مجله البيان (صفحة 4448)

دراسات في الشريعة

آخر الزمان بين المبشرات والمنفرات

الربيع بن إبراهيم مليحي

الحديث عن فضائل آخر الزمان ومساوئه من زاوية تربوية بات أمراً ملحاً،

ومطلباً شرعياً مهماً، ومن هذا المنطلق أحاول فتح هذا الباب المهم الذي يعطي

تصوراً صحيحاً للمستقبل من خلال النصوص الشرعية، أمام دراسات جادة وقوية

بإذن الله تعالى.

* ما المراد بآخر الزمان؟

آخر الزمان: أي آخر زمان الدنيا الذي يكون بين يدي الساعة، ولعل أوله

بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الحديث الذي رواه أبو جبيرة

مرفوعاً: «بُعثت في نسم الساعة» [1] ، ومعنى «في نسم الساعة» ، قال في

النهاية هو من النسيم؛ أي أول هبوب الرياح الضعيفة؛ أي بُعثت في أول أشراط

الساعة وضعف مجيئها، وقيل هو جمع نسمة؛ أي بُعثت في ذوي أرواح خَلَقَهم الله

قبل اقتراب الساعة، كأنه قال في آخر البشر من بني آدم [2] ، ويؤيد ما سبق

حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«بعثت أنا والساعة كهاتين يعني إصبعين» [3] . أما نهاية آخر الزمان فهي خراب

الدنيا وقيام الساعة.

* شرور آخر الزمان (المنفرات) :

تظهر في آخر الزمان مساوئ كثيرة جداً، وردت بها السنة النبوية، وجمعها

العلماء في كتب أشراط الساعة، وأحاول في هذه المقالة المتواضعة من خلال

النصوص الوقوف على بعضها.

أولاً: ما رواه أبو موسى الأشعري وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهما،

قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة أياماً ينزل فيها

الجهل، ويُرفع فيها العلم، ويكثر فيها الهَرْج. والهَرْج القتل» [4] .

ثانياً: ما رواه أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه

وسلم يقول: «إن من أشراط الساعة أن يُرفع العلم، ويظهر الجهل، ويفشو الزنا،

ويُشْرَب الخمرُ، ويذهب الرجال وتبقى النساء؛ حتى يكون لخمسين امرأة قيِّم

واحد» [5] .

ثالثاً: ما رواه أبو مالك الأشعري رضي الله عنه أنه سمع النبي صلى الله

عليه وسلم يقول: «ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحِرَ والحرير والخمر

والمعازف..» [6] .

تضمنت هذه النصوص مجموعة من المساوئ التي تكون في آخر الزمان،

ويرتبط بعضها ببعض، وهي كما يلي:

1 - فُشُوُّ الجهل وقلة العلم، وقد بدأ النقص في العلم من بعد أن أكمل الله

الدين وأتم النعمة، وانتقل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ربه عز وجل، ولا

يزال ينقص إلى أن يُرفع بالكلية، كما ثبت ذلك في الحديث الذي رواه حذيفة بن

اليمان رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدرس

الإسلام كما يدرس وشي الثوب حتى لا يُدرى ما صيام ولا صلاة ولا صدقة،

ويسرى على كتاب الله في ليلة فلا يبقى في الأرض منه آية، وتبقى طوائف من

الناس الشيخ الكبير والعجوز يقولون: أدركنا آباءنا على هذه الكلمة لا إله إلا الله؛

فنحن نقولها» [7] ، أما السنة المطهرة فإنها تُرَدُّ ولا تُقبل، كما في حديث أبي رافع

رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا ألفين أحدكم متكئاً

على أريكته يأتيه أمري مما أمرت به أو نهيت عنه، فيقول: لا أدري؛ ما وجدنا

في كتاب الله اتبعناه» [8] ، وقد ظهر هذا النقص في هذا الزمن بصورة واضحة

جداً؛ حتى جهل أكثر الناس المعلوم من الدين بالضرورة، ومن تأمل النصوص

ونظر في الواقع أدرك أن هذا النقص إنما هو نتيجة حتمية لأسباب كثيرة؛ لعل من

أبرزها ما يلي:

1 - موت العلماء، ويدل عليه ما رواه عبد الله بن عمرو بن العاص رضي

الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الله لا يقبض

العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء؛ حتى إذا لم

يترك عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً؛ فسُئلوا فأفتوا بغير علم؛ فضلوا وأضلوا»

[9] .

