مجله البيان (صفحة 4369)

قضايا دعوية

بلاغ الرسالة القرآنية.. معالم في المنهج الدعوي

منهج التعرف إلى الله والتعريف به

(1 ـ 2)

د. فريد الأنصاري [*]

* مقدمة:

قد لا يخطر على بال الداعية إلى الله أن يسأل نفسه وهو يدعو إلى الله: «ما

معنى الدعوة إلى الله» ؟ هذا سؤال أساس وضروري؛ لأن بالجواب عنه ينضبط

العمل الدعوي، ويستقيم. وأحسب أن إهمال تحقيق عقيدة التوحيد في المجال

الدعوي لدى بعض الحركات الإسلامية، بأقسامه الاستقرائية، كما بينه علماء

السلف، من توحيد للربوبية، وتوحيد للألوهية، وتوحيد للأسماء والصفات، هو

من أخطر المزالق التي تقود إلى الانحراف عن المنهج. فالجواب عن سؤال: «ما

الدعوة إلى الله؟» لا يكون إلا بالانطلاق من عقيدة التوحيد أساساً.

إلا أن الجدير بالذكر أن الوقوف عند حدود استظهار أقسام التوحيد، دون

الغوص إلى عرض مقاصده، في منهج الدعوة إلى الله، هو أيضاً من أخطر

المزالق التي تقود إلى الانحراف عن المنهج؛ إذ سريعاً ما يغيب عن الداعية في

غمرة الانخراط الاجتماعي الهدف الأسمى الذي يتحرك من أجله، فتجف عباراته،

وتنضب دعوته، فلا يبقى لها أثر في النفوس، ولا محبة في القلوب. وبيان ذلك

- بحول الله - هو كما يلي:

* في التعريف القرآني بالله:

إن أول مقاصد القرآن الكريم هو تعريف الناس بالله، هذا الرب العظيم

المتكلم بالقرآن جل جلاله؛ ولذلك جاء تعريف الله لذاته سبحانه بأسمائه الحسنى؛

مباشرة بعد التنبيه على عظمة هذا القرآن. كأنه قال لك: اعرف القرآن أولاً

لتعرف الله. أوَ ليس هو تعالى المتكلم بالقرآن؟ قال جل جلاله يصف ذاته: [هُوَ

اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ

إِلَهَ إِلاَّ هُوَ المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ

عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] (الحشر: 22-24) فاقرأ وتدبر.

لقد كان أوْلى بالإنسان أن يسأل نفسه: من أنت؟ .. نعم! أنت هذا الإنسان

الذي وجد نفسه فجأة في هذا الكون الفسيح، الممتد عرضه إلى حدود الغيب

المجهول..!

كون عجيب وغريب لم يستطع الإنسان المعاصر رغم ما اكتسب في مجال

العلوم الكونية، والفلكية، والطبيعية من معارف أن يسبر أغواره الرهيبة.

بل ها هو ذا ما يزال واقفاً على شاطئ الكون ينظر في حيرة: أين ترسو حدود

الضفة الأخرى؟

ثم تأتي الرسالة من رب الكون إلى هذا الإنسان.. وكان أوْلى به أن ينظر

أول ما ينظر إلى مرسلها، ويسأل أول ما يسأل عن مصدرها حتى يتحقق منه يقيناً.

وإذن! دعني أبدأ لك بالدعوى فأقول: إننا مع الأسف لا نعرف الله!

نعم! إن وضع المسلمين اليوم يؤكد هذه الحقيقة المؤسفة؛ ومن هنا وجب

التعريف به.

أما المعرفة بالله فدرجات ومراتب، وما أحسب هذا الشرود الرهيب عن باب

الله في هذا الزمان إلا دليلاً قاطعاً على الجهل العظيم الذي يكبل الناس أن يبحثوا

عن ربهم الذي خلقهم؛ مما يصنفنا دون أدنى مراتب المعرفة بالله. تَرَاخَيْنَا عن

سلوك طريق المعرفة به في الرخاء، فبقينا هَمَلاً، أو لَقضى في مزبلة التاريخ!

وبقيت وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم فينا دون وفاء؛ فكان لها مفهومها

المخالف في واقعنا: «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفْك في الشدة» [1] .

لو كان الناس يعرفون الله حقاً لرأيت الحال غير الحال؛ ولرأيتهم يسابقون في

أداء حق الخالقية.

