مجله البيان (صفحة 4460)

المسلمون والعالم

تداعيات المشهد العراقي

صورة من الداخل

محمد صادق أمين [*]

على مدى العقدين المنصرمين تتصدر أخبار العراق وتداعيات الأحداث الملمة

بهذا البلد نشرات الأخبار المحلية والدولية، واهتمامات صناع السياسة في العالم،

وأصحاب الفكر والتخطيط؛ لعظم الأحداث الجارية وأهميتها على هذه الساحة التي

خضبت بالدم القاني منذ ما يربو على ثلاثة عقود من الزمن، والتي أسهمت في

جملة من التغيرات على الساحة الدولية والإسلامية والعربية والخليجية، كان آخرها

وأهمها بروز النظام العالمي الجديد بعد أن قادت الولايات المتحدة تحالفاً دولياً

لاستئصال شأفة الغزو العراقي للكويت، ومن ثم لتنفرد بقيادة نظام عالمي جديد

يقوم على الأحادية القطبية.

ثم جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر لتُحوِّل البوصلة مؤقتاً باتجاه آخر،

ولدت من رحمه الحرب الأمريكية على الإرهاب؛ هذا الشعار المعلن الفضفاض

الذي حار في تعريفه ذوو الألباب، والذي لم يستثن أحداً على هذه المعمورة؛ فإما

أن تكون مع الإرهاب أو ضده؛ بحيث لا يوجد حياد في النظام القائم على الأحادية

القطبية. ثم ما لبثت البوصلة أن توجهت من جديد نحو العراق؛ هذا البلد الذي

تقرحت جراحه بسبب الحروب التي ما أن تنطفئ نارها في موضع حتى تشتعل في

آخر.

الحرب هذه المرة ليست ككل الحروب؛ فهي حرب المارد الأمريكي الثائر

بسبب أحداث الحادي عشر من سبتمبر بكل جبروته وقوته العسكرية، والهدف

المعلن نزع أسلحة الدمار الشامل العراقية التي وافق النظام العراقي على نزعها؛

بموجب وثيقة الاستسلام الموقعة في خيمة صفوان.

والهدف الحقيقي لهذه الحرب تدمير العراق كدولة تشكل محوراً مهماً للعالَمَيْن

العربي والإسلامي؛ في مواجهة التهديد الذي يمثله المشروع الصهيوني في بلاد

العرب والمسلمين، متزامناً ذلك كله مع وصول اليمين المتطرف إلى سدة الحكم

في كل من أمريكا ودولة الكيان الصهيوني على حد سواء.

ولعل الحديث في هذا الباب تطول فصوله، وتتعدد سيناريوهاته لكثرة الأخبار

والتحليلات والأفكار المطروحة حول هذه القضية، إلا أن المُغيَّب عن الرأي العام

في القضية هو المشهد العراقي من الداخل، وحجم الأزمة وتداعياتها على الشعب

العراقي الخاسر الأول والأخير في كل هذه الحروب والأحداث والتداعيات،

والغائب الوحيد عن المشهد برمته بإرادة دولية ومحلية تتعمد إغفال معاناة شعب فَقَدَ

ما يربو على ثلاثة ملايين من شعبه خلال عقدين من الزمن قُدِّموا قرابين للحروب

التي خاضها النظام العراقي؛ دون أن يكون للشعب العراقي فيها ناقة ولا جمل!

ونحن سنحاول في هذه العجالة أن نسلط الضوء على الجزء المُغيَّب من

القضية برُمَّتها، وهو تأثير الأحداث المتلاحقة على المشهد العراقي من الداخل،

وما خَلَّفه من تأثيرات على حياة الشعب العراقي المسلم.

* بداية المعاناة:

كانت البداية مع انطلاق ثورة السابع عشر من تموز (يوليو) 1968م بقيادة

حزب البعث العراقي، والتي لم تلبث كثيراً حتى انقلبت الأجنحة الثورية على

بعضها، فحصل انقلاب في صفوف الانقلابيين؛ سجلت فصوله بالدماء في الثلاثين

من تموز من العام نفسه، وذهب أقوام وجاء غيرهم لتبدأ فصول جديدة لحكم يرفع

شعار الاشتراكية اليسارية التي كانت سائدة في تلك الحقبة، وبحسب النهج اليساري

قَبَضَ على مقدرات العراق بقبضة من الحديد والنار، وكُتمت الأنفاس في الصدور،

ومُلئت السجون والمقابر على حد سواء، وشرد الأحرار في أصقاع الأرض

المترامية، واستتب الأمر للثوريين اليساريين.