2 - عدم الإخلاص في طلب العلم، ويدل عليه ما رواه أبو هريرة رضي الله

عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اتُخذ الفيء دولاً والأمانة

مغنماً..» الحديث، وفيه: «وتعلم العلم لغير الدين» [10] .

وقد حصل هذا عندما رُبط العلم الشرعي بالمال في كثير من البلاد، فنزع الله

منه الخشية والبركة والنفع والعمل إلا ما شاء الله فمات العلم في القلوب، فهو لا

يتجاوز التراقي والحناجر، وقد شهد هذا الزمن موت كثير من العلماء الربانيين

الذين كانوا منارات يُهتدى بها من ظلمات الشهوات والشبهات، كما شهد الرؤوس

الجهال الذين يتجرؤون على الفتوى بغير علم، والله المستعان، ولا يزال يشهد

مظاهر ضعف العلم ونقصه في التماس العلم عند الأصاغر، واتخاذ القرآن مزامير،

وتقديم الرجل ليس بالفقيه ولا العالم ما يُقدم إلا من أجل صوته.. ونحو ذلك.

3 - تقديس العقل والمصلحة، وتقديمهما على النصوص الجلية من الكتاب

والسنة، وهو تيار ظاهر له مدارسه ومنظروه وقادته ومفكروه.

4 - الحرب ضد تعلم الدين، وسياسة تجهيل الشعوب بالإسلام تحت ستار

مكافحة الإرهاب، ومن مظاهر ذلك تغيير المناهج وتقليص مواد الدين، وقفل

المعاهد والمدارس الشرعية، ومضايقة أهل السنة ودعم أهل البدعة، ونحو ذلك

مما يساهم في إبعاد الناس عن العلم الشرعي، ومما يدل على ذلك ما رواه عبد الله

بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سَيَلي

أموركم بعدي رجال يُطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن

مواقيتها. فقلت: يا رسول الله! إن أدركتهم كيف أفعل؟ قال: تسألني يا ابن أم

عبد كيف تفعل؟ ! لا طاعة لمن عصى الله» [11] .

2 - فشو الزنى وكثرته؛ حتى أصبحت تجارة البغاء تشكِّل ربحاً هائلاً

ومورداً ضخماً من موارد المال في بعض البلاد، وقد هيأ المجرمون وسائله

ودواعيه حتى أصبح أسهل مما يتصور، ولا يزال يزداد ويكثر حتى تموت الغيرة

في النفوس، وتسقط آخر مرتبة من مراتب الإنكار، فيُقارف الزنى علانية على

قارعة الطريق، كما ثبت في الحديث الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده! لا تفنى هذه الأمة حتى

يقوم الرجل إلى المرأة فيفترشها في الطريق، فيكون خيارهم يومئذ من يقول: لو

واريتها خلف هذا الحائط» [12] .

وكما ثبت أيضاً في الحديث الذي رواه النواس بن سمعان رضي الله عنه وفيه:

«ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر، فعليهم تقوم الساعة» [13] ،

وكما ثبت أيضاً في الحديث الذي رواه عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتسافدوا في الطريق

تسافد الحمير. قلت: إن ذلك لكائن؟ قال: نعم ليكونن» [14] .

3 - ظهور الأغاني والمعازف. قال الأستاذ مصطفى أبو النصر شلبي:

«وأما ظهور المعازف آلات الملاهي واستحلالها فحدِّث ولا حرج؛ فقد وقعت

هذه العلامة في العصور السابقة، وهي الآن أشد انتشاراً وتنوعاً، وقد استهان

بحرمتها كثير من الناس، بل ممن ينتسبون إلى أهل العلم، نسأل الله السلامة،

وبات التهديد بالمسخ والقذف والخسف قريباً، ما دامت الأمة لاهية تستحل ما

حرَّم الله عليها من تعاطي أسباب الفسق والفجور» [15] .