وبيان ذلك بالمثال الآتي، ولا مُشاحَّة في الأمثال: إذا قدر الله أن يكون إنسان

ما جاهلاً بوالديه لسبب من الأسباب كليهما أو أحدهما، لكنه نشأ محتضناً بحضن

بعض المحسنين، حتى شب وكبر ثم اكتشف الحقيقة: وهي أن هذا الذي رباه ليس

أباه، وأن هذه التي أرضعته ليست أمه التي ولدته؛ فإنه حينئذ يدخل في غربة

شديدة، قد تذهب بعقله كله، أو بعضه، إلا أن يعتصم بالله؛ والسبب في ذلك أنه

فقد المعرفة بمن كان له سبباً في الخروج من عالم العدم إلى عالم الوجود، ودخل

في جهل عظيم بنسبه وأصله، وانقطعت بين يديه سلسلة سنده التي تربطه إلى

شجرة المجتمع الإنساني الذي يعيش فيه.

وهنا بصورة تلقائية لا إرادية يدخل في سلسلة من البحث والأسئلة في كل

مكان، وحيثما اتفق، يسأل سؤالاً واحداً: من أبي؟ أو من أمي؟ سؤالان يؤولان

إلى معنى واحد هو: من أنا؟

إن البحث عن الذات فطرة في الإنسان، ولن تُعرف الذات إلا بمعرفة سبب

وجودها؛ إذ المعلولات مرتبطة بالعلل وجوداً وعدماً، ومن ثَمَّ جهلاً ومعرفة. وهنا

يذكر حديث النبي صلى الله عليه وسلم، في قصة غضبه من كثرة أسئلتهم المعنتة.

أخرج الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله عنه في حديث طويل أن رسول الله

صلى الله عليه وسلم قام فيهم خطيباً، فكان مما قال: «من أحب أن يسأل عن

شيء فليسأل عنه! فوالله لا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم به، ما دمت في مقامي

هذا! قال أنس: فأكثر الناس البكاء، وأكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن

يقول: سلوني! فقال أنس: فقام إليه رجل، فقال: أين مُدخلي يا رسول الله؟ قال

النار! فقام عبد الله بن حذافة، فقال: من أبي يا رسول الله؟ قال: أبوك حذافة!

قال: ثم أكثر أن يقول: سلوني! سلوني! فبرك عمر على ركبتيه، فقال: رضينا

بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً. قال: فسكت

رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال عمر ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: أولى والذي نفسي بيده! لقد عرضت عليَّ الجنة والنار آنفاً، في

عرض هذا الحائط، وأنا أصلي، فلم أرَ كاليوم في الخير والشر!» [2] .

فتأمل هذا المشهد: كيف لم يجرؤ أحد من الصحابة أن يسأل شيئاً؛ إذ رأوا

أمارة الغضب عليه صلى الله عليه وسلم، إلا رجلان: أحدهما سأل عن مدخله،

فأجابه: النار، والعياذ بالله! والآخر انتهز الفرصة رغم هول الموقف فقال:

«من أبي؟» فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم: «أبوك حذافة» .

إن الإحساس بانقطاع النسب عقدة اجتماعية، سببها الإحساس بالجهل بالذات

اجتماعياً، لا وجودياً؛ ولذلك فقد جاء في رواية مسلم لهذا الحديث: «فأنشأ رجل

من المسجد كان يُلاحَى فيدعى لغير أبيه فقال: يا نبي الله! من أبي؟» أي أنه

كان إذا خاصمه أحد من الناس؛ سبه وعيره بنسبته إلى غير أبيه! فكان ذلك يحزنه

ويعقده، فلم يستطع أن يكتم رغبته الجامحة في معرفة حقيقة نسبه، رغم ما شهد

من رهبة اللحظة، وخوف الصحابة من غضب النبي صلى الله عليه وسلم! وكم

شهدنا من الناس من أنفق ما أنفق من الأموال والأعمار من أجل اكتشاف والده، أو

أي أحد من عشيرته، أو أي خيط مهما بعد أو ضعف من خيوط نسبه، أو من له

صلة بذلك من الناس، عساه أن يصله بحقيقة نفسه، ولو توهماً!

