المسلمون والعالم
حسن الرشيدي
«هذه التسمية تمثل تعبيراً يساء فهمه ويعطي انطباعات خاطئة» .
هذا جزء من حديث قاله وزير الخارجية المصري أحمد ماهر في مكالمة
تليفونية لكولن باول وزير الخارجية الأمريكي؛ حيث صرح ماهر للصحفيين
بتفاصيل هذه المكالمة المطولة التي بين فيها ماهر على حد قوله الموقف المصري
من مشروع الدولة المؤقتة، وأنه أبلغه أن مثل هذه التسمية تمثل تعبيراً يساء فهمه،
ويعطي انطباعات خاطئة.
فما التعبير الذي يساء فهمه؟ وما هي الانطباعات الخاطئة التي تحدث عنها
الوزير إجمالاً ولم يفصح عن تفاصيلها؟ وهل لها علاقة بما يتم تدبيره للمنطقة؟
للكشف عما يدور لا بد من منهج يراعي مسارين:
- المسار الأول: المقصود من مصطلح الدولة المؤقتة.
- المسار الثاني: خلفيات الحديث عن هذه الدولة.
* مصطلح الدولة المؤقتة:
إن علم السياسة يعرِّف الحد الأدنى من الدولة بأنها تتضمن ثلاثة عناصر
رئيسة: حدوداً (أرضاً) ، وشعباً، وسيادة (بالمفهوم الغربي) . فهل يقصد
بمصطلح الدولة المؤقتة دولة كاملة في العرف السياسي الذي يتضمن الأرض
والسيادة والشعب؟
أول من تحدث عن هذه الدولة هو أرييل شارون رئيس الوزراء الإسرائيلي،
بل كانت على رأس برنامجه الانتخابي عندما تنافس مع باراك على رئاسة الوزراء
باعتبار أن هذا هو المخرج والطرح الذي يقدمه شارون لإنهاء المعضلة الفلسطينية
بالنسبة لإسرائيل.
ولكن لم يذكر هذا اللفظ مباشرة، إلا أنه ذكر ما يعرف باسم: (مرحلة
انتقالية طويلة الأمد) ولكن: ما طول هذه المرحلة الانتقالية طويلة الأمد في عرف
شارون؟
نشرت صحيفتا معاريف وهآرتس العبريتان أنباء عن قبول شارون فكرة
الدولة المؤقتة على أن تقام في غضون عشر سنوات، كما ذكرت هآرتس أنه أبلغ
الإدارة الأميركية ضرورة التوصل إلى حلول مرحلية أولها اتفاق حول وقف العنف
والتحريض، ثم إجراء إصلاحات جذرية تليها مفاوضات سياسية تشمل اعترافاً
إسرائيلياً بدولة فلسطينية من دون رسم حدودها، ثم مفاوضات حول هذه الحدود،
وأضافت أن شارون أبلغ الرئيس بوش قبوله اقتراح إقامة دولة فلسطينية مؤقتة؛
لكنه لن يعلن موافقته هذه على الملأ في ظل تزايد ما تسميه الصحيفة: الإرهاب.
وتتحدث يديعوت آحرنوت عن مواضيع مفتوحة للمفاوضات مثل: هل يسمح
لنفس الدولة المؤقتة بإقامة علاقات دبلوماسية؟ وهل يجوز لها إبرام معاهدات مع
دول أخرى؟
إذن فالدولة المؤقتة هي أصلاً فكرة شارون الذي يستند بدوره إلى آراء اليمين
الإسرائيلي القائمة على ضرورة إلغاء أوسلو وعدم إقامة دولة فلسطينية على أساسها
والتي تعطي الفلسطينيين 12% من الضفة؛ حيث يريد شارون ابتلاع الضفة
الغربية وفق المفهوم اليميني القائم على أن حدود إسرائيل الكبرى تشمل الضفة
بكاملها؛ ولذلك عمل شارون وبالتدريج على إلغاء أوسلو وإعادة تقنين مفهوم السلام
الذي يعطى بموجبه للفلسطينين دولة على 12% من الضفة؛ فكانت فكرة الدولة
المؤقتة بديلاً لأوسلو وإعادة تقنين وتحديد لنفوذ السلطة الفلسطينية.