وقد ازداد هذا البلاء حتى تجاوز مرحلة السماع والاستمتاع إلى التقنين

والتقعيد، والتخطيط والتنظيم، وجلب الخبراء، وفتح المعاهد، وصياغة المناهج؛

حتى أصبحت فناً يدرَّس وعملاً يمارس؛ فأي ظهور بعد هذا الظهور؟!

4 - استحلال الخمر وكثرة شربها وتداولها بين الناس؛ حتى أصبحت أمراً

مألوفاً يقدم مع الطعام، ويوزع في الفنادق، وهو نديم المسافر في رحلاته، ورفيق

الضال في سهراته وخلواته، وتلحق به المخدرات بجميع أنواعها التي ابتليت بها

البشرية فأصبحت شبحاً يهدد أمن الدول وحياة الأفراد.

5 - الاستخفاف بالدم (كثرة القتل) ، وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في

الحديث: «بادروا بالأعمال خصالاً ستاً ... » الحديث، وذكر منها: «واستخفافاً

بالدم» [16] ، وقد استخف الناس اليوم بالدم عندما مكنوا المجرمين من قيادة الأمم؛

حيث أشعلوا الحروب الطاحنة في كل مكان، ويزعمون أنهم دعاة سلام، ومن

الاستخفاف الخفي بالدم تلك الفتاوى التي تحل قتل الدعاة والعلماء وغيرهم من البشر

بغير ذنب، ومن تأمل النصوص الواردة في هذا الشأن استطاع أن يضع يده على

الأسباب الحقيقية لفشو تلك الظاهرة الخطرة، وهذه بعض تلك الأسباب أضعها بين

يدي القارئ مقرونة بأدلتها:

* الأشر والبطر، والتكاثر، والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد إلى

درجة القتل، ويدل على ذلك ما رواه أبو هريرة، قال: سمعت رسول الله صلى

الله عليه وسلم يقول: «سيصيب أمتي داء الأمم. فقالوا: يا رسول الله! وما داء

الأمم؟ قال: الأشر والبطر، والتكاثر، والتناجش في الدنيا، والتباغض والتحاسد

حتى يكون البغي» [17] .

* غياب العقول وضعفها، كما ثبت في حديث أبي موسى الأشعري رضي

الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة

الهَرْج ... » الحديث، وفيه: «حتى يقتل الرجل جاره، ويقتل أخاه، ويقتل

عمه، ويقتل ابن عمه. قالوا: ومعنا عقولنا يومئذ؟ قال: إنه لينزع عقول

أهل ذلك ويخلف لهم هباءً من الناس، يحسب أكثرهم أنهم على شيء وليسوا على

شيء» [18] .

رابعاً: ما رواه طارق بن شهاب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«إن بين يدي الساعة تسليم الخاصة، وفشو التجارة حتى تعين المرأة زوجها

على التجارة، وقطع الأرحام، وشهادة الزور، وكتمان شهادة الحق، وظهور القلم»

[19] ، تضمن هذا الحديث ستة أمور كلها تحتاج إلى وقفات وتأمل؛ إلا أنني

سأقف مع واحدة فقط من هذه الست؛ هي فشو العقوق وقطيعة الرحم؛ حيث

تظاهرت النصوص على كثرته في آخر الزمان، ومن ذلك الحديث الذي رواه أبو

هريرة مرفوعاً: «إذا اتُّخِذَ الفيء دولاً» وذكر فيه: «وأطاع الرجل امرأته،

وعق أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه» [20] ، ومن ذلك الحديث الذي تقدم:

«بادروا بالأعمال خصالاً ستاً» وذكر منها: «وقطيعة الرحم» [21] ، ومن

ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في مراتب الدين، وفيه: «إذا ولدت الأمة

ربتها» [22] ، وقد فُسِّر بعدة أقوال؛ من أحسنها ما رجحه الأستاذ مصطفى أبو

النصر الشلبي في صحيح أشراط الساعة، وهو أن ذلك كناية عن كثرة العقوق في

الأولاد [23] .

