مجله البيان (صفحة 4345)

ندوات

المنطقة العربية وتداعيات سبتمبر الأمريكية

(1 ـ 2)

إعداد: وائل عبد الغني

بسم الله الذي باسمه يستفتح كل خير ويستدفع كل شر، والصلاة والسلام على

النبي وآله وصحبه ومن تبعه وسلك طريقه إلى يوم الدين.

مرحباً وأهلاً بضيوفنا الكرام الذين يشاركوننا في ندوتنا هذه التي تطرح قضية

الساعة ونازلة العصر، والدور الأمريكي، (كعنصر حساس ومؤثر في التوجهات

السياسية العربية) في المنطقة العربية (كمجال حيوي للنفوذ الأمريكي) في ظل

تداعيات سبتمبر، والتي تحاول أن تستقرئ أهم النتائج وأخطر التداعيات،

وتحاول أن تجيب عن عدة تساؤلات حول هذا الموضوع:

إلى أي حد تغيرت أو تأثرت السياسة الخارجية الأمريكية بأحداث سبتمبر؟

وما أبعاد هذا التغير إن وجد على المنطقة العربية؟

وهل يعني ذلك تغير ثقل المنطقة بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية؟

وما التحديات التي تفرضها أو تحاول أن تفرضها السياسة الجديدة نحو

المنطقة؟

وما طبيعة الاستجابات على المستوى الفكري والمستوى العملي والتي يمكن

أن تدفع رياح الشر القادمة والقائمة عنا؟

البيان

* ضيوفنا في هذه الندوة هم:

أ. د. أحمد الرشيدي:

أستاذ العلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

أ. د. حامد عبد الماجد:

أستاذ النظم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

أ. طلعت رميح:

رئيس تحرير جريدة الشعب المصرية.

أ. د. مصطفى منجود:

أستاذ النظرية السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.

* مقدمات منهجية:

البيان: يبدو أن لضيوفنا الكرام ملاحظات مهمة بين يدي هذا اللقاء لرسم

إطار عام للندوة:

- أ. د. أحمد الرشيدي: أشكر مجلة البيان على هذه الدعوة الكريمة في

هذه الحلقة النقاشية، وأستهل حديثي بملاحظتين رئيستين تتعلقان بتشخيص الصورة

الراهنة للواقع العربي الإسلامي، من أجل مواجهة هذه الصورة المغلوطة التي

بدأت الولايات المتحدة الأمريكية ترسخها لدى الرأي العام الأمريكي ولدى الرأي

العام الأوروبي:

الملاحظة الأولى: تتعلق بحقيقة أن ما حدث في 11 سبتمبر لا يمثل في

الحقيقة تاريخاً فاصلاً؛ فالأمريكيون مغرمون ببعض المصطلحات التي ترتبط

بصورة وثيقة بفكرة: «الماقبليات» و «المابعديات» ، وعلى هذا فإن الموقف

الأمريكي خاصة والمواقف الغربية عموماً إزاء العرب وإزاء المسلمين مواقف

معروفة على الأقل منذ الحرب العالمية الأولى وليست جديدة علينا، وما حدث في

11 سبتمبر في تقديري ربما زاد من الأمر وضوحاً، وربما كشف للبعض عمّا

كانوا يحاولون إغماض الطرف عنه.

الملاحظة الثانية: وفق تقديري.. أنا لست مع من يروجون ويرسخون في

أذهانهم لفكرة أن الولايات المتحدة هي الآن القطب الوحيد الذي يملك عصا سحرية

يوجه مسار حركة الأحداث على المستوى العالمي، وأنها ستكون كذلك على الأقل

خلال المستقبل المنظور أو المتواصل.. أرى أنه من الخطأ أن نرسم حساباتنا

انطلاقاً من هذه الفكرة؛ لأننا بذلك سنخسر معركتنا، وهذا يفرض علينا أن نستقل

في رؤيتنا وأن ننوع مصادرنا.. أن ننوع مستويات حركتنا. نعم الولايات المتحدة

الأمريكية هي قوة كبرى وهي قوة لها قدر كبير من الهيمنة. ولكن هذا لا ينفي

وجود قوى أخرى موجودة أو يتوقع وجودها خلال المستقبل القريب، وأرى أن أي

دولة مالكة للسلاح النووي تتساوى مع الولايات المتحدة الأمريكية في مسألة الردع.