غريب أمر هذا الإنسان! كيف يجهد لمعرفة حقيقته الاجتماعية، ولا يجهد

ذلك الجهد وأقصى لمعرفة حقيقته الوجودية؟

إن الذي ينصت إلى خطاب الفطرة في نفسه يسمع نداء عميقاً يترجم الرغبة

في معرفة من أسدى إليه نعمة الوجود. ألا ترى أن الإنسان مفطور على شكر من

وصله بمعروف؟ بلى! إذن: لِمَ لا تسأل عمن خلقك؟ لا تسرع في الإجابة! لا

تقل لي: إنني أعرف الله؛ فأنا مسلم، فما هذا الذي نريد؟

أنت مخلوق. هذه حقيقة وجودية؛ فلا أحد منا جاء إلى الوجود بإرادته

وقراره. من هنا كان الواجب الأول عليك أن تبحث عن الله الخالق، بهذه الصفة،

أعني صفة الخالقية؛ لأنها سبب مجيئك إلى الكون؛ وإلا كنت عدماً. ولذلك كان

أول حق لله رب الناس على الناس وجب عليهم أداؤه ابتداء: هو حق الخالقية.

أليسوا مخلوقين؟ بلى! إذن تعلق بذمة كل مخلوق أن يشكر الخالق، من حيث هو

عز وجل خلقه.

و «الخلق» مفهوم من أغرب مفاهيم القرآن العظيم، ومن أكثرها استعصاء

على الفهم والإدراك؛ فهو دال عموماً على: التكوين والإنشاء؛ إبداعاً واختراعاً.

أي أنه خلق الخلق على غير مثال سابق، فتأمل هذه الحقيقة أولاً: «على

غير مثال سابق» إنه تعالى فَطَرَ خلقه، وأنشأهم ولم يسبق له في ذلك نموذج

يحتذى؛ فسبحانه وتعالى من خالق عظيم! فلقد كان تعالى ولم يكن قبله شيء، هو

الأول بلا بداية، وهو الآخر بلا نهاية، جل شأنه، وتعالى جده، ولا إله غيره.

تأمل كيف كان خلق الكون؟ كيف كان العدم، وما العدم؟ ثم كان الوجود بأمر

[كُن فَيَكُونُ] (البقرة: 117) . ثم تأمل كيف كان خلق آدم عليه السلام: كيف

صنع الله من الطين بشراً سوياً؟ يفيض جمالاً وحيوية. عجباً، عجباً! كيف كانت

كتل الطين في جسم آدم تتحول إلى شرايين، وشعيرات دموية، وعظام ولحم طري؟

عجباً، عجباً! كيف تحول الصلصال في محاجره عليه السلام بصراً يبرق،

ويشع بنور الحياة، ويرى الألوان والأشياء، ويسيل بالدموع فرحاً وحزناً؟ عجباً،

عجباً! كيف تَخَلَّقَ الترابُ في جمجمته دماغاً مائعاً مارجاً متكوناً من ملايين الخلايا

اللطيفة الحساسة، تجري شعيراتها بالدم الدفاق، وتختزن ملايين المعلومات

والذكريات، وتتأهب للتفكير في أدق الخطرات والنظرات؟ عجباً، عجباً!

ثم تأمل: كيف جعل من الطين والماء نباتاً جميلاً، فصارت له أزهار تملأ

الأنوف عبيراً أخاذاً، وثماراً تملأ القلوب بهجة وجمالاً؟ ذلك هو (الخلق) الذي

تحدى به ربُّ العالمين كلَّ العالمين، فقال: [أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلاَ

تَذَكَّرُونَ] (النحل: 17) ، وقال جل جلاله: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ

فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن

يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ * مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ

قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ] (الحج: 73-74) .

وهذه حقيقة قرآنية كبرى تترتب عليها أمور كبيرة في حياة الإنسان، وجوداً

وعدماً؛ ذلك أنه كلما نادى الله الناس في القرآن بالاستجابة لأمره التعبدي، ناداهم

من حيث هو (خالقهم) ، هكذا بهذه الصفة دائماً، وهو أمر مهم فيما نحن فيه من

طريق المعرفة بالله.

أي أنه تعالى يسألهم أداء حق الخالقية، هذه الصفة العظيمة لذاته تعالى التي

بها كنا نحن الناس هنا في الأرض نتنفس الحياة.

تدبر قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً

فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ] (البقرة:

21-22) .

وتدبر قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ

وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء] (النساء: 1) ، وقوله سبحانه:

[وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الأَوَّلِينَ] (الشعراء: 184) .

هاتان آيتان كلِّيتان من القرآن العظيم، تعلق الأمر فيهما بالعبادة والتقوى،

وما في معناهما من الانتظام في سلك العابدين، وفلك السائرين إلى الله رب العالمين،

إثباتاً لحق الله من حيث هو خالق لشجرة البشر.

