دراسات في الشريعة
الجهاد
شرعة باقية
جماز بن عبد الرحمن الجماز
* حقيقة الجهاد في الإسلام:
الجهاد في اللغة: هو استفراغ الوسع في المدافعة بين طرفين ولو تقديراً.
والطرف الآخر هو ما يجاهده المسلم من نفس أو شيطان أو فاسق أو كافر.
واصطلاحاً: قتال الكفار لإعلاء كلمة الله، والمعاونة على ذلك. وهذا
ملخص ما ذكره أئمة هذا الشأن [1] .
وذكر ابن رشد أن لفظ الجهاد إذا أطلق فالمراد به قتال الكفار لإعلاء كلمة الله
تعالى، ولا ينصرف إلى غير قتال الكفار إلا بقرينة تدل على المراد [2] .
وهكذا؛ كل الأحاديث التي تدل على فضائل الجهاد المراد بها الجهاد الحقيقي؛
وهو قتال الكفار لإعلاء كلمة الله تعالى، وكذلك تبويب أهل العلم في كتبهم للجهاد؛
المراد به جهاد الكفار لا مجاهدة النفس.
وبعض الباحثين يزعم اتفاق العلماء على أن جهاد النفس هو الجهاد الأكبر،
ويحتج بحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قدم من
غزوة غزاها قال: «قدمتم خير مقدم، وقدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد
الأكبر، مجاهدة العبد هواه» ، وفي رواية «جهاد القلب» ، وبناء على هذا
الحديث يدعي أن قتال الكفار هو الجهاد الأصغر، والجهاد الأكبر هو جهاد النفس،
وبهذا يصرف الناس عن أهمية القتال والاستعداد له، بل في هذا الادعاء تثبيط
وتنويم لمشاعر المسلمين، ودعوة للرضا بالواقع الذي يعيشونه، وإذا حدث هذا
لبعض المسلمين يصدق عليهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز،
ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من النفاق» [3] .
والصواب في هذا - ولا شك -: أن وصف قتال الكفار بالجهاد الأصغر،
وجهاد النفس بالجهاد الأكبر؛ مغالطة لم يدل عليها دليل من كتاب ولا سنة [4] .
وابن القيم رحمه الله جعل جهاد النفس أصلاً لجهاد الكفار، وأراد بجهاد
النفس التزام شرع الله بكامله، والدعوة إليه؛ بما في ذلك تحقيق التوحيد والكفر
بالطاغوت، ولا شك أن جهاد الكفار بالسيف هو ثمرة تحقيق التوحيد، فالكفر
بالطاغوت هو اجتنابه وبغضه، ونهاية البغض المقاتلة والمحاربة.
وجهاد النفس يندرج تحته أنواع كثيرة، وذكر ابن القيم أن العبد ما لم يجاهد
نفسه أولاً لتفعل ما أمرت به وتترك ما نهيت عنه، ويحاربها في الله لم يمكنه جهاد
عدوِّه في الخارج والانتصاف منه، بل لا يمكنه الخروج إلى عدوِّه حتى يجاهد نفسه
على الخروج [5] . وأما حديث: «قدمتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر»
فهو منكر، وقال ابن تيمية: لا أصل له. وضعفه البيهقي والعراقي والسيوطي
والألباني [6] .
واختار الإسلام كلمة «الجهاد» للقتال، وجعلها مصطلحاً خاصاً به بدلاً من
الكلمات القديمة الشائعة بين الأمم كالحرب مثلاً؛ لما اشتملت عليه من معان سامية؛
من تحرير الإنسان في هذه الأرض من العبودية للعباد، ومن العبودية لهواه
وشهواته إلى العبودية لخالقه ورازقه. والجهاد ليس له أي علاقة بحروب البشر
وأغراضها وأهدافها [7] .
