دراسات في الشريعة
فارس بن مفلح آل حامد
farisalrashed@hotmail.com
* المبحث الأول: الكلام عن أصول التجارات وما يحل منها وما يَحرُم:
مما يحسن في هذا المقام ذكره أن يقال: إن الأصل في المعاملات الحل،
وهو ما يُعبَّر عنه في القاعدة الفقهية: (الأصل في الأشياء الإباحة؛ حتى يدل
الدليل على التحريم) [1] .
جميع صور الحرف والمهن والتجارة يجمعها معنى واحد تؤول إليه جميع هذه
الصور؛ ألا وهو «تبادل المنافع» .
وقد اشترط الشرع في المكاسب التجارية أن تكون حلالاً لتُنتِجَ آثارها
المشروعة، وهذا يقودنا إلى الكلام عن مشروعية الطرق التي يُكتسب المال منها؛
وبناءً عليه نقول: إن تجارات الناس كلها آيلة إلى ما ينتفعون به من: مأكول، أو
مشروب، أو ملبوس، أو مركوب، أو مسكن، أو خدمة، أو صحة، أو زينة،
أو مسموع، أو مرئي، أو معلوم، ولا تخرج جميع التجارات على إطلاقها عن
هذه الإحدى عشرة [2] .
وجميع تلك الأصول منها ما هو مباح، ومنها ما هو محرم، وكذا الوسائل
إليها منها ما هو مباح، ومنها ما هو محرم كذلك.
والتفصيل في ذلك يطول جداً؛ لذا لا يهمنا من ذلك إلا ما نحن بصدده من
موضوع هذا البحث، وما هو إلا تمهيد ومقدمة لما بين يديه. وبالله التوفيق.
* المبحث الثاني: التعريف اللغوي والاصطلاحي لكل من كلمتي (غسيل)
و (تبييض) ، والتنبيه على اللفظة المناسبة في ذلك:
جاء في معجم مقاييس اللغة ما يلي: «غَسَل: الغين والسين واللام أصل
صحيح يدل على تطهير الشيء وتنقيته. يُقال: غسلتُ الشيء غَسْلاً. والغُسْلُ
الاسم. والغَسُول: ما يُغسَلُ به الرأس من خِطمِيٍ وغيرِه» [3] .
وقال في لسان العرب تحت مادّة (غسل) : «غَسَلَ الشيءَ يغسِلُه غَسْلاً
وغُسْلاً، وقيل: الغَسْلُ: المصدر من غَسَلتُ، والغُسْلُ بالضمِّ: الاسم من
الاغتسال [4] ، ... والغَسُول: الماء الذي يُغَتسَلُ به، والمُغَتسَلُ: الموضع الذي
يُغَتسَل فيه.... وغُسَالَةُ الثوب: ما خرج منه بالغسل ... » [5] .
ومجيئه على فَعِيل: يجعله على وزن مغسول، فيكون اسم مفعول، كقتيل
بمعنى مقتول، وسليب بمعنى مسلوب.
وقال السمين الحلبي: «والغَسْلُ والغِسْلُ مصدَرا غَسَلَ يَغسِلُهُ؛ إذا أسال
عليه الماء فأزال درَنه» [6] .
وأما الأموال: فهي جمع مال. قال في القاموس المحيط: «المال: ما ملكته
من كل شيء. جمع أموال» [7] .
وقال في لسان العرب: «قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يُملك من
الذهب والفضة، ثم أُطلِق على كل ما يُملَك ويُقتنى من الأعيان [8] » [9] . فتبين
من هذا أن المال يُطلق على ما تقع به المنفعة ويحصل به الملك، فلا بد من هذين
الأمرين: المنفعة والملك؛ فقد ينتفع الإنسان بشيء وليس هو في حال الانتفاع مالاً،
كالتراب في البر، والماء في البحر. وأما الملك فهو فرع المنفعة، فلا يمكن
للإنسان أن يملك ما لا نفع فيه عنده [10] .
فقَصْر المال على أعيان مخصوصة لا يصح، ولعل مما يقوِّي هذا: قوله
تعالى: [وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً] (الجاثية: 13) .
فقوله [سَخَّرَ] مع كلمة [جَمِيعًا] ينسحب على كل ما تقع عليه تصرفات
الإنسان.
أما التعريف الاصطلاحي بالتركيب الإضافي للكلمتين (غسيل الأموال) ؛ فلم
يرد في كتب الفقهاء تعبير عن المعنى المراد بهذا الاصطلاح، وإنما يعبرون بـ
(المكاسب المحرمة) كما سوف يأتي في تضاعيف هذا البحث.