ولا يفتأ القرآن يُذَكِّر بهذه الحقيقة، باعتبارها مبدأ كلياً من مبادئ الدين

والتدين، وأنها العلة الأولى منه؛ وذلك نحو قوله تعالى: [وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ

وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ] (الذاريات: 56) . فكثيراً ما يردد الناس هذه الآية، ولكن

قليلاً جداً ما يتدبرونها. إنها آية كونية عظمى.. إنها مفتاح من مفاتيح فهم القرآن

العظيم، وباب من أبواب معرفة الربوبية العليا. تأمل قوله تعالى: [مَا لَكُمْ لاَ

تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً] (نوح: 13-14) . انظر كيف ربط

حقه تعالى على عباده بمبدأ خلقهم أطواراً.. فكلما ازداد الكفار تعنتاً ازداد القرآن

إفحاماً لهم، في بيان تفاصيل الخلق. فتلك حجة الله البالغة إجمالاً وتفصيلاً.

تدبر معي هذه الآيات واحدةً واحدة.. قال عز وجل في حق الكافر الذي أنكر

البعث على محمد صلى الله عليه وسلم، فجاء بطحين عظام ميتة نخرة، ونفخ فيها

فتطاير غبارها من يده، فاستهزأ متسائلاً بما حكاه عنه القرآن الكريم، قال:

[وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحْيِي العِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي

أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ * الَّذِي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَاراً فَإِذَا

أَنتُم مِّنْهُ تُوقِدُونَ * أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم

بَلَى وَهُوَ الخَلاَّقُ العَلِيمُ] (يس: 78-81) .

وتأمل كيف أن تلك كانت هي حجة موسى الذي صنعه الله على عينه، في

رده على فرعون؛ إذ تعنت في إنكاره. قال عز وجل: [قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى

* قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] (طه: 49-50) .

إنه تعريف للربوبية ولحقوقها في عبارة من أوجز العبارات الربانية المسطورة

في القرآن الكريم.. فتدبر.. [الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى] .

وجاءت الحجة الربانية في بيان الأطوار الوجودية للإنسان في قوله تعالى

أيضاً: [قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ

السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنشَرَهُ * كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ]

(عبس: 17-23) .

وقال في سياق التمهيد لقصص بعض الأنبياء، ودحض حجج المنكرين

للبعث: [وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن سُلالَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ

مَّكِينٍ * ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا

العِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُم بَعْدَ ذَلِكَ

لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ تُبْعَثُونَ] (المؤمنون: 12-16) .

تأمل: ما بال هذا البيان والتفصيل لقضية الخلق؛ لولا أنها قضية كونية

كبرى، ينبني عليها ما ينبني من مصير وجودي في حياة الإنسان، هذا المخاطب

بها ابتداء؟

وانظر إلى هذا السؤال الإنكاري الرهيب عن الوظيفة الوجودية للإنسان؛ إذ

تمتع بمنة الخلق، ثم غفل عنها وتناساها.. انظر وتدبر جيداً، واقرأ، وأعد

القراءة مرة، وأخرى؛ لعلك ترى.. قال جل جلاله: [أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ

سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يُمْنَى * ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ

الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالأُنثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أن يُحْيِيَ المَوْتَى] (القيامة: 36-

40) .

وكما كانت تلك هي حجة القرآن في الدعوة إلى العبادة، وإثبات حق الخالقية

لله الواحد القهار؛ كانت هي عينها حجته في الدعوة إلى التوحيد ونفي الحق الوهمي

للشركاء، وذلك كما في قوله تعالى: [اللًّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ

يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشرِكُونَ]

(الروم: 40) ، وقال: [أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ] (الأعراف:

191) . وقال: [أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ] (النحل: 17) . إنه

قول ثقيل جداً، فتدبر.

ومن أثقل الآيات القرآنية، وأعمقها دلالة على الموقع الوجودي للإنسان من

الخلق قوله تعالى: [هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً *

إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ

إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً * إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً * إِنَّ الأَبْرَارَ

يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً] (الإِنسان: 1-5) .

إن «قضية الخلق» تمثل مفتاح فهم الربوبية، والمعنى الوجودي والوظيفي

للإنسان. ولولا خشية الإطالة لبينت لك من خلال كل سور القرآن بدون استثناء

أنها المبدأ الكلي الذي على أساسه خاطب الله الإنسان بكل أمر ونهي، بل إنها تمثل

البنية الأساس لخطابه الذي عليه يتفرع كل شيء، مما قرره في العقيدة والشريعة

على السواء.

