البيان الأدبي
يوسف رشاد [*]
الحداثة ظاهرة فكرية وأدبية وشعرية ابتدعها العلمانيون لتكون نداً لكل ما هو
إسلامي.
والعلمانية حركة لا دينية، والحداثة منبثقة عنها، لذلك تلقفتها الأيدي اليهودية
وتبنتها، واحتضنت كثيراً من دعاتها، وقد شارك عددٌ من العلمانيين عدداً من
المفكرين اليهود في ندوات واجتماعات لتقارب وجهات النظر بين الطرفين، ولكن
انتفاضة الشعب الفلسطيني والصدامات الدموية التي تقع بين الفلسطينيين
والصهاينة اليهود حالت دون الوصول إلى أهداف وغايات كل من الطرفين، ومع
ذلك لا زال اليهود يشاركون في لقاءات مع العلمانيين؛ فقد تجمع في برلين في
شهر نوفمبر من العام الماضي عدد من كبار شعراء العلمانية وهم ما يُطلق عليهم
بالحداثيين مع جمهرة غربية في إطار مهرجان سنوي تقيمه برلين، وقد حضره
بالطبع عدد من الصحفيين الإسرائيليين الذين التقوا مع ثلاثة من كبار الحداثيين،
وقد نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت في عددها الصادر يوم 15/11/2002م هذا
الحوار الذي دار بين مراسلها وهؤلاء الثلاثة؛ إذ قال المراسل:
في هذه الأيام ليس من السهل بناء جسور بين الحضارات والثقافات، وفي
الوقت الذي يتحول فيه حلم صدام الحضارات بين الغرب والشرق إلى واقع دموي
مرعب ومخيف تجمّع في برلين عدد من كبار الشعراء العرب المعاصرين ينشدون
أشعارهم على مدار يومين، وقد حضر عشرات من الشعراء العرب من العراق،
ولبنان، ومصر، وسوريا، وفلسطين.. وفي الواقع الحالي، فإنه حتى المعتدلين
من الشعراء العرب الذين شاركوا في لقاءات مع الإسرائيليين يجدون صعوبة في
الموافقة على إجراء مقابلات صحفية مع صحيفة إسرائيلية؛ بيدَ أنني دُعيت مع
بعض الصحفيين الإسرائيليين إلى لقاء مع ثلاثة من الشعراء العرب وهم:
الفلسطيني (محمود درويش) ، والسوري (أدونيس) ، واللبناني (عباس
بيضون) .
وقد سعى الثلاثة إلى توجيه رسالة واضحة تقول: إن المواجهة بين الثقافات
والصراع بين الحضارات يدوران حالياً داخل العالم العربي، وفي أعماقه بين
مؤيدي المدنية والحداثة، وبين مؤيدي الأصولية الإسلامية، إنه صراع دائر فعلاً،
والشعراء يدعون للتفاهم ويطالبون بالنجدة والمساعدة ويصرخون قائلين: «حتى
لو لم يساعدنا الغرب فإننا سننتصر» (أي على الإسلاميين) .
* نداء من أدونيس إلى الضمير اليهودي:
ولد في عام 1930م في سوريا من أبوين نُصَيْرِيَّيْن، ويُقيم منذ عدة أعوام في
فرنسا من أهم الشعراء العرب (من وجهة النظر اليهودية) ، وأحد كبار المبدعين
المحرضين والمستفزين بالمجتمع العربي، ولقد اتخذ مواقف واضحة بعد توقيع
اتفاقية أوسلو تؤيد التطبيع مع (إسرائيل) والآن يسعى إلى توجيه نداء مباشر إلى
ضمائر المفكرين والأدباء اليهود، ويروي «أدونيس» قائلاً: لقد مورس النشاط
الثقافي من أجل السلام بين العرب واليهود خارج (إسرائيل) بصفة خاصة.
إن هناك يهوداً في أنحاء متفرقة من العالم يبدون تضامناً قوياً مع الشعب
الإسرائيلي ويعارضون السياسة الإسرائيلية، وهذا أمر ينبغي الترحيب به.
لكني أريد أن أقول شيئاً ما ولأول مرة بشكل علني: لقد كنت أسأل محدثيّ
في المناقشات والحوارات التي تجري مع المثقفين اليهود التي كنت أشارك فيها:
لماذا تدافعون عن حقوق الإنسان في كل مكان بالعالم من خلال الإعلانات والنداءات
والتصريحات والمظاهرات وبمختلف النشاطات في حين أنكم لم تصدروا حتى اليوم
أي إعلان أو تصريح عام بشأن حقوق الإنسان الفلسطيني؟ .. إنني أريد أن أنتهز
هذه المناسبة لكي أتوجه إليكم مرة أخرى بهذا النداء: «أصدروا تصريحاً أو بياناً
باسم المثقفين اليهود عن حقوق الفلسطينيين لا من أجل الفلسطينيين فقط، ولكن
لمصلحة الضمير اليهودي أيضاً» .
