مجله البيان (صفحة 4493)

بأقلامهن

فلسفة التطور وأثرها في قضايا المرأة

د. رقية طه جابر العلواني

drruqaia@yahoo.com

تُعَدُّ نظرية التطور الدارونية من أخطر الفلسفات التي سادت الفكر الغربي

خلال القرن التاسع عشر الميلادي، وتبرز خطورة هذه النظرية من خلال محاولة

عدد من علماء مقارنة الأديان سحب وتطبيق هذه الفلسفة في مجال الدين، فأصبح

الدين في فكر هؤلاء خاضعاً للتطور؛ شأنه في ذلك شأن مختلف الكائنات التي

تطورت من الأدنى إلى الأعلى.

لقد ساق التأثر بنظرية التطور في الفكر الغربي؛ إلى ظهور اتجاه يرى أن

الأحكام الشرعية الثابتة بالوحي - على وجه العموم - ما هي إلا أحكام ذات قيمة

تاريخية نسبية خاضعة للتطور والتغير المستمر.

ويمثل هذا الاتجاه في اليهودية «الحركة الإصلاحية أو التنويرية» التي

نشأت في ألمانيا عام 1845م، وأصدرت فلسفتها الأولى القائمة على اعتبار أن

اليهودية ديانة تطورية بشكل دائم؛ موافق لمتطلبات الزمان والمكان، واحتياجات

العصر وتغيراته.

«judaism had always been a developed religion that

conformed to the demands of the times..» . [1]

وسارت «الحركة الإصلاحية البروتستانتية» في النصرانية على نهج

مقارب؛ إذ تبنت تأويلات جديدة لنصوص الإنجيل تساير مفهومات فلسفة التطور

ودلالتها، فأنكرت أن يكون الإنجيل وحياً إلهياً، وركزت على تاريخية نصوصه،

واستعاضت عن الأحكام الثابتة بتلك النصوص بالتركيز على السلوك الأخلاقي

كأساس للحياة النصرانية.

«These Protestants attempted to find new interpretations

of religious experience and an understanding of history

that could accommodate the implications of the theory of

evolution..To a large extent they denied literal inspiration

of the رضي الله عنهible and the historicity of the Jesus Christ of the

Gospels. They stressed ethical and moral behvior rather

than adherence to formal creeds as essential to Christian

life» . [2]

وقد نجم عن تطبيق نظرية التطور في الفكر الغربي (في علم مقارنة الأديان

على وجه الخصوص) كذلك؛ نظريات «الإسقاط» عند «أوجست كونت»

وغيره ممن ذهب إلى أن الدين والفلسفة قد مرّا بمراحل بائدة منقرضة، وأن ليس

ثمة تفسير للوجود العام والخاص إلا العلم المادي الوضعي، فالدين عند الوضعيين

إسقاطات وتراكمات تاريخية.

وهكذا انتقل الدين في الوعي الغربي من مصدر للمعرفة والحقيقة إلى تراكم

تاريخي صدى لزمان وواقع ينبغي تجاوزه [3] .

وانعكست تلك الفلسفة على قضية المرأة في الفكر الغربي؛ عندما دعت

«الحركة الإصلاحية» في اليهودية في عام 1846م إلى مؤتمر تمّ فيه إلغاء

كل أحكام التوراة والتلمود وإسقاطها، واعتبارها صدى لأوضاع تاريخية

بادت وانقرضت، ولا بد من تغييرها وإسقاطها لتواكب روح العصر ومتطلباته.

كما تمّ فيه إقرار حقوق المساواة بين الجنسين في جميع النواحي الدينية والاجتماعية،

ودعا المؤتمر إلى تحرير المرأة اليهودية [4] .

وقد وصلت رياح تلك الفلسفة إلى عدد من دعاة المساواة في المجتمعات

المسلمة، فالدين بمختلف أحكامه المتعلقة بالمرأة - على وجه الخصوص - قابل

للتطور والتدرج وفق متطلبات الحياة الاجتماعية؛ حيث إن تلك التغيرات كافية

لإحداث مثل هذا التطور في الدين وأحكامه التشريعية.

وبناءً عليه ذهب عدد من أصحاب هذا الاتجاه إلى المطالبة بمساواة المرأة

للرجل في جميع الحقوق، والقول بأن التشريعات الثابتة بنصوص القرآن الكريم أو

السنة النبوية؛ لا ينبغي أن تُفهم إلا ضمن إطارها التاريخي، ومن خلال الأعراف

القبلية السائدة حين نزولها!

ولم يفرّق هؤلاء بين الدين من حيث كونه تشريعاً ثابتاً بنصوص القرآن

الكريم والسنة، غير قابل للتغير والتطور من جهة، وبين اجتهادات العلماء

وتأويلاتهم لتلك النصوص المرهونة بظرفيتها التاريخية والاجتماعية، والقابلة

للتغيير باعتبار نسبيتها من جهة أخرى. فكل الأحكام الشرعية - في نظرهم -،

سواء منها ما كان ثابتاً بنصوص القرآن والسنة، أو ما ثبت عن طريق الاجتهاد

الفقهي، قابلة للتغير والتبدل تبعاً لتغير الزمن وحركة التاريخ المستمرة.

ونصوص القرآن الكريم والسنة الصحيحة بما حوته من مبادئ قانونية وأحكام

تشريعية كانت عندهم واردة ضمن سياق ثقافي واجتماعي واقتصادي محدد، أما وقد

تغير السياق وتبدلت تلك الظروف الاجتماعية والثقافية وتطورت؛ فهذه الأحكام

قابلة بدورها كذلك للتغير والتطور!!

والأحكام المتعلقة بالمرأة نزلت في مجتمع لم يكن ليعطي للمرأة أي حق من

الحقوق، وقد تغير هذا المجتمع وتطورت المفهومات المتعلقة بالمرأة وحقوقها، فلا

بد لديهم من تطور تلك الأحكام كذلك من خلال الحكم عليها بالتاريخية والظرفية!

لقد كان العديد من تلك الاتجاهات في المجتمعات المسلمة صدى لأفكار رواد

فلسفة التطور في الفكر الغربي، بل إن فحوى هذا الاتجاه ورد على لسان

Franz Rosenzweig «» (1886 - 1929م) الذي أكد أن الأحكام

الشرعية الثابتة بالنص - في اليهودية - لا يجوز النظر إليها كمُثل أفلاطونية خالدة؛

بل لا بد من اعتبارها مفهومات متحركة نامية تخضع للتغير والتجدد في كل

عصر وزمان [5] .

إن القول بتاريخية النصوص الشرعية، ومحاولة تأويل الأحكام الثابتة بها

وفق السياق الثقافي أو الاجتماعي الذي نزلت فيه، والنظر في تغيير تلك الأحكام

وتطويرها وفقاً لتطور العصر والمجتمعات؛ يمكن أن يسوق إلى إلغاء الأحكام

الشرعية بأسرها من خلال الحكم عليها بالتاريخية والظرفية.

ولا تخفى خطورة هذا القول في محاصرة الأحكام الثابتة بالنصوص الشرعية،

ومن ثمّ الحكم على الإسلام بالإقليمية والنسبية، وتقويض عالمية رسالته

وصلاحيتها لتجاوز الظرفية الزمانية والمكانية، والتي هي من أبرز سمات هذا

الدين الخاتم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015