في دائرة الضوء
مقالة في الفلسفة السياسية
مدى الفاتح
في أوقات المنافسات الحزبية والانتخابية تكثر أكثر من أي وقت آخر الوعود
السياسية ويزداد التنظير السياسي، وفي هذه المرحلة يستخدم السياسيون كثيراً من
العبارات البراقة والفضفاضة التي تصلح للتفسير بحسب وجهة نظر السياسي المعين
وحسب مصلحته، ومن هذه العبارات ما يُخترَع بحسب الحاجة، ومنها ما يعاد
اجتراره واستخدامه بصورة جديدة؛ ولعل عبارة: «الديمقراطية المستدامة» هي
مما يدخل في إطار ذلك النوع الأخير.
ومنذ البدء يحملنا المنظر السياسي لا سيما إذا كان ينتمي إلى العالم الإسلامي
على تجاهل المدلول اللغوي المباشر لكلمة «ديمقراطية» الذي لا يعدو أن يكون
«حكم الشعب» أو «التحاكم إلى الشعب» ؛ لتعارض هذا المعنى صراحة مع
أبسط قواعد العقيدة الإسلامية التي تعطي الحاكمية المطلقة في الدين والدنيا لرب
الشعب.. ونجد أنفسنا مضطرين للتعامل مع الديمقراطية بوصفها النظام الذي
تتلاقى فيه قيم الحرية والمساواة والعدل، وتراعى فيه حقوق الشعب والمواطن،
وتنفذ فيه وصايا الأغلبية كما تراعى حقوق الأقلية؛ وهو النظام الذي يسود فيه
الرضا المتبادل بين الحاكم والرعية؛ فالحاكم ليس سوى ممثل لطموحات شعبه
وإرادة مواطنيه؛ وبذلك يصبح النظام الديمقراطي النظام النموذج، وتتعالى بذلك
النداءات الشعبية التي تطالب بتطبيق النظم الديمقراطية التي تلبي احتياجات
المواطنين وتطلعاتهم. ثم ينطلق المنظر السياسي بعد أن يثبت في أفهام الجماهير
هذا الفهم القاصر والحالم للديمقراطية يتحدث عن الديمقراطية المستدامة التي يمكن
فهمها على ضوء ما سبق بأنها الديمقراطية التي تمتلك أسباب بقائها، وتنحدر من
وجدان كل من المؤسسة الحكومية والشعب على حد سواء، ويعمل كل منهما
على تثبيتها وتطويرها، وعادة ما يؤخذ الغرب والولايات المتحدة خصوصاً مثالاً
يحتذى في الوعي والتقدم الديمقراطي.
إلا أن كل هذه الكلمات الجميلة سرعان ما تفقد بريقها حينما تعرض على
واقعنا المنظور، فيعترف دعاة الديمقراطية أنفسهم بأن أحلامهم في الحرية
والمساواة لم تطبق كما أريد لها في أي نظام سياسي عبر تاريخ الممارسات
الديمقراطية الطويل؛ ليس ذلك فقط؛ بل إن الديمقراطية الغربية قد بدأت تفقد
رواجها وجاذبيتها حتى في منشئها الأوروبي؛ فقد كشف استطلاع واسع للرأي
أجراه معهد «لينزباخ» الألماني أن نصف الألمان فقدوا ثقتهم بالديمقراطية [1] .
وفي الحقيقة فإن أولئك الذين بدؤوا الدعوة للفكرة الديمقراطية من المفكرين
والفلاسفة الأوروبيين أمثال «جوزلوك» و «جان جاك روسو» وغيرهم كانوا
أول من أحس بتناقض دعوتهم؛ فهم كانوا يبحثون عن حرية مطلقة لا توجد؛ فلما
أيقنوا بذلك عرّفوا الديمقراطية على أساس أنها النظام الذي تتفق فيه الأغلبية على
التنازل عن بعض حرياتها وقالوا: إن حريتك تنتهي حينما تبدأ حرية الآخرين.
