مجله البيان (صفحة 4368)

مسؤولية الفتوى الشرعية ضوابطها وأثرها في رشاد الأمة - 2

دراسات في الشريعة

مسؤولية الفتوى الشرعية

ضوابطها وأثرها في رشاد الأمة

(2 ـ 2)

أ. د. محمد فؤاد البرازي [*]

في الحلقة السابقة أشار الكاتب إلى أن التصدي للإفتاء بشروطه وضوابطه من

أهم وسائل نشر العلم، كما عرف الفتوى لغة واصطلاحاً، ثم ذكر أهميتها والحاجة

إليها، وعرج بعد ذلك على مسؤولية الفتوى وضوابطها من خلال اعتمادها على

الأدلة الشرعية، وذكر طرفاً من الفتاوى الشاذة، كما لفت النظر إلي الخصال التي

على المفتي الاتصاف بها.

ومما يجب التنبه له أن المفتي ليس الذي تتحقق فيه تلك الشروط والخصال

فحسب، بل هو الذي يستصحب معها مواصفات أخرى تعتبر مكملة لما سبق،

نجملها فيما يلي:

1 - فهم مقاصد الشريعة: إن مراعاة مقاصد الشريعة أمر تشهد له قواعد

الشريعة، وقد كانت هذه المقاصد محل اعتبار لدى الأئمة المجتهدين، والعلماء

المحققين، ولهذا وجدنا جمهور أهل العلم يقررون أن الأحكام بمقاصدها، على

تفاوت بينهم في مدى الأخذ بهذا المبدأ؛ ذلك أن نصوص الشريعة وأحكامها معللة

بمصالح ومقاصد وضعت لأجلها، فينبغي عدم إهمالها عند تقرير الأحكام.

2 - معرفة مواضع الاختلاف: إن البصير بمواضع الاختلاف، العالم

بمدارك العلماء، المتأمل في أدلتهم، الواقف على استنباطاتهم، حري به أن يتبين

له الحق في النوازل العارضة، والوقائع المتجددة، فيفتي بأقواها حجة، وأقومها

محجة.

وقد تضيق بالناس الأحوال، وتتكافأ فيها الأقوال، فيختار منها ما يُصلح

حالهم، ويخرجهم من حرجهم.

لهذا جعل كبار العلماء العلم معرفة الاختلاف، حتى قال قتادة: «من لم

يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه» .

- وقال عطاء: «لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكونه عالماً باختلاف

الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه» .

- وعن مالك: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له:

اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا؛ اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،

وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.

- وقال يحيى بن سلام: لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا

يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إليَّ.

- وعن سعيد بن أبي عروبة: من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالماً.

قال الشاطبي بعد هذه الأقوال: «وكلام الناس هنا كثير، وحاصله: معرفة

مواقع الخلاف، لا حفظ مجرد الخلاف، ومعرفة ذلك إنما تحصل بالنظر، فلا بد

منه لكل مجتهد، وكثيراً ما تجد هذا للمحققين في النظر» [1] .

3 - القصد والاعتدال: إن «المفتي البالغ ذروة الدرجة هو الذي يحمل

الناس على المعهود الوسط فيما يليق بالجمهور، فلا يذهب بهم مذهب الشدة، ولا

يميل بهم إلى طرف الانحلال.

والدليل على صحة هذا: أنه الصراط المستقيم الذي جاءت به الشريعة؛ ذلك

أن مقصد الشارع من المكلف الحمل على التوسط من غير إفراط ولا تفريط؛ فإذا

خرج عن ذلك في المستفتين خرج عن قصد الشارع، ولذلك كان ما خرج عن

المذهب الوسط مذموماً عند العلماء الراسخين.

وأيضاً فإن هذا المذهب كان المفهوم من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأصحابه الأكرمين، وقد رد عليه الصلاة والسلام التبتل.

- قال سعد بن أبي وقاص:» رد رسول الله صلى الله عليه وسلم على

عثمان بن مظعون التبتل « [2] .

- وقال لمعاذ لما أطال بالناس في الصلاة:» أفتَّان أنت يا معاذ! « [3] .

- وقال:» إن منكم منفِّرين « [4] .

- وقال:» سددوا، وقاربوا، واغدوا، وروحوا، وشيء من الدلجة،

والقصدَ القصدَ تبلغوا « [5] .