وفي هذا الزمن ظهر العقوق، وتعددت أنواعه، واستهلكت مراتبه كلها؛ من

كلمة التضجر (أف) إلى الاعتداء على النفس والمال والعرض.. والله المستعان.

وقد ظهر اليوم عقوق يتفق مع حضارة هذا الزمن وتقدمه؛ نتيجة لغياب

الرؤية الشرعية السليمة، ومن مظاهره ما نراه اليوم من انقلاب مفهوم الخدمة؛

حتى أصبحت الأم المسنة تقوم بخدمة البنت الشابة بحجة المذاكرة والاختبارات،

فإذا فرغت من الدراسة وعملت بعد ذلك رمت أطفالها في حضن أمها لتستمر عملية

العقوق إلى ما شاء الله.

خامساً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: «بادروا بالأعمال فتناً كقطع الليل المظلم: يصبح الرجل مؤمناً

ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع دينه بعرض من الدنيا» [24] .

في هذا الحديث العظيم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالمبادرة بالأعمال

الصالحة التي تكون حصناً قوياً من الفتن العظيمة المظلمة التي تكون بين يدي

الساعة، ومنها الفتنة في الدين؛ حيث يضعف التمسك به ويعز الثبات عليه لدرجة

أن العبد يتقلب بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر في اليوم الواحد؛ حتى إنه

يصبح مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً.. ولا حول ولا قوة إلا

بالله.

كما بين الحديث السبب الحقيقي لتلك الفتنة؛ وهو تعلق القلب بمتاع الدنيا

الزائل: «حتى يكون الدين الذي هو عصمة الأمر وطوق النجاة من عذاب الله

سلعة تباع بثمن بخس في عالم المادة والمناصب، وقد فشت هذه الفتنة واكتوت

بنارها الأمة، ورأى الدعاة والمصلحون من يلوي أعناق النصوص ليساير الواقع

ويرضي الطواغيت، ويقرب وجهات النظر، ويفتح مجالاً للحوار حتى في

المسلَّمات، و» يعطى تصوراً رائعاً بزعمه عن سماحة الإسلام وعدالته، ورأوا

ذلك التساقط المخيف على جنبات الطريق، ورأوا الردة الجماعية التي تزداد بزيادة

الدعوة إلى التنصير، ورأوا تلك التبعية الممقوتة، وذلك التقليد الأعمى الذي يعد

مظهراً من مظاهر تلك الفتنة، ومن نظر في واقع المسلمين اليوم؛ فإنه يدرك حجم

تلك التبعية التي صبغت الأمة الإسلامية من رأسها إلى أخمص قدميها؛ حتى قلدت

الكفار في كل شيء؛ ابتداءً من كرسي الحكم وانتهاءً بكرسي الحمام، وقد أخبر

الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك كما في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري

رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من كان

قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع؛ حتى لو دخلوا جحر ضبٍ لتبعتموهم. قلنا: يا

رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟!» [25] .

وستعظم هذه الفتنة بمظاهرها المختلفة حتى تعبد الأوثان، كما جاء في حديث

ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ... ولا تقوم

الساعة حتى تلحق قبائل من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد قبائل من أمتي الأوثان»

[26] .

سادساً: ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله

عليه وسلم قال: «لا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع بن لكع»

[27] . وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «سيأتي على الناس سنوات خداعات يُصدَّق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها

الصادق، ويُؤتمن فيها الخائن، ويُخوَّن فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة. قيل:

وما الرويبضة؟ قال: الرجل التافه يتكلم في أمر العامة» [28] ، واللكع هو

رديء الحسب والنسب الذي لا يُعرف له أصل، ولا يُحمد على خلق [29] ،

والرويبضة هو الرجل التافه كما فسره الحديث، والمراد من الحديث بيان فساد آخر

الزمان؛ حيث تختل المقاييس وتتقلب الموازين، فيتصدر الأمة من ليس لذلك بأهل،

ويتزعم القبيلة أفسقهم، ويسود القوم أرذلهم، كما روى أبو هريرة رضي الله عنه

قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا اتُّخذ الفيء دولاً، والأمانة مغنماً،

والزكاة مغرماً ... » الحديث، وفيه: «وساد القبيلة فاسقهم، وكان زعيم القوم

أرذلهم، وأُكرم الرجل مخافة شره» [30] ، ومن تأمل الواقع وأمعن في النصوص

رأى سفينة الأمة تمخر عباب بحر متلاطم من الفتن والبلاء، يقودها الرجل التافه

بمجموعة كاملة من الفسقة والمجرمين.