ويضيف «أدونيس» : «إن أوروبا والعرب يحتاج كل منهما للآخر،
والآن أكثر من أية فترة أخرى، ويؤكد: إن هناك في الشرق الأوسط ثقافة عربية
ليست ثقافة إسلامية، والغرب يريد التحدث فقط مع الإسلام» الأصولي «وعلى
الرغم من أن التفسير الأصولي للنصوص المقدسة يحظى بتأييد شعبي واسع فإن
نقطة ضعفه تتمثل في الصلة والعلاقة بين هذا التفسير وبين القرآن. إن الإسلام لا
يمت بآية صلة للديمقراطية، وكل أنظمة الحكم الإسلامية لم تكن ديمقراطية،
والرعايا غير المسلمين لم يكونوا أصحاب نفس الحقوق التي يتمتع بها المسلمون،
ومن ثم فإن أي نظام ديني إسلامي يتعارض من أساسه مع الديمقراطية بمفهومها
الغربي.. إن الديمقراطية في العالم العربي لن تتحقق إلا إذا كان هناك فصل كامل
بين الدين والدولة. وفي النهاية فقد دار في الغرب أيضاً صراع حول هذه القضية» .
ويرى أدونيس أن الصراع ضد الأصولية صراع طويل، ويقول: «إنه من
غير السهل التغلب على هذه الظاهرة، ذلك أنها تعتمد على تقاليد عتيقة وهي تتسلل
وتتسرب إلى الحياة اليومية وإلى الحياة الأسرية، ولكل المؤسسات، وهناك أيضاً
ارتباط بينها وبين المؤسسات السياسية. نحن نطالب أوروبا بعدم تأييدها أو تدعيم
التيار الإسلامي.. نطالبهم بأن يدعمونا ويؤيدونا نحن المثقفين العرب، ولكننا
سننجح حتى بدون مساعدتهم في التغلب على التيار الإسلامي» !!
ويحاول عباس بيضون المولود في جنوب لبنان والمحرر الكبير في الصحيفة
اليسارية البيروتية «السفير» هو الآخر التفرقة بشكل واضح بين الثقافة العربية
والثقافة الإسلامية، ويقول: «إن الحديث يجري اليوم عن الثقافة العربية كما لو
كانت ثقافة إسلامية، ويتم تماماً تجاهل التقاليد الثقافية الحديثة الطويلة والضخمة
الموجودة في العالم العربي في الأدب والصحافة والجامعات الأكاديمية وهي الثقافة
القريبة جداً من الثقافة الغربية لا الثقافة الإسلامية.
إن الأدب العربي الحديث يرضع ويستمد جذوره من الثقافة الغربية [1] .
وهناك حالياً صراع بين هذه الثقافة وبين الثقافة الإسلامية. وهدف هذا الصراع
وهذا الكفاح هو محاولة منع الثقافة الإسلامية من احتلال مكان الصدارة والريادة،
بيد أن الثقافة الحقيقية الفاعلة والمؤثرة هي الثقافة الحديثة التي ترتبط بكثير من
الأمور المشتركة مع الثقافة الغربية، وهي في حالة كفاح وصراع حالياً.
ويضيف بيضون: إن الدين مدفوع ويتحرك بقوة كلمة الله سبحانه وتعالى لا
من قوة كلمة الفرد، الإنسان. ودائماً ما يقال: إن عدم الديمقراطية هو مرض
الإسلام، وأنا أقول (أي بيضون) : إن هذا المرض قائم في كل الأديان، إن
الديمقراطية اختراع غربي، لكنه اختراع هش. وحتى في الدول الغربية فإنها لم
تنجح دائماً في الخروج إلى حيّز التنفيذ. لقد كانت هناك في أماكن مختلفة من العالم
أنظمة حكم ديمقراطية فككتها وحلتها أنظمة حكم ديكتاتورية وشمولية؛ إلا أن الكفاح
من أجل الديمقراطية ضد الإسلام قد بدأ.
ويبدو أن الإدارة الأمريكية تريد بعد صدمة عمليات الحادي عشر من سبتمبر
التي رجّت الولايات المتحدة إحداث تغيير سياسي جوهري في الشرق الأوسط،
وزعزعة وتقويض أنظمة الحكم القائمة حالياً التي رعت وتبنت الأصولية الإسلامية
واحتضنتها، واستبدالها بأنظمة حكم ديمقراطية وبالقوة أيضاً.