وهذه الألفاظ الموجودة في القرآن والحديث كما يقول شيخ الإسلام: «إذا
عُرِف تفسيرها وما أريدَ بها من جهة النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحْتَجْ في ذلك
إلى الاستدلال بأقوال أهل اللغة ولا غيرهم، ولهذا قال الفقهاء: الأسماء ثلاثة أنواع:
ما يُعرَفُ حدُّه بالشرع كالصلاة والزكاة، ونوع يُعرف حده باللغة كالشمس والقمر،
ونوع يُعرف حده بالعرف كلفظ المعروف في قوله تعالى: [وَعَاشِرُوهُنَّ
بِالْمَعْرُوف] (النساء: 19) » [11] .
واصطلاح (غسيل الأموال) هو من النوع الأخير قطعاً، وبناءً على ذلك
فيُمكن أن يُعَرَّف مصطلح (غسيل الأموال) بأنه: «جعل الأموال الناتجة عن
أصول محرَّمة ذات أصول مباحة في الظاهر بطرق مخصوصة، وهي باقية على
أصلها المحرم في واقع الحال» .
ولكن التعبير بـ (غسيل) من جهة العربية لا يستقيم في الدلالة على
مقصوده؛ إذ معناه: الأموال الناتجة عن الغسل فحسب، ولا يدخل في دلالة العبارة
طريقة ذلك الغسل، وقد يقصدون به (تغسيل) ، وهذا خطأ فالتغسيل يدل على
الفعل الواقع على محل، والغسيل إنما يدل على نتاج ذلك الفعل فحسب، ففرق بين
اللفظين وإن كانا مصدرين.
والتعبير بكلمة (غسيل) للدلالة على الطريقة أو الطرق التي يتم بها تحويل
الأموال الخبيثة إلى أموال مباحة في الظاهر؛ كما أن التعبير بكلمة (الأموال)
يُراد بها الأموال النقدية على وجه الخصوص؛ غير أن التعبير بكلمة غسيل
يُشكِِلُ؛ لذا يُقترح وضع كلمة بديلة دالة على المراد مؤدية للغرض؛ ألا وهي
(تبييض) ؛ ففيها دلالتان:
الأولى: التمويه بإظهار الشيء على غير ما هو عليه في باطن الأمر.
الثاني: أن حصول هذا واقع من فاعل عامد لذلك.
وهذان المعنيان لا تفيدهما كلمة غسيل؛ لذا سوف نثبت هذه الكلمة بدلاً من
كلمة (غسيل) فيما يُستقبل من هذا البحث بإذن الله تعالى.
ويحسن هنا أن يُقال: إن التعبير بكلمتي: (غسيل) و (تبييض) هما تعبير
بلاغي؛ إذ هما في علم البلاغة من باب الاستعارة الخيالية المجرَّدة، والاستعارة
على التعريف المختار: «تصييرُك الشيءَ الشيءَ وليس به، وجَعْلُك الشيءَ
للشيءِ وليس له؛ بحيث لا يُلْحَظُ فيه معنى التشبيه صورةً ولا حُكماً [12] » [13] .
وتلك الاستعارتان هما من قسم استعارة المحسوس للمعقول [14] ، كقوله تعالى:
[بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى البَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ] (الأنبياء: 18) ، فالقذف والدمغ أمران
معقولان مستعاران من صفات الأجسام، والمستعار له الحق والباطل، والجامع هو
الإعدام والإذهاب. فكلمة (غسيل) معقول مستعار من إجراء الماء على جسم
لغرض التطهير من درن ألمَّ به، والمستعار له: المال، والجامع إزالة القذر. وكذا
(التبييض) ؛ فهو معقول مستعار من إكساب جسم لون البياض؛ لغرض إخفاء
لونه الأصلي، والجامع إظهار الشيء على غير ما هو عليه تمويهاً على الغير.
وبذلك يظهر الفرق بين الاستعارتين ورجحان هذه الأخيرة؛ إذ هي أدلُّ على
المراد، فكأن التاجر موَّه على الناس باستثمار الأموال المحرَّمة في أعيان مباحة.
وبالله التوفيق.
* المبحث الثالث: في بيان قصد الشارع من حفظ مصالح الخلق في باب الأموال:
من المعلوم أن المال أحد الضرورات الخمس التي نزلت الشرائع بحفظها،
وهي: «الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال» . وهذه المقاصد لا تعدو
ثلاثة أقسام:
أحدها: أن تكون ضرورية.
