المسلمون والعالم
عبد الحليم بن صالح البراك [*]
halemsb@hotmail.com
(في أحد الأيام الربيعية قام أحد رجال الأعمال اليابانيين بزيارة أحد أساتذة
التأمل المعروفين لمناقشة علاقة فلسفة التأمل بالإدارة؛ واتباعاً لأساليب اللباقة
اليابانية الاجتماعية قام أستاذ التأمل بتقديم الشاي الأخضر للضيف، وعندما كاد
الكوب يمتلئ بالشاي، استمر بالسكب فيه، حتى بدأ الشاي يتدفق من الكوب بغزارة،
رفع رجل الأعمال حاجبيه من الدهشة.. فأجاب هذا الأستاذ: لا تستغرب يا
سيدي إذا امتلأ الكوب بالشاي؛ فلن يستوعب المزيد منه، وهذا شأنك أنت كشأن
الكوب الممتلئ تماماً، فإنك ممتلئ بالأساليب الإدارية، والأفكار المسبقة؛ فكيف
تريد مني أن أريك المزيد من أفكاري؟ ما لم تفرغ كوبك أولاً..) .
بهذه النظرة بدأت ماليزيا رحلتها التنموية لتحقق نهضة نموذجية على جميع
الأصعدة، ولقد تنازلت ماليزيا عن أساليب التعليم البريطانية وأفرغت الكوب تماماً
لتتبنى أساليب التعليم اليابانية لاقترابها قيمياً من ماليزيا؛ فحققت ماليزيا أرقاماً
مذهلة بعد أن كانت دولة زراعية تنتج المطاط الخام وخيرات أرضها الأخرى ليعود
إليها خاماً مصنعاً وبأغلى الأثمان، شأنها شأن أي دولة ثالثية، فقد رأى الماليزيون
أن أفضل نظام تعليمي يتناسب مع قدراتهم هو النظام الياباني، وهو ما عبر عنه
رئيس وزراء ماليزيا بأنه الاتجاه بالتعليم شرقاً (بدلاً من الانتظار لما يقدمه الغرب
من وعود) على حد تعبير رئيس وزراء ماليزيا، الدكتور مهاتير محمد مضيفاً:
(إن الدول الغربية عموماً لا تقدم شيئاً بالمجان) لذلك قررت ماليزيا إقامة الشراكة
الاستراتيجية مع اليابان تعليمياً واقتصادياً، حتى وصلت مساهمة الشركات اليابانية
في ماليزيا إلى 23% من إجمالي الناتج القومي الماليزي.
لقد حققت ماليزيا ما تصبو إليه من تنمية؛ فها هي وحسب كتاب المنافسة
السنوي الذي يصدره المعهد الأمريكي الدولي لتطوير الإدارة وهي مؤسسة مرموقة
عالمياً أكدت أن ماليزيا تحتل المركز الثاني عالمياً كأفضل اقتصاد تنافسي بالعالم بعد
الولايات المتحدة الأمريكية تلتها سنغافورة، ثم لوكسمبورغ. وهذا الكتاب يستند إلى
244 عامل قياس تم استخدامها في التقرير، وفي يوليو 1997م احتلت ماليزيا
المرتبة رقم 17 في تجارة العالم أي قبيل الأزمة الاقتصادية، لحظتها، كان مايكل
كامديسس المدير التنفيذي لصندوق النقد الدولي قد قال في مؤتمر دولي عقد في
لوس أنجلوس: «إن ماليزيا تعتبر مثالاً جيداً لدولةٍ المسؤولون فيها على دراية
تامة بالتحديات المتمثلة في التغلب على الضغوط الناتجة عن معدلات النمو العالية
والاحتفاظ بنظام مالي جيد وسط حركة تدفق كبيرة لرأس المال وسوق منتعش للعقار
والأملاك» .
وفي سنة 1995م أكدت التقارير بأن ماليزيا أصبحت عاشر دولة صناعية في
العالم، بل وحققت نمواً سنوياً قدره 6.5% سنوياً بعد الأزمة الآسيوية، أي في
عام 2000م، بل وحققت إنجازاً بأن أصبح السكان تحت خط الفقر 6.8%
ومعدل التضخم بلغ مستوى مقبولاً وهو 2.8% ونسبة بطالة متدنية وصلت إلى 3 %
فقط.
