مجله البيان (صفحة 435)

قراءة فى فكر مالك بن نبى (6)

نقد

قراءة في فكر مالك بن نبي

-6-

محمد العبدة

ذكرنا في الحلقة السابقة رأي مالك بن نبي في الثقافة وكيف توجه، ونتابع في

هذه الحلقة رأيه في توجيه العمل ورأس المال، والخطوط العريضة للإقلاع

الاقتصادي.

أهمية الاقتصاد:

لم يعد الاقتصاد في العصر الحديث من الأمور الثانوية، وما كان كذلك في

القديم، ولكن العصر الحديث زاده أهمية وزادت مشاكله حدة بسبب التقارب

الجغرافي، وظهور مذاهب الرأسمالية والاشتراكية التي جعلته من المحاور الرئيسية

في حياتها، وبسبب جشع الغرب ومحاولته إبقاء دول العالم الثالث مستهلكة لإنتاجه

(فأوربا التي تكتلت في القرن الحادي عشر من أجل الزحف الصليبي وتكتلت في

القرن التاسع عشر في الميثاق الاستعماري، تعود اليوم إلى تكتل جديد في صورة

(السوق المشتركة) في الظاهر من أجل الصمود في وجه الاقتصاد الأمريكي

والياباني وفي الواقع من أجل الزحف الاقتصادي على مناطق الحضور الأوربي

سابقاً (العالم الثالث والإسلامي بوجه خاص) لترسي فيها دعائم وجود أوربي جديد

بوسائل الاقتصاد) [1] .

وليس هذا موضع تفصيل نظرة الإسلام إلى الاقتصاد ولكن الذي لاشك فيه أن

دولة أو أمة تعيش على فتات الموائد والإعانات من القمح والدقيق والقروض من

البنك الدولي، كيف يتسنى لها الاستقلال السياسي، وكيف تبقى بعيدة عن ضغوط

الشرق والغرب.

كان الطلب على الحاجات قليلاً في الماضي، ولم تقع الشعوب الإسلامية

فريسة\ الاستهلاك، وبسبب التخطيط الاقتصادي الفاشل صار الفلاح ينتظر لقمة

العيش من أمريكا، وقد كان في السابق مكتفياً هو وأسرته في مزرعته وأرضه (فالعالم الإسلامي يواجه اليوم (حالة إنقاذ) تفرض عليه أن يتخذ قرارات صارمة في

المجال الاقتصادي) [2] .

ونحن لا نضخم من دور الاقتصاد، ولكن ألم يكن كبار الصحابة تجاراً

ومزارعين، ولابد من إعمار الدنيا بالقدر الذي لا تنخرم فيه أمور الدين أو أمور

الآخرة، وكيف يكون المسلم عزيزاً إذا كان جل اعتماده على الكفار.

الاقتصاد اليوم أصبح علماً قائماً بذاته، والظروف الحالية تتطلب تخطيطاً

اقتصادياً يناسب حاجات وموارد بلادنا، وإذا كان الغرب يسخر الاقتصاد للرفاهية

والاستغلال، فلماذا لا يسخره المسلمون للاستقلال ونشر الدعوة والجهاد. الإقلاع الاقتصادي:

ولأهمية هذا الموضوع كان السؤال المتبادر: كيف ينهض المسلمون

اقتصادياً؟ وكيف يكون لهم اقتصاد مستقل؟ فالعالم من حولهم في سباق رهيب، المنتجون في الشمال على محور (واشنطن - طوكيو) يريدون بقاء العالم الآخر (محور: طنجة - جاكرتا) المحطة الرئيسية للاستهلاك، (والمسلم في أول هذا القرن لاهو بالمنتج الذي يرعى حقه، ولا المستهلك الذي ترعى حاجته، لقد كان أداة عمل مستمر فقط، ولم يتكون لديه وعي اقتصادي ولا تجربة في عالم اقتصاد غريب عليه بكل مفاهيمه) [3] .

