مراجعة في عالم الكتب
قيام وسقوط القوى العظمى
[1]
بول كنيدي
عرض وتعليق: طارق عبد الحليم
حين تعيش أمة من الأمم حاضرها وتبني مستقبلها، وهي ذاهلة عن ماضيها،
معرضة عن تراثها بكل ما تحمله الكلمة من معان، فإنها تكون كالنبتة التي اجتثت
من فوق الأرض، وانقطعت عن أصولها، ففقدت أصالتها وهويتها التي تعينها على
البقاء، لذلك لن تلبت إلا أن تموت.
وحين تغفل أمة عن حاضرها ومستقبلها، وتكتفي بأن تعيش على ذكريات
ماضيها السالف؛ تجتر أحداثه وتردد ما كان لها به من مجد مؤثل دون أن تستلهمه
العبرة لحاضرها ومستقبلها، ليكون بناؤها مؤسساً على قواعد راسية، فإنها تكون
كمن يُخدع بالسراب حتى يموت ظمأ.
والأمة القوية - أمة الوسط - تصل ماضيها بحاضرها، وتمهد بهما معاً
طريق المستقبل، من هنا تبرز أهمية علم (التاريخ) الذي يعرض أحداث الماضي
كما كانت، ثم علم (فلسفة التاريخ) الذي يحاول استجلاء السنن الاجتماعية الكامنة
وراء تلك الأحداث، كما يحاول علم الفيزياء أن يستنبط السنن الطبيعية التي سنها
الله -سبحانه- لعالم المادة ... ومن هنا كذلك، تظهر أهمية التعرف على ما يستجد
من محاولات في هذا الباب.
من هذا المنطق، وحرصاً على اطلاع القارئ على ما يستجد من مساهمات
بارزة في هذا المجال، فإننا نقدم - في هذا المقال - كتاباً احتفلت به الدوائر العلمية
والثقافية في العالم أجمع، بل وأشار الكثير منها إلى أنه يعد من أهم الأعمال
المتعلقة بالتاريخ السياسي والاقتصادي العالمي في هذا القرن. والكتاب بالفعل جدير
بأن يطلع عليه المسلمون للتعرف على ما يقدمه الغربيون من تفسير للتاريخ
الاقتصادي السياسي وما يتوقعونه، بناء على ذلك التحليل لصورة العالم في العقود
القادمة.
أولاً: العرض:
ينقسم الكتاب الذي يقع في 698 صفحة من القطع المتوسط، إلى ثلاثة أقسام
رئيسية هي: الاقتصاد والاستراتيجية في عالم ما قبل التصنيع، وفي فترة التصنيع، واليوم وغداً، هذه الأقسام الثلاثة مقسمة بدورها إلى ثمانية فصول، سنقوم ...
بعرض محتوياتها في السطور التالية.
في البداية يقرر الكاتب بإيجاز أن القوى النسبية بين الأمم الدائرة في العالم لا
تظل ثابتة، وذلك لاختلاف معدل النمو بين تلك الأمم، إلى جانب الطفرات
التكنولوجية التي تميز مجتمعاً عن الآخر، ثم يبسط المؤلف نظريته عن ظاهرة
بروز قوة دولية جديدة على المسرح العالمي، واندفاعها لتقهر من حولها ولتحتل
مكاناً بارزاً بين بقية القوى العظمى بأنها ترجع إلى ذلك التوازن الدقيق بين القوة (العسكرية) لتلك الأمة وبين قوتها (الاقتصادية) . وبشكل أكثر تفصيلاً فإن الانفاق
القومي على القوة العسكرية التي تحفظ كيان مجتمع ما يجب أن يتوازن مع ما تنفقه
تلك الأمة في سبيل تنمية مواردها الاقتصادية وتقدمها العلمي التكنولوجي، والخلل
في تلك النسبة - لصالح أي الطرفين - هو السبب الرئيسي في اندحار تلك الأمة
وأفول نجمها، إذ لو طف ميزان القوة العسكرية لصالح التقدم العلمي والاقتصادي
لصارت الأمة نهباً للطامعين ومرتعاً للغازين المترصدين لها من كل جانب، ولو
تغلبت آلة الحرب العسكرية على المؤسسات الاقتصادية والعلمية، وابتلعت قوة
الأمة لصالحها، فإنها لن تلبث وسائلها وأجهزتها العسكرية أن تغدو قديمة أمام ما
يستحدث من وسائل متطورة في حوزة الأمم الأخرى، مما يجعلها تقهر عاجلاً أو
آجلاً.
هو إذن ميزان دقيق يتراوح بين القوة العسكرية ودرجة التسلح من ناحية،
وبين القوة الاقتصادية التي تحفظ على الأمة مواردها وتقدمها من ناحية أخرى،
وكلاهما مكمل للآخر، وكما يقرر المؤلف (آسفاً) فإن القوة لازمة لضمان التقدم
والرفاهية، كما أن التقدم المادي ضروري لحيازة القوة وضمان سيطرتها.