* الحرب مع إيران:

في نهاية السبعينيات تقدم رجل مغمور من الصفوف الخلفية لتنظيم حزب

البعث العراقي إلى الصفوف القيادية بسرعة عجيبة، وبين ليلة وضحاها أصبح

الرجل نائباً للرئيس العراقي أحمد حسن البكر الذي أطاح به فيما بعد في بداية

1979م؛ ليصبح رئيساً للجمهورية، ولتبدأ حقبة جديدة في تاريخ العراق دشنت

بإعدام جميع القياديين البارزين في حزب البعث الذين ساهموا في تفجير الثورة

ليخلو الطريق للقادم الجديد؛ ليقود البلاد إلى سلسلة من الحروب بدأت في 1980م

ولم تنته إلى هذه اللحظة؛ حيث تؤكد أدبيات النظام العراقي على أن (أم المعارك)

أي غزو الكويت وما أعقبها من مواجهات ما زالت مستمرة؛ فمع قيام الثورة

الإيرانية في نهاية السبعينيات شعر الغرب والولايات المتحدة بالخطر على مصالحهم

في المنطقة؛ فكان لا بد من تنفيس لهذا الخطر، فاشتعلت الحرب مع الجارة إيران

فكانت حرباً بالنيابة أنهكت اقتصاد البلدين، ودمرت حركة التنمية فيهما، بالإضافة

إلى الدمار الذي لحق بالبنى التحتية، والضحايا في الأرواح التي قدرت بحوالي

مليون شاب من الطرفين، ومثلهم من المعوقين، ومثلهم من الأسرى والمفقودين.

حين اندلعت الحرب مع إيران لم يكن قد مضى بعد على تأميم النفط العراقي من

الشركات الاحتكارية عشر سنوات، فلم تتح الفرصة للشعب العراقي كي يشعر

بمردودات العائدات النفطية، فجاءت الحرب لتبتلع كل واردات النفط العراقي زائداً

كل مدخرات العراق، مضافاً إلى ذلك عشرات مليارات الدولارات من الديون التي

لا تزال روسيا وريثة الاتحاد السوفييتي تطالب العراق بما تبقى منها. ولم يسلم

الأشقاء من تبعات هذه الحرب التي أوقفت عجلة التطور في الخليج وعموم المنطقة

العربية. لقد كانت سنوات الحرب الثماني مع الجارة الإيرانية سنوات عجافاً على

الشعب العراقي؛ من حيث النقص في الأموال والأنفس والثمرات والأمن

والطمأنينة؛ فمطحنة الحرب أدخلت إلى كل بيت عراقي مأتماً؛ فما من بيت إلا

وخرج منه شاب أو اثنان أو ثلاثة أو أكثر، بعضهم عاد وبعضهم لم يعد، فتجد في

العراقيين من فقد ابناً أو أخاً أو أباً؛ وفيهم من فقد اثنين وثلاثة من أبنائه أو إخوانه.

أما الأسرى والمفقودون فلهم حكاية مأساوية أخرى؛ حيث وَدَّعَ عشرات آلاف

الشباب في المعتقلات شبابهم؛ بعد أن قضى بعضهم عشرة أعوام في الأسر،

والبعض لا يزال ينتظر الفرج رغم مرور أربعة عشر عاماً على بداية الحرب،

وقد عاد الكثير من الأسرى إلى العراق يعانون من الأمراض النفسية، والكثير منهم

لم يتمكن من التأقلم مع مستجدات الوضع العراقي، وما خلفته عملية غزو الكويت

من آثار اجتماعية ونفسية ومادية على المشهد العراقي، وحكايات الأسرى باتت

مشهورة في الوسط العراقي؛ حيث إن آلاف الأسرى عادوا بعد بضع سنين فوجدوا

زوجاتهم قد تزوجن؛ لأن الحكومة اعتبرتهم متوفين وأصدرت لهم شهادات وفاة،

والأقسى في هذه الحكايات قصص أولئك الذين عادوا ووجدوا إخوانهم قد تزوجوا

من زوجاتهم بناء على العرف الدارج لدى بعض العشائر العراقية، وهناك العديد

من الحكايات الغريبة في هذا الباب تكاد لا تجدها إلا في كتب الفقه القديمة التي

خاضت في هذه المسائل بناء على افتراضات فقهية.