وأول الأهداف الجديدة هو العراق.
إنه نظام يقوّي وضعه ومكانته عن طريق افتعال مواجهات وصدامات مع
الدول المجاورة، لكن التساؤل الحقيقي في هذا الصدد هو: بأي حق تسمح الولايات
المتحدة لنفسها بالعمل على إسقاط هذا النظام؟ لقد ظل الأمريكيون يعملون حتى
اليوم على تقوية الأنظمة الديكتاتورية بالشرق الأوسط، ولا يؤيدون أية قوة
ديمقراطية بالعالم العربي. لقد ساعدوا صدام في حربه ضد إيران، إن حرب
الخليج الأولى لم تجر تحت شعار الديمقراطية.
وسُئل الشعراء العرب: ألا زال هناك حوار قائم بين الأدباء العرب
و (الإسرائيليين) أم أن عامي الانتفاضة وقمعها مَحَوا كل ذكرى للمبادرات
العديدة الداعية لحوار إبداعي بين المثقفين من جانبي المواجهة الشرق
أوسطية؟
وعلى هذا السؤال أجاب محمود درويش الشاعر الوطني الفلسطيني من وجهة
النظر الإسرائيلية الذي اشترك في الثمانينيات ومطلع التسعينيات أثناء منفاه في
باريس في لقاءات مع أدباء (إسرائيليين) من اليسار.
يقول درويش:» مستحيل أن نقول إن هناك حواراً جاداً وعميقاً ومستمراً
بين مبدعين ومثقفين فلسطينيين و (إسرائيليين) ذلك أن هذا الحوار ومنذ بدايته لم
يكن حواراً مُرْضياً ومتكافئاً، ذلك أن هناك عدم توازن وخللاً، ومن المحزن جداً
أنه لا توجد حركة سلام بين المثقفين (الإسرائيليين) .
وعلى الرغم من أشعاره العنيفة واللاذعة فإن محمود درويش يرفض لقب
«شاعر المقاومة» ويقول: إنني لم أنجح حتى الآن في العثور على تعريف
لمصطلح شعر المقاومة، لقد اخترع هذا التعبير الأدباء والنقاد العرب، وأطلقوه
على الشعراء الذين يقيمون في (إسرائيل) .
إن الشعراء الذين يعيشون في حالة قمع واحتلال يُعبرون عن احتجاجهم، لكن
موضوع الشعر سواء كان مقاومة أو احتجاجاً لا يهمني. تهمني فقط الجوانب
الجمالية والأخلاقية.
وفي الشعر لا يوجد طرفان غير متوازنين؛ إننا نعيش في عصر العولمة،
ولا يمكننا حماية أنفسنا منها، إلا أن الشعر دائماً ما كان يحمل في طياته بذور
العولمة؛ ذلك أنه لا يقتصر على منطقة واحدة؛ إنه مفتوح ومتاح للجميع دونما
حدود ثقافية تحده، والشعر دائماً ما يعرض قضية واحدة ووحيدة وهي قضية
الجوهر، ومفهوم الوجود، ومن ثمَّ فليست لديّ أية مشكلة في فهم مشاعر غير
العربي!! انتهى الحوار.
هؤلاء هم شعراء الحداثة الذين لا همّ لهم إلا إزاحة التيار الإسلامي عن
طريقهم بزعم أنه يسحب البساط من تحت أقدامهم كما قال «فؤاد زكريا» ؛
فشعرهم وأدبهم مستمد من الثقافة الغربية التي هي قبلتهم التي يولون وجوههم قِبَلَها،
ودعوتهم التي يوجهون الشباب المنبهر بالثقافة والحضارة الغربية، وهم في ذلك
يقتدون بإمامهم وشيخهم «طه حسين» صاحب كتاب: (مستقبل الثقافة في مصر)
الذي دعا فيه إلى أن تكون ثقافة مصر في المستقبل ثقافة أوروبية خالصة، وأن
يكون اتجاه مصر في الحياة كلها اتجاهاً أوروبياً خالصاً.
من أجل هذا يتبنى اليهود أفكار وآراء مثل هذه الدعوات، ويحتضنون
أصحابها، وتقام لهم الندوات والأمسيات الشعرية بزعم تقارب وجهات النظر بين
الطرفين، وأن هذه الفئة من المثقفين العرب هي الفئة المستنيرة التي ينبغي على
اليهود والغرب أن يمدوا لهم يد العون، ويساعدوهم على نشر أفكارهم وثقافتهم
الهدامة طالما أنها ضد ما يسمى بالتيار الإسلامي.