مجله البيان (صفحة 4403)

المسلمون والعالم

حرب الخليج الثالثة.. وتداعياتها الخطرة

عبد العزيز كامل

kamil@albayan-magazine.com

عَرْك العراق وعزلها وإذلال شعبها أصبح ضرورة أمريكية، وحاجة

إسرائيلية، ومطلباً ظالماً للشرعية الدولية، وهو قبل هذا وذاك مقصد توراتي قديم،

وغرض إنجيلي صهيوني حديث، فشرق العراق وغربها تواصل ذكرهما في

التوراة التي يدين بها اليهود والنصارى من أول البدء إلى غاية الانتهاء؛ حتى إن

اسم (بابل) ذُكر في التوراة أكثر من مئتي مرة على أنها مدينة الإثم والفجور

والشرور.

أما (آشور) فلم تكن أقل سوءاً، فلئن كان البابليون في غرب العراق بقيادة

(بختنصر) هم الذين اجتاحوا بلاد بني إسرائيل فخرَّبوها ودمروها وساؤوا وجوه

أهلها، وسبوهم سبياً جماعياً في عام (586) قبل الميلاد، فيما عرف تاريخياً

بمرحلة (السبي البابلي) ؛ فإن الآشوريين سبقوا إلى ذلك بقيادة (سرجون) في

شمال شرق العراق فنفوا الإسرائيليين نفياً جماعياً في عام (720) قبل الميلاد.

كراهية العراق وبغض العراقيين جزء من عقيدة أهل الكتاب، وعداء كفار

بني إسرائيل من النصارى للعراق وأهله؛ لا يقل عن عداء كفار بني إسرائيل من

اليهود؛ لأن كلاً منهما يدين بالتوراة التي تدين العراقيين بالإجرام في حق «الشعب

المختار» قبل مجيء صدام حسين بأكثر من أربعة آلاف عام، فالأمر إذن ليس

بجديد، ولا هو فقط وليد الكراهية الظاهرة أو المتظاهرة لشخص الرئيس العراقي.

والعجيب هنا؛ أن تأسيس العداوة للعراق في التوراة بمقتضى أحداث الأزمنة

القديمة؛ امتد إلى إدامتها حتى الأزمات الأخيرة التي تسبق قيام الساعة، فالبابليون

الذين سلطهم الله على بني إسرائيل بعد إفسادهم الأول كما تشهد التوراة هم الذين

سيسومون اليهود سوء العذاب في آخر الزمان بحسب نبؤات التوراة أيضاً؛ وذلك

بسبب إفسادهم الأخير، جاء في كتاب التوراة، في سفر حزقيال: «وكان إليَّ

كلام الرب قائلاً: وأنت يا ابن آدم، عيِّن لنفسك طريقين لمجيء سيف ملك بابل.

من أرض واحدة تخرج الاثنتان» [سفر حزقيال: 12/18 - 19] ، والمعنى:

اختر المصير الذي سترى فيه العقوبة الإلهية على الإفساد الأخير، كما كانت

العقوبة على الإفساد الأول، والعقوبتان ستخرجان من أرض واحدة هي أرض بابل.

وتبين التوراة في ذلك السفر أيضاً سبب هذه العقوبة الواقعة على اليهود،

بخطاب متوجه إلى الأرض المقدسة: «فيكِ أهانوا أباً وأماً، في وسطكِ عاملوا

الغريب بالظلم، فيكِ اضطهدوا اليتيم والأرملة» ، وجاء فيه أيضاً: «من أجل

ذلك حيٌ أنا، يقول السيد الرب: من أجل أنك قد نجست مقدسي بكل مكروهاتك

وبكل أرجاسك، فأنا أيضاً أجُزُّ ولا تشفق عيني، وأنا أيضاً لا أعفو، ثلث يموت

بالوبا وبالجوع يفنون في وسطك، وثلث يسقط بالسيف من حولك، وثلث أذريه في

كل ريح، وأستل سيفاً وراءهم» [سفر حزقيال: 5/11 - 13] .

وأما من سيكون أداة قدرية للعقاب؟ فهو قائد بلاد بابل، وهو رجل من آشور

يُدعى (الآشوري) ، تدل نصوص التوراة على أنه سيُسلط على شعب المغضوب

عليهم، فينهب ثرواتهم ويهينهم في الطرقات: «ويلٌ لآشور قضيب غضبي،

والعصا في يدهم هي سخطي، على أمة منافقة أرسله، وعلى شعب سخطي أوصيه؛

ليغتنم غنيمة وينهب نهباً، ويجعلهم مدوسين كطين الأزقّة» [سفر أشعياء 10/

5 - 6] .

إذن؛ فكفار أهل الكتاب في هذا العصر، من يهود ونصارى، يخافون على

مصير يصير إليه المسيطرون على الأرض المقدسة يشبه مصيرهم يوم اجتياح

البابليين لأرضهم أيام الملك البابلي (بختنصر) .

وحديث الوحي الخاتم لا تبعد ملامحه كثيراً عن ذلك، فالقرآن يدل على أن

هناك إفسادين كبيرين سيقعان من بني إسرائيل [1] ، وأن الإفساد الأخير منهما

ستتكرر العقوبة عليه بشكل مشابه للعقوبة على الإفساد الأول: [وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي

إِسْرَائِيلَ فِي الكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُواًّ كَبِيراً * فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ

أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً

* ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ

أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُوا وُجُوهَكُمْ

وَلِيَدْخُلُوا المَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً] (الإسراء: 4-7) .

ولعلنا هنا نفهم بعض الخلفيات والدوافع التي تكمن وراء الموقف العدائي

الغربي البروتستانتي من العراق، وإصراره المتآزر مع اليهود على إطالة مدة عزله

وحصاره تمهيداً لتفكيكه ودماره، لعلهم يؤخرون المصير المحتوم كما يعتقدون لـ

«إسرائيل» على يد العراقيين.

أو يعجلون الانتقام الذي سيأتي دوره على العراقيين بعد عقاب الإسرائيليين؛

حيث يعتقدون أيضاً أن عصا الانتقام ستدور عليها الدائرة فتنكسر ثم تبيد، ففي

السفر نفسه من أشعيا تلعب يد التحريف الذي يتحول إلى عقائد، فيجيء فيه:

«ولكن هكذا يقول السيد رب الجنود: لا تخف من آشور يا شعبي الساكن في

صهيون، يضربك بالقضيب ويرفع عصاه عليك على أسلوب مصر؛ لأنه بعد قليل

جداً يتم السخط وغضبي في إبادتهم» [سفر أشعياء: 10/ 24 - 25] .