* غزو الكويت:

في 8/8/1998م أعلن العراق وإيران إنهاء الحرب رسمياً بينهما، والتي

دارت رحاها على مدى ثماني سنوات، لم يكن بمقدور الشعب العراقي تصديق

حقيقة انتهاء الحرب حتى عاد أبناؤه من ساحتها؛ فالحرب تحولت إلى شبح يطارد

حياتهم بكل تفاصيلها اليومية، وعلى قرع طبولها نشأت أجيال عدة؛ فالجيل الذي

عاصر الحرب حين اندلاعها وهو في مرحلة الطفولة تحول إلى مرحلة الشباب

بفعل التقادم الزمني للحرب، وأفنت الحرب آلافاً منهم بعد وصولهم إلى سن التجنيد

وسوقهم إلى ساحات المعارك، والجيل الذي ولد مع ميلاد الحرب تفتحت مداركه

على أخبار الحرب، وتشبعت حواسه بأحاسيسها وتداعياتها، ولا ننسى أن مئات

الآلاف منهم جاؤوا إلى الحياة ووجدوا أنفسهم في عداد الأيتام بعد أن قضى آباؤهم

في الحرب؛ لأجل ذلك لم يكن الناس ليصدقوا أن الحرب انتهت لولا أن عاد

أبناؤهم منها.

والحقيقة التي لم يكن يدركها الناس هي أن الحرب إنما توقفت لالتقاط الأنفاس

فقط ليس إلا، وقبل أن يتسع الوقت لإعمار ما دمرته الحرب من خراب على

الأرض، وفي الاقتصاد والتنمية، وفي الأنفس؛ دقت طبول الحرب من جديد هذه

المرة من حيث لم يكن أحد ليحتسب قط، ولا ليخطر على قلب مؤمن ولا عربي؛

فمن كان يظن أن العراق سيغزو الجارة الشقيقة الكويت التي وقفت مع العراق

والعراقيين في أحلك الظروف وأصعبها، وفي الأول من آب 8/1990م حلت

الكارثة هذه المرة ليس على العراقيين فقط بل على العرب والمسلمين، وعلى

القضية الفلسطينية، وعلى الصراع العربي الإسرائيلي، وعلى مقدرات الأمة

والمنطقة بأكملها، وتساءل الأحرار في هذا العالم على اختلاف انتماءاتهم عن

مغزى وحقيقة وسبب هذا الغزو! فالحرب مع إيران يمكن أن يوجِد لها النظام

العراقي آلاف المسوغات والحجج لكن غزو الجار والشقيق والأخ لا يمكن أن يسوّغ

بحال من الأحوال؛ إذ أين المبادئ والشعارات التي صفقت لها الجماهير وهتفت لها

حتى بحت الأصوات وتقطعت الأيدي؟! لقد أعيدت سيرتها الأولى وألقيت في سلة

المهملات لتلحق بالمزابل التي قدمت منها؛ فما هي إلا شعارات كاذبة نظَّر لها

نصارى العرب والباطنيون من أمثال ميشيل عفلق وزكي الأرسوزي وشبلي

العيسمي وغيرهم؛ ليبعدوا هذه الأمة عن مصدر عزها وشموخها على مدى ثلاثة

عشر قرناً من عمر الزمان.

لم تفلح كل الوساطات ولا التدخلات الإسلامية والعربية في ثني النظام

العراقي عن خطوته هذه، فكانت الفرصة مواتية للقوى الخارجية التي لطالما سعت

لإقامة موطئ قدم لها في بلادنا، فصدر القرار الأممي القاضي بتحرير الكويت،

وتصدت الولايات المتحدة للأمر بوصفها القوة العظمى الوحيدة في العالم بعد سقوط

الاتحاد السوفييتي، فشكلت حلفاً عالمياً لم يقنع النظام بأن العراق سيتحول إلى ركام

أمام القوة الهائلة التي يملكها، والتقنية العالية التي تمثل آخر ما تفتق عنه العقل

البشري في العصر الحديث؛ حيث كان لا بد من ساحة تجرب فيها تلك التقنيات

والقدرات؛ فكان العراق لها، ومن هنا بدأت فصول مأساة عراقية جديدة.