* أخي المسلم!

إن الأمة لم تصل إلى ما وصلت إليه من ذلك الواقع السيئ إلا نتيجة أسباب

كثيرة؛ أشير إلى بعضها باختصار:

- فشو الجهل وقلة العلم، وقد مضى الكلام عليه.

- ضعف المسلمين في كثير من المجالات، وبُعْدهم عن مراكز التأثير ومواقع

القيادة؛ مما مكن أعداء الإسلام من السيطرة التامة على ذلك فأصبحوا قادة العالم

وصناع القرار، يضعون من يشاؤون في المكان الذي يشاؤون؛ فيضمنون بذلك

بقاء السيادة في أيديهم، فلا تتنقل إلا من لكع إلى لكع. وقد أخبر بذلك صلى الله

عليه وسلم كما في الحديث الصحيح مرفوعاً: «ليأتين عليكم أمراء يقرِّبون شرار

الناس، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها؛ فمن أدرك ذلك منكم فلا يكونن عريفاً،

ولا شرطياً، ولا جابياً، ولا خازناً» [31] . وكما في قوله صلى الله عليه وسلم:

«بادروا بالأعمال خصالاً ستاً: إمرة السفهاء، وكثرة الشرط ... » [32] ، ومن

أمعن النظر في الحديثين، وحاول أن يربط بينهما رأى عَلَماً من أعلام النبوة،

واستطاع أن يربط بين تلك النصوص الصحيحة وبين الواقع الذي يعيشه وهو يرى

الولاة يقربون العلمانيين والحداثين، ويزرعون الجلادين (الشرط) في كل بقعة

من البلاد، كل ذلك من أجل حماية النظم المفروضة، والمحافظة على منهجيتها

وعدم المساس بها بأي حال من الأحوال، ومن مظاهر هذا الوضع المخزي غياب

الوعي وضعف الرؤية الشرعية السليمة، حتى وجد في الأمة وبكثرة من يُلمِّع اللكع

ويشيد بالرويبضة، كما جاء في حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وفيه:

«حتى يقال للرجل: ما أجلده، ما أظرفه، ما أعقله، وما في قلبه مثقال حبة

من خردل من إيمان» [33] .

ومن المظاهر المؤلمة تداعي الأمم على الأمة الإسلامية، ونهب خيراتها،

والعبث بعقول أبنائها، كما في حديث ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: «توشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها،

فقال قائل: أمن قلة نحن يومئذ؟ قال: لا؛ بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء

كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم

الوهن، قيل: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت» [34] ،

وفي هذا الحديث إشارة إلى السر الحقيقي في ضعف المسلمين وتداعي الأمم عليها،

وأنه يكمن في ذواتهم، وهو حب الدنيا وكراهية الموت، وقد تعلقت القلوب في هذا

الزمن بالمال حتى عبدت الدينار والدرهم، وتعاملت بالربا، وانهمكت بالحرث

والزرع، وأوغلت في الترف، ونسيت الجهاد في سبيل الله؛ فتداعت عليها الأمم

ووقع الذل الذي لا يرفع إلا بالعودة إلى الجهاد في سبيل الله تعالى، ولن يكون ذلك

إلا إذا تعلقت القلوب بالله تعالى وحده، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم

بهذا الواقع، كما في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: «إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم

بالزرع، وتركتم الجهاد في سبيل الله سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى

ترجعوا إلى دينكم» [35] ، وقد عانت الأمة من ذل الاستعمار المفروض بالنار

والحديد، وهي اليوم تعاني أشكالاً جديدة منه؛ بسبب ما خلفه الكفار في الأمة من

ثقافاتهم وعاداتهم وقوانينهم التي تمارس من قبل الأمة الغثائية بطيب نفس، أو

تفرض عليهم فلا خيار لهم، والله المستعان.