الثاني: أن تكون حاجية.
الثالث: أن تكون تحسينية.
فأما الضروريات: فمعناها ما لا بد منها في قيام مصالح الدين والدنيا؛ بحيث
إذا فقدت لم تجر مصالح الناس على استقامة؛ بل على فساد وتهارج وفوت حياة،
وفي الأخرى فوت النجاة والنعيم، والرجوع بالخسران المبين [15] .
وأما الحاجيات: فمعناها: أنها مفتقَرٌ إليها من حيث التوسعة، ورفع الضيق
المؤدي في الغالب إلى الحرج والمشقة اللاحقة بفوت المطلوب، فإذا لم تُراع دخل
على المكلفين على الجملة الحرج والمشقة، ولكنه لا يبلغ مبلغ الفساد المعتاد المتوقَّع
في المصالح العامة [16] .
وأما التحسينيات: فمعناها: الأخذ بما يليق من محاسن العادات، وتجنب
المدنِّسات التي تأنفها العقول الراجحات، ويجمع ذلك قسم مكارم الأخلاق [17] .
وتلك المقاصد يَكُون حفظها بأمرين:
1 - ما يقيم أركانها ويثبت قواعدها، وذلك عبارة عن مراعاتها من جانب
الوجود، وهي في المال كالاتجار في المباحات؛ كالإجارة والصناعة والزراعة ...
ونحو ذلك.
2 - ما يدرأ عنها الاختلال الواقع أو المتوقع فيها، وذلك عبارة عن مراعاتها
من جهة العدم [18] ، وهي في المال: كالنهي عن السرقة، والغرر، وإضاعة المال.
وتبييض الأموال هو من هذا الباب.
وعلى هذا فالمال المتولد عن محرَّم يأخذ أصله فيصير حراماً.
فمثال الكسب الخبيث في باب الدين: بيع كتب الضلال والانحلال، ككتب
الشرك، والسحر، والزندقة.
ومثله في باب النفوس: أخذ الأجرة على المخدرات والدخان، وكأخذ الأجرة
على الأنفس المعصومة، أو التعدي على أطرافها.. ونحو ذلك.
ومثاله في باب الأعراض: أخذ الأجرة على الزنا، كما هو الحال في مراكز
الدعارة المنظمة أو ما كان وسيلة إليه.
ومثاله في باب العقول: أخذ الأجرة على المسكرات، والمفترات.
ومثاله في باب الأموال: الربا، والرشوة، والتزييف، والسرقة، والقمار،
ونحو ذلك.
وهكذا نجد كل تلك الأكساب الخبيثة تُخِلُّ بتلك الضرورات جميعها، وجريمة
(تبييض المال الحرام) لا شك أنها امتداد لتلك الجرائم واستثمار لما يتحصَّل عنها.
* المبحث الرابع: حكم الشرع في غسيل الأموال:
إذا تبين ما ذكرنا؛ فلا شك في حرمة هذه الأموال وما تولد منها، وقد دل
على ذلك الكثير من النصوص في الكتاب والسنة.
فمن الكتاب قوله تعالى: [وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخَبَائِثَ]
(الأعراف: 157) ، وهذه صفة النبي صلى الله عليه وسلم في كتب اليهود
والنصارى، ولا شك أن تبييض الأموال المحرمة هي من الخبيث؛ إذ هي نتاج ما
تولدت عنه، وهي محرمة في الأصل كالسرقة، والغصب، والاختلاس، والقمار،
ودور الدعارة.... إلخ.
وكذا قوله تعالى: [وَلاَ تَيَمَّمُوا الخَبِيثَ مِنْهُ تُنفِقُونَ] (البقرة: 267) ،
وإن كانت الآية في سياق الصدقات، وأن المؤمن لا ينبغي له أن يعمد إلى أرذلها
فيتصدق به وهو قادر على الأفضل منها؛ ولكن القاعدة الأصولية تقرر أن «العبرة
بعموم اللفظ لا بخصوص السبب» [19] ؛ فيكون داخلاً في الآية عدم جواز الإنفاق
من المال الحرام.
ومن الأدلة أيضاً: [وَلاَ تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ] (البقرة: 188) ،
وقوله: [بِالْبَاطِلِ] هنا بمعنى الحرام، وهو ثلاثة أقسام:
- محرم لعينه: كالخمر، ولحم الخنزير.
- ومحرم لوصفه: كالربا.
- ومحرم لكسبه: كالغصب [20] . و (تبييض الأموال) يدخل في هذا القسم.