* تداعيات الغزو على المشهد العراقي:

لم يكن غزو الكويت نزهة كما تصور النظام؛ فهناك أطراف دولية تتربص

بالمنطقة وتبحث عن ذريعة للتدخل فيها بناء على مصالح استراتيجية لها، وهناك

من المحللين من يقول إن الغزو إنما جاء بضوء أخضر أمريكي، ويستدلون على

ذلك بالقول بأن ما دار بين السفيرة الأمريكية والرئيس العراقي لا يزال طي الكتمان،

بل إن السفيرة نفسها غُيبت عن الساحة ومنعت من الحديث لأي من وسائل

الإعلام، وهي الآن سفيرة للولايات المتحدة في مجاهل أفريقيا بعيداً عن الأضواء،

ثم إن الأطراف الإقليمية والعربية لا يمكن لها بحال من الأحوال أن ترضى بضم

الكويت إلى العراق، وليس لأي من هذه الأطراف القوة الكافية لمواجهة الجيش

العراقي الذي بات خبيراً في الحروب بسبب الخبرة التراكمية التي خلفتها حربه مع

إيران، من هنا كان لا بد من حلف دولي يتصدى لردع العراق، فكان الحلف

المعروف الذي لم يقنع جبروته النظام بأن العراق ومقدراته في خطر عظيم، ومع

بداية الغارات الجوية للتحالف على العراق بدأت الكارثة؛ إذ إن الغارات لم تكن

تستهدف مؤسسات عسكرية أو جيشاً نظامياً أو مؤسسات النظام ومؤسسات صنع

القرار فيه، بل استهدفت العراق كبلد والشعب العراقي كشعب؛ من خلال تدمير

البنى التحتية للبلد بكل تفاصيلها وأبعادها، وبما يضمن إعادة العراق إلى مصاف

الدول المتخلفة؛ فالغارات استهدفت الطرق والجسور، ومحطات توليد الكهرباء،

ومحطات تصفية المياه، ومراكز الاتصالات، والمنشآت والآبار، والمصافي

النفطية، ومراكز تخزين الحبوب والأغذية والأدوية، ومحطات الوقود، ومنشآت

الري، والمراكز الاقتصادية والزراعية، وهو ما تسبب في تدمير العراق خلال

بضعة أيام تدميراً كاملاً شاملاً، وقد شهد بذلك تقرير الأمم المتحدة الصادر عن

برنامج الأمم المتحدة الذي جاء فيه: (الغارات الجوية وما ألقت به من قذائف

وقنابل وصواريخ، قضت على بنية المنشآت العامة قضاء شبه كامل؛ بما شمل

مصانع توليد الكهرباء، وتأمين المياه، ومصافي النفط الخام، والمخازن النفطية،

بالإضافة إلى ستة آبار لاستخراج النفط، ولم يعد بالإمكان تشغيل مضخات الماء،

كما تسربت كميات كبيرة من المواد الكيميائية من المصانع المدمرة إلى المياه

السطحية والجوفية، وبات من المستحيل إصلاح تلك المصانع في السنوات التالية

بسبب حظر استيراد قطع الغيار اللازمة لذلك) ؛ وبهذا الاستعراض الأفقي لما

استهدفته الغارات الجوية؛ ندرك أن المستهدف كان العراق بوصفه مسلماً امتلك في

يوم من الأيام ناصية القوة التي يمكن أن تهدد مصالح الدول الكبرى وحلفائها في

المنطقة، وإلا فإن المنطق يقول إن استهداف النظام الذي اتخذ القرار بغزو الكويت

كان أيسر وأسهل على القنابل الذكية التي استهدفت مقدرات العراق!

ولمعرفة جانب من تأثيرات هذه الضربات على العراق يمكن أن نستدل

ببعض الأرقام:

كانت نسبة النمو في الاقتصاد العراقي قبل الضربات الأمريكية التي أعقبت

غزو الكويت تقدر بـ 13%، وهي نسبة تتجاوز النمو في دول النمور الآسيوية،

بل وتتجاوز نسبة النمو في الصين التي يوصف اقتصادها بالأسطوري، أما بعد

الحرب فإن النمو في العراق لم يتوقف فقط بل إن نسبة التضخم بلغت 1000%،

وكان الناتج الاجتماعي العام يقدر بـ (60) مليار دولار إلا أنه هبط بعد ذلك

بنسبة (63%) ، وهو يساوي الآن (13) مليار دولار فقط، وكان متوسط دخل

الفرد في العراق يقدر بـ (3200) دولار سنوياً، والآن يساوي (10 - 20)

دولار في الشهر الواحد.