لا شك أن وراء هذه الإنجازات التنموية سيل من الخطط والأعمال كان من
أبرزها: تخطيط استراتيجي فعال ومنظم، وتقنية اقتصادية رسمت بعناية،
ومجموعة من القيم الاجتماعية كرست مفاهيم العمل والإنتاج، ولعلنا نتعرض
لبعض المفاهيم والقيم الاجتماعية التي أصَّلت الأرضية الخصبة للتنمية في ماليزيا.
يؤكد خبراء التنمية على (الارتباط الثقافي والاجتماعي للتنمية، وأن الرخاء
الاقتصادي هو أحد مظاهر وجود تنمية حقيقية في بلد ما..) هذا ما يقوله الدكتور
محمد الجوهري.. مضيفاً: (إن مشاكل التنمية والتخلف يجب أن ينظر إليها في
إطار اجتماعي وثقافي عريض..) ، ويقول ريتشارد باسكال وأنتوني آثوس
صاحبا كتاب فن الإدارة اليابانية: (إن المجتمع النامي يتطلب انطلاقاً وتغييراً
وتجديداً في اللغة والمفاهيم وفي طرق العمل، فلا بد من توفر حركات تتصف
بالإبداع، ومن ظهور هذه الحركات بين الفينة والأخرى، فأي مجتمع في بيئة
متغيرة سيؤول إلى الإخفاق إذا لم يتوصل إلى ابتكارات إدارية من شأنها أن تكسر
الأطر الموروثة من المفاهيم والنماذج القديمة من السلوك والمظاهر السلبية للقيم
المثبطة للعمل) .
لا شك في أن استراتيجيات التنمية المختلفة كثيراً ما تعتمد على الجوانب
الاجتماعية والقيمية وسلوك الأفراد والجماعات في توطين التنمية، وجعلها جزءاً لا
يتجزأ من منظومة التنمية الاقتصادية. فما هو مفهوم القيم؟ هي أحكام معيارية لها
اتصال بالواقع يتمثلها الفرد من خلال التفاعل والمعايشة مع المواقف المختلفة،
ويشترط أن تنال هذه الأحكام الرضا والموافقة من جماعة اجتماعية معينة أو من
المجتمع. وهي أحكام مكتسبة من الظروف الاجتماعية ينشرها الفرد ويحكم بها
على الأشياء، ويعتبرها جديرة بالاهتمام لاعتبارات اجتماعية وسيكولوجية
واقتصادية، ولعلنا نتحدث عن مجمل تلك القيم التي ساعدت الرجل الماليزي،
المزارع البسيط بالأمس، ليعتلي في بلده أعلى ناطحات سحاب في العالم ومن
موارده الذاتية.
فإذا كانت بعض الأمم تعتز بمجموعة من القيم كالاستقلالية وروح التحدي
والمثابرة والاعتماد على النفس كالرجل الأمريكي الذي مكنته هذه القيم من غزو
العالم بمنتجاته، وثقافة منتجاته، فلا شك بأن لدى الآسيويين (من يابانيين وغيرهم)
منظومة قيم مكنتهم من تحقيق ما تمكنوا من الحصول عليه من تنمية وتقدم،
وندرك أيضاً أن القيم اليابانية ترتكز على حب العمل والتركيز الشديد على عنصر
الجودة، كما نحب أن نشير إلى أن هناك منظومة قيم خاصة بالماليزيين تحديداً،
ربما يشتركون مع غيرهم فيها، لكنها بالتأكيد تم توظيفها لصالح التنمية؛ فلقد
منحت تلك القيم الأمل القوي للماليزيين نحو الحلم المشروع (رؤية 2020م)
الهادف إلى جعل ماليزيا دولة صناعية يحقق فيها الفرد دخلاً لا يقل عن دخل الفرد
الأمريكي كما أوردها التنمويون الماليزيون؛ فلقد واجهتهم مجموعة من التحديات
هي ما ذكرها الدكتور مهاتير محمد:
- التحدي الأول يتمثل في قيام أمة ماليزية موحدة، يحكمها الشعور بالمصير
الواحد المشترك. وهذه الأمة لا بد أن تكون في سلام مع نفسها ومتكاملة جغرافياً
وعرقياً وتعيش في انسجام.