* الجهاد.. هل هو تدخل في شؤون الآخرين؟
إن الغاية التي يتوقف عندها الجهاد: هي إسلام أهل الأرض كلهم واعتناقهم
عقيدة الإسلام، ولا يتوقف الجهاد الإسلامي مدى الحياة؛ لأن الشيطان مستمر في
إغواء بعض البشر، والصراع بين الحق والباطل سنة إلهية؛ لا تنتهي حتى ينتهي
وجود البشر في هذه الأرض.
وعن جبير بن نفير أن سلمة بن نفيل رضي الله عنه أخبرهم أنه أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال: «إني سئمت الخيل، وألقيت السلاح، ووضعت
الحرب أوزارها؛ قلت: لا قتال. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: الآن جاء
القتال، لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الناس، يرفع الله قلوب أقوام
فيقاتلونهم ويرزقهم الله منهم حتى يأتي أمر الله عز وجل وهم على ذلك، ألا إن
عقر دار المؤمنين» رواه أحمد وهو صحيح [8] ، ورواه النسائي ولفظه: «كنت
جالساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال رجل: يا رسول الله! أذال الناس
الخيل ووضعوا السلاح، وقالوا: لا جهاد، قد وضعت الحرب أوزارها. فأقبل
رسول الله صلى الله عليه وسلم بوجهه، وقال: كذبوا.. الآن الآن جاء القتال، ولا
يزال من أمتي أمة يقاتلون على الحق، ويزيغ الله لهم قلوب أقوام ويرزقهم منهم
حتى تقوم الساعة وحتى يأتي وعد الله، والخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم
القيامة، وهو يوحى إلي أني مقبوض غير ملبث، وأنتم تتبعوني أفناداً يضرب
بعضكم رقاب بعض، وعقر دار المؤمنين الشام» [9] ، وحسنه البزار وصححه
الألباني [10] .
وفي حديث جابر بن سمرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لن يبرح هذا الدين قائماً يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم الساعة»
رواه مسلم [11] .
وفي حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال: «من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، ولا تزال عصابة من المسلمين
يقاتلون على الحق ظاهرين على من ناوأهم إلى يوم القيامة» رواه مسلم [12] .
والمعنى: ظاهرين على من عاداهم.
وفي حديث عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«لا تزال عصابة من أمتي يقاتلون على أمر الله قاهرين لعدوهم، لا يضرهم من
خالفهم حتى تأتيهم الساعة وهم على ذلك» رواه مسلم [13] .
وفي حديث عروة البارقي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
«الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر والمغنم» رواه البخاري
[14] .
قال الحافظ ابن حجر: «وفيه بشرى ببقاء الإسلام وأهله إلى يوم القيامة؛
لأن من لازم بقاء الجهاد بقاء المجاهدين وهم المسلمون» [15] .
وبهذا يظهر لنا جلياً أن الجهاد مستمر إلى قيام الساعة، وأنه لا ينتهي جهاد
الكفار إلا إذا أسلموا، أو خضعوا لحكم الإسلام ودفعوا الجزية حالة كونهم متلبسين
بالذل والصغار [16] .
هذا، وقد أحسَّ العالم بخطأ فكرة «عدم التدخل في شؤون الآخرين» في
بعض الظروف في مجال العلاقات الدولية، فأباح التدخل من أجل إحقاق الحق،
وإبطال الباطل، ودفاعاً عن الإنسان في حالة اضطهاد دولة ما للأقليات من رعاياها.
ولكن يبقى أن الهوى في هذه الحال يَظلُّ يمارس دوره في ذلك التدخل من
أجل ما ذُكِر من الأغراض، كما أن الهوى يظلُّ يمارس دوره في حكم الآخرين
على ذلك التدخل؛ بين مؤيد له ومعارض، ما دام لا يستند إلى حكم صادر عن
جهة بريئة من الهوى والنزعات.
ومن هنا؛ فقد نقلت الإذاعة البريطانية صباح الجمعة 3/1/1990م عن
الصحف البريطانية قولها: «بوش الرئيس الأمريكي الأسبق لا يحظى بتأييد العالم
كله؛ لإعادة الديمقراطية إلى أي بلد في العالم» .