- وقال:» اكلفوا من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا، وإن

أحب العمل إلى الله تعالى أدومه وإن قل « [6] .

- ورد عليهم الوصال، فقال:» لا تواصلوا « [7] .

فإن الخروج إلى الأطراف خارج عن العدل، ولا تقوم به مصلحة الخلق:

- أما في طرف التشديد فإنه مهلكة.

- وأما في طرف الانحلال فكذلك أيضاً؛ لأن المستفتي إذا ذهب به مذهب

العنت والحرج بغَّض إليه الدين، وأدى إلى الانقطاع عن سلوك طريق الآخرة،

وهو مشاهد [8] .

وأما إذا ذهب به مذهب الانحلال، كان مظنة للمشي مع الهوى والشهوة،

والشرع إنما جاء بالنهي عن الهوى؛ لأن اتباع الهوى مهلك، والأدلة كثيرة.

فعلى هذا يكون الميل إلى الرخص في الفتوى» بإطلاقٍ مضاداً للمشي على

التوسط، كما أن الميل إلى التشديد مضاد له أيضاً. وربما فهم بعض الناس أن ترك

الترخص تشديد، فلا يجعل بينهما وسطاً، وهذا غلط، والوسط هو معظم الشريعة

وأم الكتاب، ومن تأمل موارد الأحكام بالاستقراء التام عرف ذلك « [9] .

4 - فهم الواقع والفقه فيه: إن من واجب المفتي أن يكون بصيراًَ بزمانه،

عارفاً بأوانه، فاهماًَ لواقعه، حتى تكون فتاواه مبنية على تصور سليم، واستنباط

قويم.

وقديماً قال أهل العلم:» الحكم على الشيء فرع عن تصوره «.

والمفتي الذي لا يعرف الواقع الذي يفتي فيه، يخطئ في كثير من فتاويه،

ويعرض الناس إلى النفرة من الدين، والبعد عن محجة المتقين.

قال ابن القيم: ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا

بنوعين من الفهم:

- أحدهما: فهم الواقع، والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن

والأمارات والعلامات حتى يحيط به علماً.

- والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حكم الله الذي حكم به في

كتابه، أو على لسان رسوله في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن

بذل جهده، واستفرغ وسعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجراً.

فالعالم من يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم الله ورسوله كما

توصل شاهد يوسف بشق القميص من دبر إلى معرفة براءته وصدقه.

ومن تأمل الشريعة وقضايا الصحابة وجدها طافحة بهذا، ومن سلك غير هذا

أضاع على الناس حقوقهم ونسب ذلك إلى الشريعة التي بعث الله بها رسوله [10] .

وعلى هذا: فالفقيه من يطبق بين الواقع والواجب، وينفذ الواجب بحسب

استطاعته، لا من يُلقي العداوة بين الواجب والواقع،» فلكل زمان حكم، والناس

بزمانهم أشبه منهم بآبائهم « [11] .

غير أنه لا تصح مخالفة النصوص، ولا تأويلها تأويلاً متعسفاً، ولا تطويعها

لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع، فهذا تحريف للكلم عن مواضعه، واستسلام

لضغوط واقع غير إسلامي، نتيجة ضعف النفس، وعجز الإرادة.

وثامن هذه الضوابط: مراعاة القواعد الشرعية المؤثرة في الفتوى، كسد

الذرائع، والحيل، والضرورات.

- أما الذرائع، فقد قال عنها شيخ الإسلام ابن تيمية:» الذريعة: ما كانت

وسيلة وطريقاً إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى

فعل محرم، ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن لها مفسدة، ولهذا قيل: الذريعة:

الفعل الذي ظاهره مباح، وهو وسيلة إلى فعل محرم « [12] .

وقد قسم القرافي الذرائع إلى ثلاثة أقسام:

- فالقسم الأول: ما أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه، كالمنع من سب

الأصنام عند من يعلم حاله أنه يسب الله تعالى عند سبها، وكحفر الآبار في طرق

المسلمين فإنه وسيلة إلى إهلاكهم فيها.

- والقسم الثاني: ما أجمعت الأمة على عدم منعه، كالمنع من زراعة العنب

خشية الخمر، وكالمنع من المجاورة في البيوت خشية الزنى، فإنه لم يقل به أحد.

