في دائرة الضوء
الدارونية الاجتماعية
بين حقوق الإنسان وحقوق الغوغاء
أحمد محمد بكر موسى
إذا كانت المساواة الإنسانية كما يفسرها الليبراليون، تعني «حق كل شخص
في أن تكون لديه فرص متساوية لأن يصبح غير متساوٍ» [1] ، وإذا كانت هذه
الفكرة قد وجدت طريقها إلى الواقع على مستوى الدول؛ وذلك في صورة الدول
الخمس التي تتمتع بحق النقض في مجلس الأمن، وهي الدول التي يقول عنها
مهاتير محمد رئيس الوزراء الماليزي: «إنها تتمتع بالمساواة أكثر من غيرها»
[2] وبمعنى آخر نالت حقها في أن تكون غير متساوية مع باقي الدول، وعلى
مستوى الحضارات بسيادة الحضارة الغربية كما ينظر هنتنجتون، وعلى مستوى
الأيديولوجيات بانتصار الليبرالية الذي أسماه فوكوياما نهاية التاريخ، وحتى على
مستوى التاريخ «فقد نجحت الصهيونية في جعل المحرقة المزعومة تنال من
الاهتمام أكثر من غيرها من أحداث التاريخ، واستطاعت استبعاد معاناة عشرات
من الأمم والشعوب الأخرى» [3] .
إذا كان هذا على مستوى الدول والحضارات والأيديولوجيات والتاريخ؛ فماذا
عن مستوى الأفراد؟ وإذا سلمنا مع تيري إيجلتون بأن المفهوم المعقول للمساواة
يتشابك فعلاً بدرجة كبيرة مع مفهوم الاختلاف؛ وأن المساواة لا تتحقق بمساواة غير
المتساوين، فهل لنا أن نتساءل معه عن مدى مفهوم الاختلاف الذي يسوغ الحق لأن
يصبح الإنسان غير متساوٍ؟ وهل يمتد هذا الاختلاف إلى الحق في الوجود أو حق
الحياة؟ وهل الأرواح تختلف ولا تتساوى؟ بما يسوغ أن يصبح الناس غير
متساوين في حق الحياة، وأن يكون بعضهم أوْلى بالحياة من الآخر؟ وهل
مستويات الأرواح تتدرج صعوداً وهبوطاً، فنجد مستوى أعلى لا يجوز المساس
بحقه في الحياة بأي حال، ومستوى أدنى ليس له حق الحياة أصلاً؟ وعلى سبيل
المثال: هل تتساوى روح الأفغاني بروح الأمريكي؟ والليبرالية التي تحكم العالم
حالياً قد استطاعت التلاعب بحقوق الإنسان عن طريق تقسيمها إلى «حقوق»
و «إنسان» ، وأجهزت على الاثنين، فقتلت الحقوق عن طريق تجزئتها إلى حقوق
مدنية وسياسية وأخرى اقتصادية واجتماعية وثقافية، وبالطبع فالحقوق المدنية
والسياسية تتمتع بالحق في أن تكون غير متساوية؛ فهي التي لا بد أن تأتي في
المقدمة من الاهتمام، أما الحقوق الأخرى فتتأخر أو لا تأتي أصلاً فلا يهم [4] .
وبعد قتل الحقوق بدأت في تصنيف الإنسان؛ فهناك «الإنسان» وهو الذي
يتمتع بجميع الحقوق؛ وذلك لما يتمتع به حسب مفهوم الاختلاف من فكر وثقافة
وحضارة وخلافه، وهناك «الغوغاء» [5] ، وهم الذين ليس لهم حقوق ولا حتى
حق الحياة.
وبين منزلة «الإنسان» ومنزلة «الغوغاء» منازل أخرى كثيرة؛ كل
منزلة تزيد حقوقها كلما علت واقتربت من منزلة «الإنسان» ، وتقل كلما سفلت
واقتربت من «الغوغاء» ، ورحم الله مالك بن نبي؛ فقد عفى الزمن على تقسيمه
الثنائي القائم على: إنسان محور واشنطن، وإنسان محور طنجة جاكرتا.
