ملتقى البيان الثقافي
يحفل العالم اليوم بالكثير من المتغيرات والتحولات على شتى المستويات
السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية، وتختلط الأحوال على كثير من الناس،
وتكثر الفتن والشبهات، ويتصدر الإعلام الغربي والعلماني فضاءنا الإعلامي ليمعن
في التشويه والتضليل؛ ولذا كان لزاماً على الدعاة والمصلحين أن يكون لهم قصب
السبق والمبادرة في تبصير الأمة وتوضيح مسارها.
وتحقيقاً لهذا المطلب فقد يسر الله تعالى لمجلة البيان إقامة (الملتقى الثقافي
الأول) في قاعة الصداقة في مدينة الخرطوم بعنوان: (المسلمون والمتغيرات..
إلى أين؟) ، في الفترة من 16 - 21 رجب 1423 هـ، شارك فيه جمع من
أهل العلم والفكر، وتضمن سلسلة من الفعاليات والأنشطة العلمية والثقافية، نذكر
أهمها فيما يأتي:
أولاً: المحاضرات المسائية:
وقد تم بثها على شبكة الإنترنت، وهي خمس محاضرات، تناول فيها
المشاركون عدداً من جوانب قضية المتغيرات وأثرها على المسلمين.
وقد قام بالتعليق والمداخلة في كل ليلة واحد أو اثنان من العلماء والدعاة،
وكانت المحاضرات على النحو الآتي:
1 - الصراع الحضاري ومستقبل المسلمين:
ألقاها فضيلة الأستاذ الدكتور جعفر شيخ إدريس. تناول فيها مفهوم الحضارة،
وبيَّن أنه لا توجد حضارة إسلامية معاصرة حتى يمكن أن نقول إن هناك صراعاً
مع الحضارة الغربية، وإنما تتمثل المشكلة في محاولة الدول الغربية فرض
حضارتها وثقافتها على العالم. ولخوف الغرب من عودة الأمة الإسلامية لحضارتها
وقوتها، ولكي يضمن عدم بعثها من جديد؛ اتخذ هدفين هما: العمل على ألا يعود
المسلمون للفهم الصحيح للدين، وألا تكون لهم قوة مادية. ثم أشار إلى التطور
التاريخي لمحاولات الغرب للقضاء على الحضارة الإسلامية، والتي انتهت في هذا
العصر إلى تفرد أمريكا بالقوة، ومحاولة فرض هيمنتها على العالم الإسلامي.
وبعد أحداث 11 سبتمبر عاد الحديث بشدة في الغرب عن خطر الإسلام،
ودارت نقاشات كثيرة حول كيفية التعامل مع المسلمين، وكانت هناك ثلاثة حلول
تتمثل في: إزالة الفهم الحرفي للإسلام وإيجاد صورة جديدة له تتلاءم مع الواقع
الغربي، ومعالجة الأسباب الاجتماعية التي يرون أنها تؤدي لعداء الغرب،
ومعالجة القضية الفلسطينية.
وفي ختام المحاضرة أكد أن فرص بعث الحضارة الإسلامية متوفرة؛ فقد
ضمن الله تعالى لهذه الأمة ألا ترتد ردة كاملة إلى الجاهلية، ومن براهين ذلك: أن
الإسلام هو فطرة الله التي فطر الناس عليها، وأنه أكثر الأديان انتشاراً في الأرض،
وأن الناس يجدون فيه تصادقاً بينه وبين مقتضيات العقل، وأن العلم التجريبي
يشهد له ولا يشهد عليه.
2 - الثبات في زمن المتغيرات:
ألقاها فضيلة الشيخ الدكتور إبراهيم الدويش. دارت المحاضرة حول عدد من
النقاط:
أولاً: أدوات التغيير: وتتمثل في وسائل الإعلام كالبث المباشر، والمجلات،
وشبكة الإنترنت، وكذلك الدعاية والإعلان التي لها أثر كبير في الناس، ثم هناك
السفر إلى الخارج. ونبه إلى أن من التغيير محموداً ومذموماً، فالمحمود هو التغير
إلى الأحسن ما دام منضبطاً بالثوابت الشرعية، أما المذموم فهو التأثر بتيارات
الأخلاق والتصورات المخالفة للإسلام.
