دراسات في الشريعة
(2 ـ 2)
د. عثمان جمعة ضميرية [*]
drothmanjd@hotmail.com
* توطئة:
كان الحديث في المقالة السابقة عن الأصل في العلاقات بين المسلمين وغير
المسلمين، وقد تبين أن هذا الأصل يقوِّم الدعوة وموقف غير المسلمين منها، فقد
تكون هذه التعاملات سلماً، وقد تتحول إلى حرب؛ فهي ليست الحرب بإطلاق،
وليست السلم بإطلاق.
وفي هذه الحلقة نعرض رأي بعض الكاتبين المعاصرين في هذه المسألة، ثم
نبدي بعض الملاحظات حياله، والله ولي التوفيق.
* سابعاً: مذهب معاصر:
في العصر الحديث ذهب بعض الكاتبين والباحثين إلى أن الأصل في العلاقات
بين المسلمين وغيرهم هو السِّلم [1] . ولم نجد أحداً من علمائنا وفقهائنا السابقين قال
بمثل ما قال هؤلاء المعاصرون [2] . حتى الذين تكلموا على قضية السلم لم يكن
كلامهم منصبّاً على القاعدة العامة المستمرة في العلاقات، وإنما على حالات معينة
يدعو الإسلام فيها إلى السلم والمصالحة والبر بالمخالفين. وجاء كلامهم هذا في
وقت كان المسلمون فيه يتربعون على قمة المجد؛ والعزةُ تملأ جوانحهم، والعدو
أشدَّ رهبة ... ومع ذلك وجدوا أنَّ سماحة الدين الإسلامي ومبادئه الفاضلة تدعو إلى
ذلك، ولن يُخشى أن ينتهي هذا الكلام بأحد إلى الدعوة لنبذ الجهاد وتركه حتى يقول
إنه لا يجوز الجهاد إلا عندما يقع العدوان علينا، ولو وقع فينبغي دفعه سلماً، ثمَّ
يكون التهافت على السلم الرخيصة الذليلة.
* ثامناً: أدلة المعاصرين:
استدل أصحاب هذا الاتجاه بأدلة من القرآن الكريم والسنة النبوية، ومن
القواعد الفقهية العامة ومن المعقول. ولكن النظرة الدقيقة إلى ما استدلوا به ترينا أن
عموم الأدلة التي استندوا إليها في غير محل النزاع، ولا تدل على ما ذهبوا إليه،
إن لم نقل إنها تدل على عكس ما ذهبوا إليه.
فمن القرآن الكريم: حشد أصحاب هذا الاتجاه مجموعة من الآيات الكريمة
هي الآية (208) من سورة البقرة، والآية (61) من سورة الأنفال، والآيتان
(90 و 94) من سورة النساء، كما استدلوا ببعض الوقائع التاريخية والقواعد
الفقهية التي ستأتي عند المناقشة بإذن الله تعالى.
* تاسعاً: مناقشة أدلة المعاصرين:
وبكلمة إجمالية نذكر أن هذه الأدلة قد وضعت في غير موضعها، وأنطقها
هؤلاء بما لم تنطق، وحمّلوها ما لا تحتمل. ويظهر هذا بالنظر في هذه الأدلة
واحداً بعد الآخر.
- أما الآية الأولى، وهي قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ
كَافَّةً] (البقرة: 208) . فإنها تأمر المؤمنين بالله تعالى المصدِّقين برسوله أن
يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره وترك جميع زواجره
ما استطاعوا من ذلك [3] .