وقد قال الإمام القرطبي في تفسير هذه الآية: «والمعنى لا يأكل بعضكم مال
بعض بغير حق، فيدخل في هذا القمار والخداع والغُصوب وجحد الحقوق، وما لا
تطيب به نفس مالكه، أو حرَّمته الشريعة وإن طابت نفس مالكه، كمهر البغي أو
حُلوان الكاهن، وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك» [21] .
وأما من السنة فكثير كذلك، فمنه ما صح من حديث ابن عباس رضي الله
عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لعن الله اليهود ثلاثاً؛ إن الله حرم
عليهم الشحوم فجمَّلوها وباعوها وأكلوا أثمانها، وإن الله إذا حرم شيئاً حرَّم ثمنه»
[22] .
وجه الاستشهاد: بيان بطلان كل حيلة يتوصل بها إلى محرَّم، وأنه لا يتغير
حكمه بتغير هيئته وتبديل اسمه [23] .
وكذا ما صح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «لعن النبي صلى الله
عليه وسلم في الخمر عشرة: عاصرها، ومعتصرها، وشاربها، وحاملها،
والمحمولة إليه، وساقيها، وبائعها، وآكل ثمنها، والمشتري لها، والمشتراة له»
[24] .
دل الحديث على أن الحرمة غير مقصورة على العين الواقع عليها التحريم؛
بل ينسحب التحريم على ما سواها، فيشمل كل وسيلة إليه أو ما تولد عنه.
وكذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: «من
جمع مالاً من حرام ثم تصدق به؛ لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه» [25] .
والحديث وإن كان ضعيفاً فمعناه صحيح بأحاديث أخرى، ووجه الاستشهاد
منه أن الكسب الأخروي لا يُنال بوسيلة محرمة، وإذا كان هذا في الآخرة فالدنيا لها
تبع.
ومثله في الحديث الآخر: «لا يكسب عبد مالاً حراماً، فيتصدق به فيُقبل
منه، ولا ينفق منه فيبارَك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار،
إن الله تعالى لا يمحو السيئ بالسيئ ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا
يمحو الخبيث» [26] .
والحديث صح بمعناه في أحاديث كثيرة كذلك، والشاهد من الحديث قوله:
«إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ» ، وقوله: «إن الخبيث لا يمحو الخبيث» ،
ووجه الاستشهاد أن المعنى في ذلك: إن الله لا يمحو السيّئ من العمل في مقابل
السيّئ من المال، وكذا الخبيث من المال لا يمحو الخبيث من العمل. وإنما يُمحى
السيئ من العمل بالحسن من المال، ومن هذا الباب قوله تعالى: [إِنَّ الحَسَنَاتِ
يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ] (هود: 114) .
ولعل فيما ذُكر من الأدلة غُنية وكفاية إن شاء الله تعالى.
وفيما يلي نذكر بعض القواعد الفقهية التي استنبطها الفقهاء على ضوء تلك
الأدلة. فمن تلك القواعد:
1 - «الضرر يُزال» [27] .
وهذه القاعدة برُمَّتها؛ إحدى القواعد الكبار التي تندرج تحتها قواعد كثيرة،
وهي تدل بمفهومها وبمنطوقها على أن ما لحق به وصف الضرر أنه تجب إزالته،
وتبييض الأموال من هذا الباب.
2 - «إذا سقط الأصل سقط الفرع» [28] .
والقاعدة تفيد بطلان الفرع إذا بطل الأصل، يبين هذا القاعدة التالية.
3 - «التابع تابع» [29] ؛ حيث تفيد أن الفرع يتبع حكم الأصل.
وعلى ذلك؛ فإن نتاج المال الحرام يأخذ حكم ما نتج عنه وهو الحرمة، وذلك
أن الأموال المحرمة نتاج جرائم محرمة في الأصل فتبعتها في الحكم؛ وعليه تفيد
القاعدة الأولى أن جميع العقود والمعاملات الناتجة من تلك الأموال تسقط، ولا
تكون منتجة لآثارها المباحة شرعاً.
4- «ما حرم أخذه حرم إعطاؤه» .