فإبادة العراق بعد ضرب (إسرائيل) عقيدة يدين بها المؤمنون بالتوراة

اليوم.

وبطبيعة الحال؛ فإن هذه الخلفيات الدينية لا تقف وحدها وراء النية الغربية

الشريرة ضد العراق، ولكن هناك بلا شك دوافع أخرى عديدة سياسية واقتصادية

وحضارية، ولكنها كلها تغذيها وتنميها المسوغات الدينية المزعومة.

لقد هال الغرب واليهود معاً أن العراق كان قد بدأ يشب عن الطوق مع دنوِّ

الألفية الثالثة، واقترب جداً قبل حرب الخليج الثانية من القدرة على تملك السلاح

النووي، مع حيازته للسلاح الكيمياوي والبيولوجي، ومع كون العراق دولة غنية

وبترولية، وعظيمة في مواردها المائية الزراعية، والمعدنية الصناعية، والبشرية

التقنية، لهذا فقد كان لزاماً أن يُخضَع لعمليات إرباك وتوريط تستهدف تعويق تقدمه

وانطلاقه، وهو البلد الذي لم تفصل بينه وبين دولة اليهود المتربصة بالمنطقة كلها

سوى صحراء جرداء فقيرة آلت إلى بقايا الأسرة الهاشمية المالكة للعراق سابقاً.

وكل الدلائل الآن تشير إلى أنه كان هناك دور غربي مباشر في توريط

العراق في صراعات مع جيرانه جميعاً، سوى دولة اليهود وحماتها، ولم يكن هذا

التوريط بداهة بعيداً عن بطانة السوء التي اتخذها النظام البعثي العلماني الذي التقط

طُعم المؤامرة بكل غباء وغرور.

* حرب الخليج الأولى: حرب الإرباك:

جاءت هذه الحرب بإطماع غربي لصدام حسين، بعد عام واحد من تسلمه

السلطة، بأن يدخل في منازلة كبرى لتصفية الثورة الإيرانية الناشئة التي قام بها

الشعب الإيراني عام 1979م، ضد الحكومة الموالية للغرب وأمريكا بزعامة شاه

إيران السابق (رضا بهلوي) ، ومهما قيل عن ملابسات نشوب تلك الحرب

ونتائجها، فقد جاءت تحقيقاً لرغبة يهودية أمريكية، وتطبيقاً لسياسة عبَّر عنها

وزير الخارجية الأمريكي اليهودي الأسبق (هنري كيسنجر) عندما قال أكثر من

مرة: «سياستنا تجاه هذه الحرب: ألا تُهزم إيران، وألا ينتصر العراق» !

فالسياسة الأمريكية كانت مع مد الحرب بأسباب الاستمرار، حتى طالت مدة ثمانية

أعوام، حصدت فيها أرواح نحو 450 ألف عراقي، وتكبدت إيران مليوناً من

القتلى والجرحى والمشردين، وأنفقت في تلك الحرب عشرات المليارات من

الدولارات التي دخلت خزائن الغرب مقابل صفقات السلاح للطرفين، والتي كان

من أغربها شراء إيران السلاح من (إسرائيل) بوساطة من الرئيس الأسبق رونالد

ريجان، فيما عرف بفضيحة (إيران جيت) .

ورغم طول الحرب وشدة مقاومة الإيرانيين لجيش صدام حسين في تلك

الحرب، فقد خرج العراق منها بجيش نظامي يضم 600 ألف مقاتل نظامي،

إضافة إلى 500 ألف مقاتل غير نظامي، وببرنامج متقدم للأسلحة الكيمياوية وثانٍ

للصواريخ، وثالث لصنع السلاح النووي.

وإن كان كل هذا قد جاء على حساب الاقتصاد الذي بدأ يعاني الاختناق بسبب

خسائر بلغت 452 مليار دولار، وتعويضات بلغت 97 مليار دولار، فظل صدام

يبحث عن مخرج؛ لأنه عندما تتضاعف القوة العسكرية، وتضعف القوة

الاقتصادية فلا مناص من حل مغامر، ينقذ القوتين أو يفقدهما معاً، وذلك ما حدث!

* حرب الخليج الثانية: حرب الإنهاك:

كان خروج العراق قوياً من الناحية العسكرية من حرب الخليج الأولى مقلقاً

للغرب، وبالرغم من أن تلك الحرب كانت بداية لاستنزاف ثروات المسلمين في

بلدان الخليج كلها، إلا أن ذلك لم يخفف من أحقاد الأمريكيين والأوروبيين، ولم

يجفف ينابيع الحسد في قلوبهم على ما أفاء الله تعالى به على شعوب تلك المنطقة

من خيرات، وصدق الله إذ يقول: [مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ وَلاَ

المُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو

الفَضْلِ العَظِيمِ] (البقرة: 105) .

وأعداء المسلمين يعلمون أن ثروات المسلمين لا بد أن ينصرف نصيب منها

مهما قل لصالح دعوة الإسلام التي يبغضونها ويكرهون العزة لها.

ولا بد أن يخصص نصيب منها لتسليح الجيوش وتقويتها؛ لهذا كان لا بد من

كَرَّة أخرى من الحرب في المنطقة، لا يكون فيها منتصر ولا مهزوم، بل الكل فيها

خاسر ومأزوم.

وبوحي من شياطين الإنس؛ تنزلت على صدام إلهامات (البعث العربي

الاشتراكي) ليقود «نضال» القومية العربية من أرض الكويت المنهوبة إلى

أرض فلسطين المغصوبة، بعد عامين فقط من انتهاء الحرب مع إيران، وصدَّق

الناس الشعارات، بل صدقها صاحبها حين لم يجد مخرجاً لتجييش الأمة من ورائه

بعد الورطة سوى أن يطلق على (إسرائيل) عدداً من الصواريخ التي حرص

مطلقوها أن يجردوها من أي أسلحة كيمياوية أو بيولوجية كتلك التي أُمطر بها

الشيعة في إيران، أو الأكراد في (حلبجة) ! والتي قتلت ما لا يقل عن خمسة

آلاف كردي، في حين أن خسائر إسرائيل من صواريخ صدام السبعة والثلاثين

كانت قتيلاً واحداً سقط عليه أحد الجدران.