سابعاً: ما خرجه الألباني في السلسلة الصحيحة: «إن من شرار أمتي الذين

غذوا بالنعيم، الذين يطلبون ألوان الطعام وألوان الثياب، يتشدقون بالكلام» [36] ،

والحديث واضح المعنى ولا يحتاج إلى بيان، لكنه يشير إلى قضية الترف التي هي

أخطر المراحل التي تمر بها الأمم؛ إذ ليس بعدها إلا السقوط، ولقد بلغت الأمة

اليوم حد الترف وأوج الرفاهية في كل مجالات الحياة؛ حتى أصبح الوضع ينذر

بالخطر، والله جل وعلا يقول: [حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ

أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ

بِالأَمْس] (يونس: 24) ، ومن مظاهر الترف التي تعيشها الأمة اليوم زخزفة

المساجد والبيوت، كما ثبت في حديث أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد» [37] ،

وكما ثبت في حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا

تقوم الساعة حتى يبني الناس بيوتاً يوشونها وشي المراحيل» [38] ، أي يخططونها

ويزخرفونها كما تخطط وتزخرف الثياب [39] .

فتأمل أخي المسلم كيف بلغ الترف هذا المبلغ العجيب في الطبقات الغنية،

والمتوسطة، وبعض الطبقات الفقيرة التي لا تجد أحياناً قيمة الضروريات؛ لكنها

تحاكي الآخرين تحت ضغط الواقع الاجتماعي المبني على المظاهر والكماليات!

* فضائل آخر الزمان (المبشرات) :

رغم كثرة المساوئ والمنفرات التي تقع في آخر الزمان؛ فإن هناك فضائل

ومبشرات كثيرة تفتح باب الأمل للمسلم، وتزيد في يقينه وثقته بنصر الله تعالى،

وقد جاءت تلك المبشرات في كثير من النصوص النبوية، وسأقتصر على بعضها

خشية الإطالة:

أولاً: ما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله

صلى الله عليه وسلم يقول: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى.

فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله! إن كنت لأظن حين أنزل الله:

[هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ

كَرِهَ المُشْرِكُونَ] (التوبة: 33) أن ذلك تاماً! قال: إنه سيكون من ذلك ما شاء

الله» [40] ، وكذلك ما خرجه الألباني في الصحيحة: «ليبلغن هذا الأمر ما بلغ

الليل والنهار، ولا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين بعز عزيز أو

بذل ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر» [41] .

في هذين النصين الكريمين بشارة من النبي صلى الله عليه وسلم بأن الأمة

ستعود إلى دينها بإذن الله تعالى، وسيدخل هذا الدين الحواضر والبوادي، وسيظهر

على الدين كله ولو كره المشركون، وذلك يوم تكون الأمة أهلاً لذلك تعمل للدين

وتضحي من أجله.

ثانياً: ما رواه أبو قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمرو بن العاص رضي

الله عنه وسئل: أي المدينتين تفتح أولاً: القسطنطينية أو رومية؟ الحديث، وفيه:

«فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: مدينة هرقل تفتح أولاً. يعني قسطنطينية»

[42] ، وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه

وسلم: «لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالأعماق أو بدابق فيخرج لهم جيش من

المدينة..» الحديث، وفيه: «فيفتحون قسطنطينية» [43] . وما رواه أبو هريرة

أيضاً قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سمعتم بمدينة جانب منها في

البر وجانب منها في البحر؟! قالوا: نعم يا رسول الله. قال: لا تقوم الساعة حتى

يغزوها سبعون ألفاً من بني إسحاق» [44] ، الحديث رواه أبو هريرة قال: قال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود

فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر فيقول الحجر

والشجر: يا مسلم يا عبد الله! هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه شجر

اليهود» [45] .

هذه النصوص الكثيرة تبشر بعودة الجهاد في سبيل الله، وكثرة الفتوحات،

وتطهير الأرض من نجاسة اليهود وخبثهم، ولعل ما نراه اليوم من جهاد في مناطق

عدة يكون بارقة أمل، وبوابة إلى جهاد أعظم يؤذن بنصر قريب إن شاء الله.

