ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
عبد الله خلافة [*]
توطئة:
لقد ظلت قضية التغلغل الفرنكوفوني في الإعلام المغربي باهتة، بالمقارنة مع
المجالات الأخرى ذات التجلي الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي، وقد يكون هذا
المعطى راجعاً إلى بدهية الوجود الفرنكوفوني داخل المشهد الإعلامي المغربي؛
باعتبار المغرب أحد أهم (إيالات) النفوذ التقليدي للهيكل الفرنكوفوني الفرنسي،
والمؤهل الوحيد للعب دور الوسيط في علاقات فرنسا مع مستعمراتها القديمة
بإفريقيا، ومع الدول العربية الأخرى.
طبيعة هذا التغلغل الفرنكوفوني يدفع المتتبع للحقل الإعلامي المغربي إلى
القول، أو إلى الحسم بأن الإعلام المغربي بتمظهره المكتوب، أو السمعي، أو
السمعي البصري في عمومه إعلام فرنكوفوني الهوية والوجود. هذا في غياب
إعلام إسلامي أصيل يدافع هذا التغلغل، وإن كانت بوادر وجوده بادية، لكن في
جنس وحيد: هو الإعلام المكتوب. أي عبر الصحف والمجلات الإسلامية. وقد
ساهم الفاعل السياسي في كل مراحله؛ في تكريس هذا الوضع نحو الفرنكوفونية
والحداثة، على حساب الهوية الإسلامية والأصالة، دون استحضار إسلامية الدولة
والشعب بالمغرب.
ثم مع تطور وسائل الاتصال؛ فقد أصبح للإعلام سلطة فاعلة في تشكيل
الرأي، والموقف، بوسائله المتطورة التي تأسر الكبير قبل الصغير، وتكاد هذه
السلطة تفوق باقي السلط.
فإذا كان الغرب - وهذا ليس من قبيل الشعور بعقدة النقص، أو القابلية
للاستعمار - قد حسم حدود تدخل لوبيات الضغط والتأثير في توجيهه للفوز فقط
بموقف الدعاية في مرحلة من المراحل؛ فإن الإعلام المغربي، كجزء من الإعلام
العربي والإسلامي، لم يتخط بعد مرحلة الوصاية سواء الحزبية أو الحكومية. هذا
الوضع هو ما دفع أحد الإعلاميين المغاربة - الأستاذ يحيى اليحياوي - إلى الدهشة
والاستغراب لعدم تزحزح الإعلام المغربي؛ تأثراً بالمستجدات والتطورات
المعلوماتية الهائلة التي يعرفها العالم في الوقت الحاضر، وتأثراً بالتحولات العميقة
في المجتمع؛ بفعل التطور الديمغرافي والثقافي. يقول الأستاذ يحيى اليحياوي:
(المشهد الإعلامي المغربي عصي على الفهم؛ فهو جزء من شيء؛ إذ لم يستطع أن
يفرض نفسه كجهاز مستقل بذاته، كما أنه مغلق؛ إذ لم يتأثر بالتحولات الاجتماعية
والتقنية المتطورة، وأتمنى أن يساهم قانون الصحافة الجديد في حل هذا الإشكال)
[1] .