أما أول صدمة تعرضت لها الديمقراطية بشكلها الحديث كانت إبان الثورة
الفرنسية التي كانت تحمل شعارات الحكم الديمقراطي؛ فقد كانت صدمة قاسية جداً؛
إذ بدأت هذه الثورة عهدها بإرهاب شديد وقمع لا نظير له وكثير من الجرائم؛
مما حدا بفيلسوف كبير مثل «جان جاك روسو» الذي عدّ كتابه (العقد الاجتماعي)
إنجيلاً للثورة الفرنسية أن يعتزل الناس ويصاب بالقلق والإحباط والصراع النفسي
الشديد [2] ؛ ومنذ ذلك الوقت المبكر بدأ الحديث عن التجارب الديمقراطية؛ حيث
توهم المنظِّرون السياسيون أو حاولوا أن يوهمونا أن الأزمة ليست إلا مجرد أزمة
تطبيق وليست أزمة مبادئ، وأنه يمكن إذا ما تبنت الحكومات المناهج الصحيحة
أن تنزل هذه الشعارات إلى أرض الواقع، وأصبح هدف الأنظمة «المعلن» هو
توحيد المثال والواقع وتطبيق ديمقراطياتها بشكل مُرْضٍ أو بأقل الخسائر والضرر.
ومن مطلع القرن العشرين أصبحت الدول المستقلة ملزمة أو شبه ملزمة بتبني
مثل هذه الأطروحات؛ فالضمير العالمي كله معبأ ليقف ضد الأنظمة الديكتاتورية
المتسلطة التي يعنون بها باختصار النظم غير الديمقراطية، وهكذا تترك العبارة
فضفاضة خاضعة لتفسير أهواء أصحاب المصالح في الشرق والغرب، وتصبح
الديمقراطية وتطبيقاتها الشغل الشاغل للأمم المتحدة ومنظماتها، فترفع التقارير،
وتعقد المؤتمرات، وتوضع «الديمقراطية» على رأس جميع أجندات العمل.
وأمام الضغط العالمي عبر وسائل الإعلام ومنظمات حقوق الإنسان لم تلبث
الحكومات في تاريخنا المعاصر إلا أن تحولت لحكومات ديمقراطية بين يوم وليلة
تسعى لتحقيق الديمقراطية حسب وجهة نظرها الخاصة وبقليل مما يسمى: (فلسفة
سياسية) استطاعت حتى الحكومات الأحادية المستبدة والشديدة الديكتاتورية أن تجد
مسوغات مقنعة تبرهن بها على أن الديكتاتورية قد تكون نوعاً من الديمقراطية الحقة
كحديث الشيوعيين الملاحدة عن «ديكتاتورية البروليتاريا» ، أو تفترض أن
تتوحد الحكومة والشعب معاً كما كان «هتلر» يريد أن يثبت إبان حكمه ورئاسته
لحزبه «الديمقراطي» .
وبجانب الدور الذي تلعبه الفلسفة السياسية في إقناع الآخر بمشروعية الرؤية
السياسية الخاصة يأتي دور القوة الاقتصادية والمصلحة السياسية؛ ومعهما لا يحتاج
النظام السياسي لكثير من الجهد في إقناع الآخرين ومحاولة تسويغ مواقفه. ومن
ذلك حديث الرئيس الأمريكي «بيل كلينتون» العام الماضي عن المثال
الديمقراطي في الهند إبان زيارته لـ «دلهي» ؛ فنحن جميعاً نعلم أن «كلينتون»
لا يهتم كثيراً بحريات المواطن الهندي على المستوى الشخصي، ولم يطلق
آراءه إلا من منظور المصلحة السياسية.
وهكذا يختلف تقييم التجارب الديمقراطية بحسب اختلاف فلسفة الناظرين
ومصالحهم؛ وفي حين نصف بلداً ما بأنه ديمقراطي يصر غيرنا على نفي هذه
الصفة بتاتاً عنه، وينطبق الحال على البلد الواحد؛ فترى السلطة على الدوام أنها
مثال الديمقراطية في حين تشتكي المعارضة باستمرار من الكبت والقمع اللذين لن
يزولا إلا بقيام نظام سياسي جديد.