* أي ظلام أشد من التصور العبثي للحياة:

إن هذا الحق بقدر ما هو متعلق بذمة الإنسان لربه الذي خلقه، فإنه يستفيد

منه معنى عظيماً لوجوده. إن إحساسه بوجوب هذا الحق عليه يخرجه من التيه

الوجودي الذي ضاعت فيه أفكار الكفار من العالمين. أو بعبارة قرآنية: يخرجه

[مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ] (البقرة: 257) .

وأي ظلام أشد من التصور العبثي للحياة! أو كما قالوا: «إن هي إلا أرحام

تدفع، وأرض تبلع!» فبأي نفسية يعيش الإنسان هذه الحياة، وهو يرى أنما

غايتها إلى العدم المطلق والفناء الرهيب الذي ما بعده من حياة؟ فأي لذة يجدها في

متعها وهو يعتقد أنها إلى زوال قريب؟ ذلك ما يقوده غالباً إلى الشره المتوحش في

تناولها، أو إلى العزوف القَلِق ثم الانتحار! ألا ما أشد وحشة الكفر والضلال!

فالحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به آخرون.

إن معرفة الله من ههنا تبدأ: الشعور بالفرح به تعالى رباً خالقاً، والأنس

بجماله عز وجل إلهاً رحيماً؛ فيمتلئ القلب شوقاً إليه تعالى، ثم تنشط الجوارح

للسير إلى بابه الكريم، والعروج إلى رضاه، عبر مدارج السالكين، ومنازل

السائرين. فيجد الإنسان الأنس كل الأنس كلما ازداد معرفة بالله جل جلاله.

وإنما مدارج المعرفة به تعالى أن ينطلق المسلم من توحيد الربوبية الذي ينفتح

بابه على العبد أول ما ينفتح من الشعور بحق الخالقية كما قررناه؛ ذلك أن الرب

إنما هو رب من حيث هو مالك للمربوب؛ ذلك معناه العام في اللغة وفي الشرع.

قال ابن منظور: «الرَّبُّ: هو الله عزّ وجل هو رَبُّ كلِّ شيءٍ: أَي مالكُه،

وله الرُّبوبيَّة على جميع الخَلْق، لا شريك له، وهو رَبُّ الأَرْبابِ، ومالِكُ المُلوكِ

والأَمْلاكِ. ولا يقال الربُّ في غَير اللهِ، إِلاّ بالإِضافة. ورَبَّهُ يَرُبُّهُ رَبّاً: مَلَكَه»

[3] .

فرب الدار: مالكها، وربة البيت: سيدته، ورب السيارة: صاحب السيادة

عليها. إلا أن «المالكية» الحقة إنما تقع في الواقع على من يملك أصل الاختراع

والإبداع، إنشاء وتطويراً؛ ذلك هو المالك الحقيقي للشيء، وذلك هو الله سبحانه

وتعالى في ربوبيته للكون والخلق أجمعين. إنه مالك كل شيء خلقاً وإبداعاً،

وزيادة ونقصاً، وإحياء وإماتة، وبدءاً وإعادة، وبعثاً ونشوراً. وما كان ذلك كله

ليكون لولا أنه هو عز وجل الذي خلق. ومن هنا كان أول وصف لذاته تعالى نزل

على محمد صلى الله عليه وسلم في بدء تعريفه بالله رباً: [اقْرأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي

خَلَقَ] (العلق: 1) فهو الرب إذن، وأول ما وصف به نفسه تعالى أنه [الَّذِي

خَلَقَ] ؛ لأن الربوبية إنما ترجع في حقيقتها إلى هذا المعنى كما بيناه آنفاً. ومن

هنا اطراد هذا المبدأ في القرآن الكريم، حتى لا تكاد تخلو سورة منه، بدءاً بالفاتحة

[الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] (الفاتحة: 2) ؛ حتى سورة الناس [قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ

النَّاسِ] (الناس: 1) . فالقرآن كله إذن قائم على ترسيخ مفهوم الرب في قلوب

المربوبين، عسى أن تستجيب فطرهم لأداء حق الربوبية، بتوحيد الألوهية عبادةً

لله رب العالمين.

