الافتتاحية
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فمنذ أن نعقت أو صاحت مطربتهم في الزمن القومي الثوري الغابر:
«الغضب الساطع آتٍ وأنا كلي إيمان.
الغضب الساطع آتٍ سأمر على الأحزان..» .
منذ ذلك الحين وغضبهم إلى أفول، وأحزاننا في سطوع.. ولم نر منهم سوى
المعلقات والشعارات، فإذا تلك العنتريات يتبعها أقوال ودعاوى من مثل «سأمشي
على جرحي وأقاوم» و «ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة» ، و «سنلقي
بإسرائيل في البحر» ، و «من لا يعجبه أن يشرب من البحر الأبيض فليشرب
من البحر الأحمر» ، أما على أرض الواقع فلم يأت على عدونا غضبهم بل أتى
علينا نحن، ولم يمشوا على جراحهم بل مشوا على جراحنا، ولم يقاوموا، ولم
يستردوا، ولم يلقوا بالعدو في البحر، بل كانت الهزائم تلو الهزائم، وشربنا نحن
من البحر الميت!!
وبعد أن كانت واقعيتهم في الزمن الثوري تقول: إننا نرفض أن تجرنا
(إسرائيل) إلى معركة لا نكون مستعدين لها أصبحت ثوريتهم بعد الأفول تقول: لن
نسمح لـ (إسرائيل) بجرنا إلى الحرب، ولن نعطي لها الفرصة لكي تهرب من
السلام. وأصبحوا يرفعون راية (سلام الشجعان) البيضاء شعاراً، وأفرغوا
غضبهم الساطع دوماً تنكيلاً وإرهاباً في طلائع الأمة التي ترفض الاستسلام؛ لأن
شبابها هم أعداء السلام الذي يريدون.
حاولوا أن يقنعونا بأن عقولهم النيرة وأبصارهم الثاقبة اكتشفت مؤخراً ويا له
من اكتشاف أن في أعدائنا حمائم وصقوراً، وأن حنكتهم السياسية التي لا تنضب
تعمل على استمالة الحمائم حتى ولو كان ذلك بالتنازل عن حقوق مصيرية للأمة..
أما نحن فلم نر إلا صقوراً وصيادين وأكلة، ربما لم نر الحمائم لأنها اختبأت خلف
الصقور! أو لأن الصقور التهمتها، وربما لم نر الحمائم لأننا ننظر دائماً إلى بعيد
فلم تقع أبصارنا إلا على الصقور..
وأثناء تأملنا في قصة الحمائم والصقور لم نجد بين أشاوسنا حمائم وصقوراً،
بل وجدنا حمائم وعصافير تهاب الصقور، وتقدم بعض صغارها قرباناً لاتقائها!!
لم يقتصر الأمر على فلسطين، بل امتد ليشمل امتدادات جغرافية وقِيَمِيَّة واسعة في
عالمنا الإسلامي؛ فمن الفلبين إلى البوسنة والهرسك، إلى الشيشان إلى كوسوفا
إلى تيمور الشرقية وإندونيسيا إلى أفغانستان إلى جنوب السودان إلى الهند إلى
العراق المهدد بحرب لا تبقي ولا تذر يتواصل الاستهداف وتتواصل المذابح..
ويتواصل أيضاً خنوع الحمائم والعصافير وتنازلاتها.
ومن التضييق على الدعوة ومحاصرة شبابها إلى خنق التعليم الديني وتقليصه،
إلى نشر الفساد والإباحية في وسائل الإعلام، إلى هدم القيم الإسلامية للمرأة
والمجتمع، إلى محاولة تغيير مفاهيم الإسلام الأساسية، إلى قصد النيل من رموز
هذا الدين ومقدساته.. تتواصل الحملات في الداخل والخارج.
إن امتداد هذه الاعتداءات وشراستها يشيران إلى أن القائمين عليها وبها
تسرب إليهم إحساس بأنهم في مأمن من غضبة قوية ترد على مثل هذه الحملات
التي باتت صليبيتها وعلمانيتها بادية للعيان، وهو الأمر الذي وضح في تكرار ذكر
(الحملات الصليبية) على ألسنة مسؤولين غربيين كبار، وفي تكريم المتمردين
على الإسلام ممن كانوا ينتمون إليه أمثال سلمان رشدي، ونصر أبو زيد،
وتسليمة نسرين، بل وتكريم بعض المتهمات بالزنا، مثل النيجيرية «صفية
حسيني» التي منحتها سلطات العاصمة الإيطالية روما جنسيتها الشرفية؛ لمجرد
أنها نجت من حكم بالإعدام رجماً بالحجارة وفق قوانين الشريعة، في إحدى
ولايات الشمال النيجيري.