والإشكالية الكبرى التي واجهت المنظرين السياسيين إبان تنزيل الفكرة
الديمقراطية الرومانسية على أرض الواقع شديد التعقيد والتناقض هذه الإشكالية
كانت وما تزال إشكالية تحديد الثوابت؛ فتركيا مثلاً حينما تصر على قمع الحجاب
تستند في ذلك إلى ثوابت الدولة العلمانية، وحينما تتنكر فرنسا لقضايا الحريات
وتطارد بعض الصحفيين والكُتاب الأحرار تستند إلى المصلحة العامة للشعب
الفرنسي، وكذلك الحال بالنسبة لكثير من الأنظمة التي يصل بها الحال إلى التنكر
علانية لنتائج الانتخابات الحرة وإعطاء نفسها حق تسمية النواب مثلما حدث العام
الماضي بالنسبة لانتخابات الجامعة الأردنية التي حصل فيها الإسلاميون والقوميون
في البداية على غالبية الأصوات.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: من الذي يحدد هذه الثوابت؟ فعلى
الصعيد النظري يمكن فهم الثوابت على أساس أنها ما اتفق عليه الشعب أو غالبيته،
أي أنها مبادئ وأولويات نابعة من صميم الشعب، ولا يمكن أن تفرض عليه بأي
حال من الخارج؛ إلا أن الذي يحدث في دول الانهزام هو أن رجالات الحكم
يتلاعبون بهذه الثوابت فيطوعونها لتناسب تحولات النظام العالمي وتغيراته؛ فتكون
الدولة المعينة راضية مرضية، وهنا تتشابك المصالح والأهواء الشخصية والحزبية
مع الثوابت والمبادئ؛ فلا تصبح الشريعة الإسلامية مثلاً من ثوابت الدولة المسلمة
وإن كان أغلبية سكانها من المسلمين، أو يحاول أهل التشريع فيها تفسير أحكامها
على ما يرضي الشرق والغرب، وتحميل معانيها ما لا يحتمل تفادياً للصدام مع
«الدول الكبرى» . قارن هذا الموقف الانهزامي المتخاذل الذي يتنازل بكل سهولة
عن ثوابت الشرع والعقيدة أو يجعلها على أخف تقدير محلاً للتفاوض والجدال
بمواقف اليهود التي ظلت ترتكز منذ بداية التفكير في إنشاء الدولة اليهودية وحتى
الآن على أساطير التوراة.
ودعاة الديمقراطية هم في أغلب الأحوال دعاة العلمانية لما بين المصطلحين
من تكامل، وربما بدت هذه الفكرة في العالم الغربي شديدة الوضوح، أما دعاة
الديمقراطية من المسلمين فهم يضعون أنفسهم في مآزق حرجة، ومن ذلك أن أحد
أقطاب الفكر العلماني يقول شارحاً: «إن الديمقراطية تستوجب التعددية الحزبية
والفكرية وحرية المناقشة والتفاهم، واستخدام الرموز الدينية في النظام الديمقراطي
يلغي مبدأ المنافسة المتساوية بين الأحزاب التي تمارس السياسة؛ لأن القواعد
الدينية هي أمور يجب إطاعتها كما هي؛ فلو تم استخدامها لأمور العامة تلغى
بطبيعة الحال حرية المناقشة والتعددية، هذا ما يعني نهاية الديمقراطية؛ وليست
الديمقراطية هي المتضرر الوحيد من هذه العملية؛ بل إن الدين أيضاً سوف
يتضرر من كونه أصبح مادة مفتوحة للنقاش» [3] .
وهكذا فالعدو الأول للديمقراطيين هم أهل الشرائع؛ فإذا علمنا أن النصرانية
تنص في نصوصها الصريحة على تحييد الدين في المسائل السياسية، إضافة إلى
عدم وجود أي نص يمكن تفسيره على أساس أنه بيان اقتصادي أو سياسي، وإذا
استثنينا اليهود باعتبارهم حالة خاصة، ولسيطرتهم على الإعلام وتوجيه القرارات
السياسية العالمية فلن يتبقى أمام الديمقراطيين عدو إلا الشريعة الإسلامية والمطالبون
بتطبيقها من المسلمين، وبدلاً من أن نعي حجم التحدي الذي نواجهه نظل نطالب
بالتعددية وندافع دفاعاً مستميتاً عن النظم الديمقراطية.