يقول شيخ المفسرين الإمام أبو جعفر الطبري - رحمه الله -: اختلف أهل
التأويل في معنى «السِّلم» في هذا الموضع. فقال بعضهم: معناه الإسلام. قال
ذلك: ابن عباس ومجاهد وقتادة والسُّدي وابن زيد والضحَّاك. وقال آخرون:
بل معنى ذلك ادخلوا في الطاعة. قال ذلك الربيع بن أنس [4] . ثمَّ رجح التأويل
الأول وهو قول من قال معناه: ادخلوا في الإسلام كافة؛ لأن الآية مخاطب بها
المؤمنون؛ فلن يعدو الخطاب إذْ كان خطاباً للمؤمنين من أحد أمرين:
إما أن يكون خطاباً للمؤمنين بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم المصدِّقين به وبما
جاء به. فإن يكن ذلك كذلك، فلا معنى أن يقال لهم وهم أهل الإيمان: ادخلوا في
صلح المؤمنين ومسالمتهم؛ لأن المسالمة والمصالحة إنما يؤمر بها من كان يمارس
حرباً بترك الحرب. فأما المُوالِي فلا يجوز أن يقال له: «صالِحْ فلاناً» ولا
حربَ بينهما ولا عداوة.
أو يكون خطاباً لأهل الإيمان بمن قَبْلَ محمد صلى الله عليه وسلم من الأنبياء
المصدّقين بهم وبما جاؤوا به من عند الله، المنكرين محمداً ونبوته، فقيل لهم:
«ادخلوا في السلم» يعني به الإسلامَ، لا الصلح؛ لأن الله عزَّ وجلَّ إنما أمر عباده
بالإيمان به وبنبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإلى ذلك دعاهم، دون
المسالمة والمصالحة. بل نهى نبيه صلى الله عليه وسلم في بعض الأحوال عن
دعاء أهل الكفر إلى الصلح فقال: [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ
وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ] (محمد: 35) ، وإنما أباح له صلى الله عليه
وسلم في بعض الأحوال، إذا دعوه إلى الصلح، ابتداءَ المصالحة، فقال له جلَّ
ثناؤه: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] (الأنفال: 61) . فأما دعاؤهم إلى الصلح
ابتداءً فغير موجود في القرآن، فيجوز توجيه قوله: [ادْخُلُوا فِي السِّلْم] إلى
ذلك « [5] .
وحتى لو قلنا إن المراد» بالسِّلم «هو المسالمة والصلح وترك الحرب، فإن
ذلك عند من قال به يعود إلى المعنى الأول، حيث جوَّز أبو علي الفارسيّ أن يكون
» السلم «هنا بمعنى الصلح؛ لأن الإسلام صلح على الحقيقة. ألا ترى أنه لا
قتال بين أهله، وأنهم يدٌ على مَنْ سواهم [6] ؟ وسبب نزول الآية الكريمة يؤكد ذلك
[7] . فأصبح واضحاً من هذا أن هناك إجماعاً من علماء التفسير على أن الآية لا
تعني بحالٍ التعاملَ بين المسلمين وغيرهم.
ولو تنزلنا جدلاً وقلنا بذلك، فإنها لا تدل على ما يريده أصحاب الدعوة إلى
أن السِّلم هو الأصل في العلاقات الدولية؛ لأنها بذلك تعني أن الحرب كانت قائمة،
ثمَّ جاءت الدعوة إلى السلم والصلح، فلم يكن السِّلم أصلاً في التعامل.
- وأما قوله تعالى: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ]
(الأنفال: 61) ؛ فهو في سياق آيات سورة الأنفال التي تأمر بنبذ العهود إذا خيف
من الأعداء خيانة لها ونقض، مع تهديد الكفار والأمر بإعداد العدة والقوة لإرهابهم؛
حيث قال الله سبحانه وتعالى: [وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ
إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ] (الأنفال: 58) إلى قوله: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ
لَهَا] أي: إن خفت من قوم خيانة وغدراً فانبِذْ إليهم عهدهم على سواء، وآذِنْهم
بالحرب؛ فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتِلْهم، وإن مالوا إلى المسالمة إما
بالدخول في الإسلام، وإما بإعطاء الجزية ونحوها من أسباب السلم والصلح
كالمصالحة والمهادنة [فَاجْنَحْ لَهَا] أي: فمِلْ إليها واقبل منهم ذلك [8] .