* هل هناك فرنسية دون فرنكوفونية؟
ما من مرة يتم فيها تناول الوجود الفرنكوفوني، في أي مجال من المجالات
سواء الاقتصادية، أو الاجتماعية، أو السياسية، أو الإعلامية - محطة البث - إلا
ويتم طرح هذا السؤال كوصفة فرنكوفونية للتمويه، باعتبار الفرنسية ليست هي
الفرنكوفونية؛ بل تعني لغة الانفتاح على العالم، وليست استعماراً جديداً، وفي
المقابل يتم التغاضي عن تساؤلات مشروعة من قبيل:
- لماذا تم تهميش الإسبانية في الشمال المغربي وإحلال الفرنسية مكانها؟
رغم أنها لغة مستعمر أيضاً، كما أنها تمكن من الانفتاح على شريك اقتصادي قريب؟
ثم لماذا لم يتم اعتماد الإنجليزية من باب أوْلى؛ باعتبارها لغة مهيمنة في
المجال العلمي، وجسر تواصل بين الاختراع والتحديث، على مستوى الأشياء
والمجتمع المغربي؟
إذن فنحن لسنا أمام لغة فرنسية بريئة واللغة كما عند اللسانيين حمَّالة قيم
ومضامين بل نحن أمام أيديولوجية فرنكوفونية. يقول الشاعر والكاتب المغربي
محمد بنيس: (هناك فرق بين اللغة والثقافة الفرنسيتين، والفرنكوفونية. فإذا
كانت اللغة والثقافة الفرنسيتان تعنيان اللغة والثقافة الوطنية، والخطابات المنتجة
بهذه اللغة من طرف فرنسيين، فإن الفرنكوفونية تعني أولاً: استعمال الفرنسية من
جانب غير الفرنسيين، وتعني ثانياً: لغة البلاد التي تخلت عن لغاتها المحلية!)
[2] .
ويتابع الناقد المغربي توضيح هذا، ويقول: (ويتجلى الجانب الأيديولوجي
للفرنكوفونية في فرض الفرنسية، في الإدارة والثقافة والإعلام، بجميع الوسائل،
وانتزاع المكان الجغرافي للغة العربية، وتجنب الإنجليزية؛ لضمان المغرب
كمنطقة مضمونة لصالح الامتيازات الفرنسية؛ فمن هو فرنسي يشترك فيما هو
فرنسي) [3] .
في نفس الصدد يؤكد الشاعرالمغربي عبد اللطيف اللعبي، وهو واحد ممن
تخلوا عن الكتابة بالفرنسية في إنتاجاتهم: (الفرنكوفونية نقطة ارتكاز للاستراتيجية
الاستعمارية الجديدة. إنها بمثابة انبعاث للامبراطورية الفرنسية يعود على الفرنسية
بامتيازات بيروقراطية) [4] .
هذا الوصف المؤدلج والمموه؛ للفرنكوفونية يدفع الكاتب المغربي محمد بنيس
إلى إبراز التناقض الجلي بين الفرنسية كلغة والفرنكوفونية كأيديولوجية. وذلك
بقوله: (الفرنكوفونية تمنع عني الفرنسية كثقافة؛ بدعمها للإنتاج الاستهلاكي
الهزيل؛ فهي لا تهتم بانفتاحي على الثقافة الفرنسية أو الكونية، بل ما تفكر فيه هو
سيادتها اللغوية، كما تمنع عني عربيتي كمغربي) [5] .
* الوضع الثقافي بالمغرب توجه فرنكوفوني بامتياز:
أهم ما يميز مشاريع التنمية بالمغرب، سواء الاقتصادية أو السياسية أو
الإعلامية، هو ارتهانها إلى اللغة الفرنسية كحامل لخطاب التواصل؛ فلغة المنافسة
للحصول على المناصب العليا، والمصيرية، هو إجادة وكفاءة لغوية فرنسية.
فالجريدة، أو شريط الأفلام، والرواية، والكتاب المصوغ بالفرنسية، هو صاحب
الحظوة، والمستأهل لدعم الفرنك الفرنسي، فيتم التنويه والإشهار بصاحبه في كل
محفل؛ فكم من فيلم أو رواية فاقت شهرتها الآفاق، على الرغم من ركاكتها؛ لأنها
أنجزت بلغة فرنسية، أو أن أصحابها تتلمذوا على مفكرين فرنسيين؛ فكل ما يتعلق
بإدارة المال والمقاولة والربح، فالفرنسية وسيطه اللغوي، مثال هذا برنامج:
«مشاريع» بالقناة الأولى المغربية الذي لم يستطع فكاكاً عن الفرنسية، رغم أنه
موجه لشعب تفوق نسبة أميته في العربية - لغته الوطنية - أكثر من 50%.