ثم تبلورت هذه الفكرة في تفاهمات بيريز - أبو العلاء، وقد وافقت عليها في
حينه القيادة الفلسطينية باستثناء صائب عريقات.
وتتحدث هذه التفاهمات عن دولة تقام خلال ثمانية أسابيع على أراضي (أ،
ب) وربما يحدث انسحاب ثالث كنبضة ثالثة كانت مقررة في اتفاقات أوسلو وطابا
والقاهرة وواي ريفر وشرم الشيخ، وجرفتها التطورات العاصفة، ثم تفاوض
هذه الدولة على حدودها النهائية. أما الخلاف الذي نشأ في حينه، فهو أن المطلب
الفلسطيني يتلخص في ضرورة الإقرار المسبق بأن حدود الرابع من حزيران
1967م هي الحدود النهائية من حيث المبدأ للدولة العتيدة، ويتم بعد ذلك تعديلات
حدودية متبادلة متساوية في القيمة والمساحة.
وكان وزير الخارجية الإسرائيلي، شيمعون بيريز قد أدلى بتصريحات حول
هذا المشروع، وأوضح أن فكرة الدولة الفلسطينية المؤقتة لم تفهم كما يجب، وأنه
استوضح الأمر لدى المسؤولين في واشنطن، وفهم أن الدولة الفلسطينية لن تكون
مؤقتة؛ فهي من اللحظة الأولى لإعلانها ستكون دولة مستقلة مثل سائر الدول ذات
السيادة، وأما الأمر المؤقت في الموضوع فهو حدود هذه الدولة، وقال بالحرف
الواحد: فلكي لا ننتظر حتى إنهاء مفاوضات الحل الدائم لإعلان الدولة، بسبب
الخلافات الجوهرية بيننا حول الحدود، يجري الحديث عن إعلان الدولة على حدود
مؤقتة 42% حسب الاقتراح الأميركي الذي هو في الأصل اقتراح رئيس الحكومة
الإسرائيلية أرييل شارون على أن يبحث في أمر الحدود النهائية خلال المفاوضات.
وأعرب بيريز عن توصله مع مسؤولين فلسطينيين بينهم أحمد قريع أبو علاء
رئيس المجلس التشريعي منذ فترة إلى اتفاق لم ترفضه الحكومة الإسرائيلية ولم
توافق عليه بعد.
وأضاف: نتوقع أن تنطلق الدولة الفلسطينية خلال ثمانية أسابيع، ولكن
بدون حدود نهائية؛ موضحاً أن الدولة ستكون مؤقتة بحدودها وليس بصفتها دولة.
ولكن شارون يصر على أن بيريز قد سرق منه الخطة، وقام بتعديلها، وباع
النسخة المقلدة لأبي العلاء.