وخلاصة الأمر أن الخالق مالك، وأن المالك رب؛ ذلك أنه تعالى خلق فملك،

وملك فرَبَّ. فهذه معانٍ بعضها يحيل على بعض، حتى كان لفظ (الرب)

جماعها؛ فجمع بذلك كل أوصاف الكمال والجمال والجلال، من الأسماء الحسنى

والصفات العلى. ولننصت الآن في ذلك إلى القرآن العظيم؛ حيث يقول الله عز

وجل معرفاً بذاته سبحانه: [هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى]

(الحشر: 24) ، فقوله تعالى: [هُوَ اللَّهُ] جملة اسمية من مبتدأ وخبر، فيها

معنى الجواب عن سؤال تقديره: سؤال السائل عن الرب (من هو؟) ، فقال:

[هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ] ، أي (الرب هو الله) ؛ لأن الضمير (هو) لا

بد أن يعود على معاد سابق، كما قال الله حكاية لحوار فرعون مع موسى وهارون:

[قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يَا مُوسَى * قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى]

(طه: 49-50) . وكما في قوله تعالى من سورة الإخلاص: [قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ]

(الإِخلاص: 1) .

فكانت الإحالة - في نهاية الأمر - في تعريف الرب على (الأسماء الحسنى) ،

بعدما ذكر عز وجل بعضها؛ فقد جاءت الآية المذكورة من سورة الحشر في سياق

التعريف بالله عز وجل من خلال بعض أسمائه، وذلك قوله تعالى: [هُوَ اللَّهُ الَّذِي

لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ

المَلِكُ القُدُّوسُ السَّلامُ المُؤْمِنُ المُهَيْمِنُ العَزِيزُ الجَبَّارُ المُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا

يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الخَالِقُ البَارِئُ المُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي

السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] (الحشر: 22-24) .

فالأسماء الحسنى هي مدخل التعريف بالله رباً، وهو توحيد الربوبية، كما في

هذه الآيات، وهي كذلك مدخل التعريف به إلهاً، وهو توحيد الألوهية، كما في

قوله عز وجل من سورة الأعراف: [وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ

يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ] (الأعراف: 180) .

ومن هنا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسماء الله الحسنى: «إن لله

تسعة وتسعين أعطى مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة. إنه وتر يحب الوتر»

[4] وفي رواية: «من حفظها دخل الجنة» . وزاد الترمذي والحاكم وغيرهما

في الحديث تفصيلاً في عد هذه الأسماء [5] .

قلت: إن جماع توحيد الربوبية يؤول إلى إثبات الأسماء والصفات لله رب

العالمين، إثبات إيمان وتسليم، لا ينحرف به تأويل، ولا يزيغ به تعطيل، ولا

يخرمه تشبيه أو تجسيم. فهو تعالى: [لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ]

(الشورى: 11) . فلا ينسب شيء من الخلق والتدبير في الكون إلا له سبحانه،

وحده دون سواه، ولا يعتقد شيء من النفع والضر، والعطاء والمنع، والحياة

والموت يصل الكائنات من غيره تعالى. فكل الأسماء الحسنى والصفات العلى دلت

على تفرده سبحانه بمقتضياتها من الفعل والأمر، لا دخل لأحد من خلقه في ذلك إلا

بإذنه تعالى. تدبر ثم تدبر قوله عز وجل: [اللَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الحَيُّ القَيُّومُ لاَ

تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلاَّ

بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ

كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ العَلِيُّ العَظِيمُ] (البقرة: 255) .

ذلك هو توحيد الله في ربوبيته أي في مالكيته للكون وخالقيته له، وذلك هو

المنطلق السليم، والأساس القويم لتوحيد الألوهية، كما ذكرنا، وبقدر تصفية ذلك

يكون السير في طريق المعرفة الربانية، والرقي في مدارج الإيمان لأداء حق

الخالقية؛ حيث إن توحيد العبودية، أو الألوهية كله لا يخرج عن معنى السير إلى

الله رغباً ورهباً، من حيث إنه تعالى موصوف بصفات الكمال والجمال. وبهذا

السير تتحقق للعبد رتب المعرفة به تعالى، ويكتسب الجديد من منازل الإيمان،

ومقامات الإحسان، سيراً في طريق عبادته تعالى على نهج السنة النبوية؛ استجابة

لقوله تعالى: [وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ اليَقِينُ] (الحجر: 99) .

وهنا نعود إلى حديث الأسماء الحسنى؛ حيث يتبين أن قول النبي صلى الله

عليه وسلم: «من أحصاها أو من حفظها دخل الجنة» إنما المقصود بالإحصاء

(الحفظ) عينه، كما هو في صحيح البخاري في «باب إن لله مائة اسم إلا

واحداً» ، وقد ذهب أغلب العلماء كما سترى - بحول الله - إلى أن (الحفظ)

هنا هو بمعنى حفظ المقتضيات من الأفعال والتصرفات، لا حفظ العبارات، كما

في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك»

[6] .