ومعنى القاعدة أن الشيء المحرم الذي لا يجوز لأحد أن يأخذه ويستفيد منه؛
يحرُم عليه أيضاً أن يقدمه لغيره ويعطيه إياه؛ سواء كان على سبيل المنحة ابتداءً
أم على سبيل المقابلة؛ وذلك أن إعطاء الغير عندئذ يكون من قبيل الدعوة إلى
المحرم أو الإعانة والتشجيع عليه، فيكون المعطي شريك الفاعل، ومن المقرر
شرعاً أنه كما لا يجوز فعل الحرام فلا يجوز الإعانة والتشجيع عليه؛ لقوله تعالى:
[وَتَعَاوَنُوا عَلَى البِرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَان] (المائدة: 2) .
5 - «الحريم له حكم ما هو حريم له» [30] ؛ يريد ما لا يتم المحرم إلا به فهو
محرم، وأن الوسائل المفضية إلى الحرام محرمة كذلك.
وهكذا نرى تقارب تلك القواعد مع بعض الفروق في بعضها، وبعضها تدور
على نفس المعنى واللفظ.
* المبحث الخامس: حكم الأموال الناتجة عن المعاملات المختلف فيها؛ من حيث
الحرمة والإباحة:
ينبغي أن يُقال في هذا الموضع: «إنه ليس كل ما اعتقد فقيه معيَّن أنه حرام
كان حراماً، إنما الحرام ما ثبت تحريمه بالكتاب، أو السنة، أو الإجماع، أو قياس
مرجح لذلك، وما تنازع فيه العلماء رُدَّ إلى هذه الأصول. ومن الناس من يكون
نشأ على مذهب إمام معيَّن، أو استفتى فقيهاً معيَّناً، أو سمع حكاية عن بعض
الشيوخ، فيريد أن يحمل المسلمين كلهم على ذلك، وهذا غلط» [31] .
بعد ذلك نقول: إن المعاملات المختلف فيها بين أهل العلم قسمان:
1 - ما كان الخلاف فيه قوياً بحيث لم يصادم نصاً أو إجماعاً؛ بحيث تكون
الخلافات في الدلالات المستنبطة، أو تعارض ظواهر الأحاديث، وذلك أغلب سبب
اختلاف أهل العلم، كثمن الكلب، وثمن الحجامة، وكعقد بيع المعاطاة، وكعقد
المزارعة، وعقد المساقاة [32] ... ونحو ذلك.
2 - ما كان الخلاف فيه ضعيفاً، وقد بيَّن السيوطي حقيقة الخلاف الضعيف
غير المعتبر؛ من خلال شروط ثلاثة اشترطها في مراعاة الخلاف المقبول عند
الفقهاء، وهي:
1 - ألا تؤدي مراعاة الخلاف إلى الوقوع في خلاف آخر.
2 - ألا تؤدي مراعاة الخلاف إلى مخالفة سنة ثابتة.
3 - أن يكون الخلاف مما قوي مَدرَكُهُ؛ بحيث لا يُعَدُّ هفوة من قائله [33] .
وأمثلة هذا القسم: بيع العينة، وكبيع المرابحة للآمر بالشراء لكونه من بيع
ما لم يُملَك، كما أن الربا داخل فيه بصورته الحالية، وكمذهب عطاء في جواز
الاستمتاع بعارية الجواري قياساً على الاستمتاع بعارية الأعيان، وذلك قياس مع
الفارق بل هو زنا.
ومثاله في وقتنا: ما ذهب إليه الشيخ مصطفى الزرقا من إباحة التأمين بجميع
صوره؛ مخالفاً بذلك أصول الشريعة وقواعدها التي تحرم كل معاملة يدخلها القمار
والغرر، فخلاف الشيخ مصطفى في هذه المسألة ضعيف؛ لأن الحرمة فيه ظاهرة؛
فإن عقد التأمين من عقود المعاوضات المالية القائمة على الاحتمال المشتمل على
الغرر الفاحش [34] .
ويترتب على ذلك: أن كل عقد اعتقد المسلم صحته بتأويل من اجتهاد أو تقليد
لإمام، أو اتباع لبعض أهل العلم؛ فإن الأموال المكتسبة المقبوضة حلال وليس
عليهم إخراجها، فإن تبين لهم بعد ذلك أنهم كانوا مخطئين في تقليدهم، أو أن الذي
أفتاهم كان مخطئاً؛ فإنهم كذلك لا يكلفون بإخراج ما اكتسبوه، وإنما يُكلَّفون
بالانتهاء عن تلك المعاملات فيما يُستقبل [35] .
فالتأويل عذر يَسقُطُ به الإثم بشرط ألا يصادم نصّاً يفيد التحريم بصريح
الدلالة كالربا، والخمر ... ونحو ذلك.