يقول الأستاذ موليم العروسي: (إذا أنصتنا إلى الخطاب الرسمي نجد أن
مؤسسات الدولة العليا معربة، بينما خطاب المؤسسات المالية والصناعية ومراكز
صنع القرار الفعلي المتعلق بمصير البلاد في بنيته العميقة، وفي إجرائيته فرنسي
محض.. فلو كانت فرنسا تساعد على تثقيف المغاربة، وتعرفهم على الحضارة
الفرنسية بنية حسنة، مفادها إخراجهم من ظلمات الجهل، فإن هناك من الفرنسيين
من سيستفيد من هذا اقتصادياً وتجارياً، وكذلك بالنسبة لثقافة أمريكا، فلا فرق بين
الكتاب والفيلم والكوكاكولا والهومبورجر) [6] .
هذا الوضع الاعتباري للفرنسية كآلية فرنكوفونية، يؤكد وضعها المريح داخل
النسيج الثقافي المغربي والإعلامي كجزء منه، وضع آمن من كل زعزعة أو
انتفاضات ضد هذا التغلغل؛ إذ نجد الفرنسية مقدمة في الدرجة الأولى على العربية،
رغم كون هذه الأخيرة لغة الدستور الرسمية، ورغم صراخات وصيحات كثير
من المفكرين والمثقفين لمواجهة هذا الوضع كمثال كتاب الدكتور إدريس الكتاني
رئيس نادي الفكر الاسلامي بالرباط المسمى: «ثمانون عاماً من الفرنكوفونية ضد
الإسلام واللغة العربية» وما ذكره من ذلك في سياق مناقشته لقضية التعريب
بالتعليم المغربي.
* المشهد الإعلامي المغربي بين الوصاية والاستقلالية:
يشمل المشهد الإعلامي المغربي جل الوسائط الإعلامية المعروفة من مكتوبة،
وسمعية، وسمعية / بصرية. لكن هذا التنوع لا يعكس استقلالية هذه الوسائط،
وتنزهها عن توجيه الماسك بتسيير الشأن العام داخل المغرب.
فالإعلام المكتوب في مختلف تلوناته ظل حبيس الاتجاه الحزبي، بعيداً عن
المهنية المجردة، والاستقلالية؛ فكل ما يخدم الحزب والحكومة من أفكار ومواقف
يجب أن ينشر، وكل ما يمس بذلك يجب أن يهمش ويقصى.
فالجريدة أو المجلة هي بمثابة بوق، ولسان حزب معين، أو حركة ما، أو
تنظيم ما. كل ذلك حسب وضعه الحكومي تأييداً ومعارضة!
فالصحفي المتزلف يكون مدللاً، والمشاكس مآله الطرد. فإذا كان الأمر
مقبولاً فترة الاستعمار بضرورة خدمة الإعلام للمطلب الوحيد الذي هو استقلال
البلاد، لكنه الآن وارتباطاً مع تطور الإعلام وولوجه مدار المهنية مطالب، أكثر
من أي وقت مضى، بفك هذا الارتباط، ليبقى خادماً لزبنائه القراء في أمانة الخبر،
وموضوعية التعليق، والصدق في التحليل. هذا من جهة الوصاية الحزبية أو
التنظيمية الوطنية، أما تلك الفرنكوفونية فهي ليست مقصودة بهذا التوجيه؛ لأنها
ابن غير شرعي للإعلام المغربي.
أما الإعلام السمعي، والسمعي / البصري؛ فقد ظل لعقدين من الزمان
خاضعاً للهاجس الأمني؛ حيث كان وزير الداخلية مهيمناً على وزارة الإعلام،
بشكل غير مباشر، وذلك بكون بعض مدرائها من أطر الداخلية لا الإعلام، ثم
كانت الهيمنة المباشرة بعد ذلك لما عين وزيراً للداخلية والإعلام معاً!