ثانياً: أمثلة على المتغيرات: تناول فيها أمثلة عديدة من التغيرات التي
أصابت المجتمعات الإسلامية على مستوى المظهر واللباس، وعلى مستوى الأفكار
والتصورات، ومن أهم ما ذكر: التشبه بالكافرين في لباسهم وأخلاقهم، تسلل الفكر
العلماني، الأخذ برأي الأغلبية في مسائل حسمتها الشريعة، تمييع الأحكام الشرعية
وإيراد الأقوال الشاذة والشبهات عليها كما في مسألة الغناء، وكشف الوجه. ونبه
إلى أن خطورة التشبه بالكافرين تكمن في أن التقليد انهزامية، وفقدان للهوية، وأنه
يورث محبة الكافرين، ويقود إلى التأثر بالعقائد الباطلة.
ثالثاً: أصناف الناس في قضية المتغيرات: بيَّن أن منهم من ركب قطار
الحضارة الغربية دون حذر ولا زاد. ومنهم من أُركب قطار الحضارة الغربي
وغُسل عقله ليكون سهماً ضد قومه. ومنهم من رفض الركوب إما ورعاً، وإما رد
فعل للصنف الأول. ومنهم من أخذ من الحضارة الغربية محاسنها، وسعى لنشر
الهداية في بلادها، مع حذر من زيفها.
رابعاً: وسائل الثبات في زمن المتغيرات: ومن أهم ما ذكره: وضوح
الهدف والغاية من الخَلْق، وضوح المنهج والالتزام بسبيل المؤمنين، القناعة
والرضى بالدين، والاعتصام بالله، تنظيم الوقت، كثرة الذكر، المحافظة على
الفرائض، طلب العلم الشرعي.
3 - المسلمون في ظل المتغيرات الدولية:
ألقاها فضيلة الشيخ عبد العزيز مصطفى كامل. في بداية المحاضرة بيَّن
فضيلة الشيخ أن القرن الماضي يعد قرناً استثنائياً في حياة الأمة، تتمثل أبرز
معالمه في غياب الكيان الإسلامي الواحد (الخلافة) ، وذكر أن غياب هذا الكيان
من أكبر الأسباب لأكثر المشكلات التي تعيشها الأمة من الاستضعاف وتسلط
الأعداء.
وذكر أن الكيان الإسلامي (الخلافة) يقوم على معرفة الدين، والامتثال له،
والاجتماع عليه، والدعوة إليه، وبقدر توفر تلك الأركان تتوافر للمسلمين القوة
والتمكين.
وذكر أن أعداء الأمة جعلوا القضاء على هذا الكيان هدفاً أولياً، وكانت
بدايات هذا القرن هي بدايات الشروع الفعلي في إسقاط الكيان الإسلامي العالمي
متمثلاً في الدولة العثمانية، وكانت مراحل تطبيق هذا الهدف هي باختصار أحداث
العالم الإسلامي في القرن المنصرم.
ثم استعرض متغيرات القرن الماضي، مقسماً سنواته أربعة أقسام، يمثل كل
منها ربع قرن، وأخذ يتناول أبرز الأحداث في كل قسم مبيناً أثرها على المسلمين.
ومن الملاحظات المهمة التي لفت الشيخ عبد العزيز النظر إليها: أن القضية
الفلسطينية كادت أن تغيب من برامج الإسلاميين في فترة المد الثوري وتصدي
العلمانيين للقضية، وعلل ذلك بأنه ربما لأن الإسلاميين رأوا القضية واجهة
للعلمانيين. ثم تساءل: أين المسلمون في ظل تلك المتغيرات التي جعلتهم في ذيل
الأمم؟ وذكر أن كل محاولات العودة للكيان الإسلامي كانت تقف أمامها الأنظمة
العلمانية، ثم تولت أمريكا تلك المهمة لكي تصفي كل عناصر القوة في العالم
الإسلامي، مبيناً أن الغثائية التي وقع فيها المسلمون جعلت محصلة ما بأيديهم من
قوى صفراً.
