دراسات في الشريعة
محمد بن حسن البكري
يُبصر الناس ما في المصائب من آلام وابتلاءات، ويشعرون في أوقاتها
بالأحزان والنكبات، ولكن قلّةٌ مَنْ رَجَع البصر وكرَّره، وأمعن فكره في القرآن
وتدبَّره، وترسَّم هدي أئمة الهدى وإمامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ
مما يواجهه في حياته الدروس والعبر.
والجدير بالمؤمن خشيته من أن تشبه حاله في الضراء ما وصف الله تعالى من
حال مَنْ لا يؤمن بالآخرة في قوله سبحانه: [وَإِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ
الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّنضُرٍّ لَّلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ *
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً
ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ] (المؤمنون: 74-77) .
ومع ما يعيشه المسلمون من بأساء وضراء في مجموعهم، ومع ما لا ينفك
عنه أفرادهم من الكَبَد، قال الله سبحانه: [لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي كَبَدٍ] (البلد:
4) ؛ تَحْسُن الدلالة على باب من أبواب التيسير عظيم، وحكمة من حكم المصائب
جليلة، إنه دعاء الله، والتضرع إليه، واللجوء في السراء والضراء إليه، قال الله
عز وجل: [وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُم بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ
يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلاَ إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ
مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأنعام: 42-43) ، وليس لنا معشر العباد أن نخص ذلك
بحال الضر دون الأخرى؛ فهل نحن إلا لله؟ وهل نحن إلا إليه راجعون؟ قال
ربنا تبارك وتعالى: [وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ
فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ] (فصلت: 51) .
والعلاقة بين الله عز وجل وعبده قائمة على افتقار العبد واحتياجه إلى ربه
غاية الاحتياج؛ بحيث لا يستغني عنه طرفة عين، فهو خالقه من العدم، ومربيه
بالنعم، بيده مقاليد الأمور، وهو الغني عن جميع خلقه، والقدير على كل شيء،
والعليم بكل شيء، العزيز الذي لا يُغلب، والغالب الذي لا يُقهر، لا يخرج شيء
عن ملكه في السماوات ولا في الأرض، الكريم الذي يحب أن يُسأل فيعطي،
وليس لعطائه نفاد سبحانه وتعالى، وتبارك وتقدس، فكيف يستغني عنه العبد الفقير
الضعيف المسكين العاجز الذي تخفى عليه كثير من منافعه ومصالحه، بل قد يسعى
في هلاك نفسه؟! وثمة أمور قد تُجهل فهاك علمها، وأخرى قد تُنسى فإليك الذكرى؛
ليكون دعاؤنا على بصيرة، ونحن حاضرو القلوب منيبون، نفعنا الله بها.
* فالدعاء يُطلق على أمرين:
1 - دعاء العبادة: وهو شامل لجميع القربات الظاهرة والباطنة؛ لأن المتعبد
لله طالب وداع ربه قبول تلك العبادة والإثابة عليها، فهو العبادة بمعناها الشامل.
2 - دعاء المسألة: وهو طلب ما ينفع الداعي، وطلب كشف ما يضره أو
دفعه [1] .
* من فضائل الدعاء [2] :
1 - الدعاء عبادة عظيمة: قال الله عز وجل: [وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ
لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ] (غافر: 60) ،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدعاء هو العبادة» [3] ، وقال صلى الله
عليه وسلم: «أفضل العبادة هو الدعاء» [4] ، وقال صلى الله عليه وسلم:
«ليس شيء أكرم على الله تعالى من الدعاء» [5] .
2 - في الدعاء ابتعاد عن الكبر: ويدل عليه قوله عز وجل: [وَقَالَ رَبُّكُمُ
ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ]
(غافر: 60) ، جاء في (تحفة الذاكرين) للشوكاني: «فأفاد ذلك أن الدعاء
عبادة، وأن ترك دعاء الرب سبحانه استكبار، ولا أقبح من هذا الاستكبار،
وكيف يستكبر العبد عن دعاء من هو خالق له، ورازقه، وموجده من العدم، وخالق
العالم كله ورازقه ومحييه ومميته ومثيبه ومعاقبه!» [6] .
