مجله البيان (صفحة 4359)

مصطلحات ومفاهيم

دراسات في التعددية الثقافية

Multicultura lism

أ. د. محمد يحيى [*]

من المجالات البحثية الجديدة في محيط العلوم الإنسانية توجُّهٌ ظهر وتطور

على مر عقد التسعينيات تحت اسم lism Multicultura وهو ما يمكن ترجمته

بدراسات التعددية الثقافية أو التنوع الثقافي. ويستند هذا الفرع في المباحث الثقافية

الفكرية (وكذا الفلسفية والأدبية والاجتماعية) إلى نطاق آخر من الأبحاث كان قد

نما في عقدي السبعينيات والثمانينيات في الغرب ولا سيما في بريطانيا، وإلى حد

أقل في الولايات المتحدة تحت مسمى «الدراسات الثقافية» . وكان هذا المجال

الأخير يسعى وبتأثير فكري يساري أو حتى ماركسي واضح إلى توسيع مجال

الدراسات الأدبية والفكرية والتقليدية بحيث تدخل في نظرها الجوانب الاجتماعية

والاقتصادية الأوسع تحت اسم أو مصطلح «الثقافة» الذي يفترض أنه ينتظمها

كلها، وإذا كان مجال الدراسات الثقافية قد بدأ وهو متأثر بالتوجه اليساري الغربي

الواضح وفي رد فعل لسيطرة الفكر الليبرالي أو اليميني هناك على الأبحاث الأدبية

والثقافية، إلا أنه طور بعد ذلك توجهاته الخاصة التي جمعت بين اليسار وبين

التيارات الفكرية الفلسفية الجديدة التي كانت قد أخذت تؤثر في حياة الغرب العقلية

في تلك الفترة مثل حركات ما بعد البنيوية والتفكيكية، ودراسات الحقبة ما بعد

الاستعمارية، والحركة التاريخية الجديدة.

وكان للحركتين الأخيرتين على وجه الخصوص الدور الأكبر أو التأثير الأوقع

في نشوء ونمو مجال دراسات التعددية الثقافية الذي ينطلق من مبدأ ملاحظة تعدد

وتنوع الثقافات ليس فقط على مستوى العلم ككل وإنما كذلك داخل سياق الحضارة

الغربية ذاتها؛ بل وداخل البلد الواحد أو الثقافة الفرعية الواحدة. ويفهم هذا المجال

الثقافة على مستويات عدة تندرج من العموم إلى الأخص كما يراها على أنها تشمل

العديد من الظواهر الاجتماعية وليس الأدبية أو الفكرية أو اللغوية فقط. وينطلق

مجال دراسات التعددية الثقافية في هذا المبدأ ليصول ويجول في بحث شتى ظواهر

التفاعل والعلاقة والتأثير المتبادل بين مختلف الثقافات التي توجد داخل مجال واحد

قد يكون الدولة القطرية أو الإقليم الجغرافي أو المستوى الاجتماعي الطبقي المعني

أو الفترة التاريخية الواحدة أو الأعمال الأدبية والفكرية لكاتب أو كتاب منخرطين

في حركة واحدة أو ينتجون بأسلوب معين، وإذا كان هذا المجال في المباحث يبدو

واسعاً إلى حد يسمح تقريباً لكل شيء بأن يندرج تحته طالما يعنى بعلاقة ما بين

ثقافتين أو أكثر في ظل مفهوم متوسع للثقافة؛ فإن هذا قد يعود في الجانب الأكبر

إلى مناخ النسبية الفكرية، بل والتشتت الفكري أو التوسع والنزعة الاستيعابية التي

أصبحت تميز الفكر الغربي عموماً مع التسعينيات؛ حيث تتجاور شتى المدارس

الفكرية حتى المتناقضة في مبادئها مع بعضها، وتتبادل التأثير والتفاعل، وتتعايش

حتى في فكر الباحث الواحد؛ ولكن على الرغم من هذا التوسع الذي يقرب من

التشتت والاضطراب فإن هناك توجهات ومبادئ واضحة تحكم نشاط دراسات

التعددية الثقافية حتى وإن كان من الناحية النظرية على الأقل أولها وأبرزها هو

الرغبة في التعامل مع ظاهرة العولمة الطاغية التي تتخذ شكل هيمنة وسيطرة

وتغوُّل ثقافة واحدة هي الثقافة الغربية عموماً، وعلى الأخص مكونها الأمريكي

المعاصر في أحد أشد مظاهره شراسة وسطحية وتوسعية على سائر المجال الثقافي

في العالم كله؛ مع تنحية وإقصاء ومحو شتى الثقافات الأخرى المغايرة حتى وإن

كانت داخل الحضارة الغربية نفسها؛ ناهيك عما يحدث لثقافات العالم الثالث.