* الدارونية الأمريكية:
لقد اقتنع المفكرون الأمريكيون بالمساواة الإنسانية كما يفسرها الليبراليون،
ورأوا أن فكرة البقاء للأصلح التي قال بها دارون تصلح للتطبيق على الإنسان؛
وعلى هذا فيحق للإنسان أن يقتل الغوغاء؛ ففي أواخر القرن التاسع عشر كان
إلفريد تاير ماهان يرى أن الولايات المتحدة مثل الكائن البيولوجي الذي يتمثل قدره
المحتوم في النمو والتقوي عن طريق التوسع، وهذا هودزون مكسيم يقول: «إن
قوانين الطبيعة التي كشف عنها دارون تجعل النزعة التوسعية الإمبريالية المصدر
البيولوجي للولايات المتحدة، وأن الدولة مثلها مثل الكائن البيولوجي في صراعه
من أجل البقاء: إما أن ينتصر، وإما أن يموت. ونتيجة للتفوق العرقي فإن
الولايات المتحدة الأمريكية سيكتب لها النصر» .
وفي نهاية النصف الأول من القرن العشرين يأتي نيقولاس سبيكمان الذي آمن
بالدارونية الاجتماعية، واقتنع بأن الأقوى يحق له دائماً إخضاع الأضعف، وفي
كتابه «الاستراتيجية الأمريكية في السياسة العالمية» يقول: «إن كل أشكال
العنف بما فيها الحروب المدمرة مباحة في المجتمع الدولي» .
وفي إطار الحديث عن القدرة المقارنة للأمم على الحياة نظر هنتنجتون إلى
الولايات المتحدة وإنجلترا كأمة أكثر قدرة على الحياة في العالم، ولقد أكد
هنتنجتون في عديد من أعماله على أن الأمريكيين هم العرق البشري الأرقى
بيولوجياً، وبصفاقة مذهلة سوَّغ واحدة من أسوأ صفحات التاريخ الأمريكي وهي
إبادة الهنود الحمر، بطرح أفكاره عن الإزاحة الطبيعية للهنود الحمر ذلك الجنس
البشري غير الراقي من قبل الأنجلو سكسون الحيويين [6] ، ولم تتوقف الدارونية
الأمريكية عند حد إبادة الهنود الحمر ولا عند قذف هيروشيما ونجازاكي بالقنابل
النووية العام 1945م، ولا عند إلقاء الأسلحة الفسفورية على الفيتناميين العزل في
الستينيات، وإنما هي ماثلة إلى الآن، ولك أن تنظر إلى أي صراع تشترك فيه
القوات الأمريكية مع غيرها، تجد القوات غير الأمريكية أو «الغبار البشري»
تتقدم إلى الموت، أما جنود الولايات المتحدة فإنهم لا بد أن يكونوا في مأمن، «بل
إن مهمة حماية القوات الأمريكية تأتي قبل مهمة تحقيق السلام أو غيرها من
المهام» [7] .
وفي هذا يقول سمير أمين: «إن نقاط الضعف في الاستراتيجية الأمريكية
واضحة تماماً؛ فهناك ذلك الموقف الشاذ من الجمهور الأمريكي الذي يقبل الحرب
ما دام أولاده لا يتعرضون لخطر القتل! هذا الموقف يشل فاعلية استراتيجية
واشنطن فيضعها منوطة بمشاركة قوى حليفة مرؤوسة يطلب منها القيام بـ (العمل
القذر) أي إنزال قوات برية تتعرض للمخاطر الطبيعية في أية ممارسة لعمليات
حربية [8] .
* الدارونية التلمودية:
وهذه الدارونية الإنسانية والإبادية الأمريكية هي في حقيقتها امتداد للدارونية
اليهودية التلمودية؛ ففي التلمود الذي هو أشد قداسة عند اليهود من التوراة، أنهم
شعب الله المختار، وفي التلمود أن أرواح اليهود تتميز عن باقي الأرواح بأنها جزء
من الله، ومن ثم كانت أرواح اليهود عزيزة عند الله بالنسبة لباقي الأرواح؛ لأن
أرواح غير اليهود هي أرواح شيطانية وشبيهة بأرواح الحيوانات.
إنهم يؤمنون بأن غير اليهود مثل الكلاب والحمير والثيران، بيوتهم زرائب،
وأرواحهم نجسة، وحياتهم بلا قيمة؛ ومن ثمَّ يجوز قتلهم وذبحهم وغشهم وسرقتهم.