3 - ما يعطيه الله تعالى للداعي: فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من مسلم يدعو، ليس بإثم ولا بقطيعة
رحم؛ إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يُعَجِّل له دعوته، وإما أن يدخرها له في
الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» ، قال: إذن نكثر، قال: «الله أكثر»
[7] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «لا يرد القضاء إلا الدعاء، ولا يزيد في
العمر إلا البر» [8] .
* آداب الدعاء:
ترى الإنسان حين يطلب من أحد من الناس شيئاً يتأدب معه غاية الأدب،
فيقدِّم بين يديه مقدمات، ويختار أنسب الكلمات، ويستمع بإنصات لما يرد عليه به،
وكلما عظم الطلب اشتد الأدب، حتى إنه يفعل ما يطلبه منه لكي يتحقق له طلبه.
ولا شك أن الله تعالى هو أحق من دُعي وسُئل وطُلب منه، وأحق من يُتأدب له.
وإذا كان الدعاء من أعظم العبادات استحق أن يُحاط بجملة من الأحكام
والآداب الواجبة والمستحبة، وأن تُجتنب موانع الإجابة والمحاذير الشرعية فيه.
وما يتعبد لله تعالى به لا بد أن يكون خالصاً له، ومنه الدعاء، فلا يدعو مع الله
غيره، بل لا يدعو إلا الله في الشدة والرخاء وفي كل حال، قال تعالى: [وَأَنَّ
المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً] (الجن: 18) ، وقال سبحانه: [قُلْ
أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ]
(الأنعام: 40) . فإذا كان لا يُدعى في الشدة غيره؛ فلماذا يُلجأ إلى غيره في
الرخاء؟! قال تعالى: [ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ * ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ
عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ] (النحل: 53-54) ، وقال تعالى: [إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ] (الأعراف: 194) ، وقال: [وَالَّذِينَ
تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ] (الأعراف: 197) ،
وجملة [مِن دُونِ اللَّهِ] ، [مِن دُونِهِ] : شاملة لكل ما يُعبد من دون الله؛ من
جماد، أو نبات، أو حيوان، أو إنسان، أو صنم، أو شمس، أو ولي، أو نبي..
إلخ.
ومن ذلك وصية النبي صلى الله عليه وسلم لابن عمه ابن عباس رضي الله
عنهما قال: كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: «يا غلام!
إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله،
وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم
ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك
إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفت الصحف» [9] .
وكذلك فإن على الداعي أن يحذر من الرياء ومن السمعة، قال صلى الله عليه
وسلم: «من سمَّع سمَّع الله به، ومن يرائي يرائي الله به» [10] .
وللدعاء آداب يتأدب بها الداعي، منها ما هو واجب، ومنها ما هو مستحب،
ومن ذلك:
1 - الجزم بالدعاء، واليقين بالإجابة: وهذا ينشأ من معرفة الله تعالى،
ومعرفة غناه وقدرته وكرمه وصدق وعده، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا
يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت، ارحمني إن شئت، ارزقني إن شئت،
وليعزم مسألته، إنه يفعل ما يشاء، لا مُكره له» [11] ، وقال صلى الله عليه وسلم:
«ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلبٍ
غافلٍ لاهٍ» [12] .
2 - التضرع والخشوع، والرغبة في فضل الله، والرهبة من عقوبته:
لقوله تعالى: [وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً] (الأعراف: 205) ،
وقوله تعالى: [إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونُ فِي الخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُوا لَنَا
خَاشِعِينَ] (الأنبياء: 90) .
ومن تضرُّع النبي صلى الله عليه وسلم وخشوعه: ما جاء عن عبد الله بن
عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أنه صلى الله عليه وسلم تلا قول الله عز وجل
عن إبراهيم عليه السلام: [رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي]
(إبراهيم: 36) ، وقول عيسى عليه السلام: [إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن
تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] (المائدة: 118) ، فرفع يديه وقال: «اللهم
أمتي أمتي» وبكى، فقال الله عز وجل: «يا جبريل، اذهب إلى محمد وربك
أعلم فسَلْه ما يُبكيه» . فأتاه جبريل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال
وهو أعلم، فقال الله تعالى: «يا جبريل، اذهب إلى محمد فقل: إنا سنرضيك في
أمتك ولا نسوؤك» [13] .