- التحدي الثاني هو خلق مجتمع ماليزي متحرر سيكيولوجياً وآمن ومتطور
قوي الإيمان والثقة بنفسه، وفخور بوضعه وبما أنجز، وضخم بما فيه الكفاية
لمواجهة كافة الصعوبات.
- التحدي الثالث هو بناء مجتمع ناضج ديمقراطياً يمارس نوعاً من أنواع
الديمقراطية الماليزية النابعة من المجتمع والملبية لمتطلباته والتي تصلح لأن تكون
نموذجاً تحتذي به الدول النامية.
- التحدي الرابع هو بناء مجتمع تسوده الأخلاق والقيم، المواطنون فيه
أقوياء في دينهم وقيمهم وتحكمه أسمى مستويات الأخلاق.
- التحدي الخامس هو بناء مجتمع ناضج متحرر متسامح يكون فيه
الماليزيون من مختلف الألوان والأعراق.
- التحدي السادس يتمثل في بناء مجتمع علمي تقدمي قادر على الابتكار
ويتطلع دائماً إلى الأمام.
- التحدي السابع هو بناء مجتمع يهتم بالآخرين يأتي فيه المجتمع قبل الفرد،
ويكون فيه محور رفاهية الناس ليس الدولة أو الفرد.
- التحدي الثامن هو ضمان وجود مجتمع تسوده العدالة الاقتصادية.
- التحدي التاسع هو إيجاد مجتمع تسوده الرفاهية، اقتصاده يتميز بالمنافسة
الكاملة والديناميكية والضخامة والمرونة.
ومن أبرز تلك القيم الاجتماعية التي حققتها ماليزيا وساعدت في تحقيق
تنميتها:
* الاستثمار في الأطفال والتعليم:
فقد ذكر تقرير أصدرته وكالة رعاية الأطفال التابعة للأمم المتحدة (اليونسيف)
ونشر في مايو 2001م أن ماليزيا واحدة من عدة دول آسيوية مارست الاستثمار
الناجح في الأطفال وتربيتهم من سن صفر وحتى ثلاث سنوات من خلال برامج
مدروسة ومخططة؛ وذلك من خلال تحقيق الرعاية الصحية والتعليمية في سن
مبكر جداً؛ إذ قال أحد خبراء اليونسيف بهذا الموضوع وهو د. سانتوش مهروترا
كبير الخبراء فيها: (معجزة العقل الصغير تبدأ في السنوات الأولى؛ فكل دولار
واحد تنفقه على الطفل فإن ذلك يحقق عائداً مقداره 7 دولارات، وماليزيا واحدة من
تلك الدول التي أدركت هذا الأمر جيداً..) .
أما بخصوص التعليم فقد أنفقت ماليزيا وبشهادة رئيس وزرائها الدكتور مهاتير
محمد إنفاقاً كبيراً على التعليم فاق الـ 20% من ميزانيتها، وفاق أيضاً إنفاق
الحكومة الماليزية على وزارة الدفاع.
وكان الدكتور طارق السويدان قد ذكر أن ماليزيا في عام 1995م قامت بعمل
مؤتمرات وطنية لاستراتيجية التعليم خلال عشر سنوات تغيرت على أساسها
المناهج وطرق التدريس والبعثات الدراسية الخارجية، ونظم الهجرة والاستثمار،
باعتبار أن التعليم وسيلة لهدف ما وليس غاية بحد ذاته.. الأمر الذي حقق لها بعد
عشر سنوات من ذلك التاريخ أن أصبحت عاشر دولة صناعية بالعالم كما ذكرنا آنفاً.
* القيم الاجتماعية الأسرية والفردية:
الأسرة بعد الطفل هي حجر الزاوية في ترسيخ مجموعة من القيم، وأهمية
العائلة تكمن باعتبارها الوحدة الأساسية لنظم القيم والأمان الاجتماعي في ماليزيا،
كما يقول الدكتور السيد أمين الشلبي.
لذا فإن القيم الآسيوية نابعة من المجتمع والأسرة، والمجتمع الماليزي يقدر
ويجل إجلالاً كبيراً الأسرة، ويعول عليها كثيراً في ترسيخ تنميته، وتعتبر
متطلبات ومصالح المجتمع ذات اعتبار لدى الفرد والمجتمع، أكثر من تقديره
لمصالح الفرد، أو حقوقه في الحرية الشخصية المطلقة.