لقد قامت تلك الحرب التي أرادت أمريكا قيامها، بإعطائها لصدام ضوءاً

أخضر لغزو الكويت [2] ، وسرعان ما حشدت أمريكا العالم خلفها، لا لافتداء حرية

الكويت ولكن لإفناء قوة العراق وبسط السيطرة على منابع النفط وإتمام حماية دولة

اليهود من أي خطر مستقبلي، وقد ظهرت نوايا أمريكا تجاه العراق والعراقيين على

لسان جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي في عهد بوش الأب؛ حيث قال لطارق

عزيز في الاجتماع المثير الذي ضمهما قبل بدء الحرب بأسبوع: «إذا استمر

العراق على مواقفه؛ فسنرجعه إلى عصر ما قبل الصناعة» ! وقد بدأ تنفيذ هذا

الوعيد مع بدء الحرب؛ حيث ألقي على الشعب العراقي أكثر من مائة ألف طن من

المتفجرات، منها مئات الأطنان من اليورانيوم المنضب [3] ، وذلك طوال مدة

الأربعين يوماً التي استغرقتها الحرب، وكانت قوات التحالف بزعامة أمريكا قد

حشدت لتلك الحرب 850 ألف عسكري، و 750 طائرة، و 60 سفينة حربية،

و1200 دبابة.

وكان الجنرال (ميشيل دوغان) رئيس هيئة أركان القوات الجوية الأمريكية

قد وجه قادة قواته «باستهداف كل ما هو فريد في حضارة العراق، وكل ما يعتبره

العراقيون قيماً علياً، وكل ما يترك أثراً نفسياً على الشعب العراقي» ، وقال لهم:

«إن الطرق، وسكك الحديد، ومنظومات الطاقة أهداف جيدة، ولكنها ليست

كافية» ! وقد نفَّذ غربان الجو الأمريكان تلك التعليمات بأمانة الخونة وإخلاص

المجرمين عندما يتفانون في إتقان الجرائم الهمجية ضد الشعوب، واستمرت ترجمة

تهديدات جيمس بيكر بإرجاع العراق إلى عصر ما قبل الصناعة على أرض

الواقع طيلة السنوات التي أعقبت الحرب؛ من خلال حصار ضار ألحق

بالعراقيين أسوأ مما حاق بهم أثناء الحرب، وقد شهدت الأمم المتحدة التي

أصدرت قرارات الحصار وأشرفت على تنفيذه؛ أن (وعد بيكر) قد تحقق، وذلك

على لسان وكيل المنظمة الدولية للشؤون الإدارية (مارتي إيتسارى) ، فقد قام

بزيارة إلى العراق في مارس (آذار) 1999م، وعاين بنفسه مدى الدمار الذي

أحدثته الحرب وما تبعها من حصار، وأدلى بتصريح بعد الزيارة قال فيه: «لا

شيء مما رأيناه أو قرأناه من الذي أصاب هذا البلد يمكن التعبير عنه، لقد تسببت

الحرب والحصار في نتائج لا يمكن تصورها على البنى التحتية الاقتصادية.. إن

العراق الذي كان حتى يناير 1991م بلداً مدنياً وتقنياً إلى حد بعيد، قد أعيد الآن

إلى عصر ما قبل الصناعة» ! وعصر ما قبل الصناعة الذي أُعيد إليه العراق، لم

يكن في المجال الاقتصادي فقط، بل شمل المجال الطبي والتعليمي والإعلامي تحت

ظل الحصار المتواصل، وأما المجال العسكري؛ فقد خسر العراق بانتهاء الحرب

أربعة آلاف دبابة، و 1300 قطعة مدفعية، و 240 طائرة، و 1856 عربة

لنقل القوات، وما بين سبعين إلى مائة ألف جندي، بحسب التقديرات الغربية!

ولكن العراق على الرغم من كل ذلك؛ ظل شبحه مخيفاً للغرب وإسرائيل، فقد

ظل الجيش العراقي بعد حرب الخليج يضم 400 ألف مقاتل، ويمتلك 2500 دبابة،

و1500 قطعة مدفعية، و 300 طائرة رابضة على أراضيه بخلاف ما احتجزته

إيران، وما امتنعت عن تسليمه تونس من الطائرات التي أودعها العراقيون لديهم

إبان بدء الحرب.

إن بقاء تلك القوة في الجيش العراقي، إضافة إلى بقاء صدام نفسه على رأس

الحكم في العراق، جعل الشعب الأمريكي ينظر إلى انتصار جورج بوش الأب

على أنه انتصار ناقص، ولهذا لم يشفع له تحرير الكويت ولا السيطرة على آبار

النفط في الخليج في أن يجدد الأمريكيون له مدة رئاسية ثانية؛ فأسقطوه بجدارة،

ولحقت بحزبه الجمهوري ذي الاتجاه اليميني الديني هزيمة منكرة، أضافت إلى

أحقاده ضد العراق أحقاداً جديدة.

* سنوات الحصار:

كان عهد كلينتون بالنسبة للعراق عهداً أسود؛ إذ في ظله شُددت وطأة

الحصار على المدنيين، وكُثفت حملات التفتيش على الأسلحة، وأظهرت سنوات

الحصار العشر الماضية، أن أمريكا قصدت منه إيذاء الشعب العراقي قبل الحكومة

العراقية، وهذا مسلك أمريكي عريق في ممارسة الظلم ضد الشعوب، عبَّر عنه

السياسي الأمريكي الشهير «مستر دالاس» بقوله: «إن الحظر الاقتصادي سلاح

شامل جداً، وبديل دائم لاستخدام القوة التي تثير النفور» ! وعندما يتخطى الحظر

الاقتصادي الغذاء والكساء ويصل إلى الدواء، فالحظر عندئذ ليس سلاحاً شاملاً فقط

كما يقول دالاس بل هو دمار شامل.