وذكر أن النظم العلمانية أفلست في مجالات الحروب، كما أفلست في مجال
السياسة؛ حيث خدعوا الأمة بعمليات السلام التي قادت إلى سراب، وينتهي الحال
إلى تهديد الدول العربية كلها بالضرب والحرب، ولا نجد من يُظهر ولو إرادة
التحدي، وإنما اللهجة السائدة على لسان تلك الأنظمة أن الأمة ليست مستعدة!
أما أبرز المتغيرات في أول القرن الجديد فهي: انقلاب اليهود على مشروع
السلام، وظهور الانتفاضة الثانية التي أربكت خطط شارون على الأقل إلى حين،
وأحداث سبتمبر، وتناولها من حيث آثارها مبيناً أن الإعلام العلماني والغربي لم
يقصرا في ذكر الآثار السلبية.
أما الآثار الإيجابية التي ينبغي أن يستثمرها المسلمون فهي: ظهور الوجه
الحقيقي للغرب وأمريكا، وانكشاف الحجم الحقيقي لقوة أمريكا، وإثبات أن بإمكان
الأمة في نطاق الجهاد الشرعي أن يلحقوا الأذى والإذلال بأشد الأعداء. كما
أظهرت تلك الأحداث حقارة النظم العلمانية؛ حيث أرضى النظام الباكستاني الغرب
على حساب المسلمين؛ مما يبين أنهم ليسوا أمناء ولا أهلاً لمواجهة أعداء الأمة.
4 - القضية الفلسطينية في ظل المتغيرات الدولية:
ألقاها فضيلة الدكتور عبد الغني التميمي. افتتح الدكتور عبد الغني التميمي
محاضرته بالتنبيه إلى وجوب أن نفقه المتغيرات الدولية وفق السنن الإلهية؛ لأن
فهم المتغيرات خارج الرؤية الإسلامية يوقع الناس في أوهام وتخبطات كثيرة. ثم
بدأ بذكر ثوابت القضية من منظور إسلامي، وهي:
1 - فلسطين أرض إسلامية مغتصبة، واليهود تحولوا من أهل ذمة إلى
محاربين يجب قتالهم.
2 - القضية الفلسطينية قضية إسلامية، ومحاولة جعلها شأناً فلسطينياً هو
توجه صهيوني.
3 - هذه القضية هي القضية المركزية المحورية للأمة، وأي محاولة لإبعاد
القضية عن مركزيتها هو اعتداء على مسلَّمات الدين.
وبيَّن أن كل ما يتم تحت مسميات (التطبيع، السلام) لا يمت بصلة لما هو
معروف في أحكام الفقه الإسلامي بـ (الصلح والهدنة) .
أما محاولات التأثير على القضية في ظل المتغيرات الدولية، فقد ركز فيها
على التوظيف السياسي من قِبَل اليهود للبعد الديني في الصراع، وأنهم قد
استطاعوا أن يجعلوا البعد الديني يشكل مرتكزاً للصراع في السياسة الأمريكية،
وذلك في تحالف صهيو إنجيلي.
وأورد عدداً من الأمثلة التي توضح مدى تأثير البعد الديني على السياسة
الأمريكية، منها كما ذكرت جريس هاليسل أن الكونجرس الأمريكي لا يجتمع
لاتخاذ قرار إلا في وجود مندوب من الحركة الإنجيلية ليتواءم القرار مع المعتقد
الديني للحركة، وأن الشعارات التي أطلقها بوش (الحرب الصليبية، العدالة
المطلقة، محور الشر) هي مصطلحات دينية للحركة.