وذلك بصدد غزو القوات الأمريكية لبنما من أجل اعتقال حاكمها الجنرال
«نورييجا» ، والإتيان به إلى أمريكا لمحاكمته على جرائمه، وهذا ما حصل.
وما دامت أمريكا قد أعطت لنفسها الحق في أن تتدخل في شؤون الآخرين من
أجل تطبيق النظام الديمقراطي الذي تؤمن هي به عليهم، ويؤيدها في ذلك مؤيدون،
مع أن النظام الديمقراطي لا يدعي أحد حتى أصحابه أنه النظام الذي ارتضاه الله
لخلقه؛ فأي صفاقة غليظة إذن؛ تلك التي تعيب على المسلمين أن يتدخلوا في
شؤون الآخرين بتكليف من الله، ولو في تصور المسلمين فحسب؛ من أجل تطبيق
النظام الإسلامي على أولئك الآخرين، مع العلم أن هذا النظام يؤمن أكثر من ألف
مليون من البشر أنه النظام الذي ارتضاه الله لخلقه؟!
وإذا كان الآخرون ينكرون ذلك؛ فلِمَ لا يفسح المجال لتقديم النظام بعقيدته
للمناقشة، على المستوى الشعبي والرسمي العالمي عبر وسائل الإعلام الحديثة؛
ليدرك العالم بالبحث الحر مدى قرب هذه الدعوى أو بعدها عن الحقيقة؛ ما دام هذا
العالم هو المعنيُّ أولاً وأخيراً بهذه الدعوى؟!
وخلاصة القول: هل للمسلمين أن يتدخلوا باسم الجهاد في شؤون الآخرين؟
الجواب وبدون مواربة: نعم! ولله الحمد والمنة، من أجل الإنسانية التي
تدرك مصالحها الحقيقية؛ إذ ليس تدخل المسلمين في شؤون غيرهم كما تتدخل
الوحوش في شؤون الضعاف من خلق الله؛ من أجل إشباع نهمة الافتراس عندها.
وإنما هو كتدخل الآباء والأمهات في شؤون أبنائهم؛ من أجل إقرار الحق والعدل
بينهم، وزرع المحبة والود والرحمة في قلوبهم، ولو أنفق الآباء والأمهات من
جهدهم وراحتهم ومالهم الشيء الكثير في هذا السبيل [17] .
* هدف الجهاد في الإسلام:
إن الهدف الرئيس هو تعبيد الناس لله وحده، وإخراجهم من العبودية للعباد
إلى العبودية لرب العباد، وإزالة الطواغيت كلها من الأرض جميعاً، وإخلاء العالم
من الفساد؛ ذلك لأن خضوع البشر لبشر مثلهم وتقديم أنواع العبادة لهم من الدعاء
والنذر والذبح والتعظيم والتشريع والتحاكم؛ هو أساس فساد الأجيال المتعاقبة من
لدن نوح عليه السلام إلى يومنا هذا، وهو انحراف بالفطرة السوية عما خلقها الله
عليه من التوحيد، كما في حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن
أعلمكم ما جهلتم مما علمني يومي هذا؛ كل مال نَحَلْتُه عبداً حلال، وإني خلقت
عبادي حنفاء كلهم، وإنهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرَّمتْ عليهم ما
أحللتُ لهم، وأَمَرَتْهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ... » رواه مسلم [18] .
والدليل على هذا قوله تعالى: [وَقَاتِلُوَهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ
انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ] (البقرة: 193) ، قال ابن كثير: «أمر
تعالى بقتال الكفار حتى لا تكون فتنة؛ أي شرك ... [وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ] ؛ أي
يكون دين الله هو الظاهر على سائر الأديان» [19] ، وقال الشوكاني: «فيه الأمر
بمقاتلة المشركين إلى غاية؛ هي ألا تكون فتنة وأن يكون الدين لله، وهو الدخول
في الإسلام والخروج عن سائر الأديان المخالفة له، فمن دخل في الإسلام وأقلع عن
الشرك لم يحل قتاله» [20] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
«أُمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله،
ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا
بحق الإسلام، وحسابهم على الله» رواه البخاري [21] .