وينطلق قسم كبير من مباحث دراسات التعددية الثقافية في توجه معلن أو مضمر

لمتابعة ظاهرة الهيمنة الثقافية الغربية الأمريكية وكشفها، وتبيان شتى الآليات التي

تعمل بها والعناصر التي تتألف منها وتبعث فيها القوة، ويفهم من هذا أن المغزى

الذي يتمخض عن هذه الدراسات يدفع إلى الحفاظ على هوية ووجود تلك الثقافات

الأخرى، وإبراز قيمتها وأهمية استمرار وجودها في سياق الحفاظ على التعددية

والتنوع الثقافي في عالم ينبغي ألا يتحول إلى ضيعة تحتكرها العولمة المتغولة في

هيمنتها الكاسحة وإقصائها للغير. وصحيح أن هذه الروح تسود بين عدد من

الباحثين في هذا المجال ولا سيما بعض المنتمين منهم إلى بلدان من العالم الثالث

مثل الهند أو دول إفريقية معينة؛ غير أن الروح الغالبة تظل متأثرة بالمنظور

الغربي حتى وهي تعلن أنها تحارب الأحادية الثقافية في المنظور الغربي.

ذلك أن الحديث عن تعددية ثقافية على شتى المستويات والسياقات والاعتراف

بها وكشف تعرضها للزوال على يد حركة العولمة وطغيان الثقافة الغربية الأحادية،

ومن خلال أحد أشد أشكالها سطحية (النموذج الأمريكي) لا يؤدي بالضرورة إلى

فهم هذه الثقافات وتقييمها على النحو الصحيح والمرغوب على الأقل من وجهة نظر

أصحابها، بل إن المتتبع لبعض الدراسات المؤلفة في هذا المجال البحثي الجديد

يلاحظ أن النظرة إلى هذه الثقافات الأخرى وبالذات الإسلام لا تزال متأثرة بالتوجه

الغربي القديم الذي يحط من شأنها عموماً، ولا يراها إلا من خلال الأعين الغربية،

ولا يتصور لها وجوداً إلا معدلة ومنقحة ومطورة في سياق وخلفية ومناخ عام

عالمي هو نفسه المجال الغربي الثقافي برؤاه ومنطلقاته القيمية ذاتها، وهذه النقطة

الأخيرة على جانب كبير من الأهمية وبالذات فيما يتعلق بالثقافة الإسلامية؛ فنحن

نسمع هذه الأيام كثيراً ونقرأ وبترحاب وارتياح عن دراسات كثيرة حول الإسلام

بأقلام غربية يقال إنها تنصفه وتنتقد المواقف الفكرية الغربية التي تشوه صورة

الإسلام وتعاديه؛ غير أن هذه الدراسات المنطلقة من منظور مجال التعددية الثقافية

لا تدافع عن الإسلام بطبيعة الحال، وإنما هي في أفضل الأحوال تنظر إليه من

رؤية فولكلورية (إن جاز التعبير) وترمي فيه ثقافة أخرى قديمة بدائية بائدة أشبه

بثقافات بعض الشعوب الإفريقية والآسيوية يتعرض مثلها للاجتياح والضياع تحت

وطأة العولمة الثقافية التي يقودها الغرب. وإذا كانت هذه الدراسات تبدي التعاطف

مع الثقافة الإسلامية في تعرضها لتلك الهجمة الغربية فهذا هو التعاطف الذي تحظى

به سائر الثقافات الفولكلورية (الشعبية) ، والمنطق الذي يحكم دراسات التعددية

الثقافية في هذا الصدد هو أنه يحق لتلك الثقافات المغايرة لثقافة الغرب أن توجد

وتنشط؛ لكنها وبالذات القديمة والفولكلورية منها لن تستطيع ذلك بالفعل إلا في حالة

واحدة فقط وهي حالة أن «تواكب» العصر الجديد (العولمي الغربي) وتستعمل

أدواته هو لكي تستطيع العيش في ظل سيطرته التي لا ينكرها أحد. وفي واقع

الأمر فإن هذا المنطلق الذي يحكم عمل مجال دراسات التعددية الثقافية فيما يتعلق

بالإسلام والثقافة الإسلامية بالذات يعيدنا بضعة عقود أو حتى قرن كامل وأكثر إلى

الوراء، وبالتحديد إلى القرن التاسع عشر؛ حيث بدأنا نسمع ذلك الشعار المألوف

وهو ضرورة تحقيق عصرنة الإسلام لكي يتماشى مع «العصر» الحديث؛ ذلك

هو شعار العلمنة والتغريب الذي تستَّر كثيراً وراء دعوات بريئة مثل التجديد

والتطوير والتحديث وما أشبه، ولعله من المفارقة أن نفس الموقف يتكرر دون كبير

تغيير من خلال مجال درس حديث هو التعددية الثقافية بعد أن كان قد ظهر أصلاً

من خلال مباحث الاستشراق والفكر الغربي الليبرالي في القرن التاسع عشر.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015