والولايات المتحدة هي أكثر دول العالم استخداماً لهذا الدمار الشامل، وهي إذ

تمارس هذا القتل الجريء البطيء؛ تحاول دائماً أن تغطي وجهها القبيح بأقنعة

الخداع المصنوعة في أروقة منظمة الدجل الدولية: الأمم المتحدة، يقول (تام داليل)

عضو مجلس العموم البريطاني معلقاً على صيغة (النفط مقابل الغذاء) التي تم

ابتكارها لتجميل بشاعة الحصار: «صيغة النفط مقابل الغذاء مكيدة سياسية،

هدفها» تبرئة الذمة «مما يحدث للشعب العراقي، فهي عملية نزع مستمرة لمدنية

وتطور العراق تحت إشراف الأمم المتحدة» ! والحصار الذي بدأ مع حرب الخليج

واستمر لأكثر من عشر سنوات بعدها، كان تتمة لمهمة إنهاك العراق، فقد كان

بوسع الولايات المتحدة أن تجبر صدام حسين على وثيقة يقر فيها بالهزيمة، ولكنها

لم تفعل، بل أرادت أن تسمح له بأن يدعي الانتصار أمام شعبه ريثما تكتمل مهمة

التنكيل بالشعب العراقي وابتزاز الشعوب المجاورة له، فالحصار دائماً لا يُسقط

الحكومات، ولكنه يذل الشعوب ويضعفها إلى الحد الذي يمكِّن الأنظمة منها أكثر

وأكثر.

حصيلة حصار السنوات العشر الماضية تؤكد هذه المقولة، وشعب العراق

اليوم أضعف منه في أي مرحلة فاتت، بينما ظل صدام متمكناً من السلطة ولم يهزه

الحصار الطويل عن كرسيه الصلد.

لقد كانت الخسائر البشرية من جراء ذلك الحصار أكثر مما خسره العراق في

حرب الخليج الأولى والثانية، ويزداد الأمر أسى عندما نعلم أن المليون ونصف

الذين فقدهم العراق من ذلك الحصار الممتد، أكثرهم من الأطفال، وبشهادة

(دينيس هاليداي) الرئيس السابق لبرنامج «النفط مقابل الغذاء» التابع للأمم

المتحدة، فإن العراق يفقد شهرياً ما بين 5 إلى 6 آلاف طفل نتيجة الحصار، وهذا

أيضاً ما قررته «منظمة اليونيسف» و «منظمة الصحة العالمية» التابعتان للأمم

المتحدة، بل إن تقارير تلك المنظمة تقول إن المعدل المذكور من الضحايا قد يكون

أقل من المعدل الحقيقي؛ نظراً لأن نسبة كبيرة من وفيات الأطفال في القرى أو

الأماكن الفقيرة لا تسجل أصلاً.

وتقول الأرقام المتداولة إن 30% من العراقيين يعانون من سوء التغذية في

ظل الحصار. ويذكر (دينيس هاليداى) [4] أيضاً في حديث له مع قناة الجزيرة

في أن 25% من تلاميذ المدارس في العراق يتركون الدراسة للتفرغ لأي عمل

يضمن كسب القوت اليومي، كما أن نحو عشرة آلاف مدرس تركوا مهنة التدريس

واتجهوا لأعمال أخرى لأسباب معيشية.

نقول: هل يعقل أن يجوع العراقيون وهم يسكنون أرض الرافدين، وبلدهم

هو البلد الذي يملك ثاني احتياطي للنفط في العالم؟!

إنه لأمر محيِّر! ولكن ضباب الحيرة يتلاشى عندما نتذكر قول الرسول صلى

الله عليه وسلم عن خطورة تولية الأمور لغير أهلها: «إذا وسِّد الأمر لغير أهله

فانتظر الساعة» [5] .

ومن عجيب الأمر أن يخبر الرسول صلى الله عليه وسلم عن جوع يصيب

أهل العراق قبل قيام الساعة، نظن والله أعلم أن المقصود به هو ما يحصل الآن

للعراقيين، فقد قال عليه الصلاة والسلام: «يوشك أهل العراق أن لا يُجبى إليهم

قفيز ولا درهم. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَل العجم يمنعون ذاك. ثم قال:

يوشك أهل الشام ألا يُجبى إليهم دينار ولا مُدْيٌ. قلنا: من أين ذاك؟ قال: من قِبَل

الروم» [6] .

نحن أمام معدل من ضحايا الجوع يساوي أكثر من ضعف ضحايا القتل في

11 سبتمبر، يُقتلون شهرياً على مرأى ومسمع من العالم «الحر» والعالم

المستعبد أيضاً.

* لعبة الأزمات وتعميم العقوبات:

إذا كان الشعب العراقي هو المقصود المباشر بالحصار والعقوبات الاقتصادية

خلال السنوات الماضية؛ فإن المجتمعات العربية الأخرى قد استُهدفت بعقوبات

أخرى، تمثلت في عمليات شد الأعصاب، واللعب بالأزمات لابتزاز الأنظمة

وإرهاب الشعوب، فعند إعادة قراءة الأحداث منذ انتهاء حرب الخليج الثانية، تبدو

الولايات المتحدة الأمريكية على مسرح أحداث الخليج المتتالية، كمثل شخص يقوم

بدور (مخلِّص) بين طرفين يتشاجران، ولكنه بدلاً من أن يفض المشاجرة ويقنع

الطرفين بالانصراف لحال سبيلهما، إذا به يتشاجر لئلا تنتهي المشاجرة!! فيظل

يحرك الأحقاد ويثير الضغائن بين المتخاصمين، ويذكرهما بأسباب الشقاق كلما

اتجها نحو الهدوء، أو تعبا من الصراع! هذا ما كانت الولايات المتحدة تقوم به

بانتظام لضمان توتر العلاقة بين العراق وجيرانه، وإلى جانب ذلك أشعلت الولايات

المتحدة أزمات عدة خلال السنوات العشر الماضية، كانت توظفها بلا شك

لمصالحها ومصالح الدولة العدوة (إسرائيل) ، ولا يُعفى نظام صدام من تهمة الغباء

في الاستجابة لدعوات الإثارة في بعض المرات، فإنه كان يظهر في أحيان كثيرة،

وكأنه يؤكد ما تتهمه به أمريكا من أنه يمثل خطراً على جميع جيرانه، بل على

جميع العالم.

- ففي أزمة عام 1993م، وفي بداية عهد بيل كلينتون، ادعت الولايات

المتحدة أن بعض العملاء العراقيين حاولوا الاعتداء على حياة الرئيس السابق

جورج بوش (الأب) أثناء زيارته للكويت، وقبل أن تثبت أمريكا ذلك سارعت

كعادتها بتنفيذ العقوبة قبل إثبات التهمة، فأمطرت بغداد بوابل من صواريخ

(كروز) ، لم يسقط أي منها على أحد من المتهمين بمحاولة الاعتداء، ولكن

الصواريخ فقط روعت الشعب المنكوب الخارج لتوِّه من حرب الانتقام التي سميت

«حرب التحرير» !