وعلى ما يبدو فإن مشروع الدولة الفلسطينية يتجاذبه طرفان داخل الدولة
الإسرائيلية:
الطرف الأول: هو اليمين الإسرائيلي، وهذا الطرف يرى في مشروع الدولة
خطراً عليه، ويعمل على نسف هذه الفكرة من أساسها. وبعض اليمين يجاهر علناً
بهذه الفكرة، وبعضهم يماطل في قيام الدولة على أمل أن تُتناسى مع الأيام وعلى
رأس هذا الفريق شارون، وفي هذا السياق تقول صحيفة يديعوت آحرنوت
الإسرائيلية: من اعتقد قبل أوسلو أن مثل هذه الدولة ممكنة ولا تشكل خطراً على
وجود إسرائيل يجب أن يشطب هذه الإمكانية إلى الأبد في أعقاب كارثة أوسلو،
ومع ذلك فإن مصطلح دولة فلسطينية أصبح شائعاً إلى درجة أن الكثيرين يعتقدون
أنه حقيقة قائمة، وتبرز الصحيفة هدف شارون من الالتفاف على فكرة الدولة فتقول:
وحتى لو كان رئيس حكومة صهيوني ومقاتل من أجل استقلال إسرائيل يأمل خطأ
أن عرض الأفق السياسي الذي يشمل مثل هذه الدولة سيمنحه المزيد من الوقت،
فإننا لن نستطيع قبول خطته، حكومته لن تدوم، وحزبه لن يؤيده، وعدوه في
الداخل سينفذ خطته بعد التخلص منه، ومن الجدير أن يعلن وبأول فرصة يوفرها
العرب له ان الدولة الفلسطينية لن تقام أبداً، والأفضل أن يبحثوا عن أفقهم السياسي
في مكان آخر، وليس على حساب وجودنا.
وأهم مقومات فكر اليمين الإسرائيلي يرتكز على مفهوم إسرائيل الكبرى
بحدود لا نهائية تمتد وتتسع مع الوقت لتشمل أرض الميعاد في النبوءة التوراتية من
النيل للفرات، كما يقوم هذا الفكر على مشروع الترانسفير وهو ترحيل الفلسطينيين
للأردن، ويقول شارون في هذا السياق: وإلا فلماذا أنشئت مملكة الأردن إذن؟
أما اليسار الإسرائيلي فيرى ضرورة وجود نوع من الكيان الفلسطيني له
شروط ومواصفات معينة والتي عبر عنها إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي
الأسبق الهالك في الثمانينيات بقوله: أحسن شيء للخلاص من الانتفاضة أن نسلم
القمع إلى فئة فلسطينية تقتلهم. هذه هي الفلسفة الإسرائيلية من قيام دولة فلسطينية،
وأردف هذا الكلام بمؤتمر صحفي قائلاً: خير وسيلة صنع سلطة فلسطينية تقوم
بعمل الشرطي وتحمي أراضينا، ونضع الفلسطيني بوجه الفلسطيني.
ويقوم الفكر اليساري الإسرائيلي على مفهوم إسرائيل العظمى أي نواة
عسكرية قوية لها حدود تشمل فلسطين قبل 1967م بالإضافة لمعظم أراضي الضفة
الغربية وتهيمن على منطقة الشرق الأوسط كلها: هيمنة اقتصادية وعسكرية
وسياسية وإعلامية وثقافية.
أما المفاهيم الأمريكية بالنسبة لهذه الدولة فلقد تحدث كولن باول وزير
الخارجية عن دولة فلسطينية مؤقتة في لقائه مع صحيفة الحياة تقوم على أربعين في
المئة من الضفة الغربية وثلثي قطاع غزة اعتباراً من مطلع العام المقبل، مع ترك
القضايا المعلقة للمفاوضات، وإيجاد حلول لها خلال فترة زمنية محددة.
وتشترط الخطة الإصلاحات الفلسطينية للاعتراف بالحكومة الفلسطينية
المؤقتة، وتفرض رقابة خارجية وحتى تدخل في موضوع إصلاح أجهزة أمن
السلطة التي يشرف عليها أجهزة أمن أميركية وبريطانية ومصرية إضافة لرقابة من
البنك الدولي والدول المانحة على المساعدات المالية للسلطة.
وقال مارتن إنديك، السفير الأميركي لدى إسرائيل: لن تكون دولة يعاد
تشكيلها مثل أفغانستان أو دولة في طور التكوين مثل تيمور الشرقية، فكلا البلدين
عليه وصاية دولية غير رسمية.