ولذلك قال الإمام محمد بن الحسن بجواز الموادعة والمعاهدة للمشركين إذا لم
يكن بالمسلمين قوة، استناداً إلى هذه الآية الكريمة؛ لأن هذا من تدبير القتال؛ فإن
على المقاتل أن يحفظ قوة نفسه أولاً، ثمَّ يطلب العُلُوَّ والغلبة إذا تمكَّن من ذلك [9] .
فالآية الكريمة - إذن - إنما تتعلق بالهدنة؛ لأن» السِّلم «هاهنا معناها
الهدنة بلا خلاف. والهدنة عمل من أعمال الحرب. فهذا الحكم لا يفيد السلام الدائم
المطلق كما وهم المحتجون بذلك [10] .
هذا، وقد اختلف العلماء في حكم هذه الآية: هل هي محكمة أو منسوخة؟
على رأيين:
أ - ذهب بعض السلف إلى أنها منسوخة [11] ؛ فإن الميل إلى الصلح
والمسالمة، إنما كان قبل نزول سورة» براءة «، وكان النبي صلى الله عليه وسلم
يوادع القوم إلى أجل، فإما أن يسلموا وإما أن يقاتلهم، ثمَّ نسخ ذلك بقوله تعالى:
[فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ] (التوبة: 5) . وقوله: [وَقَاتِلُوا
المُشْرِكِينَ كَافَّةً] (التوبة: 36) . فأمر بقتال المشركين على كل حال حتى
يسلموا.
وقيل هي منسوخة بقوله تعالى: [قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ
الآخِرِ] (التوبة: 29) ، أو بقوله تعالى: [فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْن] (محمد: 35) .
ب - والرأي الثاني، وهو ما ذهب إليه عامة العلماء، من أن الآية محكمة
غير منسوخة. وهو ما رجحه الإمام الطبري؛ لأن القول بالنسخ لا دلالة عليه من
الكتاب ولا السنة ولا العقل؛ لأن الناسخ لا يكون إلا من نفي حكم المنسوخ من كلِّ
وجه. فأما ما كان بخلاف ذلك فغير كائن ناسخاً.
وقول الله تعالى: [فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ] (التوبة: 5) غيرُ
نافٍ حكمُه حكمَ قوله تعالى: [وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا] (الأنفال: 61) ؛
لأن هذه الآية إنما عنى بها بني قريظة، وكانوا يهوداً أهل كتاب، وقد أذن الله
تعالى بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحرب على أخذ الجزية منهم.
وأما قوله تعالى: [فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوَهُمْ] (التوبة: 5) فإنما
عُنِيَ به مشركو العرب من عَبَدة الأوثان الذين لا يجوز قبول الجزية منهم، فليس
في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى، بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنزلت فيه
[12] .
ولذلك قال الجصَّاص:» وإنما اختلف حكم الآيتين لاختلاف الحالين؛ فالحال
التي أمر فيها بالمسالمة هي حال قلة عدد المسلمين وكثرة عدوِّهم. والحال التي أمر
فيها بقتل المشركين وبقتال أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية هي حال كثرة المسلمين
وقوَّتهم على عدوهم، وقد نهى الله تعالى عن المسالمة عند القوة على قهر العدو
وقتلهم « [13] .
وقد أوجز الزمخشري القول في ذلك فقال:» والصحيح أن الأمر موقوف
على ما يرى فيه الإمام صلاحَ الإسلامِ وأهلِهِ من حرب أو سلم، وليس بحتم أن
يقاتَلوا أبداً أو يجابوا إلى الهدنة أبداً « [14] .
وفي ضوء هذه الأحكام المستفادة من الآية الكريمة، وبعد عرض آراء العلماء
في ذلك ننتهي إلى أن الآية محكمة ليست منسوخة [15] ؛ وإنما هي تواجه مرحلة
معينة وواقعاً معيناً.
