في دائرة الضوء
د. مصلح عبد الحي النجار
قال الإمام القرطبي في تفسيره لقول الله تعالى: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً
أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] (الإسراء: 16) :
«أخبر الله تعالى في الآية التي قبل أنه لم يهلك القرى قبل ابتعاث الرسل؛ لا لأنه
يقبح منه ذلك إن فعل، ولكنه وعد منه، ولا خلف في وعده. فإذا أراد إهلاك قرية
مع تحقيق وعده على ما قاله تعالى؛ أَمَرَ مترفيها بالفسق والظلم فيها، فحق عليها
القول بالتدمير. يعلمك أن من هلك هلك بإرادته، فهو الذي يسبب الأسباب ويسوقها
إلى غاياتها ليحق القول السابق من الله تعالى» .
يظن بعض الباحثين أن حضارة أي أمة عبارة عن علومها، وآدابها، وفنونها،
وصناعاتها، وبدائعها، وأطوارها في الحياة المدنية والاجتماعية، وأسلوبها في
الحياة السياسية، ولكن الحقيقة أن كل هذه الأمور ليست هي الحضارة نفسها، وإنما
هي نتاج الحضارة ومظاهرها، وما هي بأصل الحضارة، وإنما هي أوراق شجرة
الحضارة وثمارها.
إذا صح هذا؛ فلا يجوز أن نحدد وزن حضارة وقدرها وقيمتها على أساس ما
لها من هذه الصور الظاهرة والسمات العارضة، وإنما علينا أن نتوصل إلى روحها،
ونتحسس أصولها؛ صارفين النظر عن كل هذه الصور الظاهرة والسمات
العارضة.
والواقع أن للحضارة مآلات كثيرة ومتشابكة؛ يؤثر بعضها في بعضها الآخر،
وإن أول ما يكون من توابع الحضارة هو الميل إلى الترف الذي يؤدي إلى
ازدهار الصناعات وتشكل فنونها، ولكن ازدهار الصناعات لا يلبث أن يجعل
البشر يتمادون في الترف والشهوات بالتدريج إلى أقصى الحدود، ولكن لصالح
بعضهم فقط، وعلى حساب بعضهم الآخر، وحينئذ تفسد الأخلاق وتنهار، ويكون
ذلك مؤذناً بانهيار الدول والحضارات ذاتها؛ وبيان ذلك على النحو الآتي:
أ - الميل إلى الترف:
إن الميل إلى الترف هو نتيجة لحصول الرئاسة؛ حيث إن أمور الحضارة من
توابع الترف، والترف من توابع الثروة والنعيم، والثروة والنعيم من توابع الرئاسة،
والرئاسة هي دور انتقالي من خشونة البداوة إلى رقة الحضارة، وهذا الانتقال لا
يكون إلا بالسعي إلى تحصيل الكمالي بعد حصول الضروري، والسبب في ذلك أن
الحضارة هي أحوال معتادة زائدة على الضروري من أحوال العمران؛ زيادة
تتفاوت بتفاوت الرفاهة، وتفاوت الأمم في القلة والكثرة تفاوتاً غير منحصر.
ب - ازدهار الصناعات:
الميل إلى الترف، والانغماس في الشهوات والملذات، والترفه في الحاجات
الكمالية من شأنه أن يؤدي إلى الزيادة في إنتاج تلك الحاجات الكمالية، وأن يشجع
الصُّنَّاع الذين يصنعونها على الإكثار منها، والتفنن في أنواعها وأصنافها، فتكون
بمنزلة الصناعات، ويحتاج كل صنف منها إلى القَوَمة عليه والمهرة فيه، وبقدر ما
يزداد من أصنافها يزداد أهل صناعتها ويتلون ذلك الجيل بها، ومتى اتصلت الأيام
وتعاقبت تلك الصناعات حذق أولئك الصُّنَّاع في صناعاتهم، ومهروا في معرفتها،
والأعصار بطولها وانفساح أمدها وتكرر أمثالها تزيدها استحكاماً ورسوخاً.