وقال آلان بيكر المستشار القضائي في البيت الأبيض إنه من غير المفهوم ما
هي الدولة الفلسطينية المؤقتة؟ وأضاف أنه حتى لو أصبحت السلطة الفلسطينية
كياناً صاحب سيادة، فالأمر لن يسلب إسرائيل حقها في الدفاع عن نفسها في
المناطق (أ) الخاضعة لحكم السلطة الفلسطينية.
وقال بول وليامز: إنها فكرة جديدة، وهي تحمل قدراً من المخاطر، لكنها قد
تكون أفضل حل ممكن للشرق الأوسط الآن، وكان وليامز يعمل محامياً في وزارة
الخارجية الأميركية، وحالياً يشغل منصب بروفيسور في القانون الدولي بالجامعة
الأميركية. وأضاف قائلاً: لكن سيكون ممكناً للآخرين مثل حركة نمور التاميل في
سري لانكا، أو الباسكيين في إسبانيا، أو الشيشانيين في روسيا، أو الأكراد
العراقيين أو عشرات المنظمات الأخرى أن يتلفتوا حولهم، ويطرحوا السؤال التالي:
إذا كان الفلسطينيون قد حصلوا على دولة مرحلية، فلماذا لا يتم ذلك بالنسبة لنا
أيضا؟
وفي أكتوبر عام 2001م صدر عن مؤسسة واشنطن لدراسات الشرق الأدنى
التي كان يرأسها مارتن إنديك كتاب أشرف على تحريره روبرت ستالوف تحت
عنوان: (بعد عرفات: مستقبل السياسات الفلسطينية) .
في هذه الدراسة يُجمِع ستالوف والعديد من الباحثين الإسرائيليين والأميركيين
على أن الصورة يمكن أن تكون على النحو الآتي:
بعد عرفات لن يرتدي خلفاؤه البزة العسكرية، بل البذلة الغربية وربطة العنق،
وأحياناً الكوفية والعقال. وهذا سيكون رمزاً معبّراً عن نهاية مرحلة وبداية مرحلة
جديدة.
* لكن ما السمات المحتملة لهذه المرحلة؟
الباحثون يقولون إن المخاوف من احتمال سقوط الأراضي الفلسطينية بين
براثن الفوضى، مبالغ فيها؛ فعلى رغم أن السلطة الفلسطينية ليست دولة بالمعنى
الشرعي أو الرسمي، إلا أن لها سمات مشتركة مع باقي الدول العربية المعاصرة:
فهي سلطوية، وشديدة التمركز، وفردية السلطة.
وهكذا، وعلى رغم وجود عشرات آلاف قطع السلاح في الضفة الغربية
وغزة، إلا أن معظمها تحت سيطرة المنظمات الحكومية أو شبه الحكومية، أما
حركتا حماس والجهاد، فلا تملكان سوى مئات قليلة منها.
كما أنه ليس في فلسطين تراث من الحروب الأهلية أو مواجهات واسعة
النطاق. قد تحدث اغتيالات او انقلابات، لكن ليس حروباً أهلية؛ فحين تواجه
النخب الحاكمة مخاطر التعرض للإطاحة بها تلتف حول نفسها وتنشط للحفاظ على
الاستقرار بأي ثمن.
في الأوضاع الفلسطينية الراهنة، الأراضي مقسّمة عملياً بين القوات
الإسرائيلية، والمستوطنات، والبنى التحتية للطرقات، وإذا ما غاب عرفات،
فسيتنافس القادة السياسيون والأمنيون للسيطرة على المناطق التي يتمتعون بنفوذ
أكبر فيها، لكنهم سيعملون أيضاً للمحافظة على تماسك السلطة الجماعية الفلسطينية.
ويتوقع، تبعاً لذلك، أن تبرز (قيادة وطنية) من شخصيات سياسية وأمنية،
وفي المرحلة الأولى سيكون النفوذ العلني للسياسيين؛ لكن السلطة الحقيقية ستنتقل
بالتدريج إلى القادة الأمنيين بعد نهاية المرحلة الانتقالية.