- والقسم الثالث: ما اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا؟ كبيوع الآجال عند

المالكية؛ كمن باع سلعة بعشرة دراهم إلى شهر، ثم اشتراها بخمسة قبل الشهر؛

فمالك يقول: إنه أخرج من يده خمسة الآن، وأخذ عشرة آخر الشهر؛ فهذه وسيلة

لسلف خمسة بعشرة إلى أجل توسلاً بإظهار صورة البيع لذلك.

والشافعي يقول: ينظر إلى صورة البيع ويحمل الأمر على ظاهره فيجوز

ذلك [13] .

فالفتوى الشرعية تأخذ في اعتبارها ذلك كله، لا سيما ما يفضي إلى الحرام.

- وأما الحِيَل، فمعناها: إظهار أمر جائز ليتوصل به إلى محرم يبطنه»

[14] .

قال الشاطبي: «وحقيقتها المشهورة تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم

شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر» [15] .

ويفهم من كلام الشاطبي: أن الحيل يشترط فيها القصد من المكلف، وقد

صرح بذلك؛ حيث قال: «ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية»

[16] .

فالفرق بين الذريعة والحيلة:

- أن الذريعة ما تفضي إلى المحرم بدون قصد من الفاعل، كسبِّ الأوثان

فإنه ذريعة إلى سب الله تعالى، وكذلك سب الرجل والد غيره؛ فإنه ذريعة إلى سب

والده.

- أما الحيلة فهي ما يفضي إلى المحرم بقصد من الفاعل، مثل ما يحتال به

من المباحات في الأصل فراراً من الواجب، كبيع النصاب في أثناء الحول فراراً

من الزكاة.

فالفتوى تأخذ في اعتبارها ذلك كله، فتسد الذرائع حتى لا يتوصل بسببها إلى

المحرم حتى ولو كانت جائزة في الأصل مثل سب الأوثان؛ أما لو سلمت من

المحذور فإنها تبقى على حكم الأصل.

كما أن الفتوى تأخذ في اعتبارها إبطال الحيل لما يترتب على هذه الحيل من

خرم قواعد الشريعة، والتحلل من التكاليف الشرعية، فتلغى معاملةً للمكلف بنقيض

قصده.

ولا ينتبه لذلك إلا مفتٍ يقظ لا تخدعه تلك التمويهات، ولا يغره بريق

العبارات.

- أما قاعدة الضرورة الشرعية فينبغي مراعاتها أيضاً؛ لأنها قاعدة متفق

عليها تقوم على أدلة من الكتاب والسنة، ولكون تطبيقاتها مما تضطر إليها الأمة.

وقد قعَّد لها العلماء قاعدة هامة تقول: «الضرورات تبيح المحظورات» ،

كما قرنوها بقاعدة أخرى مقيدة لها هي: «الضرورات تقدر بقدرها» .

ولن أبسط القول في هذه القاعدة الهامة؛ لأن الموضوع لا يحتمله؛ غير أني

أردت الإشارة إليها لتراعى في الفتوى عند تحقق شروطها، وهي:

أ - أن تكون واقعة لا منتظرة بأن يتحقق أو يغلب على الظن وجود خطر

حقيقي على الدين، أو النفس، أو العقل، أو النسل، أو المال.

ب - وأن تكون ملجئة بحيث يخاف الإنسان هلاك نفسه، أو قطع عضو من

أعضائه، أو تعطل منفعته إن ترك المحظور.

ج - وأن لا يجد المضطر طريقاً آخر غير المحظور.

فمتى تخلف شرط من هذه الشروط انتفى القول بالضرورة.

ورغم اتفاق أهل العلم على هذه الشروط إلا أن المجلس الأوروبي للإفتاء

والبحوث قد تجاوزها، فأفتى بجواز القروض الربوية لشراء المساكن في غير

البلاد الإسلامية بدعوى اعتماده على قاعدة «الضرورات تبيح المحظورات» رغم

عدم تحقق شروطها السابقة، واستناداً لما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد

بن الحسن الشيباني من جواز التعامل بالربا وغيرها من العقود الفاسدة بين المسلمين

وغيرهم في غير دار الإسلام [17] .

أما استناد المجلس على قاعدة الضرورة فغير منضبط لعدم تحقق شروطها

السابقة، وعليه فإن فتواه خاطئة:

- ما دام الإنسان يجد بيتاً يسكنه عن طريق الإيجار.