ج - ازدياد الترف وانتشار الفقر:
فالترف يولِّد الترف، والصناعات التي كانت وليدة الحاجة إلى الترف؛
تصبح عاملاً في المبالغة فيه درجة درجة، إلى أن يصل إلى غايته، وإذا بلغ
التأنق في الأحوال المنزلية وغيرها الغاية تبعه طاعة الشهوات، فتتلون النفس من
تلك العوائد بألوان كثيرة لا يستقيم حالها معها في دينها ولا دنياها؛ أما دينها
فلاستحكام صبغة العوائد التي يعسر نزعها. وأما دنياها فلكثرة الحاجات والمؤونات
التي تطالب بها العوائد ويعجز الكسب عن الوفاء بها. بيد أن نزعة التأنق هذه التي
هي وليدة الميل إلى الرفاهية لا تلبث أن تأخذ مجراها في مجاري الحياة الاجتماعية،
فتخضع عندئذ لمنطلقها القسري، فيتساقط التجار واحداً بعد واحد في هوة الفقر.
ويصف لنا ابن خلدون الآلية التي يخضع لها الميل إلى الترف في المجتمع
فيقول: «وبيانه أن المِصْر بالتفنن في الحضارة تعظم نفقات أهله، والحضارة
تتفاوت بتفاوت العمران؛ فمتى كان العمران أكثر كانت الحضارة أكمل، فالمِصْر
الكثير العمران يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجته، ثم تزيدها المكوس غلاء؛
لأن الحضارة إنما تكون عند انتهاء الدولة في استفحالها، وهو زمن وضع
المكوس في الدول لكثرة خرجها حينئذ، والمكوس تعود على البياعات بالغلاء؛ لأن
السوقة والتجار كلهم يحتسبون على سلعهم وبضائعهم جميع ما ينفقونه حتى في
مؤونة أنفسهم، فيكون المكس لذلك داخلاً في قيم المبيعات وأثمانها، فتعظم نفقات
أهل الحضارة وتخرج عن القصد إلى الإسراف، ولا يجدون وليجة عن ذلك لما
ملكهم من أثر العوائد وطاعتها، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في
الإملاق والخصاصة ويغلب عليهم الفقر..» .
د - فساد الأخلاق:
وإذا وصلت حال الحضارة في العمران إلى هذا الحد؛ تبع ذلك فساد الأخلاق،
وانتشار الشرور، ويكون ذلك في بداءة الأمر في طريق تحصيل المعاش.
يقول ابن خلدون: «وأما فساد أهلها في ذاتهم واحداً واحداً على الخصوص،
فمن الكد والتعب في حاجات العوائد، والتلون بألوان الشر في تحصيلها، وما يعود
على النفس من الضرر بعد تحصيلها بحصول لون آخر من ألوانها، فلذلك يكثر
منهم الفسق والشر والسفسفة، والتحيل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير
وجهه، وتنصرف النفس إلى الفكر في ذلك والغوص عليه واستجماع الحيلة له،
فتجدهم أجرياء على الكذب، والمقامرة، والغش، والخلابة المخادعة، والسرقة،
والفجور في الأيمان، والربا في البياعات، ثم تجدهم أبصر بطرق الفسق ومذاهبه
والمجاهرة به وبدواعيه، وإطراح الحشمة في الخوض فيه، وتجدهم أيضاً أبصر
بالمكر والخديعة، يدفعون بذلك ما عساه ينالهم من القهر، وما يتوقعونه من العقاب
على تلك القبائح، حتى يصير ذلك عادة وخلقاً لأكثرهم إلا من عصمه الله» [1] .
وهكذا تنتهي الحضارة إلى فساد الأخلاق، كما انتهت إلى فساد وجوه المعاش
ووقوع الناس في هوة الفقر، بل إن فساد الأخلاق ليس إلا نتيجة لفساد وجوه
المعاش ولانتشار الفقر.
ولا تكون الحضارة قد بلغت هذا المبلغ حتى تكون قد أشرفت على نهايتها،
وحملت عناصر الخراب المودية بها.. وإذا كثر ذلك في المدينة أو الأمة تأذن الله
بخرابها وانقراضها، وهو معنى قوله تعالى: [وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً] (الإسراء: 16) ،
ووجهه حينئذ أن مكاسبهم لا تفي بحاجاتهم لكثرة العوائد ومطالبة النفس بها، فلا
تستقيم أحوالهم، وإذا فسدت أحوال الأشخاص واحداً واحداً اختل نظام المدينة
وخربت.. فافهم ذلك واعتبر به!