شعارات القيادة الجديدة ستكون الوحدة، والمساءلة، والشفافية، والمشاركة
والديموقراطية؛ لكن هذا سيكون مجرد حبر على الورق على الغالب.
وعلى رغم أن هذه القيادة لن تقدم لإسرائيل تنازلات سياسية أكثر مما قدّم
عرفات، إلا أنها ستكون جاهزة لتقديم تنازلات أمنية لإسرائيل عبر الأميركيين.
والحصيلة: السيناريو المحتمل بعد عرفات (وفق الكتاب) لن يكون حمام دم
جماعياً، ولا استقراراً كاملاً، ولا تقدماً على جبهة السلام مع إسرائيل؛ لكن لا
حرب معها أيضاً؛ فالهم الأول والأساسي للدولة الجديدة سيكون المحافظة على
سلطتها.
وحسم بوش في خطابه الشهير أمر الدولة المؤقتة عندما قال: إن الولايات
المتحدة ستؤيد قيام دولة فلسطينية تكون حدودها وجوانب معينة من سيادتها مؤقتة
إلى حين الاتفاق عليها في إطار تسوية نهائية في الشرق الأوسط.
أما في الجانب العربي فالصورة غامضة أو هناك تعمد لإخفاء ما يجري أو ما
يخطط له.
يقول علي جبراوي أستاذ العلوم السياسية في جامعة بير زيت بالضفة الغربية:
نحن سمعنا بحكومة مؤقتة، لكننا لم نسمع من قبل بدولة مؤقتة؛ فماذا يعني ذلك؟
هل يعني أنها دولة ستستمر في التنامي حتى تصل إلى حدود 1967م، أو
ستكون دولة كانتونات؟ لا أحد يعلم.
وأعلن الرئيس مبارك خلال لقائه رؤساء تحرير الصحف القومية والحزبية
على هامش الاحتفال بعيد الإعلاميين: ربما كان المقصود أن تكون هناك حدود
مؤقتة.
وقال ماهر إنه لم يسمع أبداً عن وجود دولة مؤقتة في العالم.. قد توجد
حكومة مؤقتة أو أشياء أخرى مؤقتة، أما دولة مؤقتة فهذا شيء لم أسمع به أبداً،
وأضاف ماهر: إن مثل هذا الطرح يعني أن مثل هذه الدولة قد توجد اليوم أما غداً
فلا تكون؛ وشدد على أن هذا الطرح شيء غير مفهوم ولم يسمع به أحد.
* أمريكا ولعبة الدولة المؤقتة:
عندما اختفى الاتحاد السوفييتي من المسرح الدولي في أوائل التسعينيات
وانتهت معه الحرب الباردة التي ظلت تحكم العالم على مدى أربعة عقود من خلال
نظام القطبية الثنائية سارع مؤرخون ومحللون أمريكيون إلى تسجيل هذه اللحظة
التاريخية باعتبارها إعلاناً عن تفرد الولايات المتحدة بقيادة العالم، وتبلورت مفاهيم:
اللحظة الفريدة، والعملاق الوحيد، والأمة المقضي عليها بأن تقود.
وتلخصت كل هذه المفاهيم في مفهوم عريض يقول إنه إذا كان القرن
العشرون قرناً أمريكياً فإن القرن القادم سيكون أمريكياً كذلك.
ولكن 11 سبتمبر جاء ليقلب موازين ويضع نهاية عصر وبداية عصر جديد
ليس عصر الهيمنة الأمريكية بل عهد العربدة الأمريكية، وما حصل في أفغانستان
يمثل نموذجاً فريداً لقدرة الإدارة الأميركية على أن تتصرف بالعالم وتوجهه وفق
مصالحها الخاصة ولو على حساب الشعوب المغلوبة على أمرها، وازدادت رغبة
الأمريكيين في لعب دور جديد في العالم عبر تفعيل العديد من التحالفات، وبهدف
تأمين استقرار النظام الدولي الجديد الذي يمثل الموقع الأمريكي حجر الزاوية فيه.
