قصة قصيرة
محمد مفتوح
زيد، قبل أن يتوب ويرجع عن غيه.. كان من شر ما خلق.. يشرب «أم
الخبائث» ، ويسميها «أم المسرات» ، و «أم ليلى» ، يغتاب أصدقاءه،
وينعتهم بالإرهابيين، والمجرمين.. لكنه لما عاشرهم ورافقهم، وعرف حقيقة
أمرهم، سماهم الأخيار.. أمسى لا يفارق مسجد الحي مبتهلاً، مستغفراً، متهجداً..
دفن ماضيه.. قص شاربيه المعقوفين، وأعفى لحيته، فانتشرت على امتداد
وجهه الأبيض البشرة، فزاده جمالاً ووقاراً.
حين رجعت والدته من السفر، تلك المرأة الخمسينية العمر، لم تزل خطوط
الجمال والهيبة ترتسم على وجهها المائل إلى السمرة..
نقرت الباب بدقات خفيفة:
- طق، طق، طق..!
أسرع زيد، وفتحه على مصراعيه.. ما كادت العجوز الحاجة «حليمة»
ترى ابنها، حتى فغرت فمها الضيق، وهي تخاطب نفسها، حتى أوشكت أن تُجن:
- ربما أخطأت المنزل..!!
وسرعان ما عرف زيد ما يجيش بخلدها، فقطع شريط تفكيرها، وشفتاه
ترتعدان:
- تفضلي، يا أماه البيت بيتك..
هكذا تكلم زيد، بكلمات معسولة، تخرج من فوق لحيته، ومن بين شفتين
كشقي ثمرة ناضجة يانعة.. لكن الأم لم تصدق الرؤية، فأعادت البصر كرتين.
لكن لما سمعت عمرو يزأر، كقسورة، من داخل البيت:
- من ببابنا يا زيد؟
- إنها الوالدة يا أخي عمرو..!
دخلت العجوز البيت بخطى ثقيلة، وكأن رجليها لا ترغبان في حملها..
فحملقت في جدران غرفته التي أصبحت مطلية باللوحات القرآنية، المكتوبة بالخط
الكوفي.. لم تخاطب نفسها بنفسها هذه المرة.. بل غمغمت:
- سبحان مغير الأحوال..!!
قبل أن تنطق، ابتسمت، فتمددت عضلات وجهها الموشوم:
- أين هي صور المطربين، والمطربات؟
لم تتمالك نفسها، فأطلقت زغرودة، اهتزت لها أركان البيت، وصرخت
بأعلى صوتها الأجش:
- «لقد ظهر الحق، وزهق الباطل، إن الباطل كان زهوقاً..»
فنبس عمرو:
- لقد أحرق كل شيء: الكتب الصفراء، حتى بدلته الرومانية، وربطة عنقه
المشجرة.. تالله إنها التوبة الصادقة.
وأضاف مبتسماً:
- ألم تشمي رائحة المسك؟ ألم تنظري إلى عباءته الخضراء؟
وأخيراً نطق زيد:
- الحمد لله، عفا الله عما سلف..!
وأخذ المصحف بيديه الطاهرتين، فطفق يرتل سورة «التوبة» وهو يبكي!!