3 - إظهار الافتقار إلى الله تعالى، والشكوى إليه من الضعف والضيق
والبلاء: إذ قال الله تعالى في حق أيوب عليه السلام: [وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي
مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ] (الأنبياء: 83) ، وقال سبحانه حاكياً دعاء
زكريا عليه السلام: [رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الوَارِثِينَ] (الأنبياء: 89) .
ودعاء إبراهيم عليه السلام: [رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ
الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ] (إبراهيم: 37) .
4 - حمد الله تعالى والثناء عليه، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم:
عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه قال: سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم
رجلاً يدعو في صلاته؛ لم يمجد الله تعالى، ولم يصلّ على النبي صلى الله عليه
وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجل هذا» ، ثم دعاه فقال له أو
لغيره: «إذا صلى أحدكم فليبدأ بتحميد ربه جل وعز والثناء عليه، ثم يصلي على
النبي صلى الله عليه وسلم، ثم يدعو بما شاء» [14] ، وفي رواية أنه صلى الله
عليه وسلم قال: «عجلت أيها المصلي، إذا صليت فقعدت فاحمد الله بما هو أهله،
وصلّ عليّ ثم ادعه» ، ثم صلى رجل آخر بعد ذلك، فحمد الله، وصلى على
النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أيها المصلي،
ادع تُجَب» [15] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «كل دعاء محجوب حتى يُصلى
على النبي صلى الله عليه وسلم» [16] .
5 - أن يسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا: قال الله عز وجل:
[وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا] (الأعراف: 180) ، وسؤال الله تعالى
بأسمائه وصفاته كثير في كتاب الله تعالى وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم،
ومن ذلك حديث ابن عباس رضي الله عنهما: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا
قام من الليل يتهجد قال: «اللهم لك الحمد، أنت نور السماوات والأرض ومن
فيهن، ولك الحمد، أنت قيم السماوات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد، أنت
الحق، ووعدك حق، وقولك حق، ولقاؤك حق، والجنة حق، والنار حق،
والساعة حق، والنبيون حق، ومحمد حق، اللهم لك أسلمت، وعليك توكلت،
وبك آمنت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما
أخرت، وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت أو:
لا إله غيرك» [17] .
وسمع صلى الله عليه وسلم رجلاً يقول في تشهده: «اللهم إني أسألك يا الله
[الواحد] الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد؛ أن تغفر لي
ذنوبي إنك أنت الغفور الرحيم» ، فقال صلى الله عليه وسلم: «قد غفر له، قد
غفر له» [18] .
وسمع صلى الله عليه وسلم آخر يقول في تشهده: «اللهم إني أسألك بأن لك
الحمد، لا إله إلا أنت [وحدك لا شريك لك] [المنان] ، [يا] بديع السموات
والأرض، يا ذا الجلال والإكرام، يا حي يا قيوم، [إني أسألك] [الجنة، وأعوذ
بك من النار] ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: تدرون بما دعا؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: [والذي نفسي بيده] لقد دعا الله باسمه العظيم. (وفي
رواية: الأعظم) الذي إذا دُعي به أجاب، وإذا سُئل به أعطى» [19] .
6 - الاعتراف بالذنب: عن شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم قال: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت،
خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما
صنعت، أبوء [20] لك بنعمتك عليّ وأبوء لك بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر
الذنوب إلا أنت. قال: ومن قالها من النهار موقناً بها فمات من يومه قبل أن يُمسي
فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل وهو موقن بها فمات قبل أن يصبح فهو من
أهل الجنة» [21] .
7 - ألا يدعو الداعي على نفسه إلا بالخير: فحتى يكون الدعاء مقبولاً عند
الله لا بد أن يكون في الخير بعيداً عن الإثم وقطيعة الرحم، قال صلى الله عليه
وسلم: «يُستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» [22] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا
على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاء
فيستجيب لكم» [23] .