ولفت انتباه الإدارة الأميركية إلى أن هناك مناطق خلل استراتيجية يجب أن
تعالج ويجب أن يوضع حد لها.
وعلى رأس هذه المناطق الشرق الأوسط؛ ولكن لماذا تريد الولايات المتحدة
إعادة ترتيب أوضاعها من جديد؟
لا شك أن منطقة الشرق الأوسط ذات موقع استراتيجي مؤثر في العالم كله،
كما أنها مهد الديانات السماوية، وتعج بمختلف القوميات والأديان والأعراق؛
إضافة إلى أنها محط أطماع الإمبراطوريات والممالك منذ القدم، والسيطرة عليها
تتطلب قوة غير عادية؛ ولذلك فإن الذي يحقق الهيمنة عليها فكأنه قد سيطر على
العالم كله.
والسبب الأخطر الذي يدفع بالولايات المتحدة إلى الاهتمام بهذه المنطقة هو
التحالف بين الإدارة الحالية وبين اليمين الأمريكي الذي يسعى بكل قوة إلى تمكين
دولة اليهود في فلسطين تمهيداً لإقامة الهيكل الثالث ونزول مسيحهم المزعوم ليقود
نصارى العالم.
ومن المعلوم أن الحدود السياسية لهذه المنطقة قد رسمت مع بدايات القرن
العشرين؛ حيث كانت الهيمنة البريطانية هي التي تقود العالم الغربي لفرض
مشروعه على العالم الإسلامي ووضع نهاية للحروب الصليبية بإعلان استسلام
المنطقة بالكامل للنفوذ النصراني وعلى رأسه الإمبراطورية البريطانية.
ومن خلال اتفاقية سايكس بيكو بين بريطانيا وفرنسا جرت ولادة أسس
النظام العربي القائم حالياً في المنطقة وإن اختلفت أشكاله من حدود لحدود، ومن
قطر لآخر، وكان هذا النظام بأسسه وأشكاله يحقق للغرب حلم السيطرة الدائمة على
المنطقة بأقل قدرات عسكرية ممكنة، وفي نفس الوقت يمنع بروز أي قوة إسلامية
تناهض الهيمنة الغربية النصرانية بجميع أشكالها على الشعب العربي المسلم.
ولكن مع تغير الأيام ومرور السنين تبدلت كثير من المفاهيم وموازين القوى،
فأصبحت الولايات المتحدة على رأس القوى الغربية في العالم، وشاخ النظام
العربي وصار أقل قدرة على الإمساك بزمام الأمور، وبرزت الصحوة الإسلامية
وباتت الأمل للشعوب العربية لتنهض من جديد وتخلصها من مآسيها التي أفرزها
النظام العربي القائم، وتجلت تلك التغيرات في أحداث 11 سبتمبر الماضي وخروج
مجموعة من 20 شخصاً غير المخططين والمساعدين الآخرين لتهز الهيبة الأمريكية
في عقر دارها، وانهالت وسائل الإعلام الأمريكية بحملة ضارية على النظم العربية
التي أصبحت لا تسيطر على شعوبها برغم تحالفها مع الهيمنة الأمريكية.
ولذلك تزداد التكهنات بأن الولايات المتحدة تعمل على إعادة رسم خارطة
الشرق الأوسط تمهيداً لقيام نظام إقليمي جديد تكون الغلبة فيه لإسرائيل، وتفرض
التبعية على غيرها من الدول.
ويبقى السؤال الأخطر: ما هي أهم ملامح هذه الخارطة الجديدة؟ فالتفاصيل
الأساسية لا شك أنها مغيبة عن المسلمين، وأقصى ما يمكننا تتبعه هو خطوط
أساسية وأسس لما ينبغي أن يكون عليه النظام العربي الجديد في التصور الأمريكي؛
لذلك نحاول استنباط هذا التغير من خلال تتبع ما يرسمه الاستراتيجيون ومراكز
البحوث والدراسات المؤثرة في السياسة الأمريكية وربيبتها في المنطقة إسرائيل.