والمقصود بحفظ المقتضيات: توقيع كل أعماله وتصرفاته بما تقتضيه دلالاتها

من حدود والتزامات.

فمثلاً إذا انطلق العبد في طلب رزقه، واكتساب قوته فإنما يفعل ذلك باسمه

تعالى: (الرزاق) ، ومعناه أن يعتقد ألا رزق يصل إليه إلا ما كتب الله له، ثم إنه

لا مانع له منه وقد كتبه الله له، ويكون لهذا إن صح اعتقاده فيه أثره الإيماني،

يجتهد كل يوم في تحصيله، فلا يساوم في دينه مقابل مال، عطاءً أو حرماناً؛ إذ

وجد في معرفته باسم الله الرزاق أنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع. وهو

قصد من مقاصد حفظ (الاسم) من أسمائه الحسنى: الثبات على ذلك أمام الفتن،

لا تزحزحه المضايقات ولا المناوشات، ولا التهديدات، ولا تذهب به الوساوس كل

مذهب، بل يسكن إلى عقيدته مطمئناً، آمناً من كل مكروه، إلا ما كان من قدر الله،

موقناً أن الله لا يريد به إلا خيراً. فذلك أمر المؤمن الذي ليس إلا لمؤمن،

والمؤمن أمره كله له خير كما في الحديث الصحيح؛ حيث قال عليه الصلاة والسلام:

«عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير. وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن: إن

أصابته سرَّاء شكر؛ وكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاء صبر؛ فكان خيراً له»

[7] .

إنها عقيدة السلام والأنس الجميل بالله. وبقدر ما تسكن النفس إلى اسمه تعالى

(الرزاق) يذوق العبد من معنى (الحفظ) جمالاً حميداً، وأنساً جديداً، فتعلو القدم

بذلك في مراتب العبودية، وتوحيد الألوهية مقامات أخرى. والربانيون في (حفظ)

كل اسم من أسمائه الحسنى بهذا المعنى مراتب ومنازل. وبذلك يمتلئ القلب حباً

لجمال أنواره وجلال إفضاله تعالى، فيزداد شوقاً إلى السير في طريق المعرفة

الربانية التي كلما ذاق منها العبد جديداً ازداد أنساً وشوقاً، فلا تكون العبادة بالنسبة

إليه حينئذ إلا أنساً، وراحة، ولذة في طريق الله؛ إذ تنشط الجوارح للتقرب إليه

تعالى بالأوقات والصلوات، والصيام والصدقات، والأمر بالمعروف والنهي عن

المنكرات، والدخول في سائر أعمال البر الصالحات. ولك في أسماء الله الحسنى

من كل ذلك مسالك تقربك إلى الله سبحانه، وتوصلك إليه.

هذا هو الفهم الأليق بحديث الأسماء الحسنى، وهو ما ذهب إليه أغلب شراح

الحديث عند تعرضهم لذلك؛ ومن هنا قال ابن حجر رحمه الله في الفتح: «وقال

الأصيلي: ليس المراد بالإحصاء عدها فقط؛ لأنه قد يعدها الفاجر، وإنما المراد

العمل بها. وقال أبو نعيم الأصبهاني: الإحصاء المذكور في الحديث ليس هو

التعداد، وإنما هو العمل، والتعقل بمعاني الأسماء والإيمان بها» [8] .

وقال أيضا: (وهو أن يعلم معنى كلٍّ في الصيغة، ويستدل عليه بأثره

الساري في الوجود، فلا تمر على موجود إلا ويظهر لك فيه معنى من معاني

الأسماء، وتعرف خواص بعضها. قال: وهذا أرفع مراتب الإحصاء. قال:

وتمام ذلك أن يتوجه إلى الله تعالى من العمل الظاهر والباطن؛ بما يقتضيه كل اسم

من الأسماء) [9] .

ذلك هو الشأن بالنسبة لسائر أسمائه الحسنى: الرحمن، الرحيم، الملك،

القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن ... إلخ. فكلها (حسنى) بصيغة التفضيل

المطلقة هذه، أي لا شيء أحسن منها؛ فهي تبث النور والسلام والجمال في طريق

السالكين إليه تعالى بحفظها، وتملأ قلوبهم إيماناً وإحساناً. كما قال النبي صلى الله

عليه وسلم في الحديث: «إن لله تعالى آنية من أهل الأرض، وآنية ربكم قلوب

عباده الصالحين، وأحبها إليه ألينها وأرقها» [10] .