5 - رؤية في تقارب الأديان:
ألقاها فضيلة الدكتور أحمد القاضي. دارت المحاضرة على أربعة محاور:
المحور الأول: بيَّن فيه مفهوم الدين، ومدلول التقارب، موضحاً خطأ
التعبير الشائع (الأديان السماوية) ، (الأديان الثلاثة) ، ثم ذكر من صور التقارب
: صورة التسويغ، بمعنى تسويغ جميع الأديان، ويمثلها في الماضي أصحاب وحدة
الوجود، وفي الحاضر أصحاب الدعوة الإبراهيمية. وصورة التلفيق، وهي نحت
دين ملفق من أديان كثيرة، ويمثلها في السابق إخوان الصفا والبهائية، وظهر حديثاً
المونية (مونيزم) . وصورة التقريب، وتسعى إلى إبراز أوجه الاتفاق، وإغفال
أوجه الاختلاف، والامتناع عن نقد الآخر، ويمثلها قرارات المجمع الفاتيكاني
الثاني.
أما المحور الثاني: فقد أعطى فيه رؤية تاريخية، استعرض فيها تاريخ
محاولات التقريب، موضحاً أن تلك المحاولات قد حسمت في العهد النبوي حينما
أنزل الله تعالى سورة الكافرين، وغيرها من الآيات التي تفضح وتكشف أهداف
اليهود والنصارى من محاولات التقريب، مثل قوله تعالى: [وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ
الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداًّ مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ
الحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ] (البقرة:
109) . وبين أنه لم يعهد طوال التاريخ الإسلامي أن دعا أحد إلى التقارب إلا
بعض الشواذ الذين لا يعدون من أهل الإسلام، ذكر منهم أصحاب وحدة الوجود،
والحلاج، وإخوان الصفا، والإمبراطور المغولي (أكبر) ، والبهائية، والحركة
الماسونية، منبهاً أن من بين من وقعوا في حبائل الماسونية ودعوا إلى تقارب
الأديان جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده.
وفي المحور الثالث: أعطى رؤية وصفية معاصرة لمحاولات التقارب بين
الأديان، بيَّن فيها أن هذه القضية ظهرت في العصر الحديث مع التغير الجذري
الذي حدث في تاريخ الكنيسة، حيث قرر المجمع الذي عقد في الستينيات أن
الكنيسة الكاثوليكية لا تنقد شيئاً مما جاء في الديانات، ودعا المجمع إلى التخلص
من المنازعات والعداوات بين المسيحيين والمسلمين. ثم ذكر أمثلة من مظاهر
التقارب؛ منها عقد مؤتمرات التقارب، الصلوات المشتركة، مجمعات المعابد،
الدعوة إلى طباعة الإنجيل والتوراة المحرفين مع القرآن الكريم، إقامة مجمعات
سكنية تجمع أهل الأديان.
وختم برؤية شرعية وضح فيها أن الطريقة النبوية في خطاب أهل الأديان الأخرى
هي الدعوة المباشرة للإسلام، دون الدخول فيما يسمى بالبيان المشترك، أو إبراز
أوجه الاتفاق دون الاختلاف والافتراق.
ثانياً: أمسية شعرية:
شارك فيها الدكتور عبد الغني التميمي، والأستاذ أحمد محمد إسماعيل.
ثالثاً: المحاضرات العامة:
أقيمت سلسلة من المحاضرات العلمية والفكرية والتربوية في عدد من
الجامعات والمساجد.
رابعاً: الدورات العلمية، وقد أقيمت دورتان:
الأولى: في مهارات التفكير، قدمها فضيلة الشيخ محمد الدويش.
والأخرى: في شرح مقدمة ابن أبي زيد القيرواني، قدمها فضيلة الشيخ
الدكتور أحمد القاضي.
وأقيم على هامش الملتقى الثقافي معرض للكتاب والشريط الإسلاميين.
وقد حظيت هذه الفعاليات ولله الحمد والمنة بإقبال كبير، وحضور حاشد، من
شتى الاتجاهات الإسلامية رجالاً ونساءً. وكانت فرصة كبيرة للحوار وتبادل
الآراء.
نسأل الله تعالى أن يرفع الدرجات، ويحسن النيات، وأن يجعلنا من
المتواصين بالحق المتواصين بالصبر.