فقيام الرجل الماليزي بمسؤولياته تجاه أسرته ومجتمعه يأتي قبل حقه في
المطالبة بمزاياه الفردية؛ فهذا من أساس القيم الماليزية.
وإذا ما تمادى الفرد بالتعدي على حقوق المجتمع فإن ذلك الشخص يكون فعلاً
قد سرق من حقوق الأغلبية ويسعى بكل أنانية لخدمة مصالحه الخاصة، وهذا ما
هو مرفوض في ظل القيم الآسيوية الماليزية.. فالانضباط الاجتماعي، والعمل
العائلي يعتبر جزءاً من منظومة قيم العمل في ماليزيا.
* القيم الإسلامية وأثرها في التنمية الماليزية:
إن المجتمعات الآسيوية تنمي أشكالها الخاصة في الحكم بالحفاظ على تقاليدها
في التوافق في الرأي واحترام السلطة كأساس ومنطلق إسلامي؛ فلقد حافظت
ماليزيا على المعدل المنخفض للجريمة، كما أكد ذلك الدكتور السيد أمين شلبي في
صحيفة الأهرام المصرية.
كما يتميز الشعب الماليزي بالمسالمة وتقدير السلطة، وبما أن نسبة 54% من
الشعب الماليزي مسلم فإن الثقافة الإسلامية تدعم مجموعة من القيم التي رجحت
الكفة التنموية لصالح الماليزيين كالصدق والإخلاص والرعاية الأسرية وغيرها.
خاصة إذا علمنا أن الإسلام يدعم الأخلاق التنموية كإجادة العمل، كما في قوله
صلى الله عليه وسلم: «إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه» [1] ، وكذلك
التركيز كما في القرآن الكريم على عمارة الأرض عمارة إسلامية خالية من الإفساد؛
وذلك باستخلاف الإنسان فيها كما في قوله تعالى: [إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَة]
(البقرة: 30) . بل الأمر أكثر شدة عندما ركز الإسلام على أن الإنسان مطالب
بالعمل النافع حتى آخر لحظة من حياته: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة،
فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها فليغرسها» [2] .
لذلك ينقل محمد سليم العوا رئيس مركز الدراسات الآسيوية بالقاهرة عن أنور
إبراهيم الإسلامي الشهير وأحد مهندسي التنمية في ماليزيا قوله: «إن التحدي الذي
يواجه الإسلام هو ترويض قوى الطائفية والقبلية التي تعيش بداخله، والتي تشكل
مع الاستبداد أكبر المعوقات أمام نشأة مجتمع متحضر داخل الأمة، فإن تخلف
المسلمين يعود، في نظر أنور إبراهيم إلى عوامل داخلية بالأساس، وللتعامل مع
تلك العوامل فإنه من المهم أن ننطلق من الواقع، وأحد عناصر هذا الانطلاق هو
رفض مفهوم التحديث بالمعنى العلماني الغربي، وبناء نموذج للتنمية يقوم على
الاستفادة من المهارات التكنولوجية الغربية مع عدم التضحية بالقيم الثقافية الإسلامية
فإذا استطاعت آسيا أن تتمكن من المهارات الصناعية للغرب، ومع ذلك تحتفظ
بقيمها الثقافية، فإنها ستكون في موقع يسمح لها ببناء حضارة أعظم من أي حضارة
عبر التاريخ. هذا ما قاله محاضر محمد في كتابه (صوت آسيا) ، وهو قول
ينطبق على السياق الماليزي. ففي هذا السياق يشكل الإسلام القيمة الثقافية الكبرى.
فإذا استطاعت ماليزيا أن توفق بين استيعاب التكنولوجيا الغربية وتطويرها في
إطار الاحتفاظ بالقيم الثقافية الإسلامية، فإنها تكون قد حققت نموذجاً طيباً للتنمية» .
أما الدكتور مهاتير محمد وهو الأب الروحي للنهضة الماليزية فيقول:
«يعتقد محاضر أنه ينبغي على المسلمين التمسك بالإسلام والنهوض من خلاله.