وتبدو الأطروحات الأمريكية حول الدولة المؤقتة الفلسطينية والتسريبات
المستمرة والسيناريوهات المطروحة لضرب العراق أولى الإشارات لهذا النظام
العربي الجديد الذي تريده أمريكا للمنطقة.
وفي هذا السياق يقسم زيجنيو بريجنيسكي المستشار الأسبق للأمن القومي
الأمريكي في كتابه: (ساحة الشطرنج الكبرى) الأهداف المرحلية المنتظرة
للاستراتيجية الأمريكية من أجل تحقيق الهيمنة على ثلاثة مستويات زمنية: أهداف
قصيرة المدى تغطي السنوات الخمس المقبلة، وأهداف متوسطة تمتد حتى عشرين
سنة أو أكثر، ثم أهداف بعيدة المدى.
ويميز بريجينسكي بين هذه المستويات الزمنية المنسقة بدقة ويعتبر أنها ليست
منفصلة، بل تمثل سلسلة ذات حلقات متصلة.
وهو يقول عن الهدف القصير المدى إنه الهدف الذي يدعم القوى
الجيوبوليتيكة السائدة على الخريطة العالمية، ويستهدف هذا الدعم تكريس النفوذ
الأمريكي مع التركيز على قارتي أوروبا وآسيا، وعلى أوليات العمل السياسي
والدبلوماسي بهدف منع ظهور أي تحالف معاد يمكن أن يتحدى الزعامة الأمريكية.
أما الهدف المتوسط المدى فهو يتركز حول ضرورة توجيه السياسات
الأمريكية للتحالف مع شركاء استراتيجيين لها يمكن من خلال دور القيادة الأمريكية
أن يشكلوا نظاماً للأمن أكثر تعاوناً في قارتي أوروبا وآسيا وفي الشرق الأوسط.
أما الهدف الطويل المدي فهو الهدف الذي يسعى إلى إيجاد قاعدة من
المسؤولية العالمية المشتركة التي تلعب فيها الولايات المتحدة الدور القائد،
والشركاء البارزون على هذا المستوي هم في الجانب الغربي فرنسا وألمانيا،
والهدف المركزي في هذه المرحلة هو توسيع رأس الجسر الأوروبي الديمقراطي.
وفي الجانب الشرقي الصين التي أصبحت تشكل للولايات المتحدة أهمية
محورية متصاعدة، وتعتبر المشاركة الصينية ضرورة لتكون الاستراتيجية
الأمريكية العالمية؛ وذلك من خلال تحقيق إجماع سياسي صيني أمريكي.
إذن ومن خلال تصور بريجنيسكي فإنه يريد شركاء استراتيجيين في هذه
المنطقة يستطيعون الإمساك بزمام الأمن لصالح أمريكا في المنطقة.
وبالطبع فإن إسرائيل هي المرشحة للقيام بالدور الأكبر في تلك المنظومة
الأمنية؛ حيث سمح حلف الأطلنطي لأفرايم هالا رئيس المخابرات الإسرائيلية أن
يشارك قبل أسابيع في اجتماع قيادته في بروكسل، هو الذي قدم وعداً علنياً بأن
تتكفل إسرائيل بمنع مساعي دول في الشرق الأوسط، ضرب لها مثلاً بإيران
وليبيا والعراق وسوريا، بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، مطعماً وعده بتحذير من
الإرهاب الإسلامي، وهجماته الانتحارية التي تمثل خطراً جسيماً على دول الحلف.
أي أنه سيقوم هو الآخر بضربات عسكرية إجهاضية فوق تخوم الإقليم،
ولكنها ستكون لصالح الحلف، أكثر من كونها لصالح إسرائيل.