8 - الدعاء بصالح الأعمال: وقد ورد هذا في حديث الثلاثة الذين دخلوا
الغار، فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسلوا إلى الله بأخلص أعمالهم، فذكر أحدهم:
بره بوالديه، وذكر الثاني: عفافه عن الحرام بعد أن تيسر له الزنا دون أن يراه
أحد من الناس، وذكر الثالث: أمانته وأداءه الحقوق، وكل منهم يدعو بعد ذكر
عمله ويقول: «اللهم! إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه»
فاستجاب الله دعاءهم [24] .
وفي آيات آل عمران في دعاء أولي الألباب قال تعالى: [رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا
مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا
وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ] (آل عمران: 193) .
9- أن يتخير جوامع الدعاء ومحاسن الكلام: فقد كان رسول الله صلى الله
عليه وسلم يستحب الجوامع من الدعاء وَيَدَع ما سوى ذلك [25] ، وعن عائشة
رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي وله حاجة
فأبطأت عليه، قال: «يا عائشة، عليك بجُمل الدعاء وجوامعه» ، فلما انصرفت
قلت: «يا رسول الله، وما جمل الدعاء وجوامعه؟» قال: «قولي: اللهم إني
أسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأعوذ بك من
الشر كله، عاجله وآجله، ما علمتُ منه وما لم أعلم، وأسألك الجنة وما قرب إليها
من قول أو عمل، وأعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل، وأسألك
مما سألك به محمد، وأعوذ بك مما تعوذ منه محمد، وما قضيتَ لي من قضاء
فاجعل عاقبته رشداً» [26] ، قال الخطابي رحمه الله: (وليتخير لدعائه والثناء
على ربه أحسن الألفاظ، وأجمعها للمعاني؛ لأنه مناجاة العبد سيد السادات الذي
ليس له مثل ولا نظير) [27] .
10- الإكثار من الدعاء، والإلحاح فيه: وهذا من زيادة الرجاء في فضل
الكريم سبحانه، جاء في الحديث: «إذا سأل أحدكم فليكثر فإنما يسأل ربه» [28] ،
وقال صلى الله عليه وسلم: «يستجاب للعبد ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، ما لم
يستعجل. قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال يقول: قد دعوت فلم أرَ
يُستجاب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء» [29] . وقال: «ما من مسلم يدعو،
ليس بإثم ولا بقطيعة رحم، إلا أعطاه الله إحدى ثلاث: إما أن يعجل له دعوته،
وإما أن يدخرها له في الآخرة، وإما أن يدفع عنه من السوء مثلها» ، قال: إذن
نكثر. قال: «الله أكثر» [30] ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ألظُّوا بيا ذا
الجلال والإكرام» [31] ، ومعنى (ألظوا) : «الزموه واثبتوا عليه، وأكثروا من
قوله والتلفظ به في دعائكم» [32] .
11 - الدعاء في كل الأحوال: لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ
سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب؛ فليكثر الدعاء في الرخاء» [33] ،
وبئس صنيع المرء أن يدعو حال الضر، ويذر بعد كشفه، وإنه لحال المسرفين،
قال ربنا تعالى: [وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا
عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ]
(يونس: 12) .
12- تكرار الدعاء ثلاث مرات: هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، قال
ابن مسعود رضي الله عنه يصف الرسول صلى الله عليه وسلم: «وكان إذا دعا
دعا ثلاثاً، وإذا سأل سأل ثلاثاً» ، ومنه دعاؤه صلى الله عليه وسلم على بعض
المشركين لما وضع على ظهره صلى الله عليه وسلم سلا جزور وهو يصلي، فلما
قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: «اللهم عليك بقريش، اللهم
عليك بقريش، اللهم عليك بقريش» ، ثم سمى: «اللهم عليك بعمرو بن هشام،
وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، والوليد بن عتبة، وأمية بن خلف،
وعقبة بن أبي معيط، وعمارة بن الوليد» . قال عبد الله: فو الله! لقد رأيتهم
صرعى يوم بدر، ثم سُحبوا إلى القليب - قليب بدر -، ثم قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «وأُتبع أصحاب القليب لعنة» [34] .