وعندما حاول العالم الإسلامي النهوض تعثرت خطواته كثيراً، وفشلت

التجارب التي لم تأت عن دراسة لواقع المسلمين الثقافي، بل أخذت من الشرق أو

الغرب كأنها (وصفات) جاهزة لتطبيقها في أرض غير أرضها، قامت صناعات

قبل أن توفر الغذاء للعامل في المصنع، واستقدموا الخبير الألماني (شاخت) ليطبق

نظرياته في أندونيسيا، ولكنه فشل لأن تجربته كانت مع الشعب الألماني وليس مع

الشعب الأندونيسي.

ومن الناحية النظرية، وعندما يكتب المسلمون عن الاقتصاد يبدو تأثير

النظريات الغربية، فهم يحاولون دائماً إثبات أنه يمكن أن تقوم بنوك دون ربا،

واستثمار دون ربا فكأن قضية المال هي الأساس الأقوى في الاقتصاد، ولا

يعرجون كثيراً على موضوع الإنسان الاجتماعي (فالمعنى الاقتصادي لم يظفر في

ضمير العالم الإسلامي بنفس النمو الذي ظفر به في الغرب) [4] أو لا يعرجون

على العمل وأهميته (فالعمل وحده هو الذي يخط مصير الأشياء في الإطار الاجتماعي) [5] (وعندما كان المسلمون الأول يشيدون مسجدهم الأول بالمدينة، كان هذا أول ساحة للعمل صنعت فيها الحضارة الإسلامية) [6] .

وفي مجتمع ناشئ (فإن كلمة أجر تفقد معناها، لأن العامل لا علاقة له بصاحب عمل ولكن بجماعة يشاطرها بؤسها ونعماها، فإعطاء ثلاثة حروف من الأبجدية عمل، وإزالة الأذى عن الطريق عمل، وغرس شجرة عمل، واستغلال أوقات فراغنا في مساعدة الآخرين عمل ... وهكذا) [7] ..

توجيه رأس المال:

يفرق مالك بن نبي بين مصطلحي الثروة ورأس المال، فالأول يستخدمه

الفرد في ميدانه الخاص مثل عقاره أو قطيعه أو ورشته (فالثروة لا تسعى لغايتها

كقوة مالية مستقلة، بينما رأس المال ينفصل عن صاحبه ويتسع مجاله ليخلق حركة

ونشاطاً، ويوظف الأيدي أينما حل وحيثما ارتحل) [8] فالثروة مال ساكن، ورأس

المال مال متحرك، والمطلوب من المسلمين توجيه المال في خدمة الاقتصاد

الإسلامي (فالقضية ليست في تكديس الثروة ولكن في تحريك المال وتنشيطه، بتوجيه أموال الأمة البسيطة إلى رأس مال متحرك ينشط الفكر والعمل) [9] وقد نتج عن عدم توجيه (المال) أن (زاد أغنياء المسلمين على فقرائهم في العطل برغم ما يملكون من ثروات، فكثير منهم لا يهتمون بتولي طفل مسلم لتربيته تربية علمية) [10] (والأموال تنفق في توافه الأشياء وتترك المشاريع ذات النفع العام كالمدارس والمستشفيات إنها مشكلة توجيه رأس المال، إنها مشكلة نفسية وليست مالية) [11] .

ومع هذه الدعوة إلى توجيه رأس المال إلا أن مالك يحذر الدول (من اختيار

مبدأ التنمية الرأسمالية لأنها تكون كما لو قررت مبدئياً أن تضع عملها من أجل

النهوض الاقتصادي في سجن المؤسسات المالية العالمية) [12] بل يرى أن ...

المشكلة ليست في المال ولكن في تعبئة الطاقات الاجتماعية، والرصيد الأساسي هو

الإنسان، (لو سمح لى أن ألخص وجهة نظر عبّرت عنها منذ ربع قرن لقلت أنه

ليس من الضروري (ولا من الممكن) أن يكون لمجتمع فقير المليارات من الذهب

كي ينهض، وإنما ينهض بالرصيد الذي لا تستطيع الأيام أن تنقص من قيمته شيئاً، الرصيد الذي وضعته العناية الإلهية بين يديه: الإنسان والتراب والوقت) [13] (إن الاقتصاد ليس قضية إنشاء بنك وتشييد مصنع فحسب، بل هو قبل ذلك تشييد الإنسان، وإنشاء سلوكه الجديد أمام كل المشكلات) [14] .