ولكن هذا التمسك ينبغي أن يكون بالأهداف العامة للإسلام، وليس لنموذج معين؛
ذلك لأنه لا يوجد نموذج أو تفسير واحد للإسلام صالح للتطبيق في كل الأحوال،
ومن ثم فإن التمسك بالإسلام يعني السعي لتحقيق أهدافه من خلال آليات لا تتعارض
معه. ويشمل ذلك الاستفادة من القيم الروحية والأخلاقية من الشعوب الأخرى
وفي مقدمتها الشعوب الشرق آسيوية، ومن أهم تلك القيم ... » ؛ لذلك ليس غريباً
أن تكون منطلقات النهضة والتنمية في ماليزيا ذات أصول إسلامية سواء على
مستوى المجتمع أو على مستوى القيادة والسلطة؛ خاصة إذا علمنا أن نسبة
المسلمين في ماليزيا تبلغ ما يزيد عن 54% من إجمالي عدد السكان، ولا شك
في أن هذه الأغلبية للمسلمين قد شكلت دعامة وأرضية خصبة لمجموعة من القيم
الإسلامية الأصيلة التي غذت التنمية الصناعية في ماليزيا.
* القيم الاقتصادية ودور الحكومة الماليزية في تأصيل القيم التنموية:
لقد بذلت الدولة الماليزية جهوداً حثيثة لرفع مستوى نصيب الماليزيين
الملاويين (سكان ماليزيا الأصليين) فيما يختص في مستوى الدخل تحديداً وذلك
عن طريق محاولتها الجادة دعم مستوى القيم لديهم؛ وذلك عن طريق رفع مستويات
التعليم بمراحله المختلفة (العالي والمتقدم) وكذلك الصحة لديهم، دون أن يؤثر ذلك
على نصيب الماليزيين الآخرين من الصينيين أو الهنود، كما سعت الحكومة
الماليزية لرفع الوعي تجاه النقود بأنها ليست وسيلة استهلاكية وحسب بل هي إحدى
المدخلات الأساسية للتنمية كالادخار والاستثمار تحديداً كما سعى المسؤولون
الماليزيون نحو إحياء العقلية التجارية الآسيوية عن طريق رفع المهارات الآسيوية
التجارية والإدارية التي تعتبر مفاتيح إعادة بناء الاقتصاد، وتحقيق الرفاهية.
وخلال العقدين الماضيين لعبت هذه المهارات دوراً حاسماً في نهضة ماليزيا
لكي تصبح دولة متطورة بالكامل، وهو ما خططت له ماليزيا بالفعل، فتبنت ذوي
المهارات التجارية؛ كما بادرت بفتح باب الهجرة بطريقة مدروسة، وقامت بإنشاء
وزارة لمتابعة السلوك التجاري وسعت لتطويرها.
وإذا كان بعض الناس يقولون إنه لا ينبغي للحكومات أن تساعد ذوي
المهارات والعقلية التجارية، وأن علينا أن نبقى بعيداً عنهم ونتركهم يمارسون
نشاطهم لوحدهم في ظل قوى السوق؛ فقد علق الدكتور مهاتير محمد على هذا
الموضوع قائلاً: «لا أحد ينكر حاجة هؤلاء إلى مساحة ليتحركوا بحرية، ولكن
من المؤكد أن الحكومات يمكن أن تعمل شيئاً لخلق الجو الملائم والصحيح، وبما أن
28% من أرباح الشركات تذهب للحكومة الماليزية في شكل ضرائب شركات، فقد
كنت أقول باستمرار إن الدولة بالفعل شريك بنسبة 28% في أية شركة صغيرة
كانت أم كبيرة. نحن نستطيع وسوف نعمل على مساعدة الشركات الصغيرة
والأفراد الذين لديهم الشجاعة والتصور الكامل لإنشاء أعمالهم التجارية الخاصة بهم.
وهذه مهمة ملحة في الوقت الحالي حيث يعاني الجو الاقتصادي العام من الفوضى» .
ووجدت دراسة ديفيد هيتشكوك المدير السابق لإدارة شؤون آسيا في وكالة
الإعلام الأمريكية أن القيم الاجتماعية الست الأكثر رواجاً بين سكان شرق آسيا
(وماليزيا واحدة من الدول المستهدفة بهذه الدراسة) هي: وجود مجتمع منظم
ومرتب، ووجود تجانس اجتماعي، ضمان محاسبة المسؤولين الحكوميين،
الانفتاح على الأفكار الجديدة، حرية التعبير، احترام السلطة. وأعتقد أن القيم
سالفة الذكر لا تحتاج لكثير تفصيل.