ولذلك يقول الأستاذ سيد قطب - رحمه الله -:» إن الأحكام المرحلية ليست
منسوخة؛ بحيث لا يجوز العمل بها في أي ظرف من ظروف الأمة المسلمة بعد
نزول الأحكام الأخيرة في سورة التوبة. ذلك أن الحركة والواقع الذي تواجهه في
شتى الظروف والأمكنة والأزمنة هي التي تحدِّد عن طريق الاجتهاد أيَّ الأحكام هو
أنسب للأخذ به في ظرف من الظروف، في زمان من الأزمنة، في مكان من
الأمكنة؛ مع عدم نسيان الأحكام الأخيرة التي يجب أن يصار إليها متى أصبحت
الأمة المسلمة في الحال التي تمكنها من تنفيذ هذه الأحكام، كما كان حالها عند نزول
سورة التوبة؛ وما بعد ذلك أيام الفتوحات الإسلامية التي قامت على أساس من هذه
الأحكام الأخيرة النهائية سواء في معاملة المشركين أو أهل الكتاب « [16] .
- وأما قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلاَ
تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللَّهِ مَغَانِمُ
كَثِيرَةٌ] (النساء: 94) . فهي في غير محل النزاع، ولا دلالة فيها على أن
الأصل في العلاقات هو السلم؛ لأنها تبين حكماً من أحكام الحرب والجهاد؛ حيث
جاء الأمر فيها من الله تعالى للمؤمنين إذا ساروا في الأرض لجهاد الأعداء أن يتأنَّوْا
ويتثبتوا في قتل من أشكل عليهم أمره فلم يعلموا حقيقة إسلامه ولا كفره، ولا
يعجلوا فيقتلوا من التبس عليهم أمره، ولا يُقدموا على قتل أحد إلا مَنْ علموه يقيناً
حرباً لله ولرسوله. ولذلك لا يجوز أن يقولوا لمن استسلم لهم فلم يقاتلهم مظهراً لهم
أنه من أهل الإسلام، لا يجوز لهم أن يقولوا له: لستَ مؤمناً؛ إذ ينبغي أن يكتفوا
بظاهر الإسلام في كلمة اللسان؛ إذ لا دليل هنا يناقض كلمة اللسان؛ فقد حكم الله
تعالى بصحة إيمان من أظهر الإسلام، وأَمَرَنا بإجرائه على أحكام المسلمين، وإن
كان في المغيَّب على خلافه؛ لأن الأحكام تُنَاط بالمظَانّ والظواهر لا على القطع
وإطلاع السرائر. وهو يوجب أن مَنْ قال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، أو قال:
إني مسلم، أنه يحكم له بالإسلام؛ لأن قوله تعالى: [لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلامَ]
يعني: إظهار تحية الإسلام، وقد كان ذلك عَلَماً لمن أظهر به الدخول في الإسلام؛
وعلى قراءة [لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَم] إنما معناه: لمن استسلم فأظهر الانقياد لما
يدعى إليه من الإسلام. والمعنيان متقاربان [17] .
هذا، وسبب نزول الآية الكريمة يؤكد ذلك، فقد وردت روايات كثيرة في
سبب نزولها، يجمعها أن سرية من سرايا المسلمين لقيت رجلاً معه غنم له، فقال
لهم: السلام عليكم وفي بعضها أنهم لحقوا به فقال: أشهد إن لا إله إلا الله فظنوا
أنه أظهر ذلك تعوُّذاً من القتل فحسب، فقتلوه وأخذوا غنمه، ورجعوا إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فأخبروه، فوجد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من ذلك
وَجْداً شديداً. وكان قد سبقهم الخبر قبل ذلك، ونزلت الآية الكريمة، فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم:» قتلتموه إرادةَ ما معه؟ «ثمَّ قرأ عليهم الآية الكريمة.
وحمل النبي صلى الله عليه وسلم ديته إلى أهله، وردَّ عليهم غنيماته [18] .
فظهر من معنى الآية وسياقها ومن سبب نزولها أنه لا دلالة فيها على أصل
التعامل بين المسلمين وغيرهم، وأنها ليست دعوة مطلقة إلى السلم، وإنما هي
دعوة للتثبت لئلا يقتل في الجهاد أحد ممن دخل في الإسلام ولو في تلك اللحظة
هرباً من القتل؛ إذ الأصل أنه يصبح معصوماً بمجرد نطقه بالشهادتين.