تلك الوضعية دفعت أحزاب المعارضة السابقة، والماسكة بزمام التسيير في
حكومة اليوم، إلى المطالبة بفك هذا الارتباط، خلال المناظرة الوطنية الأولى
للإعلام: (29 - 31/3/1993م) ، على أن تنص توصياتها على رفع الوصاية
الحكومية عن وسائل الإعلام العمومية خاصة الإذاعة والتلفزة وضمان استقلالهما [7] .
لكن فور تسلمها مقاليد الشأن الحكومي تنصلت من هذه المطالبة بتغييبها
للوجوه المعارضة لسياستها، فإذا كان محمد الأشعري - الناطق الرسمي باسم
الحكومة - قد أكد في خطاب له عقب تسلمه لوزارة الإعلام والاتصال أن مشروعه
هو: «الدفاع عن استقلالية الإعلام عن الحكومة وعن جميع الضغوطات» فإن
طرد صحافِيَّيْن أجريا مقابلة مع زعيم نقابي بالكونفدرالية الديمقراطية للشغل، وكذا
توقيف ثلاث جرائد: (لوجرنال، دومان، والصحيفة) ، فيما يعرف برسالة الفقيه
البصري واليوسفي، كشف سوءة ذلك التصريح، وجعل منه حبراً على ورق!
* الإعلام المغربي من الوصاية إلى التغلغل الفرنكوفوني:
يتميز مجال الإعلام المغربي كغيره من مجالات الفعل والتأثير (الثقافية،
السياسية، الاقتصادية) بخضوعه لازدواجية الوسيلة والتوجه، فهو مولود مهجن،
متنازع التكوين، بين عربية أصيلة وهوية إسلامية من جهة، وفرنسية حداثية
فرنكوفونية من جهة ثانية. فقد ارتبطت نشأته الأولى بتقليد صحف المستعمر سواء
في المنطقة الخليفية: (أي منطقة النفوذ الإسباني) ، أو السلطانية: (منطقة النفوذ
الفرنسي) ، فقد انطلقت البداية الأولى مع التجارب الإعلامية بتطوان وطنجة مثل:
جريدة الصباح، والمصباح، أو ما كان يسمى بصحافة الشمال التي كان يتزعمها
الزعيم عبد الخالق الطريس، والتي كانت متأثرة بالاتجاه السفلي [8] .
بعد ذلك، وخلال فترة الأربعينيات من القرن الماضي (القرن العشرين) ،
ظهرت جريدة «العَلَم» لسان حزب الاستقلال سنة 1944، وكانت وقتئذ الأهداف
الوطنية، وفضح المستعمر، ودفعه للخروج من البلاد؛ هي الدافع لإنشاء جريدة
بلسانين عربي وفرنسي. فالنشأة ارتبطت بالسياسي لا بالجانب الاجتماعي أو الديني
تعتمد كاتباً وطنياً راجح الفكر، جزل الأسلوب، متين اللغة، فإذن؛ كانت هذه
الصحف (أقرب إلى نشرات داخلية للحزب الذي تتحدث بلسانه، وتعبر عن مواقفه
معارَضة وتأييداً حسب الموقع من تسيير الشأن العام) [9] .
* مظاهر التغلغل الفرنكوفوني في الإعلام المكتوب:
مع تراكم التجارب في مجال الإعلام المكتوب، لم تعد الساحة المغربية
الإعلامية تحتوي على جرائد وطنية بلسان مزدوج فحسب: عربي وفرنسي، مثاله:
العَلَم وشقيقتها الحزبية: Lopinion، والاتحاد الاشتراكي وشقيقتها الحزبية:
liberation، وبيان اليوم وشقيقتها الحزبية: صلى الله عليه وسلمLbayan، بل تطور الأمر مع
وجود متنفسات لظهور صحف فرنسية فقط مثل:journal, le hui, صلى الله عليه وسلمujourd
عز وجلemain، وجل هذه الصحف تعيش على دعم فرنسي في تسييرها.