ومن آثار ذلك أن الحرام لكسبه إذا اختلط بالحلال لم يُحَرِّمه، وهذا أصل نافع؛
فإن كثيراً من الناس يتوهَّم أن الدراهم المحرَّمة إذا اختلطت بالدراهم الحلال حَرُم
الجميع؛ فهذا خطأ. وإنما تورَّع بعض العلماء فيما إذا كانت قليلة، وأما مع الكثرة
فما أعلم فيه نزاعاً [36] .
ومن ذلك أيضاً أن المسلم إذا عامل معاملة يعتقد هو جوازها وقَبَض المال؛
جاز لغيره من المسلمين أن يعامله في مثل ذلك المال وإن لم يعتقد هو جواز تلك
المعاملة [37] .
* المبحث السادس: أسباب إباحة تملك المال الحرام:
1 - (الجهل) : فالجهل عذر مؤثر في رفع الإثم والعقوبة، وليس ذلك
مطَّرِداً في جميع أنواع الجهل، بل المقصود الجهل الذي يتعذر الاحتراز عنه عادة،
وما لا يتعذر عنه ولا يشق لم يُعف [38] . فلو كان حديث عهد بالإسلام أو نشأ
ببادية بعيدة ولم يَعلَم حكم الخمر؛ فإن ماله حلال قبل العلم، فإذا علِم حَرُم. وكذا
الرجل يجد اللُّقطة هي من أصل حرام وهو يجهل ذلك.
2 - (الإسلام) : فإن الرجل إذا أسلم كان ما معه من المال حلال وإن كان
نتاج معاملة محرَّمة، يدل عليه ما رواه البخاري في صحيحه: عن عروة بن
مسعود الثقفي رضي الله عنه: كان المغيرة بن شعبة صحب قوماً في الجاهلية،
فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما
الإسلام فأقبل، وأما المال فلستُ منه في شيء» [39] . فامتناع الرسول صلى الله
عليه وسلم عن تخميس هذا المال وتركه في يد المغيرة دلَّ على تمليكه له بالأخذ.
وروى البيهقي في سننه عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه كان يقول في
أهل الذمة: «لهم ما أسلموا عليه من أموالهم وعبيدهم وأرضهم وماشيتهم؛ ليس
عليهم فيه إلا الصدقة» [40] .
وقد أسلم في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق كثير من المشركين،
ودخلوا في دين الله أفواجاً، ولم يسأل أحداً منهم عن مصدر كسبه، ولا عن الأموال
التي حازوها: أمِن حلال هي أم من حرام؟ بل أقرهم على أموالهم وأنكحتهم [41] .
3 - (الاستحالة) : فإن زوال علة التحريم في المال موجبة لزوال حكم
التحريم؛ إذ الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً؛ وعليه فلو وهب المغصوب منه
للغاصب ما غصبه أو سرقه حل له الانتفاع بذلك المال، وكذا لو استحال عين المال
كأن ينقلب خَلاًّ (بدون فعل فاعل) ؛ فإنه يجوز الاتجار في ذلك.. وهكذا.
4 - المال المأخوذ بأمر شرعي ممن لا حرمة له؛ كالمال المتحصل من جهاد
الكفار الذين لا أمان لهم مع المسلمين ولا عهد كالغنائم، وكالجزية المضروبة على
أهل الذمة؛ مع أنه يدخل في كسبهم نتاج لحم الخنزير والخمور والربا وغير ذلك
من المحرمات.
يدل على ذلك ما روي من أن بلالاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن
عمالك يأخذون من الخمر والخنزير في الخراج، فقال: «لا تأخذوا منهم، ولكن
ولُّوهم بيعها، وخذوا أنتم من الثمن» .
قال راوي الحديث: أبو عبيد: «يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل
الذمة الخمر والخنزير من جزية رؤوسهم وخراج أراضيهم بقيمتها ثم يتولى
المسلمون بيعها. فهذا الذي أنكره بلال ونهى عنه عمر، ثم رخَّص لهم أن يأخذوا
ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذمة هم المتولين لبيعها؛ لأن الخمر والخنزير مال من
أموال أهل الذمة، ولا تكون مالاً للمسلمين» [42] .
* المبحث السابع: الفرق بين حقوق الله وحقوق المخلوقين في المال الحرام:
الأموال المحرمة المقبوضة على قسمين:
1 - قبضُها بغير إذن صاحبها ولا إذن الشارع، وهذا هو الظلم المحض:
كالسرقة، والخيانة، والغصب الظاهر، وهذا أشهر الأنواع بالتحريم.