لم يتوقف مخطط تدمير العراق عند حد سحق البنية التحتية للعراق بل تعداه

إلى تدمير الإنسان العراقي الذي يمكن أن يكون في المستقبل أداة لإعادة إعمار

العراق، وذلك من خلال فرض الحصار الاقتصادي عليه، والهدف المعلن للحصار

هو تعطيل النظام العراقي عن استهداف دول المنطقة والجوار، وعن تهديد الأمن

والسلم الدوليين؛ وذلك من خلال إضعافه وربما إسقاطه بحسب ما هو معلن، ولكن

المؤشرات على أرض الواقع تشير إلى أن المستهدف هو الإنسان العراقي الذي دفع

فاتورة الحروب كلها، أما النظام فيمكن إزالته بوسائل أخرى إذا ما توافرت الإرادة

لذلك.

ومسلسل استهداف الإنسان العراقي بدأ مع بداية تقهقر الجيش العراقي عند

ساعة الصفر؛ فالقيادة العراقية لم تصدر أوامرها بإطلاق النار على الجيوش

المتحالفة، بل كانت الأوامر هي الانسحاب من ساحة المعركة مع ساعة الصفر؛

ولذا فإن الانسحاب جاء عشوائياً وغير منظم، وبحسب ما تقتضيه أخلاقيات الحرب؛

فإن استهداف جيش مهزوم منسحب أمر غير مشروع إلا إذا كنت تريد أن

تستهدف عدوك لذاته، وهو ما لم يقره الأمريكان في حربهم ضد العراق؛ فهي

حرب لتحرير الكويت حسب ما هو معلن، لقد أعلن متفاخراً رئيس الأركان

الأمريكي (نورمان شفار تسكوبف) عن تمكن القوات الأمريكية من قتل

(100000) ألف جندي عراقي ليس في جبهة القتال، وإنما بعد أن حسمت

المعركة من بدايتها بانسحاب الجيش العراقي، وبعد أن ألقى الجنود العراقيون

سلاحهم ورجعوا في انسحاب غير منظم مشياً على الأقدام، على طريق البصرة

بغداد استهدفت الطائرات الأمريكية الجنود العزل.

ثم إن حجم ما ألقي من قنابل على العراق يعطيك تصوراً واضحاً عمن هو

المستهدف؛ فقد ألقي على العراق (88500) طن من القنابل، وهو ما يعادل

(4425) قنبلة نووية بقوة القنبلة التي ألقيت على هيروشيما؛ علماً أن منها ما

كان مغلفاً باليورانيوم المشع، وقد استخدم في تغليف القنابل لرفع كفاءتها التدميرية،

ولكي تتمكن من اختراق الجدران الإسمنتية المحصنة؛ حيث تقول التقارير

الدولية إن حجم ما ألقي منها على العراق بلغ (300000) ألف طن، وهو ما

يعادل عشرة أضعاف ما ألقته القوات الأمريكية والبريطانية في البلقان. لقد تسبب

اليورانيوم في قتل عدد كبير من الجنود الأوروبيين والأمريكان، والمرجح أن ألوف

الجنود الأمريكان مصابون نتيجة لذلك؛ حيث منعت وزارة الدفاع الأمريكية إجراء

تحقيق في الموضوع لكشف ملابساته، هذا بالنسبة لمن تعاملوا مع القنابل؛ فما

ظنك بمن ألقيت عليهم هذه القنابل؟! ذكر تقرير وزارة الصحة العراقية بتاريخ

2/8/2002م أن هناك ما يقارب من (719 - 1.261) طفل ماتوا ما بين

عامي 1990 - 1999م، ويعد السبب الرئيس للوفاة تحت سن الخامسة هو

(أمراض الجهاز التنفسي، الإسهال، القرحات، التهاب الأمعاء، سوء التغذية) ،

أما الأطفال فوق الخامسة (أمراض القلب، ضغط الدم، السكري، أمراض

الجهاز البولي، الكبد، الأورام السرطانية) ، ويصل تعداد الأطفال من

الوفيات (5000 - 6000) شهرياً، وقد ازدادت حالات اللوكيميا بنسبة 35%،

وارتفعت نسبة أمراض السرطان بعشرة أضعاف عما كان عليه الحال عام 1989م،

وتشير تقديرات دولية أن نسبة 44% من السكان يمكن أن يصابوا بالسرطان بعد

عشر سنوات، وأصابع الاتهام تشير إلى اليورانيوم المشع؛ حسب ما ذكر

موقع (الأجندة الخفية) على الإنترنت لجون بيجلار.