- وفي أزمة عام 1996م كانت الولايات المتحدة قد أغرت الأحزاب الكردية

العلمانية بالانقلاب على النظام، وبينما هم يقومون بتشجيع منها بثورتهم

وانتفاضتهم في الشمال؛ إذ بها تضرب بـ (كروز) في الجنوب!

- وفي أزمة 1997م كانت الولايات المتحدة قد دبرت بالتعاون مع لجان

التفتيش بالأمم المتحدة أزمة جديدة، تتعلق باتهام النظام العراقي بتخزين أسلحة

الدمار الشامل في القصور الرئاسية، وهددت أمريكا وتوعدت وحشدت حشودها

مرة أخرى لخوض حرب جديدة إذا لم يسمح صدام بتفتيش القصور! وكعادته:

تمنَّع صدام وترفع، وجادل وماطل، فأوحى للعالم أن أمريكا صادقة في ادعائها،

وحبست دول العالم أنفاسها، وجهزت دول الجوار نفسها لحرب طاحنة جديدة،

كانت لها بالطبع صفقاتها وميزانياتها ولكن ... وفي النهاية سمح صدام بتفتيش

المواقع الرئاسية البالغة ستين موقعاً، فلم تقع لجان التفتيش في داخلها على أي

شيء محظور! ومضت الأزمة ...

- وفي منتصف عام 1998م افتعلت أمريكا عن طريق لجان الأمم المتحدة أو

بالأحرى لجان الولايات المتحدة للتفتيش على أسلحة الدمار الشامل أزمة جديدة؛

بادعاءات عن وجود غاز (في إكس) القاتل، بكميات كبيرة داخل العراق، ولما لم

تجد له أثراً في طول البلاد وعرضها، إذا بها تفتش في دفاترها القديمة، فوجدت

أنه من الممكن أن يكون هذا الغاز قد استخدم في الماضي، فأمرت بالبحث عنه بأثر

رجعي!!

وبالفعل أثيرت ضجة كبرى حول جريمة استخدام هذا الغاز أثناء الحرب

المنتهية، وأصر الأمريكيون على اختبار بقايا الصواريخ العراقية التي استخدمت

في حرب الخليج، وتوسطت الأمم المتحدة في ذلك، وأمرت بشحن رفات

الصواريخ إلى فرنسا وسويسرا، وكانت المفاجأة!

لقد أعلنت الدولتان أن الصواريخ كانت خالية من أي أثر للغاز السام، فكان

هذا بمثابة تكذيب لأمريكا، وتخطئة لها في إثارة الأزمة الجديدة، فما كان من

الأمريكان إلا أن كذبوا التكذيب وخطؤوا التخطئة، وبدؤوا يستعدون للبحث عن

أزمة جديدة مفتعلة!

- في عام 2000م تبين للسلطات العراقية أن لجان التفتيش التابعة للأمم

المتحدة تضم في عضويتها جواسيس صرحاء، منهم يهود إسرائيليون، وهنا أمرت

السلطات بطرد تلك اللجان، فاعتبرت الولايات المتحدة هذا القرار من العراق

بمثابة تفويض مفتوح لأمريكا بأن تتصرف بمفردها لمواجهة خطر العراق على

سلام المنطقة وسلام العالم، وسلام الأمن القومي الأمريكي نفسه!

وظلت أمريكا، منذ ذلك الحين، توحي للعالم بأن صدام انتزع بالقوة فرصة

الانفراد بصنع أسلحة الدمار الشامل، دون أي رقابة من أي جهة دولية!

وتركت الولايات المتحدة والأمم المتحدة العراق منذ ذلك الحين بلا رقابة ولا

تفتيش، كي تحكم ترتيب مسرحية ترهيب جديدة لدول المنطقة، تتلخص روايتها

في أن صدام قد نجح بالفعل في إعادة بناء قوة جبارة تقليدية وغير تقليدية يمكن بها

أن يعيد غزو جيرانه ويهدد سلام العالم، بل أعلنت بريطانيا أنه قد يكون نجح

بالفعل في صناعة قنبلتين نوويتين؛ ليتناسب ذلك مع بشاعة المسرحية المبيتة.

وتُرك موعد رفع الستار عن أولى فصول المسرحية لكي يتواكب مع مرحلة

جديدة؛ يكون العالم فيها مهيأ لتصديق أي أكذوبة أمريكية جديدة تتعلق بصدام حسين،

ولو كانت أكذوبة من العيار الثقيل مثل: تعاون صدام مع تنظيم القاعدة!

وقبل أن أغادر هذه النقطة، أود الإشارة إلى أن سياسة التوتير والتخويف

واللعب بالأزمات، قد آتت أكلها وألقت به في فم الشراهة الأمريكية، على شكل

صفقات ضخمة من مبيعات الأسلحة للدول العربية، فالعرب الذين أقنعتهم أمريكا

بوداعة (إسرائيل) ولطفها وحرصها على سلام دائم وشامل وعادل مع جيرانها؛

استطاعت أيضاً أن تقنعهم بأن بعضهم لبعض عدو، وهذا يستدعي مزيداً من

التأهب، ومزيداً من التسلح، ومزيداً من الإنفاق العسكري الذي ينزف من قلوب

شعوب العرب دماً؛ ليسيل في خزائن ذئاب الغرب ذهباً!!

بلغ الإنفاق العسكري في منطقة الشرق الأوسط عام 1998م حوالي 60 مليار

دولار (مع أنه لم تقم أي حرب) ، ولم يختلف إنفاق عام 1999م عنه كثيراً، أما

في عام 2000م وما بعده فقد زادت معدلات الإنفاق على التسليح في المنطقة؛ بفعل

التوترات التي بدأت تظهر مع بدء أحداث فلسطين، وبالرغم من أن دول الخليج

ليست طرفاً مباشراً في الصراع العسكري مع اليهود، فإن أثر التخويف بصدام

خلال السنوات العشر الماضية ظهر في ارتفاع معدل الإنفاق العسكري لتلك الدول،

فالإنفاق على التسليح في الخليج يأتي في المرتبة الأولى على الخريطة الإقليمية،

وهو يمثل 12% من إجمالي الدخل القومي لدول الخليج، و 70% من مجموع

الإنفاق العربي على التسليح، و 120% من إجمالي إنفاق دول الطوق المحيطة بـ

(إسرائيل) ! ومع أن الدولة العدوة تنهال عليها نفقات التسليح بسخاء من كل أعداء

المسلمين في العالم وعلى رأسهم أمريكا؛ فإن تقريراً لمعهد الدراسات الاستراتيجية

في واشنطن صدر عام 2000م؛ يؤكد أن الدول العربية تتفوق على دولة اليهود من

حيث الكم في الأسلحة التقليدية!! ماذا يعني هذا؟! وضد من يكدس هذا السلاح؟!