وبمثل رأي مالك هذا قال ابن خلدون في مقدمته: (الكسب هو قيمة الأعمال

البشرية، والله سبحانه خلق جميع ما في العالم للإنسان، وامتن به عليه في غير ما

آية من كتابه [وسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَوَاتِ ومَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ] وسخر لكم

الأنعام، ويد الإنسان مبسوطة على العالم) [15] .

الزراعة والصناعة:

إن ظروف العالم الإسلامي تقتضي عندما يريد النهضة الاقتصادية أن يبدأ

بالزراعة، فهي الأساس، وهي التي تمده ببعض المواد الخام، وهي التي تحميه

من الضغوط الاستعمارية، هذا هو رأي مالك بن نبي الذي يكرره كثيراً في كتبه،

يقول:

(والأرض هي الوسيلة المأمونة - كما يقول اليوم الاقتصاديون الذين

يدرسون مشاكل العالم الثالث - لضمان (إقلاع) مجتمع ما من مرحلة أولية إلى

مرحلة ثانوية) [16] (ولكي يصل الاقتصاد إلى مرحلة التصنيع فليس له ما يعتمد

عليه سوى الزراعة من ناحية والمواد الأولية (الخام) من ناحية أخرى، وهذان هما

ثديا الاقتصاد الإسلامي على العموم) [17] .

وتجربة الجزائر هي أكبر مثال على ذلك حين اهتم بالصناعة وأهمل

الزراعة، ووجد الشعب والعمال أن المواد الضرورية للغذاء غير موجودة.

لاشك أن وجهة نظر مالك بن نبي صحيحة بشكل عام، ولا أظنه يعني أنه

لابد من استكمال الزراعة حتى نبدأ بالصناعة، ولكن الزراعة هي الأساس، وهذا

شيء طبيعي بالنسبة للعالم الإسلامي، فضعفه في الزراعة ومحاولة الانتفاش أنه

صناعي جعلته يستجدي أخيراً المواد الغذائية من الغرب.

لم يقدم مالك بن نبي هنا نظرية متكاملة في الاقتصاد، بل إشارات وخطوط

عريضة فقط، بل نستطيع القول أنه بسط الأشياء أحياناً، وهي أكثر تعقيداً وخاصة

في ظروفنا الحالية. كما أنه وبسبب (السذاجة السياسية) وقع في غلطة كبيرة عندما

ظن أن ما قام به قادة انقلاب (23) يوليو في مصر مما سمي ب (الإصلاح

الزراعي) سيكون خطوة كبيرة في طريق الإصلاح الاقتصادي، إن ما قام به هؤلاء

لا يعدو أن يكون ارتجالاً وتشنجات نفسية ضد الإقطاع وليس نابعاً عن خطة

مدروسة فضلاً عن أن تكون خطة إسلامية، وقد خرجت مصر بعد ذهابهم أضعف

اقتصاداً مما كانت عليه يوم جاؤوا، ولكن مالك الذي عاش في الغرب يفرح بأي

خطوة يخطوها أهل المشرق مما يظن أنه من الإصلاح.

لم يعش مالك حتى يرى انهيار المجتمعات الاشتراكية، سواء في الشرق أو

في البلاد العربية، وانهيار الاقتصاد المزيف، وطبعاً لا تغني الوصفات من

الرأسمالية فالأمل هو في المجتمعات الإسلامية التي (تعيد إلى عالم الاقتصاد

أخلاقيته، ويتلافى بذلك الانحرافات الإباحية التي تورطت فيها الرأسمالية، كما

ينجو من ورطة الماركسية المادية التي سلبت الإنسان ما يميزه عن الآلات

والأشياء) [18] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015