- أو كان لديه مال يشتري به المسكن.

- أو لم يكن لديه المال ولكنه وجد من يقرضه قرضاً حسناً.

- أو وجد وسيلة شرعية أخرى تعينه على الشراء كبيع المرابحة الذي تكون

فيه الزيادة في الثمن مقابل الزيادة في الأجل.

وأما استناد المجلس إلى ما ذهب إليه الإمام أبو حنيفة وصاحبه محمد بن

الحسن الشيباني فلا يصح أيضاً، لعدم انطباق تلك الحالة على مذهب الأحناف الذي

يشترط لجواز التعامل بالربا مع غير المسلمين شروطاً عديدة.

واستدلال بعضهم بحديث: «لا ربا بين مسلم وحربي في دار الحرب» ، لا

يفرح به عارف بالحديث؛ لأنه ضعيف لا تقوم به حجة، ويكفي ما قاله الإمام

الشافعي فيه: «هذا ليس بثابت، ولا حجة فيه» ا. هـ.

وإنما قلنا بحرمة الاقتراض بالربا في هذه الحالة لعدم تحقق شروط الضرورة،

ولعموم الأدلة القاضية بتحريم الربا التي لم تفرق بين دار ودار، ولا بين مسلم

وغيره.

فليأخذ العاقل من تقواه لفتواه، ومن دنياه لأخراه، قبل [أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا

حَسْرَتَى عَلَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ] (الزمر: 56) .

وبهذا نكون قد أتينا على أهم ضوابط الفتوى حتى تكون معتبرة شرعاً،

ومقبولة طبعاً.

* أثر الفتوى في رشاد الأمة:

إذا كانت الفتوى مؤصلة تأصيلاً شرعياً سليماً من التنطع، معافى من التسيب،

بعيداً عن الأقوال الشاذة، نائياً عن الأدلة التالفة، مراعى فيه رضى الحق،

وملاحظاً به مصالح الخلق، فإن الفتوى تترك في الأمة آثاراً طيبة نجملها فيما يلي:

أ - إزالة الجهل: إن سؤال المستفتي وإجابة المفتي نوع من المدارسة العلمية

يتعلم فيها السائل أحكام الدين، وهو نوع من العلم الذي حض الله تعالى على

تحصيله في كتابه الكريم؛ حيث قال: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا

فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ] (التوبة: 122) .

وقال تعالى: [فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ] (النحل: 43) .

كما أن الآيات الأولى التي نزل بها الوحي على رسول الله صلى الله عليه

وسلم كانت حضاً على العلم؛ لأنه ينير العقول والبصائر، ويستنهض الهمم

والضمائر، ويزيل الجهل، ويصقل العقل، وترتقي به الأمة، ويعلو شأنها.

لقد قامت مدرسة النبوة على التوحيد الذي يحفظ العقل من الخرافة كما قامت

على العلم الذي يصون الإنسان من الجهالة، فتخرج منها رجال كانوا منارات هداية

للسائرين، ومشاعل علم ومعرفة للقاصدين.

فبالفتاوى الكثيرة التي أعطاها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه،

وبالرعاية الإيمانية والعلمية التي أحاطهم بها، نشأ خير جيل عرفته الإنسانية في

تاريخها فيه من مجتهدي الصحابة: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وابن

مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وعائشة، وغيرهم رضي الله تعالى عنهم.

نعم تخرج من تلك المدرسة جيل فريد متسلح بالعلم، بعد أن كان يغط في

جهالة عمياء لا يعرف قراءة ولا كتابة! وكانت فتاوى رسول الله صلى الله عليه

وسلم وتوجيهاته عاملاً من عوامل تعليم الأمة ورفع الجهل عنها.

ب - تصحيح المسار للفرد والمجتمع: فالفتوى السليمة تجعل المستفتي على

الجادة القويمة، وتبعده عن البدع الذميمة، فتصحح مساره لئلا يزل، وتحذره من

البدع لئلا يضل؛ وفي ذلك صلاح الفرد، وسلامة المجتمع.

قال الله تعالى: [وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَقَّ

وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] (سبأ: 6) .

ج - توثيق صلة الأمة بعلمائها: إن الفتوى القويمة توثق صلة الأمة بعلمائها،

وتربطهم بولاة الأمر في شؤون دينها، وما أحوج الأمة إلى ذلك التلاحم الذي يقود

ركبه حملة أشرف رسالة!!