ولصالح مَنْ سيحارب بهذا السلاح أو سيختزن والشعب الفلسطيني لا يزال يقاتل

بالحجارة؟!

* حرب الخليج الثالثة: حرب الإنهاء:

تتعامل أمريكا في حربها ضد العراق على طريقة الرياضة الإجرامية الإسبانية

اللاإنسانية المسماة (مصارعة الثيران) ، فبعد ثلاثة عشر عاماً على نهاية حرب

الإرباك (الخليج الأولى) ، وأحد عشر عاماً من انتهاء حرب الإنهاك (الخليج

الثانية) ؛ تعاد تهيئة المسرح لحرب خليج ثالثة؛ يراد لها أن تكون حرب الإنهاء

لسيادة العراق ولوحدة أراضيه وقوة كيانه، حرب جديدة تتهيأ للنشوب، بالطاقم

نفسه (من الطرفين) ، وبالوجوه والأسماء نفسها، حتى اسم الزعيم الغائب

(جورج بوش) قد عاد في عملية استنساخ انتخابية هزلية (متخلفة) جاءت بولده

إلى كرسي الرئاسة بعد ست سنوات، بفارق عدد ضئيل من الأصوات المفروزة

بالأيدي، فيما يشبه جمهورية ملكية في أكبر بلدان الديمقراطية! وكأن الطاقم نفسه

والأسماء نفسها بل والصراعات والشعارات نفسها؛ يستعد أبطالها لإعادة تمثيل

مشهد لم يحسن المنتج إخراجه في المرة السابقة! جاء جورج بوش (الابن)

ليصحح أداء جورج بوش (الأب) ، ويسد الثغرات العملاقة في ملحمته الناقصة.

هذه أهم معالم مرحلة بوش الثاني منذ بدأت؛ حيث بدأ عهده الرئاسي، وقبل

أن يثبَّت رسمياً؛ بإطلاق عدة صواريخ على العراق، في إشارة واضحة تقول

للعالم: ها قد عاد جورج بوش للصدام مع صدام! وها هي أمريكا قد عادت لتشغل

العالم وتشعله بدعوى التصدي لخطر العراق.

ولكن حدثاً هائلاً شوش على انتظام المسيرة المثيرة، وهو تحول الخطر

الوهمي ضد أمريكا إلى خطر حقيقي بوقوع أحداث سبتمبر، فكان لا بد من ربط

بين الخطرين: الوهمي والحقيقي، الأسطوري والواقعي؛ لأن أمريكا لم تعد في

وارد اللعب بالأحداث واللعب بالأزمات واللعب بالشعوب كما كان عهدها، فقد

أدخلتها أحداث سبتمبر في محل المفعول به، بعد أن احتكرت على نحو دائم محل

الفاعل المرفوع بالجبروت!

وبعد عام من أحداث سبتمبر التي تعرضت فيها أمريكا للغزو الجوي المدني؛

يجد الأمريكيون أنفسهم في حكم المضطرين للتعجيل بغزو مؤجل منذ أكثر من عشر

سنين وهو غزو العراق، وتغيير نظام الحكم فيه بالقوة الداخلية أو الخارجية. وهو

غزو له دوافعه العديدة وأهدافه البعيدة، وقد يبعد بعضها أو يقرب من هواجس ما

بعد سبتمبر، ولكنه لا يبعد أبداً عن الثأر التاريخي، النصراني اليهودي، مع

أرض العراق وشعب العراق.

لقد أطلق جورج بوش بعد أحداث سبتمبر على العراق وإيران إضافة إلى

كوريا الشمالية وصف (محور الشر) ، وهذا الوصف «التوراتي» لم يأت جزافاً،

فاليميين الإنجيلي الحاكم في أمريكا الآن؛ يدين بمنظومة عقائدية تقسم العالم دينياً

إلى محورين: محور للشر يسكن الشرق، ومحور للخير يعيش في الغرب أو ما

يدور في فلكه، هذا ما يبثه فيهم القساوسة الإنجيليون اليمينيون في أمريكا وغيرها،

وهكذا تعلم تلميذهم البار (جورج بوش) الأب والابن معاً.

وكما سبق أن ذكرت؛ فإن التوراة التي يستمد منها الحكام العقائديون عقائدهم

في أمريكا وغيرها، تجعل من (إسرائيل) محوراً لاهتمام العالم حتى تقوم الساعة؛

وتجعل من العراق أهم خطر على ذلك المحور، وعلى الرغم مما يبدو على ذلك

الطرح الصهيوني الإنجيلي من علامات الخرافة والأسطورية؛ فإن تعامل النصارى

البروتستانت معه في السنوات الأخيرة يثبت أنهم ينطلقون في تحركاتهم بالفعل من

«مسلَّمة» أن (إسرائيل) هي المركز المحرك لمحور الخير، والعراق هي

المركز في محور الشر، وأن مركز محور الخير سيضم إليه مع الزمن عناصر من

قوى الخير، في حين أن المركز في محور الشر سيجذب إليه مع الزمن أيضاً

عناصر من قوى الشر.

ومما يزيد الطين بلة؛ أن الدعاية الإنجيلية التي تروج لاعتبار صدام حسين،

هو رمز الشر الآتي من الشرق، تستند إضافة للنبوءات التوراتية، إلى نبوءات

الكاهن الفرنسي اليهودي الشهير (نوستراداموس) المتوفى سنة 1566م والذي كاد

الغربيون يعدونه نبياً في تصديقهم لنبوءاته التي يقولون إنه قد تحقق منها الكثير،

يقول هذا المنجم في كتابه الشهير (قرون) في النبوءات القريبة من الألفية الثالثة:

«ملك أوروبا يأتي كالنسر، مصحوباً بأهل الشمال، يقود جيشاً من الأحمر

والأبيض، يذهبون ضد ملك بابل، (ماباس) [7] سيموت، بعدها دمار رهيب

للإنسان والحيوان، فجأة يظهر الثأر، عطش وجوع عندما يمر المذنب» [8] .