وعن جبير بن حيَّة قال: «ندبنا عمر، واستعمل علينا النعمان بن مقرن،
حتى إذا كنا بأرض العدو، وخرج علينا عامل كسرى في أربعين ألفاً، فقام ترجمان
فقال: ليكلمني رجل منكم. فقال المغيرة: سلْ عما شئتَ. قال: ما أنتم؟ قال:
نحن أناس من العرب كنا في شقاء شديد، وبلاء شديد، نمصّ الجلد والنوى من
الجوع، ونلبس الوبر والشعر، ونعبد الشجر والحجر، فبينما نحن كذلك؛ إذ بعث
رب السموات ورب الأرضين تعالى ذكره وجلت عظمته إلينا نبياً من أنفسنا،
نعرف أباه وأمه، فأمرنا نبينا رسول ربنا صلى الله عليه وسلم أن نقاتلكم حتى
تعبدوا الله وحده، أو تؤدوا الجزية، وأخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم عن رسالة
ربنا أنه من قُتل منا صار إلى الجنة في نعيم لم ير مثلها قط، ومن بقي منا ملك
رقابكم» رواه البخاري [22] .
وفي حوادث غزوة القادسية نجد قصة ربعي بن عامر رضي الله عنه لما بعثه
سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه إلى رستم، «فدخل ربعي عليه، وقد زينوا
مجلسه بالنمارق المذهبة والزرابي الحرير، وأظهر اليواقيت واللآلئ الثمينة،
والزينة العظيمة، وعليه تاجه، وغير ذلك من الأمتعة الثمينة، وقد جلس على
سرير من ذهب، ودخل ربعي بثياب صفيقة رثة وسيف وترس وفرس قصيرة،
ولم يزل راكبها حتى داس بها على طرف البساط، ثم نزل وربطها ببعض تلك
الوسائد، وأقبل وعليه سلاحه ودرعه، وبيضته على رأسه، فقالوا له: ضع
سلاحك. فقال: إني لم آتكم، وإنما جئتكم حين دعوتموني، فإن تركتموني هكذا
وإلا رجعت. فقال: رستم: ائذنوا له. فأقبل يتوكأ على رمحه فوق النمارق فخرق
عامتها، فقالوا له: ما جاء بكم؟ فقال: الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد
إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام،
فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن
أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله. قالوا: وما موعود الله؟ قال: الجنة
لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي» ذكرها ابن كثير [23] .
وهذا الهدف السامي الرئيس موضع اتفاق بين علماء الإسلام، قال الشافعي:
«فدل كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم أن فرض الجهاد إنما هو على أن
يقوم به مَنْ فيه كفاية للقيام به، حتى يجتمع أمران:
أحدهما: أن يكون بإزاء العدو المخوف على المسلمين مَنْ يمنعه.
الآخر: أن يجاهد من المسلمين مَنْ في جهاده كفاية، حتى يسلم أهل الأوثان،
أو يعطي أهل الكتاب الجزية» [24] ، وقال محمد بن الحسن: «فرضية القتال؛
المقصود منها: إعزاز الدين وقهر المشركين» [25] ، وقال ابن القيم:
«والمقصود من الجهاد إنما هو أن تكون كلمة الله هي العليا، ويكون الدين كله لله
... فإن من كون الدين لله: إذلال الكفر وأهله وصغاره، وضرب الجزية على
رؤوس أهله، والرق على رقابهم، فهذا من دين الله، ولا يناقض هذا إلا ترك
الكفار على عزهم وإقامة دينهم كما يحبون؛ بحيث تكون لديهم الشوكة والكلمة»
[26] .