إن الأمة التي تبقى وفية لعلمائها تسمع لقولهم، وتطيع أمرهم، وتأخذ

بنصحهم هي أمة مؤهلة للفوز في الدنيا والنجاة في الآخرة؛ وكيف لا يتم لها الفوز

والله تعالى قد أرشدها لطاعته، فقال سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] (النساء: 59) .

فقد فسر الجمهور أولي الأمر بالأمراء، وفسرها بعض السلف وعلى رأسهم

ترجمان القرآن الكريم ابن عباس - رضي الله عنه - بالعلماء.

أخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن عطاء في قوله

تعالى: [أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ] قال: طاعة الرسول: اتباع الكتاب

والسنة. [وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ] : قال: أولي الفقه والعلم [18] .

والظاهر أن الآية تشمل أولي الأمر الدنيوي وهم ولاة الأمر، كما تشمل أولي

الأمر الديني وهم أولو الفقه والعلم.

د - تبصرة طالب العلم: إذا وفق الله تعالى طلبة العلم إلى استفتاء العلماء

المتمكنين العاملين المخلصين؛ فإن آفاق المعرفة تتفتح أمامهم ينهلون من معينها،

ويرشفون من حقائقها، فتتنور بصائرهم، وتنضج معارفهم.

وقديماً دل لقمان الحكيم ولده على منبع الخير حتى ينهل منه، فقال له: «يا

بني جالس العلماء، وزاحمهم بركبتيك؛ فإن الله يحيي القلوب الميتة بالحكمة كما

يحيي الأرض الميتة بوابل السماء» [19] .

وبمقدار ما يكون العالم متمكناً، وطالب العلم نهماً، تكون النتائج أوفر،

والعوائد أكثر.

فمن ظفر بعالم متمكن، عامل بعلمه، مسدد في فهمه، فقد حِيزَ له خير عميم،

وفضل عظيم.

هـ - إعانة المسلمين على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الصحيح:

إذا سلمت الفتوى من الشذوذ، وتجردت عن تنطع المتنطعين، وتسيب المتسيبين،

ثم أعطيت للمستفتي على أنها توقيع عن رب العالمين، فإنها تكون خير عون على

أداء التكاليف الشرعية كما أمر الله تعالى في قوله الكريم: [وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ

إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ] (الزمر: 55) .

وكلما كانت الفتوى سديدة، ومعتمدة على الأدلة الصحيحة، فإنها تكون أدعى

إلى حمل الناس على أداء التكاليف الشرعية على الوجه الذي أراده الله ورسوله،

وفي ذلك إحياء للسنن، وإماتة للبدع.

* الآثار السيئة لأخذ الفتوى عن غير أهلها:

إن الفتوى دين، وهي كما سبق توقيع عن رب العالمين؛ وبذلك لا يصح

أخذها إلا من الفقهاء المتمكنين، والعلماء العاملين؛ فما كل من شدا العلم صار

عالماً، ولا كل من اعتزى إليه بات بحق الفتوى قائماً، وقديماً قال محمد بن سيرين

- رحمه الله تعالى -: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم» [20] .

فالفتاوى الخاطئة، أو الصادرة عن غير أهلها تترك آثاراً سيئة، وأضراراً

في الفرد والمجتمع فادحة، منها:

أ - التعدي على حدود الله: فما أفدح الخطب حين تنتهك حرمات الله بفتاوى

جائرة تنسب إلى دين الله.

- قال الله تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا

حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ]

(النحل: 116) .

- وقال عز شأنه: [قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ

وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى

اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] (الأعراف: 33) .

- وعن أبي ثعلبة الخشني - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم قال: «إن الله فرض فرائض فلا تضيعوها، وحدَّ حدوداً فلا تعتدوها،

وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم من غير نسيان فلا تبحثوا

عنها» [21] .

ب - الجرأة على دين الله: إن أخذ الفتوى عن غير أهلها يسوق المستفتي

إلى الجرأة على دين الله؛ فلا تبقى لله تعالى في قلبه رقابة، ولا إلى الحق تعالى

في نفسه إنابة، فيرتكب ما سأل عنه بفتوى جائرة، ثم يتدهده من قلة الخشية،

وظلمة المعصية من ذنب إلى آخر حتى تهوي به أهواؤه في مكان سحيق.