وهم يرون أن الإله قد خلق الأغيار على هيئة الإنسان لكي يكونوا لائقين
بخدمة اليهود الذين خلقت الدنيا من أجلهم؛ إذ ليس من الملائم أن يقوم حيوان على
خدمة الأمير، وهو على صورته الحيوانية [9] ، وأنه لمما يؤيد دعوى امتداد
الدارونية الأمريكية للدارونية التلمودية، ما حدث عند اكتشاف العالم الجديد، فعندما
وصل المهاجرون البروتستانت الأوائل إلى أولى المستعمرات في نيوانجلند،
اعتبروا أمريكا هي» أورشليم الجديدة «أو» كنعان الجديدة «وشبهوا أنفسهم
بالعبرانيين القدماء حين فروا من ظلم فرعون» الملك الإنجليزي جيمس الأول «
وهربوا من أرض مصر» إنجلترا «بحثاً عن أرض الميعاد الجديدة، وبالمشابهة
أصبحت مطاردة المهاجرين البروتستانت للهنود الحمر في العالم الجديد، مثل
مطاردة العبرانيين القدماء للكنعانيين في فلسطين، وكان المستعمر البروتستانتي
يقتل الهندي الأحمر على أنه كنعاني فلسطيني، وكان يفكر في عالم دون هنود مثلما
كان العبرانيون يفكرون في عالم دون كنعانيين [10] ، لقد حلم المهاجرون ببناء قدس
جديدة، لقد أرادوا بناء مدينة للرب، فأقاموا لهذا الرب مدناً فوق أشلاء الشعوب
[11] ، وعلى هذا فالتلمود كان صريحاً تماماً في موضوع عدم تساوي الأرواح، ولم
يعط الفرصة لتيري إيجلتون وغيره للتساؤل عن مدى المساواة الإنسانية، ولقد
تبلورت هذه الدارونية أكثر مع ظهور الحركة الصهيونية؛ فالصهيونية شأنها شأن
كل الحركات الاستيطانية الإحلالية تدور في إطار الرؤية المادية الدارونية التي
حولت العالم بأسره إلى ساحة للقتال والصراع، البقاء فيها لصاحب القوة وليس
بالضرورة لصاحب الحق، فالحركة الصهيونية الاستيطانية هي حركة إبادية
عنصرية تنكر على السكان الأصليين أبسط حقوقهم الإنسانية، بل وتنكر حقهم في
الوجود ذاته [12] .
فقد ظهرت الدارونية الصهيونية في دير ياسين وصبرا وشاتيلا وقانا
وغيرها، وهي ماثلة إلى الآن وواضحة في التفرقة في التعامل الصهيوني مع
مظاهرات العرب ومظاهرات اليهود، والصحافة الصهيونية نفسها لاحظت
الدارونية وتحدثت عنها [13] .
ولم يقتصر الإيمان بالدارونية الاجتماعية على القيادة السياسية الإسرائيلية
والجيش والشرطة فحسب، وإنما امتد إلى القضاء أيضاً، فتراه يصدر أحكاماً ثقيلة
تصل إلى السجن المؤبد بحق الفلسطينيين لمجرد شبهة تهديد أرواح إسرائيلية، في
حين يصدر أحكاماً تدعو إلى السخرية بحق إرهابيين وقتلة من الوسط اليهودي،
وهو ما يهدد الحق في المساواة أمام القانون عن الجرائم والمخالفات المتماثلة [14] ،
ولكن ليبرالياً لا الجرائم ولا المخالفات متماثلة؛ إذ كيف يتساوى الإنسان إذا كان
معتدياً مع من يدافع عن أرضه؟ وعلى هذا فعندما يقول كلينتون:» قدر للولايات
المتحدة أن تكون ضوءاً هادياً للعالم «وعندما يقول توماس فريدمان:» إسرائيل
هي الدولة التي تقدم المثل الأعلى للأخلاق لمختلف دول العالم «فإنهما على حق!!
فأي ضوء أهدى وأية مثل أعلى من هذه الدارونية؟
* الليبرالية العربية:
إذا كانت الليبرالية تقر عدم تساوي الأرواح، وتقر أن من حق الإنسان أن
يشعر أن روحه أهم وأسمى من حياة الآخرين، فهي بلا شك تقر حق الإنسان في
أن يعتقد أن حياته وروحه أرخص وأقل في الأهمية من حياة الآخرين، وبذلك
فنحن العرب لسنا ببعيدين عن الليبرالية؛ فنحن نرى أن أرواحنا هي أرواح
الغوغاء التي لا تتساوى ولا يحق لها أن تتساوى بأرواح الإنسان، وهذه الليبرالية
أصابتنا حكاماً وشعوباً وحتى نشطاء حقوق الإنسان.