وللإشارة فقد بلغ حسب إحصاء سنة: 2000م، الغلاف المالي المرصود
للصحف الفرنسية بالمغرب ما قدره: 169. 4 ألف فرنك فرنسي [10] من ضمن
المساعدات التي تقدمها فرنسا إلى المغرب في مجال التعاون الثقافي واللغوي.
* مظاهر التغلغل الفرنكوفوني في الإعلام السمعي:
يعرف الإعلام السمعي بكونه واحداً من أنظمة الاتصال المفتوح، ساهم في
تطوره انتشار النظرية القائلة: (إن الموجات الهوائية تنتمي إلى الشعب) [11] .
هذه النظرية مكنت مجموعات ذات اهتمامات خاصة، اقتصادية، وسياسية
من تحقيق نجاح كبير في حصولها على حق الاتصال بالراديو أو (الترنزستور) .
بالنسبة للمغرب يمكن التمييز بين عدة محطات:
أولاً: إذاعة وطنية مركزية بالرباط العاصمة، تتخذ العربية لسان حديثها.
ونظراً لقلة فنييها، وارتهانها إلى وسائل تقليدية جعلها غير منفتحة على الشعب،
ولا يمكنها ذلك لتعدد الطيف الاجتماعي المغربي، من عربي إلى أمازيغي إلى
فرنكوفوني. ولذلك فهي تستعين على أداء مهمتها الإعلامية بالاعتماد على إذاعات
وطنية جهوية، مثل إذاعة طنجة، وإذاعة تطوان بالشمال، وإذاعة الدار البيضاء،
وإذاعة العيون في الجنوب، وإذاعة وجدة في الشرق، وإذاعة فاس بالوسط.
ثانيا: في الضفة الأخرى من الإعلام السمعي تتحرك إذاعة «ميدي 1»
بطنجة. Mediteranie Radio وهي مؤسسة إعلامية فرنكوفونية أسست من
طرف شركة (سورفاراد: Sorferad) التي تمتلك فيها فرنسا نسبة 99% من
أسهمها. وقد أوكلت هذه الشركة أمر تسييرها إلى أكبر شركة فرنسية، مساهمة
داخلها بـ 54% وهي شركة: «أومنيوم الشمال الإفريقي» ، وتتوصل هذه
الإذاعة بدعم مالي يقدر بـ 248.4 ألف فرنك فرنسي حسب إحصاء 2000م
[12] .
ويستفيد تقنيو هذا القطاع من دعم يقدر بـ 405 ألف فرنك فرنسي، وتحظى
أخبارها بمتابعة هامة بالمقارنة مع تلك الوطنية، وتقدم الجزء الأكبر من موادها
الإخبارية والترفيهية باللغة الفرنسية، بما يقارب 70%.
ويظهر مدى التغلغل الفرنكوفوني في هذه الإذاعة إذاعة ميدي 1 في انعدام
لغات أخرى (إنجليزية، إسبانية) كوسائط لغوية. وغياب هذه اللغات يؤخر
انفتاح المجتمع المغربي على حضارات أخرى، ويتركه رهين الأفق الفرنسي
الضيق. يقول خبير المستقبليات المغربي الدكتور المهدي المنجرة - وهو مدير
سابق للإذاعة والتلفزة المغربية - حول النفوذ الفرنكوفوني في إفريقيا، والمغرب
جزء منها: (إن هذا التصور الجيوسياسي الثقافي للفرنكوفونية سهَّل المحافظة على
إفريقيا [يعني لصالح فرنسا] ، وأخر تكتلها؛ فهو يروج لتنمية التخلف بإفريقيا،
ويشجع التسول بالصدقة الملفوفة داخل غطاء المساعدات) [13] .
ويضيف نقلاً عن تقرير (بور تولو) المنشور من طرف مركز التوثيق
الفرنسي: (إن كل فرنك تقدمه فرنسا للمساعدة العمومية تحصل على ست فرنكات
كمقابل له في التجارة) [14] .