بل إن هذا الإحساس كان عاملاً في تشجيع بعض الكتاب في الغرب على بث
سموم حقدهم على الإسلام والمسلمين باطمئنان، ومن آخر ذلك: الهجوم الذي
شنته الصحفية الإيطالية اليهودية «أوريانا فالاتشي» التي نشرت كتاباً بعنوان
(السخط والكبرياء) ، بيع منه مليون نسخة في إيطاليا في غضون شهر، وقد
رفضت محكمة فرنسية حظر نشر الكتاب في فرنسا؛ رغم أنه يحض صراحة على
كراهية المسلمين وازدرائهم في كل مكان، ودعوته لإعلان الحرب عليهم، وعدم
الانجرار إلى التمييز بين واحدهم والآخر؛ فجميع المسلمين في نظرها متطرفون
وقتَلة ومتخلفون وأميون، ناهيك عن التطاول على القرآن الكريم ومشخصات
الإسلام.. بل إن هذا الإحساس جرأ أمثال القس المعروف فرانكلين جراهام
(المستشار الروحي) للرئيس بوش، وصديق العائلة المعروف الذي يقضي عطلة
في المنتزه الخاص بعائلة بوش كل صيف.. على التهجم على الإسلام، ووصفه
بأنه ديانة قبيحة وسيئة جداً، وأخيراً جرأ القس الأمريكي البارز جيري فالويل
راعي الكنيسة المعمدانية الجنوبية في الولايات المتحدة التي يتبعها نحو 15 مليون
شخص، من أبرزهم الرئيس الأميركي السابق بيل كلينتون.. جرأه على الهجوم
المباشر والصريح على شخص رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، قبل أن يقدّم
اعتذاراً بارداً عما بدر منه.
ولكن يبدو أن هذا الإحساس لن يدوم طويلاً إن شاء الله تعالى، فهناك عوامل
متنامية تشير إلى أن الإجهاز على الفريسة الإسلامية والتهامها لن يكون بالسهولة
التي يتمناها صائدوها وأكلتها، ونرصد هنا بعض هذه العوامل التي لا تخفى على
أي متأمل:
* فغرور القوة الذي أصيب به أعداء الأمة جعلهم يُقدِمون وما زالوا على
حماقات وأخطاء لا يستهان بها، قد تصدر هذه الحماقات والأخطاء منهم بقصد
توجيه عدة صعقات كهربائية نفسية تجهز على ما تبقى من روح في الأمة، ولكنا
نراها بإذن الله لأننا نعرف حقيقة هذه الأمة صدمات كهربائية تقدر أمتنا على
استيعابها، بل تساعدها على إفاقتها من غيبوبتها، وذلك بتنبيه مراكز الإحساس في
منطقة الشعور الباطن لديها.
* كما أن هذه الأمة بجميع فئاتها تشهد نمواً متزايداً في الوعي جعل أفرادها
يدركون حقيقة الحرب الدائرة، وأنها حرب حضارية دينية في بعض جوانبها،
وأنهم مستهدفون في هذه الحرب، وأن خيرات بلادهم محل أطماع من عدوهم،
وجعلهم يدركون حقيقة مواقف زعماء الشعارات والتخدير الذين يتاجرون بقضايا
الأمة، ولا يعملون إلا لاستمرار جثومهم فوق صدور أبنائها.
* ويزيد من هذا الوعي وينميه تلاحق الأحداث، وسهولة التعرف عليها
وعلى تفاصيلها ومشاهدتها ومتابعتها؛ فالمتغيرات الإعلامية المتلاحقة المفروضة
على جميع الأطراف تجعل محاولات الوصاية والترشيح ضرباً من مصارعة
طواحين الهواء، وهو الأمر الذي أجبر دهاقنة تشكيل الوعي على البحث عن
أساليب جديدة لتزييف الوعي وإبطال أثر هذا التدفق المعلوماتي.
* كما أن خروج الجيش (الإسرائيلي) ذليلاً مرغماً من جنوب لبنان،
وإخفاق أجهزة الأمن (الجبارة) في أمريكا والغرب في توقع أحداث سبتمبر ومنعها،
وعدم تحقيق قوات الحلفاء الغازية لأفغانستان أهدافها المعلنة من الحرب حتى الآن،
واستمرار الانتفاضة الفلسطينية رغم الظروف الصعبة التي يحياها يومياً هذا
الشعب الصابر، ورغم أساليب التنكيل والبطش والإرهاب التي يعامله بها عدوه
المحتل.. كل ذلك حطم في نفوس أبناء هذه الأمة حاجز الخوف، وأزال من
أذهانهم خرافة أن هناك قوة أرضية لا تقهر.
وربما يكون ذلك أحد العوامل التي عجلت بالرغبة الأمريكية في غزو العراق
والاحتلال العسكري السافر لمناطق البترول؛ حتى يزيلوا أثر هذه الأحداث،
ويعيدوا هذه الخرافة إلى الأذهان مرة أخرى، ويحطموا المعنويات التي اشرأبت..
ولكن.. من يدري؟! فكثيراً ما تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن..
نحن في الحقيقة لا نرغب الحرب مع الأعداء في ظل اختلاف توازن القوى
من ناحية، ومن ناحية أخرى لما للحروب من آثار تدميرية على المجتمعات في
بناها الفوقية والتحتية. ولكن هذه التوجهات الشيطانية للتعجيل بالحرب التي
يريدون إخافتنا بها وإن كانت الحروب صعقات إحياء لا إماتة تجعلنا نقول بثقة: إن
الظن بأن هذه الأمة ماتت (أو ذبحت) ولم يبق إلا التهامها، هو محض وهم،
ويجعلنا نقول بثقة إن ما قدَّر الله هو الخير الذي يحوي في طياته الرحمة والنعمة،
وإن كان ظاهره الألم والمشقة؛ فهذه عقيدة إيمانية راسخة، تستضيء بنور الكتاب
العزيز، وتستهدي بهدي النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم. [وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى
أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ] (يوسف: 21) .