13 - خفض الصوت بالدعاء: قال تعالى: [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ
لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (الأعراف: 55) ، وقال صلى الله عليه وسلم: «ارْبَعُوا
على أنفسكم؛ إنكم لا تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً، وهو معكم»
[35] ، وقد امتدح الله دعاء زكريا عليه السلام فقال: [إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا]
(مريم: 3) .
14 - الوضوء قبله: وهذا ثابت في حديث أبي موسى في قصة بعث أبي
عامر بعد حنين، وفيه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أراد أن يستغفر لأبي
عامر ويدعو له دعا بماء، فتوضأ ثم رفع يديه فقال: «اللهم اغفر لعبيدٍ أبي
عامر» ، ورأيت بياض إبطيه، ثم قال: «اللهم! اجعله يوم القيامة فوق كثير
من خلقك من الناس» ، فقلت: ولي فاستغفر، فقال: «اللهم! اغفر لعبد الله بن
قيس ذنبه، وأدخله مدخلاً كريماً» [36] . قال ابن حجر: (يستفاد منه
استحباب التطهير لإرادة الدعاء) [37] .
15 - رفع اليدين: عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: رفع النبي صلى
الله عليه وسلم يديه فقال: «اللهم! إني أبرأ إليك مما صنع خالد» مرتين [38] .
وفي حديث أبي موسى: «ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبيدٍ أبي عامر. ورأيت
بياض إبطيه، ثم قال: ... » الحديث [39] ، وقد ذكر السيوطي أن أحاديث رفع
اليدين في الدعاء تواترت تواتراً معنوياً [40] .
16 - استقبال القبلة: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: «استقبل
النبي صلى الله عليه وسلم الكعبة، فدعا على نفر من قريش..» [41] .
* محاذير يجتنبها الداعي:
هي أمور إما أن تفسد الدعاء من أصله، وإما تضر بالداعي، وإما توقعه في
مخالفة شرعية ... ومن ذلك:
1 - دعاء غير الله تعالى [42] : إذا تقرر أن الدعاء أعظم العبادات، وأجلّ
الطاعات، وأنه يجب صرفه لله تعالى وحده لا شريك له؛ فإن من دعا أو استغاث
أو استعان أو استعاذ [43] بغير الله تعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله عز وجل؛ فقد
كفر وخرج من الملة؛ سواء كان هذا الغير نبياً، أو ولياً، أو ملكاً، أو جنياً، أو
غير ذلك من المخلوقات. كما قال تعالى: [وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ
يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ * وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ
هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغَفُورُ
الرَّحِيمُ] (يونس: 106-107) ، وقال تعالى: [وَلاَ تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لاَ
إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ] (القصص: 88) ،
وقال سبحانه: [وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ
القِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ
كَافِرِينَ] (الأحقاف: 5-6) ، وقال سبحانه وتعالى: [وَأَنَّ المَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ
تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً] (الجن: 18) . وقال صلى الله عليه وسلم: «من مات
وهو يدعو لله نداً دخل النار» [44] ، فمن أعظم الاعتداء والعدوان والذل والهوان؛
أن يدعو العبد غير الله؛ فإن ذلك من الشرك، والله لا يغفر أن يُشرك به، وإن
الشرك لظلم عظيم: [فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ
بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً] (الكهف: 110) [45] .
ومن أجلى أنواع الشرك الأكبر: طلب الحوائج من الموتى، والاستغاثة بهم،
والتوجه إليهم، وهذا أصل شرك العالم؛ فإن الميت قد انقطع عمله، وهو لا يملك
لنفسه ضراً ولا نفعاً، فضلاً عمن استغاث به، وسأله قضاء حاجته، أو سأله أن
يشفع له إلى الله فيها، وهذا من جهله بالشافع والمشفوع له عنده [46] .