ويرسم الكاتب في الفصل الأول صورة متكاملة للمسرح العالمي حوالي عام
1500 ميلادية، حيث تركزت القوى العظمى في خمسة مراكز: امبراطورية مينج
الصينية، الامبراطورية العثمانية وتوسعاتها في الهند، امبراطورية مسكوفي في
شمال آسيا، ودولة تاكوجلوا باليابان.. إلى جانب تلك المجموعة من الدويلات
المستقلة المتناحرة في غرب أوربا، تلك المجموعة التي لم يكن هناك في ذلك
الوقت ما يدل أي دلالة على أنها ستحتل المركز القيادي الذي تحتله في عالم هذا
القرن، ولعل أهم ما ميزها عمن حولها من قوى عظمى هو أن تلك القوى كانت
تعاني من عيوب السلطة المركزية التي بنيت -كما يرى المؤلف - على أسس
فكرية عملية، نمطية لاتسمح بإبداع أو تغيير ليس فقط في مجال الدين أو المعتقدات
بل حتى في المجالات التجارية والعسكرية.
ويرجع الكاتب السبب في تطور أمم أوربا الغربية إلى ذلك التحرر السياسي
من وطأة أية سلطة مركزية عليا، مما جعلها تنمو وتندفع في طريق التقدم دون
عوائق، كذلك بسبب تلك المخاوف التي كانت تسودها من جيرانها، فإنها قد حققت
تطوراً في مجال التسلح بشكل متصاعد، جعلها تسيطر أخيراً على العالم المتحضر.
وقد قاومت أوربا بالفعل محاولتي السيطرة اللتين هددتا الاستقلالية الأوربية
من قبل الأسبان وعائلة هابسبورج النمساوية خلال فترة المائة والخمسين عاماً
التالية للقرن السادس عشر، وكادتا أن توقفا عملية التقدم التي كانت قد بدأت تشق
طريقها بالفعل، كما أوضح الكتاب في فصله الثاني.
أما الفصل الثالث فقد عالج الفترة بين 1660 1815 م، حيث أخذت بعض
القوى العظمى في الانحدار، مثل أسبانيا وهولندا، وظهرت قوى أخرى هي:
انجلترا وفرنسا وروسيا والنمسا وبروسيا؛ تلك القوى التي حكمت حركة العالم
خلال القرن الثامن عشر. وقد عزا المؤلف ذلك لحسن إدراك تلك القوى لما يحتاجه
عصرها من سيطرة بحرية، وحيازتها لأساطيل هائلة تجوب البحار بحثاً عن
الموارد الاقتصادية الجديدة.
وقد أشار الكاتب في الفصل الرابع إلى ذلك التوتر النسبي الذي ساد العالم -
خاصة الولايات المتحدة وروسيا في محاولة توحيد الكتلة الجغرافية السياسية لكل من
الدولتين - خلال القرن التاسع عشر، وما مهد لانجلترا أن تحتل موقع الريادة في
الاستفادة من الثورة الصناعية ومنجزات عصر البخار للدرجة القصوى سواء على
الصعيد الاقتصادي أو العسكري، وفي هذه الفترة ذاتها تخلفت دول كإيطاليا وفرنسا
عن مركز الريادة لتحتله قوى أخرى قد تكون هي الوحيدة التي أُهلت في هذه الفترة
لتشق طريقها في سبيل إحراز القوة والسيطرة؛ وهي ألمانيا إلى جانب الولايات
المتحدة وروسيا واليابان خارج نطاق أوربا الغربية.
وقد تميز النصف الأول من القرن العشرين بأنه كرس (عالم القطبين)
الشرقي والغربي، بعد ظهور القوة الأمريكية الهائلة على مسرح السياسة الدولية،
وكذلك دولة روسيا تحت النظام البلشفي. أما ألمانيا فقد أجبرت القوى الكبرى أن
تقف في وجهها لتمنعها من تحقيق سيطرة امبراطورية مركزية لم يعد أوانها في عالم
القرن العشرين كذلك تميزت تلك الفترة بما أسماه الكاتب (أزمة القوى الوسطى)
وهي الدول التي لم تبلغ مدى القوى العظمى في الاقتصاد والقوه، ولم تنحدر إلى
حد التخلف والتبعية كما هو حال (الدول النامية) .. وهو موضوع الفصلين
الخامس والسادس.
ويلقي الكتاب في فصليه الأخيرين الأضواء على عالم السبعينيات
والثمانينيات، محاولاً التنبؤ بناء على الرؤية التاريخية والمعطيات الحاضرة، بما عساه يكون صورة للقوى العظمى الآخذة في الظهور والأخرى الآخذة في الانحدار والأفول.
ويقرر المؤلف أن مركز الثقل العالمي يتحرك باتجاه دول منطقة الباسفيك -
شرقية وغربية - كاليابان في المقدمة، وهونج كونج وسنغافورة والصين، وكذلك
الولايات الشرقية الباسيفيكية لأمريكا وكندا، وهو يؤيد ذلك بإحصائيات عديدة تؤكد
أن معدل النمو الاقتصادي لتلك الدول يتجاوز معدلات نمو بقية الدول حتى العظمى
منها بدرجة كبيرة، ويعلل الكاتب ذلك حسب نظريته في التوازن الاقتصادي
العسكري بعدم إنفاق تلك الدول على ميزانيات دفاعها ما يخل بذلك التوازن.