فالإصرار على تركيز الفرنسية يؤخر الاستفادة من التقنية الحديثة التي
اعتمدت الإنجليزية حاملاً لغوياً لها. ولأجل هذا الإصرار الفرنسي على فرض
الفرنسية في مناطق نفوذها التقليدية كالمغرب؛ نجدها تسعى إلى الأخذ بمبدأ
الاستثناء الثقافي في ملف (الغات) أي: منظمة التجارة العالمية. فهي كما يقول
الدكتور إدريس الكتاني في كتابه: «ثمانون عاماً من الفرنكوفونية ضد الإسلام
واللغة العربية» : (لا تحترم لغة المغرب العربية، وتمنع الازدواجية اللغوية
والثقافية، وتعتبرهما خطراً على الوحدة الفرنسية) [15] .
* مظاهر التغلغل الفرنكوفوني في الإعلام السمعي - البصري:
مع تطور الإعلام السمعي - البصري بظهور التلفزيون، تم اعتماد الصوت
والصورة في الأخبار، والتوصيل للمعلومة بأنواعها (السياسية، والرياضية،
والترفيهية) هذه الثنائية للإعلام السمعي - البصري جعلته، كجزء من وسائط
الإعلام، مصدرَ أكثر من تصور ورؤية، ومصب أكثر من مصلحة.
يقول الأستاذ يحيى اليحياوي (متخصص في الإعلام) : (التلفزة فضاء
لتجاذب المصالح والرهانات. من يرى أنه مصدر إزعاج وفضح؛ يحاول رهنه
ورهن الفاعلين فيه، ومن يرى فيه سبيلاً للفعل من نوعية، وتثقيف، ونشر قيم؛
يدعم استقلاله) [16] .
وقد أرجع الأستاذ اليحياوي سبب تأخر فعله في المجتمع المغربي إلى قضايا
أربع: منها عدم الرغبة في حسم القضية الثقافية واللغوية. يقول: (القضية الثالثة
الثقافية والإشكالية اللغوية: فوجود تعدد لغوي يفرض التساؤل: أي ثقافة نريد؟
حداثية أم أصيلة؟ أي لغة نريد؟ أية رموز للتخاطب؟ الهوية والخصوصية؟ ...
ويزداد التعقيد باستحضار ضروب الأدلجة والتنميط المندرجة في سياق الفرنكوفونية
والحق في الاختلاف) [17] .
ويتساءل المؤلف في الكتاب نفسه: (وإلا فما العبرة من طغيان اللغة الفرنسية،
في حين لا تقدم اللغات الأصلية، إلا في إطارها الفولكلوري، في نشرات يتيمة؟
فحسم الإشكال الثقافي اللغوي يعد عائقاً أيضاً) [18] .
هذا التجذر الفرنكوفوني في اللغة والثقافة المغربيتين، يفرض مراجعة
الامتياز اللغوي الفرنسي، كمحتل سابق، خاصة مع تنامي المطلب الأمازيغي
الساعي إلى جعل الأمازيغية لغة رسمية إلى جانب العربية التي نص عليها دستور
البلاد. هذا، وقد شكل الإعلام السمعي البصري وعلاقته بالفرنكوفونية محور عدة
دراسات [19] .
فالقناة التلفزية المغربية الثانية المسماة بـ «دوزيم» 2 M، تفوق المواد
المقدمة فيها بالفرنسية نسبة 70 بالمائة، وقد ساهمت فرنسا في دعم القطاع السمعي
- البصري المغربي عموماً بمبلغ مالي يقدر بـ 561.2 ألف فرنك فرنسي،
حسب إحصاء سنة: 2000م [20] . وقد تم تأسيسها بموجب اتفاقية بين الدولة
المغربية وشركة «سورفاراد» (Sorferad) في 20 فبراير 1988م،
وابتدأت بث برامجها في مارس 1989م. لكن إشرافها على الإفلاس دفع الحكومة
المغربية للتدخل لإنقاذها؛ بشراء حصة من أسهمها. وفرضت على كل المغاربة
تغطية مصاريف ذلك، عن طريق ضرائب في فاتورة الكهرباء! وشمل هذا
الإجراء حتى أولئك الذين لا يستفيدون من خدمات الربط، من أهل المناطق النائية
عن التغطية، وكذا طبعاً حتى من لا يملك جهاز التلفزيون!