ويجب أن يعلم أن من قصد غير الله بدعاء أو استعاذة أو استعانة فهو كافر،
وإن لم يعتقد فيمن قصده تدبيراً وتأثيراً أو خلقاً، فمشركو العرب الذين قاتلهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يكونوا يقولون عن معبوداتهم إنها تخلق وترزق، وتُدبّر
أمر مَنْ قصدها، بل كانوا يعلمون أن ذلك لله وحده كما حكاه عنهم سبحانه في قوله:
[مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى] (الزمر: 3) [47] .
2 - الاعتداء في الدعاء: قال تعالى: [ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ
يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (الأعراف: 55) .
* ومن الاعتداء في الدعاء:
أ - أن يشتمل الدعاء على شرك بالله؛ كأن يدعو غير الله تعالى؛ من بشر،
أو حجر، أو شجر، أو قبر، أو غير ذلك. أو يدعو وهو يرجو غير الله أن يحقق
مطلوبه.
ب - أن يشتمل الدعاء على بدعة.
ت - الدعاء على النفس بالموت؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يتمنين
أحدكم الموت من ضر أصابه، فإن كان لا بد [48] فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما
كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي» [49] ، ولما جاء عن
قيس قال: أتيت خباباً وقد اكتوى سبعاً، قال: «لولا أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم نهانا عن أن ندعو بالموت لدعوت به» [50] .
ث - الدعاء بتعجيل عقوبة الآخرة في الدنيا. لما جاء في حديث أنس رضي
الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد خَفَتَ فصار
مثل الفرخ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل كنت تدعو بشيء أو
تسأله إياه؟» ، قال: «نعم، كنت أقول: اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة
فعجِّله لي في الدنيا» ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبحان الله، لا
تطيقه - أو لا تستطيعه -، أفلا قلت: اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة،
وقنا عذاب النار» ، قال: فدعا الله له فشفاه [51] .
ج - أن يفصِّل الداعي تفصيلاً لا لزوم له؛ لما عن سعد بن أبي وقاص
رضي الله عنه أنه لما سمع ابنه يدعو قائلاً: اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها وبهجتها
وكذا وكذا، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها وكذا وكذا، فقال: «يا بني،
إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» سيكون قوم يعتدون في
الدعاء «؛ فإياك أن تكون منهم، إن أُعطيت الجنة أُعطيتها وما فيها، وإن
أُعذت من النار أُعذت منها وما فيها من الشر» [52] .
3 - تحجير رحمة الله عز وجل: كأن يقول: اللهم اسق مزرعتي وحدها،
أو اللهم أصلح أولادي دون غيرهم، أو رب ارزقني وارحمني دون سواي، فعن
أبي هريرة رضي الله عنه قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة
فقمنا معه، فقال أعرابي وهو في الصلاة: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا
أحداً. فلما سلم النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: لقد حجّرت واسعاً
- يريد رحمة الله -» [53] .
4 - الدعاء على النفس والأهل والمال: لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا
تدعوا على أنفسكم، ولا تدعوا على أولادكم، ولا تدعوا على أموالكم؛ لا توافقوا
من الله ساعة يُسأل فيها عطاء فيستجيب لكم» [54] .
5- تكلف السجع في الدعاء: ويوضح هذا نصيحة ابن عباس رضي الله
عنهما لعكرمة رحمه الله، قال فيها: «حدِّث الناس كل جمعة مرة ... » ، ثم قال:
«فانظر السجع من الدعاء فاجتنبه؛ فإني عهدت رسول الله وأصحابه لا يفعلون
إلا ذلك» ؛ يعني: لا يفعلون إلا ذلك الاجتناب [55] .
* من موانع إجابة الدعاء:
ثمة أمور إذا حصلت من الداعي؛ فإنه متوَعد بعدم إجابة دعائه، ومنها:
1- المطعم الحرام، والمشرب الحرام، والملبس الحرام، والتغذية بالحرام:
لا يفطن الإنسان أحياناً إلى العلاقة بين الجسد والروح الذي يتركب منهما الإنسان،
وأن كل واحد يؤثر في الآخر، فنوعية الغذاء تؤثر أحياناً في نفسية الإنسان،
وكسبه يؤثر في عبادته، ومن أخطر ذلك: العيش من الكسب المحرم؛ من ربا،
أو غش، أو رشوة، أو سرقة، أو مال يتيم، أو دخل لا يستحقه.. وهو يمنع
إجابة الدعاء: عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها
الناس، إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين
فقال تعالى: [يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ]
(المؤمنون: 51) . وقال: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُم]
(البقرة: 172) ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر، يمد يديه إلى السماء:
يا رب يا رب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذِّي بالحرام؛
فأنى يستجاب لذلك؟!» [56] .