ثانياً: التعليق:
وقد قصدنا - بعدما قدمناه من عرض سريع لمادة الكتاب وموضوعه -إلى
تقديم بعض الملاحظات، وإبراز بعض النقاط التي تعين القارئ على استكمال
الفائدة منه، كما تعين قارئ المقال على إعمال الفكر فيما أثرناه، من خلال عرضنا
للموضوع وتعليقنا عليه.
وأول ما نثبته من الملاحظات هو أن الكتاب يعتبر تحليلاً للتاريخ الاقتصادي
السياسي، وليس معالجة لظهور الحضارات وانهيارها كما عالجها المؤرخون أمثال
توينبي في دراسته للتاريخ، وهو أمر لم يدعهِ الكاتب لمؤلفه كما يظهر من عنوانه
الجانبي، والفارق بين النظريتين فارق كبير إذ كافة ما عالجه الكاتب من قوى إنما
ينتمي إلى حضارة واحدة، الحضارة الغربية بوجهيها الشيوعي والرأسمالي اللذين
يشتركان في أصل النظرة المادية العلمانية.
أي إن الكتاب قد تركز حول القوى الغربية - أعني الدائرة في حيز الحضارة
الغربية الحديثة - بصفتها الغالبة في عالم اليوم، ولم يلق بالاً لتحليل ما قد ينشأ من
قوى خارج محيط الغرب وفي بقاع أخرى من العالم.
والكتاب قد بنيت فكرته الرئيسية على أن التاريخ إنما يصاغ بتأثير القوى
العسكرية الاقتصادية، وأغفل تلك الايديولوجيات التي تصنع تلك القوى وتدفعها
للظهور بادئ ذي بدء.. فهو يصور العالم على أنه ساحة صراع اقتصادي مغلف
بالصراع المسلح، ليس إلا ... هذه الصورة وإن كانت تبدو صحيحة للنظرة العجلى
إلا أنها تتجاوز بعداً أساسياً، بل البعد الأساسي في صناعة أحداث التاريخ ... الفكر
والايديولوجية، خاصة في عالم (القطبين) اللذين ظهرا أساساً نتيجة لايديولوجيات
فكرية معينة لا تزال آثارها تحرك العالم وتشكل قالبه الحاضر. وإن التقارب
الشرقي الغربي الذي يلحظه المراقب لمجريات السياسة العالمية اليوم لا يجب أن
يبرر بأنه تنازل عن عالم المبادئ والايديولوجيات الفكرية ليحل محله عالم المال،
بل إنه أقرب لأن يكون أيديولوجية جديدة يتحرك بها القطبان الشرقي الشيوعي
والغربي الرأسمالي كل لصالحه، ثم لا ننسى أن كلا الكتلتين إنما ينتميان لقالب
حضاري مادي واحد فما المانع إذن أن يتقاربا حين تدعو الحاجة لذلك، بل وتلح
عليه إلحاحاً!
كذلك فإن الكاتب قد سوغ سبب نهضة دول أوربا الغربية، وتفوقها على كافة
معاصرها من الامبراطوريات المنهارة، بأنه يعود إلى تلك السلطة المركزية العليا
التي كانت سمة مشتركة لتلك الامبراطوريات، والتي لم تقصر سيطرتها على
النواحي الدينية أو الأخلاقية، بل قد تدخلت حتى في الجوانب الاقتصادية
والعسكرية لتحافظ على نمطيها.. وتلك كان غلطتها القاتلة.
والحق أن ذلك التعليل، وإن كان يحمل حقاً لاشك فيه، إلا أنه لا يجب أن
يحمل على إطلاقه، فنحن نرى أن أوربا الغربية نفسها تتحرك اليوم نحو إيجاد
سلطة مركزية بدرجة ما تتمثل في السوق الأوربية المشتركة، توحيد العملة
الأوربية وغير ذلك من المظاهر، بل إن القوة العظمى في عالم اليوم، الولايات
المتحدة الأمريكية، قد نشأت من اتحاد فيدرالي بين ولاياتها التي تتجاوز الخمسين
ولاية، تخضع كلها لسلطة مركزية عليا واحدة، والأمر كما نراه ليس أمر مبدأ
السلطة المركزية في حد ذاتها، بل هو في خطأ التطبيق، الذي يؤدي بأية سلطة
مركزية، حين تفقد القدرة على الرؤية الصحيحة ومتابعة ما يجري حولها بوعي
ويقظة، وحين تقل ثقتها في اتباعها ومنفذيها، مما يؤدي إلى وأد القوى المبدعة
والقدرات البناءة في مهدها، وإهدار فرص التقدم وإمكانيات التطور لدى الأمم
والمجتمعات.