مجله البيان (صفحة 4551)

إشراقات قرآنية

وعند الله مكرهم

د. عبد اللطيف بن عبد الله الوابل

[وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ

مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ] (النمل: 50-51) .

إن سنن الله لا تتغير ولا تتبدل، وهي ماضية في الآخرين كما كانت في

الأولين. والقرآن حين يتحدث عن الأمم الماضية وما حل بها من الهلاك والبوار؛

إنما مقصوده الإنذار والتحذير، وأخذ العبرة من هلاك الأمم السابقة، وتجنب

أسباب ذلك.

وهذه الآيات عقَّب الله بها على قصة ثمود مع أخيهم صالح - عليه السلام -؛

حين دعاهم إلى الحق وإلى الهدى فما استجابوا، بل تكبروا وعتوا عتواً كبيراً، وما

كان من الملأ من قومه إلا أن ائتمروا به وبأهله؛ رغبة منهم في إهلاك نبي الله

والقضاء عليه وعلى أهله لئلا يبقى لهم أثر؛ كما ذكر الله ذلك عنهم بقوله: [وَكَانَ

فِي المَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ * قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ

لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ] (النمل: 48-

49) .

قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره عند هذه الآية: «يخبر تعالى عن طغاة

ثمود ورؤوسهم الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر وتكذيب صالح، وآل

بهم الحال إلى أنهم عقروا الناقة، وهمُّوا بقتل صالح أيضاً؛ بأن يبيتوه في أهله ليلاً

فيقتلوه، ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه: إنهم ما علموا بشيء من أمره، وإنهم

لصادقون فيما أخبروهم به من أنهم لم يشاهدوا ذلك» . ثم ساق رحمه الله بسنده

عن عبد الرحمن بن أبي حاتم أنه قال: «لما عقروا الناقة قال لهم صالح:

[تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ] (هود: 65) ، قالوا:

زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام، فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث. وكان

لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه، فخرجوا إلى كهف - أي

غار - هناك ليلاً، فقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه، ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله

ففرغنا منهم. فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم، فخشوا أن تشدخهم

فتبادروا، فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار، فلا يدري قومهم أين هم،

ولا يدرون ما فُعل بقومهم، فعذب الله هؤلاء ها هنا، وهؤلاء ها هنا، وأنجى الله

صالحاً ومن معه. ثم قرأ: [وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ

كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا

ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ] (النمل: 50-52) » ؛ أي يعلمون

الحقائق ويتدبرون وقائع الله في أوليائه وأعدائه، فيعتبرون بذلك، ويعلمون أن

عاقبة الظلم الدمار والهلاك، وأن عاقبة الإيمان والعدل النجاة والفوز، ولهذا قال:

[وَأَنجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ] (النمل: 53) ؛ أي أنجينا المؤمنين بالله

وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره، وكانوا يتقون الشرك بالله

والمعاصي، ويعملون بطاعته وطاعة رسله [1] .

والمتأمل أخي القارئ في تاريخ الأمم يجد هذه السنَّة الربانية واضحة جلية،

فهذا فرعون لعنه الله لما دعاه موسى - عليه السلام - إلى الحق طغى وبغى وأرغد

وأزبد، وتوعد موسى وقومه أن يستأصل شأفتهم، كما ذكر الله قصته بقوله:

[وَقَالَ المَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ

وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ * قَالَ مُوسَى

لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ

لِلْمُتَّقِينَ] (الأعراف: 127-128) ، وفي الآية الأخرى: [فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي

المَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجِمِيعٌ

حَاذِرُونَ] (الشعراء: 53-56) ، فكانت النتيجة ما أخبرنا الله به: [فَأَخْرَجْنَاهُم

مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم

مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءَى الجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ

مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ البَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ

كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ العَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ

أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ

رَبَّكَ لَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ] (الشعراء: 57-68) .

وهذا محمد صلى الله عليه وسلم تآمر المشركون على قتله وإنهاء أمره،

وتواعدوا على ذلك، وفرح طغاتهم بالأمر ليتم لهم القضاء على ما جاء به محمد

صلى الله عليه وسلم من الحق والهدى، كما في سورة الأنفال: [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ

الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ

المَاكِرِينَ] (الأنفال: 30) ، فكانت النتيجة نجاة محمد صلى الله عليه وسلم

وظهور أمره، وفتح مكة، وهزيمة المشركين، بل وإسلام كثير منهم، وتلك حكمة

العليم الحكيم.

وهكذا كان الحال مع دول الكفر في تاريخ الإسلام؛ من الروم، والفرس،

والمغول، والتتار، وغيرهم.

وما أشبه اليوم بالأمس، فمنذ سنوات معدودة كان العالم يتحكم به قطبان

طاغيان مجرمان، سقط أحدهما (وهو الاتحاد السوفييتي) على أعتاب جهاد

المسلمين يوم أن صدقوا الله في جهادهم، ولا يزال هذا المعسكر في تردٍ مستمر،

وتقهقر دائم في جميع المجالات؛ السياسية، والاقتصادية، والعسكرية، والأخلاقية،

واليوم بدأت نهاية القطب الثاني (الولايات المتحدة - إسرائيل الكبرى) بإذن الله

ليكون في ذلك عبرة لغيرهم.