أما القناة الأولى المغربية (إ. ت. م) 1 M، فالمظهر الفرنكوفوني قليل
نسبياً؛ إذ يمثل 30% من المواد المقدمة في شكل أفلام سينمائية، ونشرة إخبارية
واحدة، وبعض البرامج، مثل البرنامج الشهير: «مشاريع» .
* هل يوجد إعلام إسلامي بديل عن هذا التغلغل الفرنكوفوني؟
على الرغم من توفر الساحة المغربية على تنظيمات وفعاليات إسلامية، فإنها
لا تتوفر على قاعدة إعلامية صلبة قادرة على مزاحمة هذا التغلغل داخل المشهد
الإعلامي، إذا ما استثنينا توفر هذه التنظيمات على وسيط إعلامي، من نوع وحيد
وهو المكتوب، مثل: جرائد: التجديد، والمحجة، والفتوة، وميثاق الرابطة،
والسنة ... وبعض المجلات نحو: الفرقان، ورسالة المعاهد، والمنعطف والمشكاة
... إلخ. لكن الفاعل الإسلامي لا يتوفر على إعلام حاضر قوي، يؤهله لمنازعة
الإعلام الفرنكوفوني ومزاحمته؛ لأنه حديث النشأة، ضعيف الإمكانيات.
كما أنه لا يزال رهين نظرته الأحادية، والموجهة نحو السلطة، والحكومة،
والاهتمام بالحزب، أو التنظيم، مع افتقاده لمرتكزات مادية قوية، تضمن
استمراره.
هذا بالنسبة للإعلام المكتوب. أما السمعي، والسمعي - البصري فهو من
اللامفكر فيه في الوقت الحاضر.
لكن بالمناسبة، لا يمكن بخس بعض الغيورين جهودهم المحمودة، في مقاومة
هذا التغلغل الفرنكوفوني خاصة مواقف «رابطة علماء المغرب» ، التي تأسست
سنة 1960م؛ فقد أصدرت هذه الرابطة بلاغاً «بإيقاف إذاعة خطب الكنائس»
وهو برنامج كان يذاع كل يوم أحد، بالفرنسية، كإحدى وسائل التبشير في الدولة
المغربية المسلمة! [21] .
كما دعت في توصية للجنة الإعلام في مؤتمرها العاشر، بمدينة مكناس
بالمغرب، في فبراير 1987م إلى: (مقاومة الغزو الإعلامي المضاد للأهداف
الإسلامية، ومواجهته بأسلوب يعتمد على الأسس العلمية والإعلامية التي تساعد
على إحداث نهضة ثقافية محصنة ومتبينة) [22] .
وهذه مواقف تدل على يقظة مبكرة وشعور بخطورة الغزو الفرنكوفوني، لكن
قوة هذا اللوبي جعلها سجينة توصيات لا قرارات عملية!
يبقى أمر ملح: وهو أنه لا بد لتجاوز هذا التغلغل من ضرورة تكاتف الجهود
الإعلامية الإسلامية، دون السقوط في الحزبية، والنظر إلى ما آلت إليه صحف
الأحزاب السابقة، على مستوى الإعلام المكتوب.
أما بالنسبة للإعلام السمعي، والسمعي - البصري، فقد سهل انتشار وتطور
شبكات المعلومات، والأطباق اللاقطة، سواء بالمرموز أو بالواضح؛ في التخفيف
من قوة التأثير الفرنكوفوني، المكرس للتبعية والإلحاق. هذا الهروب إلى الأمام
دون مباشرة الفعل؛ لا ينفي ضرورة التفكير في بديل وطني ذي هوية إسلامية
محترمة، ومتطلبات مهنية منافسة.
وهذا ليس بعزيز على الله تعالى، إذا خلصت النيات. والله من وراء القصد
وهو يهدي السبيل.