2 - قبضُها بغير إذن الشارع ولو أذن صاحبها وهي العقود والقبوض
المحرَّمة: كالربا، والميسر ونحو ذلك، والواجب على من حصلت بيده ردُّها إلى
مستحقها، فإذا تعذر ذلك فالمجهول كالمعدوم، وقد دلَّ على ذلك قول النبي صلى
الله عليه وسلم في اللقطة: «فإن وجدت صاحبها فارددها إليه، وإلا فهي مال الله
يؤتيه من يشاء» . فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن اللُّقطة التي عرف أنها ملكٌ
لمعصوم وقد خرجت عنه بلا رضاه إذا لم يوجد؛ فقد آتاها الله لمن سلطه عليها
بالالتقاط الشرعي [43] .
وتقريراً لذلك نقول: إن المال المحرَّم ما كان منه في حقوق الله كالسرقة من
مال عام، وكالرشوة، والتزييف، والمخدرات، والربا، وفي الجملة: كل ما حرم
لعينه كالخنزير والخمر، أو بوصفه كالربا، فهذه ليس لها مالك معين خاص، أو
كانت نتاج محرم تراضى عليه المتعاقدان، فالحكم الشرعي في ذلك كله مصادرة
الأموال المتحصلة من تلك المعاملات وتعزير صاحبها [44] .
أما الحقوق الخاصة بالمخلوقين كالسرقة لملك إنسان بعينه، أو غصب مال
شخص ونحو ذلك، فهذا إن عُرف صاحب المال وإلا صُرفِ في مصالح المسلمين
[45] .
وما ينطبق على الأفراد ينطبق على الدول، فالمال المرحَّل نتيجة معاملات
محرمة هو من حق الدولة التي رُحِّل المال منها؛ دليله قوله تعالى: [إِنَّ اللَّهَ
يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا] (النساء: 58) .
* المبحث الثامن: طبيعة جريمة تبييض المال الحرام:
لقد جرى أو يجري الخلاف في طبيعة جريمة (تبييض الأموال المحرَّمة) ؛
من حيث كونها جريمة أصلية أو تبعية، والذي يظهر أنها أصلية من حيث الصورة؛
إذ لم يُسبق إليها؛ فهي جريمة منظمة ذات أنماط حديثة، وهي في الوقت نفسه
تبعية من حيث إنها تستمد حكمها الشرعي الموصوف بالتحريم مما تولدت عنه،
ويتبين ذلك بما يلي:
إن الشرع عندما يحكم على المال بوصف شرعي يتناول الحل والحرمة؛ فإنا
نجده ينظر إلى ما يستتبعه هذا المال؛ فإن كان في مقابل محرم، أو نتاج محرم:
اكتسب وصف الحرمة، وإن كان في مقابل مباح أو نتاج مباح: اكتسب وصف
الحل، فعلى هذا فحكم المال تابع لحكم عِوَضِه أو ما تولد عنه، وهذا يندرج تحت
القاعدة الشرعية السابق ذكرها (التابع تابع) ، فالمال تجري عليه الأحكام الخمسة:
وهي الإباحة، والإيجاب، والتحريم، والكراهة، والندب. فهو منُوط بأحد هذه
الأحكام بحسب ما يستتبعه.
وبناءً على ذلك فعملية (تبييض الأموال المحرمة) وهي جعل الأموال
المتولدة عن جرائم محرمة، مباحة في الظاهر جريمة أصلية، وذلك أن ما هو ناتج
عنها مقصود [46] منها هذا المال بقصد الاتجار به [47] ، فمثلاً من كان يأخذ الأجرة
على الزنا فإنه قاصد للمال من تلك المنفعة المحرمة فحسب.
أما الذي يبيض الأموال فهذا قاصد للمال من أجل الاتجار به في سلعة مباحة،
فخرج المال الحرام بذلك من كونه فرعاً إلى كونه أصلاً [48] .
فكون المال محرماً لا يجعله جريمة تبعية من حيث الحكم بل من حيث
الصورة، فالربا جريمة مستقلة في الشريعة وهي مالية، والرشوة جريمة مستقلة
وهي مالية كذلك، والقمار جريمة مستقلة وهي مالية أيضاً.
وذلك - والعلم عند الله - لاختلاف القصد والوسيلة والصورة، وذلك سبب
في اختلاف الاسم، والاختلاف في الاسم اختلاف في المسمى ضرورة ولو بوجه
من الوجوه؛ وذلك سبب في اختلاف الأحكام التعزيرية.