- وأما قوله تعالى: [فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ
اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً] (النساء: 90) . فقد جاء في سياق الآيات الكريمة
(87 - 94) من سورة النساء، وهي تبدأ بتقرير قاعدة التصور الإسلامي للتوحيد
وإفراد الله سبحانه بالألوهية، ثمَّ تبين طريقة التعامل مع الطوائف الآتية:
أ - المنافقين غير المقيمين في المدينة.
ب - الذين يرتبطون بقوم بينهم وبين المسلمين ميثاق.
ج - المحايدين الذين تضيق صدورهم بحرب المسلمين وحرب قومهم كذلك
وهم على دينهم.
د - المتلاعبين بالعقيدة الذين يظهرون الإسلام إذا قدموا المدينة، ويظهرون
الكفر إذا عادوا إلى مكة المكرمة.
هـ - حالات القتل الخطأ بين المسلمين، والقتل العمد، على اختلاف
المواطن [19] .
والآية الكريمة فيها إشارة إلى سُموِّ أحكام الإسلام في اختيار السلم حيثما وجد
مجالاً للسلم لا يتعارض مع منهجه الأساسي من حرية الإبلاغ وحرية الاختيار،
وعدم الوقوف في وجه الدعوة بالقوة، مع كفالة الأمن للمسلمين وعدم تعريضهم
للفتنة أو تعريض الدعوة الإسلامية ذاتها للتجميد والخطر.
ومن ثمَّ يجعل الإسلام كلَّ من يلجأ ويتصل ويعيش بين قوم معاهدين عهد ذمة
أو هدنة شأنه شأن القوم المعاهدين، يعامَل معاملتهم، ويسالَم مسالمتهم. وهي روح
سلمية واضحة المعالم في مثل هذه الأحكام.
كذلك يستثني من الأسر والقتل جماعة أخرى، وهي الأفراد والقبائل أو
المجموعات التي تريد أن تقف على الحياد فيما بين قومهم وبين المسلمين من قتال.
وواضحٌ من هذا: الرغبة السلمية في اجتناب القتال حيثما كفَّ الآخرون عن
التعرض للمسلمين ودعوتهم، واختاروا الحياد بينهم وبين المحاربين لهم.
وهؤلاء الذين يتحرَّجون أن يحاربوا المسلمين أو يحاربوا قومهم، كانوا
موجودين في الجزيرة العربية وفي قريش نفسها؛ ولم يُلْزمهم الإسلام أن يكونوا معه
أو عليه؛ فقد كان حسبه ألاّ يكونوا عليه [20] .
وقال الإمام الطبري: إن المعنيَّ بهذه الآية هم المنافقون، إذا استسلموا لكم
صلحاً منهم لكم فلا سبيل لكم على أنفسهم وأموالهم وذراريهم، فلا ينبغي التعرض
عليهم [21] .
ونقل الإمام البَغَوِيُّ عن بعض السلف: أنهم مَن انضم إلى قوم بينكم وبينهم
عهد وميثاق فدخلوا في حلف ولجؤوا إلى جوارهم، وضاقت صدورهم عن قتالكم
بسبب العهد الذي بينكم.
ويجوز أن يكون المعنى: إنهم لا يقاتلونكم مع قومهم ولا يقاتلون قومهم معكم،
فهؤلاء إذا اعتزلوكم وانقادوا للصلح واستسلموا، فما جعل الله للمسلمين عليهم
طريقاً بالقتل والقتال [22] . فالسبب الموجب لترك التعرُّض لهم هو تركهم للقتال
[23] .