ومغالطة أخرى يحاول أصحاب الهوس الديمقراطي [4] إقناعنا بها، ألا وهي
زعمهم أن الغرب أنموذج للنظام الديمقراطي برغم أننا نعلم اليوم مدى تأثير رجال
المال والاقتصاد على السياسة الغربية حتى تصبح القرارات السياسية بيد طبقة دون
أخرى كما يفعل اللوبي اليهودي في أمريكا وغيرها فيسقط هذا الادعاء الزاعم أن
الشعب هو الذي يحكم، وقد تابعنا في الانتخابات الأمريكية الأخيرة كيف كان
المرشح «آل جور» ساخطاً على مسيرة العمل الانتخابي، وكيف كان يعتبر تقدم
«بوش» الابن خيانة للنظام الديمقراطي الأمريكي العريق.
والحق أن العمل الانتخابي وما يحتاجه من دعاية وتمويل يبدو في كثير من
الأحوال محتكراً وغير عادل، وهذه اللاعدالة هي التي تجعل مفكري الغرب اليوم
يبحثون عن وسائل لتعديل النظرية الديمقراطية بحيث تحتوي على تمثيل أكثر
صدقاً وعدلاً للمواطنين؛ فلا نتوقع مثلاً من «برنار تاي» رئيس نادي «ميلانو»
الإيطالي وصاحب شبكة القنوات التلفزيونية أن يبذل كثيراً من الوقت لعلاج
مشكلة الفقر والتنمية حينما يصبح نائباً في البرلمان، ومثل ذلك يقال عن «سلفيو
برلسكوني» ، رئيس نادي أوليمبك مرسيليا الذي كوَّن بسبب قدرته المالية الفائقة
حزباً سياسياً خلال شهرين ليفوز بواسطته بالأغلبية الانتخابية ثم يتولى منصب
وزير أول [5] .
ولعل الصورة تبدو أكثر وضوحاً إذا ما ألقينا نظرة على الظلال العالمية
للفكرة الديمقراطية، فكم من الجرائم ترتكب سواء برعاية الدول الديمقراطية
الكبرى، أو بزعم الحفاظ على الديمقراطية وحقوق الإنسان.
انظر إلى قضايا البوسنة وفلسطين والعراق والسودان وغيرها من الدول
المسلمة، وإلى التدخل السافر في الشأن الداخلي للدول المستقلة، ثم إلى الفساد
والإفساد الذي يروّج له تحت هذه المسميات البراقة والذي تعج به الدول الديمقراطية
المتقدمة وما يصحبه من دعوات للتحلل الأخلاقي وتسويغ لأشنع الجرائم كالزنا
والشذوذ وغيرهما من فنون الفساد.
وهكذا؛ فإن الإشكاليات التي تواجه فكرة أو حلم الديمقراطية المستدامة نظرية
وتطبيقاً كثيرة ومركبة؛ ذلك لأن الأزمة في اعتقادنا هي أزمة في الفكرة نفسها
وليس فيما يصاحبها من إسقاطات؛ فهي تقوم على تصور إلحادي ينازع المولى عز
وجل في حق من حقوقه وهو حق التشريع، وإعطائه للبشر أفراداً أو مؤسسات.
ونحن وإن كنا نجد العذر للكافرين الذين يحاولون البحث عن أي طريق لا
وحي فيه ولا غيب؛ فإننا لا نستطيع أن نعذر أولئك المنتسبين للإسلام الذين
يتعمدون إسقاط العقيدة الإسلامية من حساباتهم أو يحاولون المتاجرة بالقيم الإسلامية
الصحيحة كالشورى والمصلحة المرسلة؛ وما ذلك إلا لنيل رضى الكافرين والعياذ
بالله. أما الحل الذي نفهمه وندعو إليه فليس هو محاولة تعديل للفكر الديمقراطي؛
بل هو العودة الرشيدة للنظام الإسلامي الأصيل، وهنا يجب أن يكون الجهد
والمجاهدة.
والله من وراء القصد.