وههنا لنا لطيفة من لطائف الأسماء الحسنى، نذكرها بحول الله؛ رفعاً للغبش

الذي قد يدور بخلد بعضهم، أو مما قد يلقيه الشيطان في خاطر العبد الذي لم يذق

بعدُ جمال بعض الأسماء، من مثل أسمائه تعالى: (الجبار، والمتكبر، والقهار) .

إن أول شيء يجب التذكير به أن هذه الأسماء كسائر أسمائه تعالى قد وصفها الله

عز وجل في القرآن بأنها (الحسنى) على التفضيل، وفي هذا لطائف كثيرة؛

فبالنسبة إلى خصوص معاني التكبر والكبرياء والقهر والجبروت من أسمائه تعالى

فهي مما يشين الإنسان، ويلقي به في دركات الذم والنقص؛ لو اتصف بها،

وتخلَّق بأحوالها. لكنها في ذات الله تعالى جلال وجمال، ونور وكمال، فهي

(الحسنى) . نعم قد ورد الوعيد في حق من اتصف بها من الناس، كما في الحديث

القدسي: «قال الله تعالى: الكبرياء ردائي والعظمة إزاري؛ فمن نازعني واحداً

منهما قذفته في النار» [11] .

وبيان ذلك أن الله - عز وجل - قصر ذلك الوصف عليه تعالى، ولم يأذن

لأحد من خلقه في اكتسابه، وهو عز وجل وحده يليق به ذلك لجلال قدره، وعظمة

ملكه وسلطانه؛ فهو الملك الحق العدل، لا ينافي شيء من ذلك عدله ورحمته، بل

إن وصف القهر والجبر والكبرياء في ذاته مصدر رحمة لعباده المؤمنين، وهذا من

لطائف المسألة؛ حيث إن المؤمن حينما ينتسب إلى الله عبداً، فإنه يكتسب من نسبة

العبودية عزة ومنعة؛ إذ هو محمي من الظلمة والفجار؛ باسم الله الجبار القهار.

وأنت حينما ترى في الأرض عبداً جاهلاً متكبراً؛ تدرك بسرعة أنه ينتحل ما ليس

له، كيف يصدق تجبره وكبرياؤه، وقد قال الله فيه: [وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفاً]

(النساء: 28) ؟ فكبرياؤه تلك إنما هي صورة من ورق! إنها مرض نفسي، فهي

تعبير عن الشعور بالنقص إزاء كمال حاوله فلم يصله: من الناحية الاجتماعية، أو

المالية، أو السلطانية، أو أي جهة أخرى. فقد يكون الإنسان غنياً ذا ثروة طائلة،

فإذا تكبر دل ذلك على نقص من جهة أخرى، ربما ظن أن ماله يغنيه من كل وجه،

فلما أدرك أنه لا يسد له حقيقة الكمال استكبر فطغى وتجبر وظلم! إنك أيها العبد

المنتسب بخضوعك وعبوديتك إلى كبرياء الله الحق تشعر أن الكبرياء مما ينتحله

الخلق كذب وافتراء، بل مرض يستحق صاحبه الحسرة والإشفاق! تماماً كما تشفق

على من ألقى بيده إلى التهلكة بالكفر والضلال، على غرار قوله تعالى: [يَا

حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ] (يس: 30) فالجاهل قد يرى الجبار من الناس أسداً يزأر في

وجوه الخلق، وعبد الله إنما يراه أسداً من ورق، أو دمية (كرتونية) تحكي لعبة

الأسد. والمتكبر من الخلق هو أول من يشعر في نفسه بضعفه، وعجزه، وفشله

في أن يندمج في المجتمع، ويتواضع أمام الخلق. وما أصدق قول الشاعر في هذا:

ملأى السنابل تنحني بتواضع ... والفارغات رؤوسهن شوامخ

وأنت إذ ترى ما لا يرى الجهلة تستريح.. فقد عرفت أنما الكبرياء

والجبروت لله الواحد القهار؛ فكانت بذلك أسماؤه الحسنى: الجبار والمتكبر والقهار،

ونحوها من أسماء الجلال برداً وسلاماً على قلوب عباده الصالحين تبعث النور

والجمال.. ولا عجب؛ فهي من (الأسماء الحسنى) حقاً وصدقاً. و [قُلْ صَدَقَ

اللَّهُ] (آل عمران: 95) ، والله خير الصادقين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015