرصة جديدة، في أن يكونوا
سبباً في إسقاط كيان الجبارين الآخرين في معسكر الغرب، بعد سقوط معسكر
الشرق، وما ذلك على الله بعزيز، فلنجعل من أرض العراق منطلقاً للتغيير لصالح
الإسلام، لمواجهة إصرار الكفار على جعلها منطلقاً للتغيير لصالح تحالف الكفر
والبغي العالمي الراهن بقيادة أمريكا الظالمة.