ج - شيوع الباطل وإلباسه لبوس الحق: وذلك من التلبيس على الخلق،

والطمس لمعالم الحق: [أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّي إِلاَّ أَن

يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَناًّ إِنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الحَقِّ

شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ] (يونس: 35-36) .

د - الضلال عن صراط الله العزيز الحميد: إن الخير كل الخير في اتباع

سلف الأمة، ومنهجهم القائم على الكتاب والسنة، وفي ذلك صلاحها في الدنيا،

ونجاتها في الآخرة، ورحم الله من قال: وكل خير في اتباع من سلف وكل شر في

ابتداع من خلف فإذا تقلد الإنسان العلم عن غير أهله ضل عن الطريق؛ فقد روى

الشيخان من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم

قال: «إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض

العلماء، حتى إذا لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم

فضلوا وأضلوا» [22] .

هـ - الانصراف عن العلماء العاملين، والفقهاء المتمكنين: وما أكثر هذه

الظاهرة في هذه الأيام؛ حتى صرنا نرى العامة تُشَيِّخ كل من طرَّ عذاره، أو ارتفع

في الناس مناره، بَلْهَ من علا بالوعظ صوته، أو من أثر فيهم حاله وسمته،

فيتخذونه في أمور دينهم مفتياً، ولحل خصوماتهم قاضياً، مما أدى إلى التسور على

الدين، والافتراء على أئمة المسلمين، حتى بات صوت الحق في بعض الأجواء

نشازاً، ولا يجد إلا إلى الله تعالى ملاذاً.

قال ابن القيم: «تالله إنها فتنة عَمَّت فأعمت، ورمت القلوب فأصْمَتْ، ولما

عمت بها البلية، وعظمت بسببها الرزية، فإن طالب الحق من مظانه لديهم مفتون،

ومؤثره على ما سواه عندهم مغبون» [23] ، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

* المقترحات:

بناءً على ما سبق بيانه، ورغبة في معالجة الآثار السيئة لأخذ الفتوى عن

غير أهلها، فإنني أتقدم بالمقترحات الآتية:

1 - العودة في القضايا الكبرى والمسائل الشائكة إلى المجامع الفقهية في العالم

الإسلامي، مثل:

- المجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة.

- المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.

- المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة.

- مجلس الفكر الإسلامي في إسلام آباد بالباكستان. وقد دونت أبحاثه باللغتين

الأوردية والإنجليزية.

- وأكاديمية الفقه الإسلامي في دلهي بالهند، وقد أصدرت بحوثاً قيمة باللغة

الأوردية في كثير من النوازل بأقلام كبار علماء الأحناف بالهند، بلغت سبعة

مجلدات.

ونوصي هذه المجامع المباركة بزيادة عدد الأعضاء من العلماء الذين يعرفون

واقع الجاليات الإسلامية في بلاد غير المسلمين، لمعالجة قضايا الجاليات في غير

البلاد الإسلامية.

2 - الرجوع في المسائل الأخرى إلى العلماء الأثبات المشهود لهم بسعة العلم،

ودقة الفهم، ومعرفة الواقع، وإدراك مقاصد الشارع.

3 - تشكيل لجان فتوى من ثقاة أهل العلم الذين تقدمت مواصفاتهم آنفاً،

لتكون إلى جانب الجهات الأخرى الموثوقة مرجعاً سريعاً للجاليات الإسلامية،

تطرح عليها إشكالاتها، وتجد لديها حلاً لمعضلاتها.

4 - عقد ندوات فقهية يقوم عليها فقهاء متخصصون، يتمتعون بثقة الأمة

وعلمائها، يبحثون في مشكلات الجاليات الإسلامية، ويقدمون لها حلولاً واقعية.

5 - عقد دورات علمية يرشح لها من عرفت بالعلم كفايته، وتحققت فيه

معرفته، وتوافرت له صلاحيته، واستفاضت في الناس أهليته.

6 - تأليف كتاب في فقه الأقليات الإسلامية يضم بين دفتيه إجابات شرعية،

وحلولاً عملية لما تحتاج إليه الجاليات الإسلامية، يقوم بتأليفه لجنة من أهل العلم

تعرف واقع تلك الجاليات، وتدرك حكم الله تعالى في تلك المعضلات.

هذا ما أردت قوله؛ فإني [إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ

بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] (هود: 88) .

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب

العالمين.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015