2 - ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: عن حذيفة رضي الله عنه،
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفسي بيده، لتأمرن بالمعروف
ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً منه، فتدعونه فلا
يستجيب لكم» [57] .
3 - الاستعجال في إجابة الدعاء: صحّ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا يزال يُستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو
قطيعة رحم، ما لم يستعجل» قيل: يا رسول الله، فما الاستعجال؟ قال: «يقول
قد دعوت فلم أر يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدَعُ الدعاء» [58] ،
والاستحسار: الإعياء والانقطاع عن الشيء، والمراد هنا أنه ينقطع عن الدعاء،
ومنه قوله تعالى عن الملائكة: [لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ]
(الأنبياء: 19) ؛ أي لا ينقطعون عنها، وفيه طلب دوام الدعاء وعدم استبطاء
الإجابة. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يُستجاب لأحدكم ما لم
يعجل يقول: دعوت فلم يستجب لي» [59] ، وكذلك قوله تعالى: [وَيَدْعُ الإِنسَانُ
بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً] (الإسراء: 11) . وهذا لا ينافي
الدعاء بتعجيل الطلب، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث
الاستسقاء قوله: «عجلاً غير رائث» [60] .
4 - غفلة القلب وشروده: شرود القلب حال الدعاء والذكر والقراءة والصلاة
من أشد ما يحرم الإنسان من ثمرات العبادة وبركاتها، فالصلاة بلا خشوع لا أجر
عليها، والدعاء بلا قلب لا يُستجاب!
عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
«ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة، واعلموا أن الله لا يستجيب دعاءً من قلب
غافل لاهٍ» [61] ؛ أي يجب أن يكون قلبك حاضراً وأنت تدعو، متفهماً لما تقول،
وتذكر من تخاطب؛ فإنك تخاطب الله رب العالمين، فلا يليق بك وأنت العبد الذليل
أن تخاطب مولاك بكلام لا تعيه، أو بجمل عفوية قد اعتدت على تكرارها دون
التفهم لفحواها أو الإدراك لمعانيها.
5 - ومن موانع الإجابة: ما بينه النبي عليه الصلاة والسلام في قوله:
«ثلاثة يدعون فلا يُستجاب لهم: رجل كانت تحته امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها،
ورجل كان له على رجل مال فلم يُشهد عليه، ورجل آتى سفيهاً ماله، وقال الله عز
وجل: [وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُم] (النساء: 5) » [62] .
* أوقات وأحوال ترجى فيها إجابة الدعاء:
1- عند النداء للصلوات المكتوبة، وعند التحام الصفوف: لقوله صلى الله
عليه وسلم: «ثنتان لا تردان أو قلما تردان الدعاء عند النداء، وعند البأس حين
يُلحِم [63] بعضهم بعضاً» [64] .
2- بين الأذان والإقامة: لقوله عليه الصلاة والسلام: «الدعاء لا يرد بين
الأذان والإقامة، فادعوا» [65] .
3 - في السجود: لقوله صلى الله عليه وسلم: «أقرب ما يكون العبد من
ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء» [66] .
4 - دُبُر الصلوات المكتوبة: سئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الدعاء
أسمع؟ فقال: «جوف الليل الآخر، ودُبُر الصلوات المكتوبات» [67] .
5 - آخر ساعة من يوم الجمعة: لقوله صلى الله عليه وسلم: «يوم الجمعة
اثنتا عشرة ساعة؛ منها ساعة لا يوجد عبد مسلم يسأل الله فيها شيئاً إلا آتاه الله إياه،
فالتمسوها آخر ساعة بعد العصر» [68] .