وبعيداً عن الجدل الدائر في أسباب حادث 11 سبتمبر، وهل كان بتخطيط

وتدبير من الملأ الصهيوني في الحكومة الأمريكية مكراً وكيداً، أم أنه بتخطيط

وتنفيذ المجاهدين في أفغانستان؟ فهناك حقيقة يتفق عليها المسلمون، وهي أن هذا

الحادث هو إنذار من الله لدولة الكفر والعناد، وكسر لطغيانهم وجبروتهم، وبداية

لهزائم متعددة؛ سياسية، وعسكرية، واقتصادية وأخلاقية، كما قال الله تعالى:

[وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا

تَدْمِيراً] (الإسراء: 16) ، وبعيداً كذلك عن الجدل الدائر حول أهداف أمريكا

الصهيونية وذيلها بريطانيا من الحرب على العراق؛ فلا شك أن خوفهم من ذلك

العملاق الذي بدأ يستيقظ، ومعرفتهم بأنه لا بقاء لهم مع قوة الإسلام ووعي

المسلمين - أي محاولتهم استباق الحدث ومحاصرة المسلمين في عقر دارهم

ومصدر هدايتهم - فذلك السبب هو من أهم دوافع هذه الحملة الصليبية، وليس

النظام البعثي الذي هو صنيعة من صنائعهم، فهم إنما جاؤوا محاربين لهذا الدين

غير أنهم لا يدركون أن الله غالب على أمره، وأنه من يغالب الله يُغلب، وأن من

يقف عائقاً أمام هذا الدين فهو هالك خاسر لا محالة: [هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ

رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (الصف:

9) ، ولذلك فإن مؤشرات مكر الله بهم بدأت تظهر، ومنها:

1 - وقوع الاختلاف والتفرق داخل المجتمع الأمريكي من جهة، وبينهم وبين

بني قومهم من الأوروبيين من جهة أخرى؛ إذ وصل الأمر إلى السباب والشتائم،

وقريباً بإذن الله سيزداد الخلاف، فالحرب الباردة بين أمريكا وأوروبا متمثلة في

قطبيها ألمانيا وفرنسا قد بدأت منذ سنوات، وما أن تقع الفرقة ويحدث الاختلاف

في داخل أمة إلا حل بها الهلاك والدمار، وكان ذلك مؤذناً بالزوال.

2 - تبين ظلمهم الواضح، وبغيهم، وعلوهم في الأرض، وتسلط الملأ منهم

وتجبرهم حتى على الإرادة الإلهية، وهذا بلا شك مؤذن لهم بعذاب من الله، كما

قال سبحانه: [وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّنْ

بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوَارِثِينَ] (القصص: 58) ، وقال سبحانه: [إِنَّ

فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ

وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ المُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي

الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ

وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ] (القصص: 4-6) ، وقال سبحانه

أيضاً: [وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا

وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القُرَى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ] (القصص: 59) ، وفي الحديث:

«إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته» [2] .

3- عزلتها الدولية، ووقوف أكثر دول وشعوب العالم ضدها، وبروز قوى

مناهضة لها صراحة، ولأول مرة في تاريخ مجلس الأمن تهدد دولة صديقة لأمريكا

باستخدام حق الفيتو ضد المشروع الأمريكي وهي فرنسا. تلك الدولة التي انضمت

مع ألمانيا العدوة القديمة ضد الصديقة التي حررتها منها، فسبحان من يدبر الأمر

كما يشاء! وهذا من مكر الله بأمريكا.

4 - ازدياد الحمية الإسلامية في قلوب شعوب العالم الإسلامي، وتقاربهم في

الرأي، ولجئهم إلى الله، وعودتهم إلى الدين الحق، وهذا من أسباب نصر الله لهذه

الأمة وخذلان الكافرين والمنافقين.

5 - ظهور انكسار أصحاب القلوب المريضة وذلهم؛ من الذين يسارعون في

تولي الكافرين، وخوفهم الشديد من بطش أوليائهم من الكافرين والمكر بهم؛ حتى

أصبح بعض من كان بالأمس يسبح بحمد أمريكا يلعنها على الملأ، ويتمنى زوالها

بعد أن كان يدعو إلى التبعية لأمريكا بلد الحرية والمساواة!!

6 - ما حصل في عدد من الدول الإسلامية من تقدم للحركات الإسلامية،

وخاصة في تركيا، والباكستان، والمغرب، وهذا لم يكن في حسابات أمريكا.

7 - انهيار القاعدة الأخلاقية التي كانت تنادي بها أمريكا، وتدَّعي بها أنها

الزعيمة الأخلاقية للعالم، فانطلاقاً من هذه القاعدة بنت صداقتها مع الآخرين

وكسبت مودتها، فقد كانت تزعم أنها بلد العدالة والحرية والأخلاق والمساواة، وهذا

ما دفع كثيراً من أصحاب العقول المتميزين في تخصصاتهم إلى الهجرة إلى

الولايات المتحدة وتفضيلها على غيرها من الدول؛ لما تدَّعي من الحرية والمساواة

بين أفراد شعوبها، ولكنها اليوم فقدت ذلك وأصبحت زعيمة العنصرية؛ حتى

رماها بعض الساسة من الألمان بأنها نازية القرن الحادي والعشرين، فقد أظهرت

الأحداث أن ما تدعيه كذب وسراب خادع، وأنها لا تمتلك من الأخلاق ما يمكنها من

البقاء.

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا

وختاماً؛ فإن بشائر النصر كثيرة، ومكر الله بالقوم ظاهر، وما على الأمة

إلا أن تعود إلى دينها، وأن تأخذ بأسباب النصر الممكنة مع الثقة الصادقة بالله

والتوكل عليه، وإقامة الجهاد بشروطه المعتبرة شرعاً، والاهتمام بإحياء شعيرة

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في مجتمعات المسلمين، والاعتصام بحبل الله،

والاجتماع على الحق؛ حتى يتحقق وعد الله بنصر هذه الأمة وتأييدها، وإهلاك

الظالمين المجرمين، وما ذلك على الله بعزيز: [وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن

لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ

وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ] (محمد: 4-6) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015