إن اغتيال الإنسان العراقي لا يتوقف عند قتله مادياً فقط، بل يتعداه إلى القتل

المعنوي؛ وذلك من خلال وقف كل ما من شأنه أن يساهم في تطور مستقبل الجيل

القادم وتقدمه؛ فالحصار لا يقف عند حد الدواء والغذاء للجسد، بل يتعداه إلى حظر

استيراد ما يحتاج إليه قطاع التعليم العراقي (المدرسي، والمهني، والجامعي) ،

وهذا القطاع قد وصل إلى مرحلة خطيرة من الانهيار التام؛ خصوصاً مع هجرة

العقول العراقية تحت وطأة الضغط الاقتصادي والسياسي معاً؛ حيث بلغ عدد

الهاربين من العراق ثلاثة ملايين مهاجر، بل إن كل المشاريع التي أطلق عليها

إنسانية لم تتجاوز هذه المعضلة الخطيرة، وهو ما يجعلنا نجزم أن المستهدف هو

القتل المعنوي حاضراً ومستقبلاً للإنسان العراقي.

* العراق وآفاق المستقبل:

لم يكتف منظرو الحرب ومخططوها التي تستهدف العراق بتدمير الاقتصاد

والبنى التحتية للعراق، ولا باستهداف قتل الإنسان العراقي جسدياً ومعنوياً، بل

تعدوا ذلك إلى استهداف مستقبل العراق والقضاء على هذا المستقبل وتكبيله بأغلال

من حديد. ربما يتصور البعض وخصوصاً المعارضين من العراقيين الذين

يتعاملون مع أمريكا أن تغيير النظام في العراق هو بصيص الضوء في النفق

العراقي المظلم؛ والواقع ومعطياته لا يبشران بذلك ولا يوحيان به؛ فكرزاي

عراقي لن يغير شيئاً في النهج والبعد الاستراتيجي لاستهداف العراق من قبل

الولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل؛ إذ إن المستهدف هو العراق نفسه كما أسلفت،

وكرزاي العراق سيكون دوره البكاء والنواح على أنقاض ما تبقى من العراق؛ مع

الكثير من التوسلات والتنازلات لاستجلاب المساعدات التي يفترض أنها ستعمر

العراق بعد الخراب الذي ستخلفه الضربة المرتقبة، والتي ستعقب عودة المفتشين

إلى العراق بحسب قرار مجلس الأمن الجديد، وهناك من يقول إن العراق بلد نفطي

وبلد فيه الكثير من الثروات لن يكون حاله كحال أفغانستان، والحقيقة أن المنظِّر

لهذه الحرب لم يغفل هذه الحقيقة وهو يخطط لاستهداف العراق؛ فالعراق الذي

سيقوده كرزاي قادم مرتهن مستقبله على مدى نصف قرن قادم بحسب الأرقام التالية:

في حال ضرب العراق وتغيير النظام فيه حسب ما تشير إليه الأحداث

والتصريحات الأمريكية؛ فإن على النظام الجديد للولايات المتحدة أعباء مادية لا

تتوقف عند إعمار ما دمرته آلة الحرب الأمريكية خلال عدوانها المتكرر على

العراق في 1991م و 1996م و 1998م، والغارات اليومية المتكررة على

المنشآت العراقية، وما ستخلفه الحرب المرتقبة القادمة من دمار وآثار، والتي

عنوانها (تغيير النظام) بل تتعداه إلى التزامات مادية بأرقام خيالية أولها دفع

فاتورة الحرب الجديدة التي ستصل إلى عدة مليارات من الدولارات، ثم تسخر

عائدات العراق لدفع ما يسمى بالتعويضات؛ وتقدر بـ (100) مليار دولار، ثم

دفع ديون العراق الخارجية مع فوائدها الربوية وتقدر بـ (140) مليار دولار،

هذه الأرقام الخيالية لا تحتاج إلى تعليق إطلاقاً؛ فهي ترسم صورة لمستقبل عراقي

يقول الرئيس الأمريكي إنه سيشن الحرب من أجل تحريره!!