6 - في أوقات من الليل، وخاصة ثلثه الأخير: الليل وقت يخلو فيه
المحبون بأحبابهم، فيجد المؤمنون فيه فرصة للأنس بربهم ومناجاته، وهو وقت
خصه الله بمزيد فضل المناجاة والدعاء فيه، قال صلى الله عليه وسلم: «إن في
الليل لساعة لا يوافقها رجل مسلم يسأل الله خيراً من أمر الدنيا والآخرة إلا أعطاه
إياه، وذلك كل ليلة» [69] .
وقال صلى الله عليه وسلم: «ينزل ربنا كل ليلة إلى السماء الدنيا، حين
يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له؟ ومَنْ يسألني فأعطيه؟
ومَنْ يستغفرني فأغفر له؟» [70] .
والقسم الأول من ثلث الليل الآخر «وهو جوف الليل الآخر» [71] أفضل
للدعاء، فقد سُئل النبي صلى الله عليه وسلم أي الدعاء أسمع؟ فقال: «جوف
الليل الآخر، ودبر الصلوات المكتوبات» ، وهو الموافق لصلاة داود عليه السلام،
قال صلى الله عليه وسلم: «… أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه السلام؛
كان ينام نصف الليل، ويقوم ثلثه، وينام سدسه» [72] ، فصلاته تبدأ قبل جوف
الليل الآخر وتشمله، حتى يبدأ السدس الأخير من الليل فينام.
7 - عند التعار من الليل وقراءة الذكر الوارد: لحديث عبادة بن الصامت
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعار من الليل
فقال حين يستيقظ: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو
على كل شيء قدير، الحمد الله، وسبحان الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا
حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم دعا: رب اغفر لي، غفر له، أو دعا
استُجيب له، فإن قام فتوضأ ثم صلى قُبلت صلاته» [73] .
8 - دعاء العبد بـ: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين: لقوله
صلى الله عليه وسلم: «دعوة ذي النون إذ دعا بها وهو في بطن الحوت: لا إله
إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين؛ لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط، إلا
استجاب الله له» [74] .
9 - أحوال أخرى للداعي:
أ- دعاء المسلم لأخيه بظهر الغيب: عن أبي الدرداء رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول: «دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر
الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل، كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به:
آمين ولك بمثل» [75] .
ب - دعوة الصائم، والمسافر، والمظلوم، والوالد لولده، وعلى ولده: لقوله
صلى الله عليه وسلم: «ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن: دعوة الوالد على
ولده، ودعوة المسافر، ودعوة المظلوم» [76] ، وقوله صلى الله عليه وسلم:
«ثلاث دعوات لا تُرد: دعوة الوالد لولده، ودعوة الصائم، ودعوة المسافر» [77] ،
وقوله صلى الله عليه وسلم لمعاذ عندما بعثه لليمن: «واتق دعوة المظلوم؛ فإنه
ليس بينها وبين الله حجاب» [78] .
ج - يوم عرفة: قال صلى الله عليه وسلم: «خير الدعاء يوم عرفة، وخير
ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد،
وهو على كل شيء قدير» [79] .
د - دعوة المضطر: المضطر: المكروب المجهود [80] ، والله تبارك وتعالى
يجيب المضطر إذا دعاه ولو كان مشركاً، فكيف إذا كان مسلماً عاصياً مفرطاً في
جنب الله؟ بل كيف إذا كان مؤمناً براً تقياً؟ قال تعالى: [أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا
دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ] (النمل: 62) ، قال ابن كثير - رحمه الله - في تفسير
الآية السابقة: «أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه، والذي يكشف ضر
المضرورين سواه؟» [81] .
هـ - دعوة الحاج، والمعتمر، والغازي في سبيل الله: لقوله صلى الله عليه
وسلم: «الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر؛ وفد الله، دعاهم فأجابوه،
وسألوه فأعطاهم» [82] .
فيا ترى: أين نحن من الدعاء؟ وما حالنا معه؟ .
ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، ربنا انصر مجاهدنا وثبت قدمه،
ربنا نج مستضعفنا، ربنا اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم ولا الضالين.