* التعجيل بالحرب.. دوافع وأهداف:

اجتمعت لأمريكا عدة دوافع لتحقيق عدة أهداف، أصبح من الواضح أن حرباً

ثالثة في الخليج هي المنفذ الأقرب إن لم يكن الوحيد لتفعيلها في الواقع، وهناك

مستجدات تدفع للتعجيل بتلك الحرب، إضافة للاستحقاقات القديمة التي يرى

الأمريكيون والإسرائيليون أنه قد آن الأوان لفتح ملفاتها أو خرائطها على جبهة

الصراع، وعلى رغم التداخل الشديد بين الدوافع والأهداف؛ فإن الجامع بينهما هو

أن أعداء الأمة يريدون تسديد ضربة إجهاضية جديدة تكفي لتجميد مسيرتها، بل

تدفعها إلى التقهقر على مستوى الزمان والمكان والإنسان، ولو رجعنا نتأمل في

معطيات الأحداث والدراسات والتصريحات المتعلقة بذلك الشأن في السنوات

والأشهر الأخيرة، لوجدنا أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد من إشعال حرب ثالثة

في الخليج تحقيق ما يلي:

1 - إلغاء دور العراق كمصدر إزعاج وخطر واقع أو متوقع على مصالح

أمريكا وإسرائيل، لتدخل المنطقة في مرحلة (السكون التام) والخضوع الكامل

الذي يسمح لأمريكا وإسرائيل أن تتحركا في طول المنطقة وعرضها، بعد كسر

إرادة التحدي لدى الشعوب والحكومات على السواء، ولو كان هذا التحدي بمجرد

الشعارات، ويتم ذلك بإغلاق الجبهة الشرقية (النظرية) في العراق بعد أن تم

تكبيل الجبهة الغربية (الواقعية) في مصر بعملية كامب ديفيد، وبهذا يقفلون إلى

أمد غير معلوم ملف ما كان يسمى بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) .

2 - فرض وجود عسكري أمريكي جديد في المنطقة قد يأتي وراء (تحالف

شمالي) عراقي؛ يفضي إلى تنصيب (الكرزاي العراقي) الجديد الذي ستنصبه

أمريكا؛ ليكون عبداً لها، وصديقاً لربيبتها (إسرائيل) ، وهو ما يعطي رسالة

لشعوب المنطقة بأنها أصبحت تعيش عصر ما بعد الدكتاتورية وما بعد الديمقراطية،

وهو عصر الحكومة العالمية الأمريكية الصهيونية.

3 - بسط السيطرة على نفط العراق الذي يمثل ثاني أكبر احتياطي في العالم؛

ليضم إلى بقية منابع النفط التي تضع أمريكا يدها عليها؛ لكي تؤمن لنفسها

ولحليفاتها في الغرب في الخمسين سنة القادمة موارد لا تنضب إذا أوشك نفط

الشمال على النضوب.

4 - استعادة الهيبة الأمريكية التي تمرغت في الوحل على هضاب وسفوح

أفغانستان؛ حيث لم تفلح أمريكا بعد عام من أحداث سبتمبر في تحقيق أهدافها

المعلنة في أفغانستان، وعلى رأسها القضاء التام على تنظيم القاعدة وحركة الطالبان

اللتان ما زالتا تتحديانها وتنزلان بها الخسائر بشكل دوري، وتهددان استمرار

سيطرة الحكومة الأمريكية العميلة هناك.

5 - الإتيان على ما تبقى من مظاهر التماسك في اقتصاد الدول العربية؛

باستنزاف جديد لمواردها قد يزيد على ما أنفق في حرب الخليج الثانية؛ حيث

أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية أن الحرب القادمة ضد العراق قد تصل تكاليفها

إلى مائتي مليار دولار، وهو أكثر من ضعفي تكاليف حرب الخليج الثانية.

6 - التمهيد للمرحلة التالية في حرب أمريكا على الإسلام التي سمتها (الحملة

العالمية على الإرهاب) ، والتي تعد إيران بحسب الترتيب المنطقي مكان الجولة

القادمة فيها باعتبارها العضو الثاني في (محور الشر) الذي اصطنعته أمريكا.

وإقدام الولايات المتحدة على ضرب إيران بعد العراق، هو ضرب في الوقت نفسه

لسوريا ولبنان وهما البلدان اللذان يستمدان ويستوردان ما تبقى من إرادة التحدي

فيهما من مساندة ومساعدة إيران، وكل هذا يحتاج إلى تجريب الأسلحة الجديدة التي

أعلنت أمريكا أنها لم تستخدم بعد!

7 - إعطاء مشاريع الدولة الصهيونية في المنطقة دفعة جديدة، فالحرب مرة

أخرى في الخليج إضافة إلى كل ما سبق قد تعطي (إسرائيل) فرصة ذهبية لإنهاء

الانتفاضة الفلسطينية الثانية، كما أنهت حرب الخليج السابقة الانتفاضة السابقة.

يضاف إلى ذلك أن بسط أمريكا لسيطرتها على العراق سيقرب دولة اليهود إلى حد

كبير من تحقيق حلم (إسرائيل الكبرى) ؛ فعندما تنصَّب حكومة موالية لأمريكا أي

موالية لإسرائيل على شط الفرات؛ فما الذي سيمنع (إسرائيل) مع الوقت من أن

تبسط مزيداً من السيطرة الإدارية [9] بالاشتراك مع أمريكا على المنطقة الممتدة من

النيل إلى الفرات؟!

ومشروع آخر عاجل ينتظره نصارى أمريكا قبل يهود (إسرائيل) وهو

إنجاز المشروع المؤجل منذ خمسين عاماً، بل منذ ألفي عام وهو مشروع إعادة بناء

الهيكل الثالث. وهو المشروع الذي سبق أن قلت في مقالات عديدة إنه الخطوة

الثالثة [10] المنتظرة في العقائد الألفية اليهودية والنصرانية، وهي الخطوة التي

سيحتاج تمريرها حتماً إلى ألسنة دخان كثيفة في حرب كبرى مثل حربَي 1948م

و1967م؛ تغطي بكثافتها لا قدر الله على المخطط الشرير وتمرره، وقد تكون هذه

الحرب هي حرب الخليج الثالثة نفسها في حال خروجها عن حدودها، أو حرباً

أخرى (سابعة) [11] بين العرب وإسرائيل.