فبالنسبة للحكام نقول: إن احترام العالم للعرب مبني على احترام النظم
العربية لمواطنيها في الداخل، ولكي نصبح قوة يعمل لها العالم حساباً يجب أن تنبع
تلك القوة من الداخل، من مدى احترام النظم العربية لآدمية الإنسان داخلها.
فإذا كانت حياة الشعوب العربية رخيصة جداً في داخل أوطانها فكيف نطالب
أمريكا وإسرائيل باحترامها؟! [15] ، ولا أريد الخوض في القتل خارج نطاق
القانون وغيرها من الممارسات في الوطن العربي؛ فهذا الموضوع بحاجة إلى
مجلدات وليس إلى مقال في مجلة.
وأما بالنسبة للشعوب العربية، فكأنما نظروا إلى كثرتهم العددية، فقلَّت قيمة
أرواحهم لديهم؛ فكم من المذابح ارتكبت ضدهم وراحت الدماء هدراً دون رد فعل،
ولكم هللوا لإصابتهم فرداً وقتلاهم بالمئات.
وأما نشطاء حقوق الإنسان، فحقاً هم نشطاء حقوق الإنسان، وأما الغوغاء
فما لهم وحياتهم؟ إن رؤوسهم لا تعنيهم في شيء فما دامت الأرواح لا تتساوى
ليبرالياً فكذلك أعضاء الإنسان تتمايز ولا تتساوى إنهم ينظرون إلى مواضع أهم؛
حيث محاربة الختان، وتدريس الصحة الإنجابية، وحرية الشذوذ الجنسي، وليس
أدل على حقارة رأس الغوغاء في نظر نشطاء حقوق الإنسان مما حدث في مؤتمر
مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان الأخير [16] ، فقد تقرر عقد جلسة على
هامش المؤتمر حول حقوق الإنسان الفلسطيني، وقد كانت الجلسة بعد الغداء الذي
حضره أكثر من مائتين وخمسين خبيراً في حقوق الإنسان، وبالرغم من الإعلان أن
الجلسة غير رسمية؛ فهذا محمد السيد سعيد مدير الجلسة يجلس في انتظار النشطاء
الذين دخلوا حجراتهم بعد الغداء، ولكن طال انتظاره، وبعد أن يئس من خروجهم
إليه أعلن عن بدء الجلسة التي لم يحضرها سوى خمسة وعشرين ناشطاً من نشطاء
حقوق الإنسان! [17] .
* إمكانية الترقي:
هذه المنازل التي تبدأ بالغوغاء صعوداً إلى الإنسان - معذرة - التي تبدأ
بالإنسان نزولاً إلى الغوغاء، ثابتة لا تتغير؛ بمعنى أن الإنسان لا يهبط بأي حال
إلى مرتبة أدنى فضلاً عن تدنيه إلى مرتبة الغوغاء، وكذلك الغوغاء لا يستطيع
الترقي إلى درجة أعلى ناهيك عن صعوده إلى الإنسان.
* أخيراً:
أيها الإنسان! أيها الغوغاء! لا تسيئوا الظن بي، فأنا لا أدعو إلى مساواة
الأرواح معاذ الله ولا أنكر حق الإنسان في قتل الغوغاء، ولكن كل ما في الأمر أني
قرأت أن الأوروبيين أعزهم الله بالارتفاع إلى الإنسان وحفظهم من النزول إلى
الغوغاء لم يتأثروا بما يحدث للغوغاء في فلسطين، وأن الاتحاد الأوروبي تضامن
مع إسرائيل ضد لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان!! وتذكرت كيف أن الأوروبيين
تأثروا في عيد الأضحى الماضي بما ألحقه المسلمون بالخراف في أوروبا، وكيف
طالب الاتحاد الأوروبي بوقف هذه الممارسات، ووقف ذبح الخراف في الخلاء؛
ولذا فإني أرجو» الإنسان «أن يمتنع عن قتل» الغوغاء «في الخلاء، وأن
يقتله بلطف وفي أماكن بعيدة عن أعين كاميرات الإعلاميين ما أمكن؛ حتى لا
تصل الصورة إليهم، وذلك من قبيل الإجراءات الاحترازية؛ فمن يدري؟ فلعلهم
وإن لم يتأثروا الآن، فربما يتأثرون بعد عام أو اثنين!!