وأبدى العلاّمة أبو بكر الرّازي الجصَّاص رأياً في أنَّ منع قتال مَنْ هذا وصفه
مِنَ الكفار منسوخ باتفاق العلماء حيث قال:» إن هذه الآيات فيها حظر قتال من
كفَّ عن قتالنا من الكفار، ولا نعلم أحداً من الفقهاء يحظر قتال من اعتزلنا من
المشركين. وإنما الخلاف في جواز ترك قتالهم لا في حظره. فقد حصل الاتفاق
من الجميع على نسخ حظر القتال لمن كان وَصْفُه ما ذكرنا. والله الموفق للصواب «
[24] .
والذي ننتهي إليه من هذه الأقوال: أن الآية الكريمة وإن كان فيها دعوة إلى
السلم، فإنما ذلك مع قوم مالوا إلى المصالحة والمهادنة وانقادوا للطاعة، أو اعتزلوا
قتال المسلمين، فكانوا في موقف الحياد. وليس في الآية نسخ؛ لأن هذا الحكم
المستفاد منها من الأحكام المرحلية التي أشرنا فيما سبق إلى أنها تواجه واقعاً معيناً
في مرحلة معينة. وذلك كله لا يتعلق بأصل التعامل بين المسلمين والكفار، ولا
بالقاعدة العامة فيها.
* وأما ما استدلوا به من الواقع التاريخي، وهو أن حروب النبي صلى الله
عليه وسلم كانت لردّ العدوان والبغي، وأنه لم يقاتل إلا دفاعاً [25] . فهذا في بيان
حال واقعة، وليست بياناً لأصل أو مبدأ تُرَدُّ إليه الوقائع. مع أن غزوات النبي
صلى الله عليه وسلم وحروبه فيها ما هو دفاع وما هو هجوم ابتداءً. ولهذا لا يصح
الاستدلال بذلك على أصل العلاقات وأنها السلم المطلق.
* بقي من أدلة المعاصرين جملة من القواعد الفقهية، مثل:» الأصل في
الدماء الحظر «، و» الضرورات تقدر بقدرها «و» الأصل في الأشياء الإباحة «
[26] . وهذه كلها لا علاقة لها بموضوع بحثنا، ولا تدل على شيء مما أرادوه.
كما أن ما نقلوه عن بعض الأئمة كقول مالك:» لا ينبغي لمسلم أن يهريق دمه إلا
في حق، ولا يهريق دماً إلا بحق « [27] ، إنما جاءت في سياقٍ آخر لا علاقة له
بمسألتنا، وهذا السياق هو: هل يجوز للمسلم أن يقاتل مع غير المسلمين؟ [28] .
ولذلك نجد أن النتيجة التي وصل إليها أستاذنا الدكتور وهبة الزحيلي عندما قال:
» والخلاصة أن الأصل في علاقات المسلمين بغيرهم هو السلم. والحرب
عارض لدفع الشر ... وفقهاؤنا قرروا أن الأصل في العلاقات هو الحرب، دون أن
يكون لذلك سند تشريعي، إلا ما كان تصويراً منهم للواقع « [29] . هذه النتيجة
ليست مسلَّمة؛ لأنه قد تبين لنا السند التشريعي لما ذهب إليه الفقهاء، وهو الآيات
القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة.
أما ما عرضه هو فلا سند له من النصوص الشرعية إلا التمحل والتأويل
للنصوص ليجعلها موافقة للقانون الدولي الذي عبّر عنه بقوله:» وفي صدد
المقارنة نجد أن ما انتهينا إليه من اعتبار السلم أصل العلاقات في الإسلام هو الأمر
المقرر لدى فقهاء القانون الدولي حيث يقولون: الحالة الطبيعية بين الدول هي
السلام، والحرب وقتية عارضة مهما كان سببها « [30] .
ويعبِّر عن هذا أيضاً: قولُ الشيخ عبد الوهاب خلاّف - رحمه الله -» وقال
فريق آخر من العلماء: إن أساس علاقة الدولة الإسلامية بغيرها من الدول لا تغاير
ما قرره علماء القانون الدولي أساساً لعلاقات الدول الحاضرة … « [31] . مع أن
في ذلك عكساً للترتيب، فلم يكن هناك قانون دولي عندما قال الفقهاء المسلمون بما
ذهبوا إليه.