* الوضع الإنساني في العراق:

هذه أرقام تتكلم بنفسها عن نفسها:

1 - كان العراق ينفق قبل الحصار (550) مليون دولار على الرعاية

الصحية، أما الآن فإجمالي ما توفره مذكرة النفط مقابل الغذاء هو (26) مليون

دولار سنوياً.

2 - مرض سوء التغذية يصيب واحداً من كل أربعة أطفال في العراق تحت

سن خمس سنوات، كما أن 90% من مواليد 1990م أقل من الوزن الطبيعي،

ويشير تقرير المنظمة العالمية للصحة أن عدد الأطفال العراقيين المصابين بنقص

الوزن نتيجة نقص الأغذية والأدوية تجاوز (800000) ألف طفل، وهذا الرقم

يعادل (7%) من نسبة الأطفال في كل العالم منهم (162000) يعانون من نقص

شديد في البروتينات والفيتامينات، و (24000) ألف منهم وصلوا إلى مرحلة

الضمور الكامل!

3 - ازدادت نسبة وفيات الأطفال بسبب الإصابة بمرض (اليرقان) بنسبة

(45%) ، وأصبحت الوفيات تشكل نسبة 100%، تقرير اليونسيف يشير إلى أن

المنظمة أجرت دراسة شملت (188) دولة في العالم حول نسبة تسارع ارتفاع

الوفيات بين الأطفال دون سن الخامسة؛ خلال الفترة من 1990 - 2000م؛

فاحتل أطفال العراق المرتبة الدنيا الأخيرة من القائمة.

4 - ارتفعت نسبة الإصابات المرضية بشكل عام بين الأطفال دون سن

خمس سنوات من (37) إلى (254) في كل ألف خلال السنوات الماضية.

5 - نسبة الوفيات في المستشفيات لعدم توفر العلاج والمعدات الطبية بين

البالغين تعادل (30%) ، وبين الأطفال (70%) .

6 - بلغ عدد الوفيات بين الأطفال (500000) ألف طفل،

و (1000000) بين البالغين.

7 - خلال الفترة من 1997 - 2002م طلب العراق استيراد أغذية وأدوية

ومعدات طبية بقيمة (35) مليار دولار، وصل منها فعلياً (23) مليار فقط،

ورُفضت طلبات قيمتها (5) مليارات دولار.

8 - عائدات العراق من النفط للفترة من 1997 - 2002م بلغت (52)

مليار دولار، ذهب منها (25%) للتعويضات؛ فبقي (39) مليار دولار، ثم

تولت الأمم المتحدة حصة كردستان العراق بنسبة (15%) ؛ فبقي (31) مليار

دولار، وحصلت الهيئة الدولية على نسبة (3%) نفقات موظفيها وإداراتها؛ فبقي

(30) مليار في المحصلة النهائية، وهذا المبلغ يساوي 120 دولار في السنة

للفرد؛ أي (22) سِنْتاً في اليوم، وهو ما يعادل نسبة (22%) مما تعده الأمم

المتحدة الحد القاتل من مستويات الفقر والجوع، والمقدر بـ (1) دولار، وهو

مقياس للمجاعات والكوارث التي تحصل في إفريقيا.

* خاتمة:

إن المتابع للمشهد العراقي بأرقامه وإحصائياته وتفاصيله الكاملة يدرك أن

العراق إنما هو بلد وضع تحت سلاح جديد من أسلحة الدمار الشامل هو (العقوبات

الاقتصادية) ، وأن النظام العراقي الذي قاد البلد إلى هذه النهاية والخاتمة المأساوية

إنما كان شماعة لتنفيذ سيناريو معد سلفاً في إطار الغارة التي تشن على العالم

الإسلامي، كما أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر كانت شماعة لإخراج الحرب

على الإسلام من ديوان السر إلى ديوان العلن، وأن الحرب القادمة على العراق

بذريعة تغيير النظام إنما هي حلقة في مسلسل (سايكس بيكو) جديدة لتغيير خريطة

المنطقة؛ بما يتوافق مع المصالح الأمريكية الاستراتيجية والإيديولوجية التي تتبنى

دعم قيام دولة إسرائيل من النيل إلى الفرات كشرط أساسي لقدوم المسيح المخلص

الذي ينتظره النصارى للنزول في آخر الزمان، وهذه العقيدة يؤمن بها 70% من

الشعب الأمريكي، وهم من يدعمون إسرائيل في هذه المرحلة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015