* وبعد:

قد تبدو الصورة مظلمة قاتمة، ولكننا نؤمن أنه الظلام الذي يسبق بزوغ

الفجر، أو الفجر الذي يسبق الإشراق، إشراق الإسلام على أركان الأرض الأربعة،

حتى (لا يترك الله بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله هذا الدين، بعز عزيز أو بذل

ذليل، عزاً يعز الله به الإسلام، وذلاً يذل الله به الكفر) [12] كما أخبر الصادق

المصدوق صلى الله عليه وسلم، ولكن بين يدي هذا التفاؤل الذي لا يستند إلا إلى

لطف اللطيف الخبير سبحانه، نجد لزاماً علينا أن نقف مع حديث الحرب القادمة

الوقفات الآتية:

1 - شنآن وبغض النظام العلماني البعثي في العراق لا يمنعنا أن نقول عن

الحرب القادمة ضد العراق: إنها حرب ظالمة من دولة ظالمة في ظل شرعية دولية

ظالمة تسمح لأعداء المسلمين بكل أسباب القوة، بينما تنزع عن المسلمين كل

أسباب القوة سياسياً وعسكرياً واقتصادياً.

2 - تملّك السلاح الكيمياوي أو البيولوجي أو حتى النووي ليس جريمة في

ظل احتكار دولة اليهود للعديد من ترسانات تلك الأسلحة في المنطقة، ودعوى تمتع

(إسرائيل) بالمسؤولية والعقلانية في استعمال أسلحتها ضد الشعوب؛ ظهرت

مصداقيتها المزيفة في انتقامها المجنون من الفلسطينيين دون حاجة إلى أسلحة

تقليدية.

3 - الشعوب العربية المغلوبة على أمرها، والممنوعة من مجرد الهتاف ضد

ظلم الظالمين، مدعوة اليوم بأن تعد نفسها لمثل ما يفعل بجيرانها إذا هى لم تُعذر

إلى الله تعالى بالمستطاع من دفع المظالم عن إخوة الدين في العراق، وفلسطين

وغيرهما، فالذي يُسلم إخوانه اليوم؛ سيسلَّم لأعدائه غداً.

4 - على العلمانية العربية أن تعلن على ملأ الأشهاد عن إفلاسها بكل راياتها،

وتعترف بأنها هزمت في كل معاركها العسكرية والسياسية، وما ذلك إلا لموالاتها

لأعداء الأمة وحسن ظنها بهم، مع سوء الظن وسوء التعامل مع كل دعوات

الإصلاح والتصحيح التي تستهدف عودة الأمة الإسلامية لهويتها وشريعتها.

5 - الولايات المتحدة لا تزال تسير على درب الهاوية بخروجها عن كل قيم

العدل في التعامل مع الدول والشعوب، وإمعان تلك القوة الغاشمة في ظلم الشعب

العراقي وإذلاله؛ هو خطوة جديدة على طريق (انتحار أمريكا) ، واستنزالها

لمطارق السنن الإلهية والشرعية التي تدل على أن البغي هو أسرع الذنوب عقوبة.

6 - الربط أو الخلط المتعمد من الإعلام العلماني بين معارضة جمهور

الإسلاميين لضرب العراق، وبين تأييدهم لصدام حسين كما حدث من ذلك الإعلام

في حرب الخليج الثانية لا ينبغي أن يتكرر؛ لأن البواعث الإسلامية لا تتغير،

فالباعث الإسلامي على رفض حكم البعث وحكامه ما لم يثوبوا ويتوبوا؛ هو الباعث

على رفض التدخل النصراني واليهودي في شؤون المسلمين.

7 - للأمريكيين والإسرائيليين وسائر النصارى واليهود والمشركين أن

يصدقوا خرافاتهم التوراتية، ويبشروا بنبوءاتهم الإنجيلية، فهذا شأنهم، وهم أحرار

في مواقفهم من كتبهم المحرفة، وأساطيرهم المؤلفة. أما المسلمون فلا يسعهم أن

يبنوا مواقفهم على خيالات أو توهمات أو توسمات لا تستند إلى محكم النصوص

ودقيق الفقه، وقويم الاستدلال.

8 - دعاوى اليهود والنصارى في شخص صدام حسين بأنه هو المقصود

بالآشوري في نصوص التوراة التي بين أيديهم لن يخلو من ضلال وإضلال،

وتلبيس شيطاني لن يكون جديداً على أمتَي الضلال والغضب، وكيف لا يضلون

في معرفة حقيقة إنسان وهم الذين ضلوا عن معرفة رب الأكوان سبحانه وتعالى؟!

ودعاواهم على أية حال ليست إلا مسوغاً شيطانياً لممارسة المزيد من الظلم والإفساد

والعلو في الأرض.

9 - أما دعاوى بعض الإسلاميين وهم قلة في تزايد بأن صدام نفسه هو

المقصود فيما يسمونه بنصوص (الوحي القديم) وهو نفسه المقصود بـ (السفياني)

فيما جاء في الوحي الخاتم؛ فهي قضية متشابكة، تداخلت فيها الرؤى والأماني

الشخصية مع التحاليل والتفاسير العلمية [13] . ولكن الأمر مع هذا لا يخلو من

ثوابت لا بد من استحضارها واستصحاب فقهها عند النظر في مسائل انطباق

صفات (صدام حسين) أو عدم انطباقها على صفات (السفياني) المذكور في

الأحاديث، وأهم هذه الثوابت أن خلاص أمة محمد وانتصارها على جميع أعدائها

لا يتصور أن يجيء في نهاية المطاف كما يقول أصحاب هذه الدعوى [14] على يد

حزب ضال في منهجه، منحرف في سلوكه، متوحش في تعامله، لم نسمع عنه

توبة ولم يعلن زعماؤه عن أوبة أو رجوع ولو ظاهري عن التمسك والتشبث بمبادئ

حزب البعث المؤسس على دعائم الجاهلية المنتنة.

إن لهذه الأمة (طائفة منصورة) معروفة باستقامتها و (ظاهرة) بمنهجها،

لا تقاتل إلا على الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم حتى يأتي أمر الله

وهم على ذلك، كما تواترت بذلك الأحاديث، فهم لا يقاتلون لعصبية، ولا تحت

راية عمِّية، قومية أو وطنية، بل (يقاتلون على الحق) [15] كما جاء في

الأحاديث.

ومن أوجب واجبات الأمة الآن في العراق وفلسطين وأفغانستان وكل مكان،

أن تكف عن الانتظار (القدري) لمجيء هذه الطائفة، وتبدأ على الفور في الإعداد

(الشرعي) لها ولنهجها ولجندها وكيانها، فبها وبها فقط يتنزل نصر الله على

الأمة. [وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 40) .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015