وقال ابن عبد البر: «يُقاتل جميع أهل الكفر من أهل الكتاب وغيرهم، من
القبط، والترك، والحبشة، والفزارية، والصقالبة، والبربر، والمجوس،
وسائر الكفار من العرب والعجم، يُقاتلون حتى يسلموا أو يعطوا الجزية عن يد
وهم صاغرون» [27] .
وإن هذا الهدف السامي المتضمن لإعلاء كلمة الله وهي الإسلام، وإقامة
سلطان الله في الأرض، وجعل كلمة الذين كفروا السفلى، وإخلاء العالم من الفساد
الأكبر الذي هو الشرك، وما ينتج عنه، وإزالة الطواغيت الذين يحولون بين
الناس وبين الإسلام ويُعبِّدونهم لغير الله؛ هو ما يجب أن يسعى إليه المجاهدون في
كل مكان وزمان؛ لا تأخذهم في الله لومة لائم.
ومن الأهداف التي تتبع هذا الهدف الرئيس:
1 - رد اعتداء المعتدين على المسلمين، قال تعالى: [وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ المُعْتَدِينَ] (البقرة: 190) .
وفي حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبته: «ألا إن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم
... وقال إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ... وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله، وقاتل
بمن أطاعك من عصاك» رواه مسلم [28] .
قال النووي: « (إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك) ؛ معناه لأمتحنك بما يظهر
منك؛ من قيامك بما أمرتك به من تبليغ الرسالة، وغير ذلك من الجهاد في الله حق
جهاده» [29] .
2 - إزالة الفتنة عن الناس، وسواء ما يمارسه الكفار من أشكال التعذيب
والتضييق على المسلمين ليرتدوا عن دينهم، أو الأوضاع والأنظمة الشركية، وما
ينتج عنها من فساد في شتى مجالات الحياة، أو فتنة الكفار أنفسهم وصدهم عن
استماع الحق وقبوله.
3 - حماية الدولة الإسلامية من شر الكفار، وحقيقتها حماية العقيدة والمنهج،
وكلما امتد الإسلام إلى أرض وأزال عنها أنظمة الشرك صارت داخلة في الدولة
الإسلامية.
4 - قتل الكافرين وإبادتهم ومحقهم، كما قال تعالى: [فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوَهُمْ فَشُدُّوا الوَثَاقَ] (محمد: 4) ، وقال تعالى:
[فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ] (الأنفال: 12) وقال عمر بن
الخطاب رضي الله عنه لما استشاره رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر:
«والله! ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان قريب لعمر
فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أخيه
فيضرب عنقه؛ حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين، وهؤلاء
صناديدهم وأئمتهم وقادتهم» [30] .
وقال تعالى: [قَاتِلُوَهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ
صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ] (التوبة: 14-15) .
وقد قُتل أبو جهل على يدي شاب من الأنصار، ثم بعد ذلك وقف عليه عبد
الله بن مسعود - رضي الله عنه - ومسك بلحيته، وصعد على صدره حتى قال أبو
جهل: «لقد رقيت مرتقاً صعباً يا رويعي الغنم!» ، ثم حز عبد الله بن مسعود
رأسه واحتمله حتى وضعه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فشفى الله به
قلوب المؤمنين، قال الحافظ ابن كثير: «كان هذا أبلغ من أن تأتيه صاعقة، أو
أن يسقط عليه سقف منزله، أو يموت حتفه، والله أعلم» [31] .
5 - إرهاب الكفار، وإخزاؤهم، وإذلالهم، وإيهان كيدهم، وإغاظتهم، كما
قال تعالى: [وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ
اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ] (الأنفال: 60) ، وفي حديث أم مالك البهزية رضي الله عنها قالت:
«ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقرَّبها، قلت: يا رسول الله، من
خير الناس فيها؟ قال: رجل في ماشيته يؤدي حقها ويعبد ربه، ورجل آخذ برأس
فرسه يخيف العدو ويخوفونه» رواه الترمذي [32] ، ورواه الحاكم ولفظه:
«يخيفهم ويخيفونه» ، وصححه ووافقه الذهبي [33] ، وصححه الألباني [34] .