ثالثاً: ما رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: «تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها،

ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضّاً

ما شاء الله أن يكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً ما شاء الله

أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون خلافة على منهاج النبوة. ثم

سكت» [46] ، في هذا الحديث بشارة عظيمة بوقوع خلافة راشدة على منهاج

النبوة، ولكنها لن تقوم إلا بما قامت به الخلافات الراشدة الأولى.

رابعاً: ما رواه المستورد القرشي رضي الله عنه عند عمرو بن العاص

رضي الله عنه قال: «سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:» تقوم

الساعة والروم أكثر الناس «، فقال له عمرو بن العاص: أبصر ما تقول! قال:

أقول ما سمعت من رسول الله. قال: لئن قلت ذلك إن فيهم لخصالاً أربعاً: إنهم

لأحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة،

وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسه حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم

الملوك» [47] .

استنبط العلماء من هذا الحديث أن الروم يسلمون في آخر الزمان، وذلك من

المبشرات ولا شك.

قال الأستاذ مصطفى أبو النصر الشلبي: «وهذا يدل والله أعلم أن الروم

سيسلمون في آخر الزمان؛ لأن هذه الصفات قلما توجد إلا في أصحاب الإيمان

الصادق، ودليلي على ما أقول قوله صلى الله عليه وسلم:» والذي نفسي بيده! لو

كان الإيمان بالثريا لتناوله رجال من هؤلاء «يعني فارس والروم [48] ، ويؤيد ما

ذهب إليه الشلبي الحديث الذي تقدم:» ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار «،

وهو عام لا يخصص بأمة دون أمة ولا بمكان دون مكان. ولعل المراكز والدعوات

الإسلامية التي تنتشر في بلاد الكفار على أيدي الدعاة والعلماء مقدمات لهذه البشارة

العظيمة.

خامساً: ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم:» إذا اقترب الزمان لم تكد رؤيا المؤمن تكذب، وأصدقكم رؤيا

أصدقكم حديثاً، ورؤيا المسلم جزء من خمسة وأربعين جزءاً من النبوة « [49] .

صِدْقُ الرؤيا من المبشرات في آخر الزمان، كما في هذا الحديث؛ لكن

بشرط الإيمان وصدق الحديث، ومن عظيم شأنها أنها جزء من النبوة؛ فهي دعوة

للإيمان الصادق وصدق الحديث.

سادساً: ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم:» لا تذهب الدنيا حتى يملك العربَ رجل من أهل بيتي

يواطئ اسمه اسمي « [50] ، هذا الحديث من المبشرات بالمهدي؛ حيث تواترت

النصوص بخروجه وصفاته ومدة حكمه، وهي مستوفاة في كتب السنة، والمراد

أنه من مبشرات آخر الزمان.

وما رواه أبو أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

» فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً؛ يدق الصليب ويذبح

الخنزير ويضع الجزية، ويترك الصدقة فلا يسعى على شاة ولا بعير، وترفع

الشحناء والتباغض، وتنزع حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا

تضره، وتضرب الوليدة الأسد فلا يضرها، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها،

وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الإناء من الماء، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا

الله، وتضع الحرب أوزارها، وتسلب قريش ملكها، وتكون الأرض كفاثور الفضة

تنبت نباتها بعهد آدم؛ حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم، ويجتمع

النفر على الرمانة فتشبعهم، ويكون الثور بكذا وكذا من المال، ويكون الفرس

بدريهمات « [51] ، وكذلك ما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله

صلى الله عليه وسلم:» طوبى لعيش بعد المسيح! يؤذن للسماء في القطر،

ويؤذن للأرض في النبات؛ حتى لو بذرت حبك على الصفا لنبت، وحتى يمر

الرجل على الأسد فلا يضره، ويطأ على الحية فلا تضره، ولا تشاحَّ ولا تحاسد

ولا تباغض « [52] .

ومن المبشرات التي تكون في آخر الزمان ما تقدم في الحديثين من نزول

عيسى عليه السلام، وما يتبع ذلك من الخيرات والبركات المذكورة.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015