بالإضافة إلى ذلك فإن جريمة تبييض الأموال القذرة هي من (الجرائم
المركبة) ؛ أي الجريمة المتولدة عن جريمة أخرى، وكونها مركبة لا يعني ذلك
جعل عقوبتين منفصلتين على كل من تورَّط بجريمة المال القذر إلا إذا تيقَّنَّا تورُّط
الشخص نفسه في الجريمة الأصلية أيضاً؛ إذ قررنا آنفاً أن جريمة تبييض الأموال
جريمة مستقلة ذات صورة مميزة لا تدخل تحت حكم الأصل الذي نشأت عنه،
وعلى هذا الأساس يختلف النظر في الحكم التعزيري بين المال المحرم المتَّجَرِ فيه
وبين الأصل المحرَّم الذي تولَّد عنه ذلك المال.
يبقى بعد ذلك أن صاحب الشأن في تحديد العقوبة المناسبة هو الحاكم؛ إذ إن
هذه الجريمة هي في العقوبات من باب التعازير، ومعلوم أن جريمة تبييض الأموال
لا يمكن ضبطها تحت عقوبة واحدة تنتظم جميع صورها؛ إذ إن الحادثة الواحدة
وإن تعدَّدت صورُها فلا بد أن تختلف في الوصف والمقدار، وبحسب اجتهاد
القاضي فإنه يوقع العقوبة التي يُظن معها أنها أردع للجاني والأقرب إلى تحقيق
قصد الشارع، وليس بالضرورة أن يكون حكمه في حادثة منها هو الحكم نفسه في
كل ما هو من جنسها، بل يُراعى في ذلك عدة أمور كنوع الجناية وقدرها،
والفاعل لها، والوقت الذي وقعت فيه [49] ، وكذا المكان، وشواهد الحال المحيطة
بالمتهم، وأوصاف المتهم في قوة التهمة وضعفها، وهكذا [50] .
وفي ختام هذا البحث أشير إلى أمر مهم للغاية وهو: أن الكسب الخبيث غير
مقتصر على المخدرات، أو القمار، أو الدعارة ... إلخ، بل يُعَد مالاً حراماً كل ما
كان من كسب حرام، وإنما تشتكي معظم الدول من عمليات تبييض المال القذر؛
لأن المال يرحَّل منها بالدرجة الأولى، والمال لا يتم ترحيله إلا لأنه نتاج عمليات
تمنعها أنظمة تلك الدول، ولكن ما بال بقية الأموال المستثمرة في داخل تلك الدول
نفسها وتتمتع بكامل الحرية، بل وقد يتم تقنينها في نفس الأمر كالبنوك الربوية،
وكالمؤسسات الإعلامية بجميع وسائلها المرئية والمسموعة والمقروءة، وكالمكوس
المسماة في النظام بالضرائب، والرسوم وغير ذلك كثير مما يضيق عنه الحصر؟!
كما أنَّا نجد النظام الغربي كذلك يقصر المال الحرام على صور خاصة، ولا
يطردون ذلك في كل مال لم يأت من وجه مباح كما في شريعة الإسلام؛ فهم
يقصرون قذارة المال: على المخدرات، وبيوت الدعارة، وبيع السلاح.. بمعنى
كل ما يجرمه النظام من الأكساب الممنوعة لديهم فإنه مال قذر عندهم، ولكنهم
كعادتهم يُفرقون بين المتماثلات؛ فلا تجدهم يمنعون الربا مثلاً بل يقرُّونه ويقننونه،
وكالضرائب، وأثمان الخنازير والخمور والكلاب، وكصالات القمار وآلاته وغير
ذلك كثير.
أما الشرع فهو يفرق بين المختلفات ويجمع بين المتماثلات؛ فهو إذا حرم
أمراً لعلة حرم جميع ما تضمنته هذه العلة كالربا.
أما ذوو العقول القاصرة بلهَ العقيمة فقد سوَّوْا بين المختلفات في ذلك فقالوا:
[إِنَّمَا البَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا] (البقرة: 275) ، فجعلوا الربا أصلاً، والبيع فرعاً عنه؛
فهم قد بلغوا في الانتكاس إلى الغاية التي انقلبت معهم فيها موازين الأشياء؛ فهم
لا يزنون بالميزان الشرعي الأخروي، وإنما بالميزان العقلي الدنيوي، [أَفَحُكْمَ
الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ] (المائدة: 50) .
نسأل الله أن يرزقنا العلم النافع، والعمل الصالح، واليقين فيهما. وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين.