مجله البيان (صفحة 4384)

كتاب " الإسلام وأصول الحكم " وذرائعية العلمانيين

في دائرة الضوء

كتاب " الإسلام وأصول الحكم "

وذرائعية العلمانيين

قراءة جديدة لكتاب قديم

حسن محمد الغزواني

تقديم:

يحرص العلمانيون في بلاد المسلمين على الترويج لبعض أفكار كتابٍ أثار

ضجة كبيرة وجدلاً حاداً، هو كتاب الشيخ علي عبد الرازق «الإسلام وأصول

الحكم» .

وعلى الرغم من الضعف المنهجي الواضح في أبحاث الكتاب وتجنيه الفاضح

على الحقيقة، فإن العلمانيين لا يفتؤون يوظفونه في مواجهتهم لدين الأمة والدعاة

إليه، مثلما يوظفون بعض الكتابات الصادرة عمن تميز بالشذوذ الفكري من الذين

انتسبوا إلى الأزهر في مرحلة من مراحل حياتهم، كما حدث مع خالد محمد خالد

وكتابه «من هنا نبدأ» [1] ، ومع طه حسين وكتابه «في الشعر الجاهلي» وغير

ذلك.

وقد نلمس في كثير من هذه الكتابات التي شذت الفكرة ونقيضها؛ بحيث يجد

المناصر والمخالف بغيتهما فيها، يكفي أن يعمد أحدهما إلى انتقاء فقرة من هنا أو

نص من هناك من إحدى تلك الكتابات؛ حتى يجعل صاحبها في صفه.

لكن هذه التناقضات لا ينبغي أن تكون مانعاً في نظر العلمانيين من الإلقاء بتلك

الكتابات في وجوه خصومهم الفكريين، ما دام يمكنهم تحقيق بعض «المكاسب

الأيديولوجية» من ورائها.

والغريب أن من العلمانيين من لم يطلع على الكتاب أصلاً، ومع ذلك نجده

يبيح لنفسه أن يصف الكتاب بـ «الطليعي الرائد» ، وأنه يتضمن «منهجاً

عقلانياً عاماً في التفكير، يتسم بالنظرة التحليلية والنقدية والتاريخية» ، وأن

«أبرز الاجتهادات والظواهر وأشدها عقلانية وجسارة تمثلت» فيه [2] .

وللحقيقة فإن حرص كثير من العلمانيين على تفنيد شعار «الإسلام دين

ودولة» بكل الوسائل، قد يدفعهم حتى إلى وسيلة التحالف مع السلطة التي

ينتقدونها، وتغيير وظيفة المعارضة لأجل ذلك التحالف إلى وظيفة متعاون مع النظام

الحاكم في بلدها، كما هي فكرة السياسي التونسي خميس الشماري [3] .

* السعي لإسقاط الخلافة:

وعودة إلى كتاب الشيخ علي فنقول إنه ظهر سنة 1925م، بعد سنة واحدة

فقط من إسقاط الخلافة، وتعود أسباب الضجة التي أثيرت حوله، في جزء كبير

منها، إلى ذلك التوقيت، ثم إلى صاحب الكتاب نفسه من حيث انتسابه إلى الأزهر

وانخراطه في سلك العلماء. على أن مما تجدر الإشارة إليه أن الكتاب صدر في

سياق عام طبعته حملة استعمارية ضد الخلافة، وكانت الحملة بمسعى إنجليزي

أساساً.

كانت أولى المحاولات الساعية لهدم الخلافة لرجل يُدعى «ويلفريد سكاون

بلنت» (wilfred Scawn رضي الله عنهlunt) ، وهو رجل رومانطيقي كان يكره تمدن

القرن التاسع عشر الميكانيكي، استقال من السلك الدبلوماسي سنة 1869م، وجال

في البلاد العربية والإسلامية بداية من عام 1873م، فزار إسطنبول والجزائر

والقاهرة، كما طاف صحراء سوريا والصحراء العربية مع زوجته (1877 -

1879م) ، ثم استقر بعد ذلك في مصر سنة 1880م للتعرف على الإسلام والتمكن

من أساليب العربية. وهناك التقى بمحمد عبده، كما التقى بالأمير عبد القادر

الجزائري أثناء وجوده بالشام، أما الأفغاني - رحمه الله - فلم يلتق به إلا في لندن

سنة 1882م بعد أن سمع عنه في مصر، وكانت له وساطة لم تفلح بين أحمد

عرابي وغلادستون في أزمة (1881 - 1882م) .

كتابه «مستقبل الإسلام» (لندن 1882م) سلسلة مقالات ركز فيها على

الدعوة إلى نزع الخلافة من يد العثمانيين وإسنادها إلى العرب، على أن تحول من

قوة سياسية إلى سلطة روحية «بابوية» ؛ إذ إصلاح الأمة الإسلامية متوقف في

نظره على العرب؛ حيث إن مستقبل الإمبراطورية العثمانية غامض في نظره،

ومن الممكن أن يترك الأتراك الإسلام إذا ما احتُلوا من طرف روسيا أو النمسا!

ويدعو «بلنت» في كتابه أيضاً إلى إعادة فتح باب الاجتهاد، ولن يكون ذلك

على يد العثمانيين؛ لأن طبيعة حكمهم لا تتفق حسب رأيه مع الاجتهاد، وهذه

الأفكار، خاصة ما يتعلق منها بالخلافة، طرحها «بلنت» على محمد عبده،

فقوبل طرحه بالرفض، كما أكد ذلك الشيخ رشيد رضا - رحمه الله - في تاريخه

عن أستاذه محمد عبده.

بعد محاولة «بلنت» قام ثلة من مجندي الاستعمار البريطاني الذين كونوا

«المكتب العربي» بالقاهرة تحت رئاسة «هوغارت» (Hogarth.G.عز وجل)

بهدف التجسس والتنسيق أمثال: بل، فيلبي، لورنس العرب ... فقاموا بالعمل

على بث الرغبة في تكوين دولة عربية لا تمت إلى الخلافة بصلة.

فنجد «جرترود بل» (Gertrude bell) (1868 - 1926م) مثلاً

قامت بدراسات أثرية لسنوات عدة بالمنطقة العربية، وكانت مساعدة للسيد برسي

كوكس (Percy cox) المندوب السامي البريطاني بالعراق، كما عملت بكل ما

تمتلكه من نفوذ على تولية «فيصل» صنيعة بريطانيا عرش العراق لخدمة

مصالح بلدها (1921م) ، لُقِّبتْ في بغداد بملكة العراق غير المتوجة، لجأت إلى

«شِنْشنة تعرف من يهود» خاصة: استثارة النزوات الفاجرة عند الداعرين

والخسيسين من رجال السياسة وغيرهم، في سورية بفيلا جميلة نعتت بين الفجار

باسم «مرتع العزوبة» ، وكان الهدف: التجسس وتحقيق مصالح بلدها [4] ومن

أقوالها عن العرب إن «العربي عبر القرون كلها لم يشتر حكمة من التجربة، فهو

غير آمن أبداً، ومع ذلك فإنه يتصرف وكأن الأمان خبزه اليومي» [5] .

أما توماس إداورد لورنس (lawrence.صلى الله عليه وسلم.T) (1888 - 1936م)

فقد كان ضابطاً بالمخابرات البريطانية خلال الحرب العالمية الأولى وبعدها، لقبته

الصحافة هو الآخر «ملك العرب غير المتوج» ، وهو الذي أقنع شريف مكة

بإعلان الثورة ضد الخلافة العثمانية، بعد أن مناه بتقليده شارة الخلافة، كما قاتل

ضدها إلى جانب القوات العربية واستطاع الدخول مع قوات فيصل إلى دمشق سنة

1918م. يقول عن سكان الإمبراطورية العثمانية: «لم تكن جميع الأقاليم

الخاضعة للإمبراطورية لتساوي لدي صبياً إنجليزياً واحداً ميتاً» [6] .

في خضم هذه المحاولات أصدر توماس أرنولد (صلى الله عليه وسلمrnold.T)

(1864 - 1930م) كتابه «الخلافة» سنة 1924م، وضمنه عدة أفكار منها:

- اعتبار نظام الحكم الإسلامي وضمنه الخلافه نظاماً استبدادياً مطلقاً وجائراً.

- اعتبار معظم الأحاديث التي أخذ منها نظام الخلافة أحاديث موضوعة كشف

وَضْعَها علماء الغرب!

- اعتبار سلطة الحاكم في الإسلام مطلقة، وتتم بالتعيين من الله سبحانه، ومن ثم

فليس للرعية إلا الطاعة سواء عدل الحاكم أم جار!

تلك كانت بعض محاولات الإنجليز في محاربة فكرة الخلافة، وهم في ذلك

إنما كانوا يحاربون مركز الدائرة التي تتقاطع عندها آمال المسلمين، كما كانوا

يحاربون فكرة الوحدة الإسلامية التي كانت تثير لهم المشاكل مع مسلمي الهند،

ولذك اعتبر اللورد كرومر (صلى الله عليه وسلمvelyn رضي الله عنهaring) بأن المقصود من الجامعة

الإسلامية هو «اجتماع المسلمين في العالم كله على تحدي قوات الدول المسيحية

ومقاومتها، فإذا نظرنا إليها من هذا الوجه، وجب على كل الأمم الأوروبية التي لها

مصالح سياسية في الشرق أن تراقب هذه الحركة مراقبة دقيقة» [7] .

تزامناً مع هذه الظروف ظهر كتاب الشيخ علي عبد الرازق.

هناك حدث آخر هز الساحة السياسية الإسلامية آنذاك، وهو إسقاط الخلافة

فعلاً من طرف كمال أتاتورك في 3/3/1924م، وهو حدث أحزن المسلمين وخلف

استياءً عميقاً لديهم، وبخاصة لدى مسلمي الهند الذين كانوا يعلقون آمالاً واسعة على

الخلافة الإسلامية لتحريرهم من قيد الاستعمار الإنجليزي.

هذا بالنسبة لظروف ظهور الكتاب.

أما صاحب الكتاب نفسه، فهو رجل أزهري، كان قاضياً شرعياً بالمنصورة،

ثم أصبح وزيراً للأوقاف فيما بعد في عهد الملك فاروق، درس سنتين بأكسفورد

بإنجلترا لكنه لم يتم دراسته بسبب نشوب الحرب العالمية الأولى، كان ينتمي

لحزب الأحرار الدستوريين المتشكل عام 1922م من بقايا حزب الأمة الداعي إلى

التعاون مع المحتل الإنجليزي، ولم يكن حزب الأمة بدعاً في ذلك من كثير من

الأحزاب الليبرالية في الوطن العربي في تميزها بالتعاون مع المحتل والدعوة إلى

الاكتفاء بإصلاح شؤون الشعب عن طريق التعليم أساساً، شعارها الأساس هو

«تحقيق الاستقلال رهين ببناء الأمة وتحديثها» .

وقد ناصر الشيخ عليّاً حزبُه حزب الأحرار الدستوريين الذي يستحيل إنكار

صلاته الوثيقة بالمحتل الإنجليزي، كما يستحيل إدراجه ضمن الأحزاب المناصرة

لحق الشعب في الحرية والتعبير عن رأيه؛ فهو الحزب الذي بارك في إبريل

1925م وهو نفس تاريخ ظهور الطبعة الأولى من كتاب «الإسلام وأصول الحكم»

إصدار الحكومة التي كان يشارك فيها قانوناً يحظر على الموظفين الاشتغال بأمور

السياسة، وهو نفسه الذي قبل مرسوم تقييد حرية الصحافة الذي أصدرته الحكومة

... إلخ ولذلك نجد الشيخ علي عبد الرازق، انسجاماً مع توجهات حزبه، «يقول

بوجوب ارتباط مصر وإنجلترا برباط الصداقة، ويذهب في ذلك مذهب

المتطرفين» [8] ، حسبما يقول عنه صديقه في الحزب محمد حسين هيكل.

* العلمانيون: خطاب التبني وتناقضات الشيخ:

يقف العلمانيون بمختلف توجهاتهم موقف المناصر، بل المتبني لما جاء في

كتاب الشيخ علي عبد الرازق. إن أحدهم، مثلاً، يرغب في مواجهة خصومه

الفكريين من وراء استدعاء نصه فيقول: «فهو أي الكتاب يتمم أحاديثنا اليوم عن

الديمقراطية، ويقف في خندق مواجهة المبشرين بكونية الإمام وجاهلية القرن

العشرين» [9] ، بل هناك من غالى حينما ذهب إلى أن الأفكار الواردة في الكتاب

قد تؤدي إلى تهديد وحدة نظرة الإسلام إلى الكون!! إذ إن هذا «التحليل الجريء

لطبيعة السلطة في الإسلام يهدد الوحدة الأساسية لفكرة الدولة الإسلامية ومن ورائها

وحدة النظرية الأساسية إلى الكون» [10] .

ونظراً لأفكار الكتاب الشاذة، نجد المدافعين عنه من أصحاب الشذوذ الفكري

أو المواقف المريبة، منهم: محمد حسين هيكل، الكاتب المتحمس للتغريب،

وصاحب «حياة محمد» الدراسة «الذاتية» للسيرة بدون معجزات، وسلامة

موسى «الكاتب الذي يكتب ليحقد ويحقد ليكتب» كما وصفه العقاد، ومجلة الهلال

التي وصفت صاحب الكتاب بأنه من «علماء الأزهر المبرزين» ، وأنه ممن

يسلك سبيل «الاجتهاد والاستنباط» [11] ، ثم مجلة المقتطف التي رأت أنه

سيترتب على ما كتبه الشيخ ما ترتب على ما كتبه «لوثر» من «ارتقاء ديني

وأدبي ومادي» [12] .

لكن متى كتب الكتاب؟ إن نظرة فاحصة تبين أن كتابة صفحاته تمت قبل

ظهور أزمة الخلافة بسنوات طويلة، يصرح الشيخ نفسه بذلك فيقول: «شرعت

في بحث ذلك كله منذ بضع سنين» [13] ، ويقول: «أما بعد: فإن تلك الورقات

هي ثمرة عمل بذلت له أقصى ما أملك من جهد، وأنفقت فيه سنين كثيرة العدد»

[14] ، ويصرح بأنه كتب إحدى صفحات الكتاب «يوم كانت الخلافة في تركيا،

وكان الخليفة محمد الخامس من الخلفاء ... » [15] ، وفترة حكم الخليفة محمد رشاد

الخامس كانت بين 1909م، 1918م.

والغريب أن الشيخ علي عبد الرازق يستشهد في ص 123، بكتاب الخلافة

لتوماس أرنولد الصادر سنة 1924م، وفي الصفحة التي بعدها يقول: «وما كان

لأمير المؤمنين محمد الخامس سلطان تركيا أن يسكن اليوم يلدز لولا تلك الجيوش

التي تحرس قصره» [16] ، ثم يعلق على كلامه هذا في الهامش بما مر ذكره، أي

بقوله: «كتبنا ذلك يوم كانت الخلافة في تركيا ... » .

معنى هذا الكلام أن الشيخ علي عبد الرازق كتب الصفحة 129 قبل الصفحة

128، بل قبل الصفحة 123 بسنوات!! فكأنما كتب الكتاب منذ وضعت إنجلترا

فكرة العمل على إسقاط الخلافة موضع التنفيذ، ثم أُرجئ نشره ريثما يوجد من يقبل

ذلك باسمه.

ومن عجب أن يرى أحد العلمانيين، على الرغم من ذلك الاضطراب الزمني

في كتابة بعض الصفحات كما مر، أن الكتاب تميز «بحس تاريخي لم تتمكن من

تجاوزه لا كتب المنتقدين ولا المحاكمة التي أخرجت مؤلفه من زمرة العلماء» [17] .

ثم إن النظرة الفاحصة في الكتاب تمكننا أيضاً من وضع اليد على العديد من

التناقضات التي تفقأ العين لدرجة أن الناظر في الكتاب لا يستطيع الجزم بالرأي

الحقيقي لصاحبه، فمثلاً:

- في ص 148 يقول: « ... وإذا كان صلى الله عليه وسلم قد لجأ إلى القوة

والرهبة، فذلك لا يكون في سبيل الدعوة إلى الدين، وإبلاغ رسالته إلى العالمين،

وما يكون لنا أن نفهم، إلا أنه كان في سبيل الملك وتكوين الحكومة الإسلامية»

لكنه ينقض هذا الكلام في ص 149 حينما يقول: «فأما أن المملكة النبوية عمل

منفصل عن دعوة الإسلام، وخارج عن حدود الرسالة، فذلك رأي لا نعرف في

مذاهب المسلمين ما يشاكله، ولا نذكر في كلامهم ما يدل عليه، وهو على ذلك رأي

صالح لأن يُذهب إليه، ولا نرى القول به يكون كفراً ولا إلحاداً» ، ثم يتراجع عن

هذا الرأي في نفس الصفحة قائلاً: «ولكنه على كل حال رأي نراه بعيداً» .

- في ص 147 قال: «أول ما يخطر بالبال مثالاً من أمثلة الشؤون الملكية

التي ظهرت أيام النبي صلى الله عليه وسلم مسألة الجهاد ... وظاهر أول وهلة أن

الجهاد لا يكون لمجرد الدعوة إلى الدين، ولا لحمل الناس على الإيمان بالله ورسوله،

وإنما يكون الجهاد لتثبيت السلطان وتوسيع الملك» ، ثم في ص 166 ينقض هذا

الكلام قائلاً: «ولا يريبنك هذا الذي ترى أحياناً في سيرة النبي صلى الله عليه

وسلم، فيبدو لك كأنه عمل حكومي، ومظهر للملك والدولة، فإنك إذا تأملته لم تجده

كذلك، بل هو لم يكن إلا وسيلة من الوسائل التي كان عليه صلى الله عليه وسلم أن

يلجأ إليها تثبيتاً للدين، وتأييداً للدعوة، وليس عجيباً أن يكون الجهاد وسيلة من تلكم

الوسائل» .

- في ص 154 قال: «لم يبق أمامك بعد الذي سبق إلا مذهب واحد ...

ذلك هو القول بأن محمداً صلى الله عليه وسلم ما كان إلا رسولاً لدعوة دينية خالصة

للدين، لا تشوبها نزعة ملك ولا حكومة، وأنه صلى الله عليه وسلم لم يقم بتأسيس

مملكة، بالمعنى الذي يفهم سياسة من هذه الكلمة ومرادفاتها» ، ثم قال في ص

156 مناقضاً هذا الكلام: «من أجل ذلك كان سلطان النبي صلى الله عليه وسلم

بمقتضى رسالته سلطاناً عاماً، وأمره في المسلمين مطاعاً، وحكمه شاملاً، فلا

شيء مما تمتد إليه يد الحكم إلا وقد شمله سلطان النبي صلى الله عليه وسلم، ولا

نوع مما يتصور من الرياسة والسلطان إلا وهو داخل تحت ولاية النبي صلى الله

عليه وسلم على المؤمنين» . ثم يعود مرة أخرى إلى تأكيد قوله السابق في ص

154، متراجعاً عن نقيضه الذي ذكره قبل قليل، وذلك حينما يقول في ص 157:

«ولاية الرسول على قومه ولاية روحية ... وولاية الحاكم ولاية مادية.. تلك

ولاية هداية إلى الله وإرشاد إليه، وهذه ولاية تدبير لمصالح الحياة وعمارة الأرض،

تلك للدين وهذه للدنيا، تلك لله وهذه للناس، تلك زعامة دينية، وهذه زعامة

سياسية ويا بُعد ما بين السياسة والدين» .

- في ص 158 قال: «وفي سبيل هذه الوحدة الإسلامية ناضل عليه السلام

بلسانه وسنانه ... حتى بلغ رسالته وأدى أمانته، وكان له صلى الله عليه وسلم من

السلطان على أمته، ما لم يكن لملك قبله ولا بعده» ؛ لكنه يدير ظهره لهذا الكلام

بعد أسطر قليلة فقط من نفس الصفحة حينما يقول: «ظواهر القرآن المجيد تؤيد

القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن له شأن في الملك السياسي، وآياته

متضافرة على أن عمله السماوي لم يتجاوز حدود البلاغ المجرد من كل معاني

السلطان» .

إن الفكرة الأساسية التي يريد الكتاب إثباتها ليست هي أن الإسلام «رسالة لا

حكم، ودين لا دولة» ، كما قال صاحبه، فإن ذلك شطر واحد فقط من الفكرة

ينقصها شطرها الثاني الذي هو أن الإسلام «رسالة وحكم ودين ودولة» كما

يتضح من خلال عدة فقرات في الكتاب، وقد مر بعض منها، أي أن الإسلام في

نظر الشيخ علي فيه سياسة وليست فيه سياسة!! وهو تناقض عجيب لا يستقيم إلا

في ذهن من أصيب بلوثة من منهج بولس، لا من تعرض لنفحات منهج رب

العالمين.

* العلمانيون والشيخ علي: خطاب المضاهاة:

إن محاولة علي عبد الرازق تدعونا إلى عقد مقارنة بين ما جاء في كتابه من

آراء وبين آراء علمانيين آخرين، تلك المقارنة تكشف عن تشابه في المنهجية

والمواقف أحياناً كثيرة؛ إذ المنطلق واحد والهدف واحد:

1 - فعند العلمانيين يتم الانطلاق الآن من المفاهيم المسيحية وإسقاطها على

الإسلام. إن (عزيز العظمة) مثلاً يعتبر المؤسسة الدينية في الإسلام كهنوتاً أو

«كنيسة دولة» كما سماها [18] ، والشيخ علي تصيبه لوثة مقايسة الإسلام على

المسيحية كما سبق، فيصرح: «كل ما جرى في أحاديث النبي صلى الله عليه

وسلم من ذكر الإمامة والخلافة والبيعة إلخ ... لا يدل على شيء أكثر مما دل عليه

المسيح حينما ذكر بعض الأحكام الشرعية عن حكومة قيصر» [19] .

2 - وعند العلمانيين: الأخذ الآن بالعلمانية ضرورة تمليها «العالمية»

و «الاستفادة من الغير» ؛ إذ هي أي العلمانية عند عزيز العظمة مثلاً

«كالعالمية أصبحت في القرن الأخير جزءاً بنيوياً من حياتنا السياسية

والاقتصادية والثقافية والاجتماعية، خصوصاً في نهاية القرن العشرين» [20] ،

وبالنسبة للشيخ علي ليس هناك ما يمنع المسلمين «أن يسابقوا الأمم الأخرى ...

وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن

ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم» [21] ، لكن هذه «العالمية»

وتلك «الاستفادة» لا تعني شيئاً آخر سوى إدماج تاريخ الأمة في تاريخ الغير،

ونفي ذاتها وفكرها وحضارتها لمصلحة ذات الآخر وفكره وحضارته، وهكذا

فلئن تم تحكيم شرع الله فهي «الثيوقراطية» ! ولئن وجدت مؤسسة للعلماء فهو

الكهنوت! وإذا كان العظمة مثلاً لا يرى في وجود تخصص في الدين سوى

الكهنوت، فإن الشيخ علي لا يجد في الإسلام أي مانع من وجود الخلافة «بمعنى

الحكومة في أي صورة كانت الحكومة ومن أي نوع! مطلقة أو مقيدة، فردية أو

جمهورية، استبدادية أو دستورية أو شورية، ديمقراطية أو اشتراكية أو

بلشفية!» [22] .

3 - وعند العلمانيين الآن يتم تأصيل كثير من أفكارهم باللجوء إلى الطوائف

المنحرفة عقيدة وسلوكاً في التاريخ الإسلامي. فهذا أحدهم، مثلاً، يرى حركة

«القرامطة» حركة تجديد، وداعية تغيير للواقع، وفهماً للتراث فهماً عقلانياً،

يقول: «إذا ما ظهرت حركات تجديد تدعو إلى تغيير الواقع أو إلى إعادة فهم

التراث فهماً عقلانياً قيل: علمانية وإلحاد ... في حين أن تراثنا القديم قد قدم لنا هذا

النمط الفكري عند أصحاب الطبائع من علماء الكلام، وعند ابن رشد من الفلاسفة،

كما أن عديداً من الثورات في تاريخنا القديم مثل ثورة الزنج وثورة القرامطة قد

نشأت بدءاً بالواقع من أجل تغييره تغييراً جذرياً» [23] . وهذا آخر، وهو أحد

دعاة النزعة الأمازيغية بالمغرب، يصف ملوك البرغواطيين «قرامطة المغرب»

«بالعلم والفضل» ، مع جزمه «بأن موقفهم من اختيار دين مخالف ولغة مخالفة

لما كان يحمله العرب إنما يرجع إلى موقف سياسي إيديولوجي معارض من جهة،

وإلى شعور بالهوية المتميزة والخصوصية الثقافية من جهة ثانية» [24] . وعلى

الخط نفسه كان يسير الشيخ علي عبد الرازق، فيرثي المرتدين أن مسهم الظلم

وجحيم الظلام: «كم نشعر بظلمة التاريخ وظلمه، كلما حاولنا أن نبحث جيداً فيما

رواه لنا التاريخ عن أولئك الذين خرجوا على أبي بكر فلقبوا المرتدين، وعن

حروبهم تلك التي لقبوها حروب الردة!» [25] .

4 - وفي كتابات بعض العلمانيين جهل فاضح أو تضليل مكشوف! تكلمت

«يسارية» مرة مثلاً عن الإرث في شريعة الله سبحانه، فقالت وهي تحاول

إثبات تساوي المرأة والرجل في الميراث في الإسلام، ما يلي: «إذا لم يكن

للشخص الميت أولاد وكان والداه الوارثين الوحيدين، فإن حصة أمه تساوي

ضعف حصة أبيه، وحصة الأخت تساوي حصة الأخ ... » !! [26] . أما

الشيخ علي عبد الرازق فإنه يعتقد مثلاً أن القرآن الكريم يقبل بحكومة استبدادية أو

بلشفية فيرى أنه «لا بد لأمة منظمة مهما كان معتقدها، ومهما كان جنسها ولونها

ولسانها، من حكومة تباشر شؤونها، وتقوم بضبط الأمر فيها، قد تختلف

أشكال الحكومة وأوصافها بين دستورية واستبدادية، وبين جمهورية وبلشفية

وغير ذلك» ، ثم يختم هذا الكلام بقوله: «ولعل الكتاب الكريم ينحو ذلك

المذهب أحياناً» [27] ، ويورد أحاديث عن بعث الرسول صلى الله عليه وسلم

لعلي وأبي موسى ومعاذ رضي الله عنهم إلى اليمن، ومنها حديث بعث علي

رضي الله عنه إلى خالد «ليقبضن الخمس» ثم يقول الشيخ: «فبعث علي إلى

اليمن يرويه أحدهم أنه تولية للقضاء، ويرويه الآخر أنه كان لقبض الخمس من

الزكاة» [28] مع أن المقصود خمس الغنيمة كما قال شراح الحديث، فليس في

الزكاة خمس إلا في الركاز، وحول موضوعه بعض اختلاف بين العلماء ليس هذا

مقام بسطه، ومنطلق كلامهم ما أخرجه مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أن

رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «في الركاز الخمس» [29] .

5 - وفي كثير من كتابات العلمانيين اليوم سوء أدب مع الله عز وجل أو مع

الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فلقد سبق لحسن حنفي مثلاً أن اقترح في «التراث

والتجديد» استبدال كلمة «الله» بكلمة «الإنسان الكامل» ! بدعوى أنه «مع

أن علماء أصول الدين يتحدثون عن الله ذاته وصفاته وأفعاله، فإنهم في الحقيقة

يتحدثون عن الإنسان الكامل؛ فكل ما وصفوه على أنه الله إن هو إلا إنسان مكَبَّر إلى

أقصى حدوده!» [30] . وحاول أحد العلمانيين أيضاً إثبات جواز تزويج المرأة نفسها

بدون ولي اعتماداً على حديثي زواج النبي صلى الله عليه وسلم من صفية وأم سلمة

رضي الله عنهما بدون ولي. فقال بعد أن ساق الحديثين: «لم يكن الأمر يتعلق بأن

الرسول صلى الله عليه وسلم ولي السيدة صفية والسيدة أم سلمة لهذا تزوجهما من

غير ولي لأنه وليهما، لقد عالج الأئمة المسلمون هذا الأمر، وأبدوا رأيهم بخصوص

جواز أو عدم جواز أن ينكح الولي وليته من نفسه قياساً على الحاكم والشاهد؛

فالحاكم لا يحكم لنفسه، والشاهد لا يشهد لنفسه» [31] . ومنع الولي من الزواج من

موليته هو رأي الإمام الشافعي - رحمه الله - قياساً منه للولي على الشاهد والحاكم،

فقد يميل الولي إلى مصلحته وحظ نفسه فيتزوج موليته دون أن يكون كفؤاً لها مثلاً،

مثلما قد يميل الحاكم إذا حكم لنفسه، وكذلك الشاهد في شهادته، وهذا الميل غير

متصور في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أنه صلى الله عليه وسلم فوق

الأكفاء، ولذلك جعل الشافعي - رحمه الله - الأصل في زواج الرسول صلى الله عليه

وسلم أنه على الخصوص حتى يثبت العموم، بخلاف كلام العلماني السابق الذي

يستبطن اتهاماً للمعصوم صلى الله عليه وسلم بمحاباة نفسه، وهو سوء أدب مع رسول

الله صلى الله عليه وسلم، ولم يستدرك الرجل بخصوصيات النبي صلى الله عليه

وسلم، بل تلك سنة سنها لنا جميعاً ولا سيما إذا تكرر الفعل أكثر من مرة « [32] .

وفي كتاب الشيخ علي لوثة وثنية يأباها دين التوحيد الخالص؛ إذ يصف الرسول

صلى الله عليه وسلم بما لا يليق إلا بالله سبحانه وهذا سوء أدب مع مقام النبوة حينما

جعل الرسالة تقتضي لصاحبها» حق الاتصال بكل نفس اتصال رعاية وتدبير،

وحق التصريف لكل قلب تصريفاً غير محدود « [33] .

6 - وكثير من العلمانيين لا يعرفون من الحديث سوى الواهي، أو الموضوع؛

فكم منهم من يلهج لسانه بحديث:» خذوا شطر دينكم عن هذه الحميراء «،

وحديث» طلب العلم فريضة على كل مسلم «، أو حديث» الساكت عن الحق

شيطان أخرس «، وهي أحاديث لا أصل لها، حتى إذا ما ذكروا حديثاً صحيحاً،

فإنما ليوهنوه دون دليل ولا حجة، خذ لذلك مثلاً من الأمازيغية السياسية يتعلق

باتهام داعية من دعاتها للفقهاء» بإقحام عدد هائل من الأخبار الموضوعة التي تشيد

بقريش وتبوئها الصدارة والإمارة « [34] . ويذكر في الهامش حديثين أحدهما

للبخاري وهو:» لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان « [35] ، والثاني

لمسلم، وهو:» الناس تبع لقريش في الخير والشر « [36] ، معتبراً حديث:

» الأئمة من قريش «عبارة تتكرر في كتب الفقهاء مع أنها حديث.

أما الشيخ علي عبد الرازق فإنه يذكر مجموعة أحاديث صحيحة ومنها ما ذكره

داعية الأمازيغية السياسية ويشكك في صحتها قائلاً:» لا نريد أن نناقشهم في

صحة الأحاديث التي يسوقونها في هذا الباب، وقد كان لنا في مناقشتهم في ذلك

مجال فسيح، ولكننا نتنزل جدلاً إلى افتراض صحتها كلها « [37] والأحاديث

المقصودة هي:

-» الأئمة من قريش «، ويصدره بصيغة التمريض» روي «إشعاراً بضعفه

مع أن الحديث صحيح [38] .

-» تلتزم جماعة المسلمين «، وهو جزء من حديث متفق عليه عن حذيفة بن

اليمان [39] .

-» من مات وليس في عنقه بيعة فقد مات ميتة جاهلية «وهو حديث لمسلم

[40] .

-» من بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع، فإن جاء

آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر «، وهذا أخرجه مسلم أيضاً وغيره من حديث

طويل [41] .

ويطول بنا البحث إن نحن ذهبنا نستقصي أوجه التشابه بين ما أورده الشيخ

علي في كتابه، وبين ما يورده العلمانيون دفاعاً أو دعوة لعلمانيتهم، يكفي أن نقول

إن الخطاب يضاهي الخطاب، ولا عجب فإنما الطيور على أمثالها تقع!

طور بواسطة نورين ميديا © 2015