قال ابن القيم: «ولا شيء أحب إلى الله من مراغمة وليه لعدوه وإغاظته له.
وقد أشار سبحانه إلى هذه العبودية في مواضع من كتابه؛ أحدها قوله تعالى:
[وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَة] (النساء:
100) ، سمى المهاجر الذي يهاجر إلى عبادة الله مراغماً يراغم به عدو الله
وعدوه، والله يحب من وليه مراغمة عدوِّه وإغاظته، كما قال تعالى: [ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ
لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَطَئُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكُفَّارَ
وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ]
(التوبة: 120) ، فمغايظة الكفار غاية محبوبة للرب مطلوبة، فموافقته فيها من
كمال العبودية ... وعلى قدر محبة العبد لربه وموالاته ومعاداته لعدوه يكون نصيبه
من هذه المراغمة، ولأجل هذه المراغمة حُمد التبختر بين الصفين» [35] .
* وهذه بعض الأهداف الأخرى:
للجهاد أهداف سامية، ومصالح كريمة، وفوائد عظيمة تتحقق للمسلمين في
ذوات أنفسهم متى مارسوا الجهاد، ومنها:
1 - كشف المنافقين: فإن المسلمين في حال الرخاء والسعة ينضاف إليهم
غيرهم؛ ممن يطمعون في تحقيق مكاسب مادية ولا يريدون رفع كلمة الله على كلمة
الكفر، وقد يتصنعون الإخلاص فيخفى أمرهم على كثير من المسلمين، وأكبر
كاشف لهم هو الجهاد؛ لأن العبد يبذل فيه أغلى ما يملك غير عقيدته وهو روحه،
والمنافق ما نافق إلا ليحفظ روحه، والله تعالى يقول: [فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ
وَذُكِرَ فِيهَا القِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ
المَوْتِ ... ] (محمد: 20) .
والمنافقون هم العدو الداخلي، وكثيراً ما يفوق العدو الخارجي، فإذا عُرفوا
مُنعوا من الغزو مع المسلمين، ولا يستمع المسلمون لما يعرضونه عليهم من
أراجيف وتثبيط، ومن أقاويل يلبسونها ثياب النصح والإصلاح. وواجب المؤمنين
حينئذ هو كما قال تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ
وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المَصِيرُ] (التوبة: 73) .
2 - تمحيص المؤمنين من ذنوبهم: كما قال تعالى: [وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *
وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الكَافِرِينَ] (آل عمران: 140-141) ، قال
ابن كثير: « [وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا] ؛ أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كان
لهم ذنوب، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به. وقوله: [وَيَمْحَقَ
الكَافِرِينَ] ؛ أي فإنهم إذا ظفروا بغوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم
ومحقهم وفنائهم» [36] .
3 - تربية المؤمنين على الصبر والثبات والطاعة وبذل النفس؛ إذ الركون
إلى الراحة والدعة، وعدم ممارسة الشدائد والصعاب؛ تورث العبد ذلاً وخمولاً
وتشبثاً بمتاع الحياة الدنيا.
وهكذا خوض المعارك، ومقارعة الأعداء، والتعرض لنيل رضا الله في
ساحات الوغى؛ يصقل النفوس ويهذبها، ويذكرها بمصيرها، ويوجب لها استعداداً
للرحيل؛ حتى تصبح ممارسة الجهاد عادة لها تشتاق لها كما يشتاق الخاملون للقعود
والراحة. وكذلك تتربى نفس المجاهد على صفات محمودة كالشجاعة والنجدة
والصبر والأخوة والعفو، وتزول عنها الصفات المذمومة كالجبن والشح والهلع
والأنانية.. ونحو ذلك.