لقد كانت أبرز قيم العمل اليابانية التي مالت ماليزيا لاحتوائها إبان تبنيها
لاستراتيجية التنمية اليابانية تشمل كذلك الإخلاص والالتزام بالجودة والمواعيد
المحددة لتسليم السلع؛ فقيم العمل اليابانية المتميزة تعامل بكل تقديس في ماليزيا
وليست هي عنصراً ثقافياً تقليدياً مغروساً في المجتمع فحسب، بل تمثل نظاماً للقيم
جرى صقله وتهذيبه بعناية شديدة؛ فالمهارات الاستثنائية والتقنية المتقدمة
والانضباط والنظام وقيم وأخلاقيات العمل جميعها صفات تستحق أن تنقل ويستفاد
منها، فآسيا (وماليزيا واحدة منها) بفضل مواردها البشرية غير المحدودة،
ومقدرة الماليزيين على الاجتهاد في العمل سلوك أصيل، والتميز في الجهد البشري
الخارق عندما يتم تحفيزه، وسعي الماليزيين لتحقيق الجودة المتعددة؛ كل تلك القيم
عملت ماليزيا على اعتناقها وحققت الإنتاجية الشاملة، ومن ثم تهيأت فرص الرخاء
والرفاهية الاجتماعية للشعب الماليزي.
* أبرز القيم على مستويات الإدارة العليا لماليزيا:
تخلصت ماليزيا من مبادئ سيئة جداً، تسعى إليها بعض الدول كنوع من
المحافظة على الثراء أو على مستويات الدخول العالية والنمو دون أن تكون لها
مساهمة تستحق مع جيرانها، فلم تكن تعتمد على نوازع عدوانية مثل مبدأ (أفقر
جارك) حتى يتحقق لك الغنى والانفراد والسيطرة السياسية والاقتصادية. بل باتت
تنظر إلى الجار أنه شريك أصيل في ظل التكامل الاقتصادي، ولا أدل على ذلك
من مساعدتها الجريئة والسريعة لتايلاند عندما انهار الياهت التايلندي.. أو الدخول
في صراعات عرقية أو إقليمية معتبرة ذلك أحد نقاط النزيف في المشروع التنموي؛
فالشعب الماليزي شعب بطبيعته مسالم لا يميل للعنف بأي حال من الأحوال؛ فبعد
الاستقلال لم تشهد ماليزيا أي نوع يذكر من الاضطرابات عدا ما حدث عام 1969م
رغم التنوع والتباين العرقي القوي، كما سعت ماليزيا وبكل قوة لترسيخ مبدأ
الاستثمار في الموارد البشرية وتنميتها واعتبارها الهدف الاستراتيجي في عملية
التنمية وتطوير تلك القوى البشرية وتنمية قاعدتها، والسعي نحو تأصيل المبادئ
القيمية في تلك القوى وتوجيه الموارد البشرية نحو أهداف الخطط التنموية.
هذه بعض من منظومة القوى القيمية التي مارستها ماليزيا الآسيوية لتحقيق
هذه المعدلات من التنمية، وهذا بجانب الأرقام المذهلة من الإنتاج ومعدلات النمو
المشجعة، والأكيد أن هذه القيم ليست هي كل القيم الماليزية بل بعض منها سخرت
بطريقة إيجابية وفعالة في دعم التنمية، وتكمن دعوتنا للاستفادة من التجربة
الماليزية في الوطن العربي لوجود نقاط التقاء وتشابه بيننا وبين ماليزيا، وهو ما
يدفعنا وبكل قوة لدراسة تلك التجربة والاستفادة منها، ولعل أبرز تلك النقاط هو
اشتراكنا في منظومة من القيم الإسلامية التي تكرس العمل والإنتاج وتحث عليه،
وكذلك نقص العمالة المحلية، ووجود المواد الخام الأساسية في التصنيع، وكذلك
تقارب في تعداد السكان، وغيرها من أوجه التشابه المختلفة.