وهذا هو الملمح الأول للتغير في المنطقة، أي أن الولايات المتحدة قد حددت
غاية هذا النظام القادم أن يكون أمنياً بالدرجة الأولى؛ وهذا يفسر زيارات جورج
تينيت رئيس المخابرات الأمريكية المتكررة للمنطقة وإصراره أن يكون التغيير
الأول في السلطة الفلسطينية أمنياً.
وفي سياق آخر كتب شيمون بيريز وزير الخارجية الإسرائيلي كتاباً بعنوان:
(تصميم المستقبل) تحدث فيه عن شرق أوسط جديد فيه عمالة عربية رخيصة،
ومال الخليج ونفطه، وموارد ومياه؛ وكل ذلك تحت إدارة صهيونية كاملة وهيمنة
إسرائيلية إمبراطورية يضمنها تفوق نوعي وكمي في السلاح والتكنولوجيا والدعم
الغربي مع تغييب كامل لحق أهل المنطقة في أرضهم ومواردهم وثرواتهم.
أما الفلسطينيون فقدم لهم بيريز في كتابه دويلة منزوعة السيادة هشة تابعة
لإسرائيل تماماً، ومن ثم مخلب لها إن لزم الأمر حين يحاول بعض المتمردين في
تلك الإمبراطورية الإسرائيلية الاستقلال أو ما يشبه ذلك.
وهذا هو الملمح الثاني للنظام العربي: تطبيع كامل مع اليهود وتبعية
اقتصادية لإسرائيل.
وفي مقال نشره آلان وودز منذ عدة أسابيع وهو مفكر غربي تلقى آراؤه
رواجاً كبيراً على مستوى النخبة السياسية في الغرب قال فيه إن الشرق الأوسط لن
يستقر إلا إذا أصبحت أقلياته من يهود وأقباط وأكراد وغيرهم متساوين في الحقوق
مع الأغلبية الساحقة من العرب المسلمين.
وهذا بُعد جديد يراد فرضه كأحد مكونات النظام العربي الجديد: تضييع
الهوية وإذابة العقيدة بحجة المساواة بين المسلم وغيره.
ولكن أخطر ما في مشروع النظام العربي، الذي يجد له صدى في هذه الأيام
هو التهديد والتلويح بتغيير القيادات العربية غير المستجيبة للمشروع الأمريكي أو
التي تبدي نوعاً من المعاكسة للتوجهات الأمريكية؛ وما الإصرار على تغيير
عرفات وصدام إلا بداية لهذا التوجه وإنذاراً لبقية قيادات النظام العربي وما الحملة
التي تشنها الأجهزة الرقابية في مصر على الفساد إلا لتصب في هذا الاتجاه.
يقول نبيل عبد الفتاح الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام: إن
العامل الدولي يكمن في الحديث عن تغييرات سياسية كبرى في المنطقة بدأت
بالضغوط الامريكية وعملية الإصلاح المالي والسياسي للسلطة الفلسطينية بقيادة
مصر.
ورأى عبد الفتاح أن الحديث مرجعه الأساسي الاتهامات بالفساد المالي وهي
موجهة أيضاً للعراق وسورية؛ ومن ثم فإن الإجراءات المصرية هي محاولة
لاستباق أي نقد أو اتهام قد يوجهه الغرب إلى مصر يشكك في مصداقية السلطات.
إن مؤامرة الدولة المؤقتة ليست سوى بداية لمشروع أمريكي كامل للمنطقة بدأ
بفلسطين، وسيمر قريباً بالعراق، ولن يقف عند هذا الحد، بل سيتعداه لدول
الشرق الأوسط كلها بحيث تتوافق مع مفردات الهيمنة الأمريكية تمهيداً لتنفيذ
المشروع الصهيوني وتحقيق النبوءات التوراتية.