- د. مصطفى: استكمالاً للجانب المنهجي الذي بدأه الدكتور أحمد وهو

جانب مهم جداً، أنطلق أيضاً من مجموعة من الملاحظات أراها على درجة كبيرة

من الأهمية بالنظر إلى الحدث ككل؛ لأنه يضع البوصلة أمامنا في أسلوب التعامل

مع هذه القضية الخطيرة:

أولى هذه الملاحظات: كانت أحداث سبتمبر نقطة انطلاق لتداعيات خطيرة

على مستوى الفكر والحركة أحدثت نوعاً من الاضطراب والبلبلة.. واختلط الكثير

من الأمور، وتداخلت كثير من المقدمات، وتوصلنا إلى نتائج ربما على عكس ما

نريد وعلى عكس ما نتوقع.. لماذا؟ لأن الولايات المتحدة كان لها الصوت الأعلى

الذي حاولت من خلاله إفهامنا أن الذي حصل ليس فقط كارثة لأمريكا فحسب وإنما

للعالم ككل.

الملاحظة الثانية: التحدي الذي تمخضت عنه الأزمة، بالنسبة للعرب

والمسلمين هو تحدٍّ متعدد الاتجاهات ومتعدد الضربات ومتعدد الأبعاد. وأظن أن

التوصيف الإسلامي الذي هو الأقرب إلى الدقة والصواب هو أن هذا ابتلاء،

وابتلاء شديد؛ لكنه ربما لم يكن الأشد في تاريخ المسلمين؛ فهم قد تعرضوا

لابتلاءات شديدة وكبيرة ربما فاقت ما حدث بعد أحداث سبتمبر، والذي يهمنا هنا

أولاً هو أن ندير الابتلاء بشكل ينفع العرب والمسلمين. ولكن قبل أن ندير الابتلاء

علينا أن يتوفر لنا إرادة الإدارة؛ وهذا يعني أن يكون لك قدر من الخصوصية وقدر

من حرية الحركة في اتخاذ قرار إدارة هذا الابتلاء، ولا يسوغ أن نقف عند مرحلة

تشخيص الابتلاء.

الملاحظة الثالثة: إن من أخطر ما يمكن أن تتمخض عنه الأحداث أن أصبح

الحاضر الغائب في تداعيات ما بعد سبتمبر هو الإرهاب الإسلامي وكأن المسألة

هكذا تتحرر رغم عدم توافر الأدلة بأن المسلمين هم المتهمون، وهذا خطير؛ لأنه

قد يوقع كثيراً من العرب والمسلمين خاصة على المستوى الفكري ناهيك عن

مستوى الحركة في دائرة الدفاع! وقد رأينا الكثيرين من القيادات الفكرية والقيادات

الحركية وهم منهمكون في نفي التهمة؛ وكأنك شئت أم أبيت مطلوب منك أن تدافع.

ولهذا فمن الخطر والخطأ أن نُستهلك في قضايا الدفاع رغم أهميته دون أن يكون

لنا لا أقول هجوم، وإنما يكون لدينا مبادرة.

الملاحظة الرابعة: أن العولمة الآن تكاد تتركز حول أن تصير أمركة

مسعورة ونهمة حكومة بداءين أساسيين: الداء الأول: هو الهيمنة، والداء الثاني:

هو الرغبة في الثأر. ولكن رغم هذه الهيمنة ورغم إرادة الثأر أنا أحسب أنها

عولمة أمريكية هشة وضعيفة، بمعنى أن هناك إمكانية لاختراق هذه العولمة

الأمريكية.. والبعض يتكلم عن السقوط الأمريكي؛ فهناك إمكانية للحركة؛ فما

أنزل الله من داء إلا وأنزل له دواء حتى في أشد الأدواء السياسية.

الملاحظة الخامسة: بالنسبة للتحول في السياسة الخارجية الأمريكية: يمكن

القول إنه بالفعل قد حدث تحول في كثير من أنحاء السياسات الخارجية في العالم

والسياسة الخارجية الأمريكية على وجه التحديد، ولكن السياسة الخارجية الأمريكية

ليست وليدة المصادفة أو الفجائية، لكن هم يخططون، وأظن أن ما وصلوا إليه

الآن لم يكن بضربة حظ. ولكن السياسة الخارجية لأي دولة من الدول لها ثوابت

ومتغيرات؛ والذي حدث ربما يكون أصاب المتغيرات في السياسة الأمريكية؛

بدليل أن هناك مجموعة من هذه الثوابت لم تهتز حتى في المنطقة العربية رغم ما

حدث ورغم التداعيات؛ ومن بين هذه الثوابت مسألة البترول، ومسألة الدولة

القائدة في المنطقة العربية، ومسألة موقف معين من القضية الفلسطينية، ومسألة

دعم إسرائيل: كل هذه ثوابت في السياسة الخارجية الأمريكية، وهناك داخل هذه

الثوابت أمور متغيرة، وأظن أن التغير إذا كان أصاب فقد أصاب المتغيرات في

السياسة الخارجية الأمريكية.

الملاحظة السادسة: أن فكرة الحروب الصليبية التي أثارها الرئيس بوش

ليست جديدة؛ فهناك تقرير قدم في عهد الرئيس ريجان في سنة 1984م وسُمي:

«الدخول في مرحلة الحروب الصليبية الثالثة» ، هذا التقرير كان يتكلم عن

التعامل مع المنطقة العربية والإسلامية؛ ولهذا لم تكن زلّة لسان من بوش ولم تكن

مسألة طفرية. ويقال إن أول تقرير قرأه بوش بعد ولايته للحكم هو هذا التقرير

واستدعى الكثيرين ليناقشهم فيه.

الملاحظة الأخيرة: حول ما تشهده المنطقة العربية من تبديد للمفاهيم؛ وهذا

التبديد يتم على مستوى الفكر ومستوى الحركة. هذا التبديد أريد منه أن يخدم

التحول الذي حدث في السياسة الخارجية الأمريكية عبر تفريغ الألفاظ من معانيها

ودلالتها الشرعية المعرفية والمنهجية والموضوعية كما عرفناها في تاريخنا وتراثنا

وحاضرنا.

- د. حامد: بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمد لله والصلاة والسلام على

رسول الله ومن والاه، وبعد: في البداية أسجل اتفاقي حول النقطة المحورية بأن ما

حدث في سبتمبر لا يمثل لحظة انقطاع؛ فالمسألة السياسة لا تعرف إلا الاستمرارية؛

لكن كل ما أستطيع أن أقوله بالنسبة لهذه اللحظة أنها ربما أضافت أمرين:

1 - أن المتغيرات فيها كانت متسارعة من الناحية الكمية، وظن كثيرٌ من

الناس أنها تمثل نقلة نوعية.

2 - أن هذه اللحظة أفصحت وأبانت عن كثير من السياسات التي كان

السياسيون يحرصون على سترها في الماضي، فظن كثير من الذين لا يتعمقون

وراء الأحداث أنها جديدة.

وأضيف أنها لحظة تراكمت فيها المتغيرات وتسارعت بدرجة كبيرة قياساً

على اللحظات السابقة؛ فالحدث لم يكن هيناً، كما أفصح فيها كثير من الأطراف

عن سياساتهم بدرجة من الدرجات (أو أزالت برقع الحياء) مما جعلها لحظة أزمة

حقيقية بكل معاني مفهوم الأزمة.

سأركز على ثلاثة ملاحظات تؤكد على هذا المعنى:

الملاحظة الأولى: أن المنطقة العربية ككل ذات أهمية استراتيجية بالغة في

النظام الدولي أياً كانت القوة التي تُهيمن على النظام الدولي، ومن ثم فأي محاولة

لعزل هذه المنطقة عن النظام الدولي، أو تصور تفسير أحداثها بعيداً عن القوى

المهيمنة في النظام الدولي هي محاولة عابثة، وأتصور أن جزءاً كبيراً من سياسات

هذه المنطقة في الوقت الراهن لا يمكن أن يُفسر بمعزل عن استراتيجية الولايات

المتحدة الأمريكية، وأتصور أن هذا له على الأقل في الماضي وفي الحاضر عدة

تفسيرات:

الأول: أن هذه المنطقة تمثل الند الحضاري للغرب الذي قادته بريطانيا في

مرحلة، وفرنسا في مرحلة، وتقوده الولايات المتحدة الأمريكية في مرحلة أخرى.

العقلية الغربية ما زالت على مستوى الشعوب والقيادات لم تنس أن هذه

الحضارة هي التي تملك البديل المحتمل لها، كما أن ذكريات الصدام المرير مع هذه

الحضارة ما زالت موجودة في الذاكرة الأوربية.

- د. أحمد: كأن أحد مسوغات هذا الموقف الأمريكي والغربي هو إحساسهم

وشعورهم بأننا أصحاب مشروع حضاري لا يقل عن مشروعهم إن لم يكن يفوقه،

ومن ثم هذا تفسير لهذا الموقف تجاه العرب والمسلمين خاصةً.

- د. حامد: نعم! وهو ما أفصحت عنه لحظة سبتمبر في الخطاب السياسي

للقيادات، وفي الوعي لدى النخب السياسية وصُنَّاع القرار، وأكدته ممارسة

المفكرين وغيرهم؛ هذا الجزء الحضاري يؤكد الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة.

الثاني: هو النقطة الدفاعية العسكرية، والذي يؤكد الأهمية الاستراتيجية لهذه

المنطقة؛ فالمنطقة العربية تمثل خط الدفاع الأول بالنسبة لأوروبا وللولايات المتحدة

الأمريكية؛ حيث إنها تفصلها عن الصين وأيضاً عن أفريقيا وآسيا.

الثالث: الجانب الاقتصادي؛ فالمنطقة العربية تبرز أهميتها الاستراتيجية بما

هي غنية به ليس فقط البترول وإنما موارد أخرى تؤكد الأهمية الاقتصادية للمنطقة

العربية. وأهمية المنطقة كمنطقة وصل بالعالم القديم ككل. كل ذلك يؤكد الأهمية

الاستراتيجية للمنطقة العربية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية فيما مضى، وزاد

إدراك ذلك وأفصح عنه أحداث سبتمبر.. هذه هي الملاحظة الأولى.

الملاحظة الثانية: وهي أيضاً قديمة جديدة وتتعلق بدور الكيان الصهيوني في

معادلة توازن المصالح والصراع والتوازن الاستراتيجي في المنطقة من قبل أحداث

سبتمبر؛ فالصراع العربي الإسرائيلي أو الصراع الإسلامي الغربي في فلسطين هو

في حقيقته امتداد لجهاد المنطقة ضد الاستعمار الغربي فيما مضى: ضد فرنسا

وإنجلترا في مرحلة من المراحل، ثم الولايات المتحدة الأمريكية التي ورثت هذا في

مرحلة ثانية؛ ولذلك فمن الطبيعي أن قوى التحرر التي حررت بلادها في موجة

التحرير الأولى هي في حقيقتها القوى التي تقف اليوم وقفة حقيقية ضد الاستعمار

الأمريكي وضد إسرائيل، هذه القوى كانت تستمد مشاريعها الجهادية والتغيرية من

الإسلام في الأساس؛ صحيح أن ثمرته سُرقت بعد ذلك، لكن عندما عاد الاستعمار

مرة أخرى في الثياب الأمريكية، وقفت هذه القوى من جديد ضد السياسة الأمريكية،

وهي تعتبر القضية المركزية لها قضية الوجود الصهيوني. أما عن سياسة الولايات

المتحدة الأمريكية في مساندة إسرائيل فإنها لم تتغير في حقيقة الأمر عما كانت

تسانده القوى، بل ربما ازدادت.

الملاحظة الثالثة والأخيرة: وهي تتكامل مع الملاحظتين السابقتين أن

تداعيات سبتمبر كما ذكرت وعلى رأسها مسألة التحكم في الإرادة العربية وتدعيم

أدوات النفوذ الأمريكي في المنطقة، ولهذا فإن السياسة الأمريكية في المرحلة

الحالية تسعى بشكل واضح للتحكم في الإرادة العربية والإسلامية من خلال مسالك

متعددة وضعت بشكل جيد، ويجب أن نرصدها بشكل علمي لتجعل كمقدمة

للتحديات التي سنتناولها.

- أ. طلعت: أشكركم على هذه الدعوة الكريمة، وسط هذه الكوكبة اللامعة

من نخبة العقول المثقفة المفكرة. ليسمح لي الأساتذة الأفاضل، بأن أطرح بعض

الملاحظات التي تأتي في معظمها تعزيزاً لما ذكروه.

الملاحظة الأولى: مع اتفاقي على فكرة الثوابت والأهداف والمرامي

الأمريكية استراتيجياً تجاه عالمنا العربي والإسلامي، ومع اتفاقي من ناحية المبدأ

على أن الاستراتيجية الأمريكية في هذه المرحلة هي امتداد لفكر استراتيجي مرتب

ومبرمج قبل وقوع أحداث 11 سبتمبر، لكن إكمال الصورة وجعل الاستنتاجات

معبرة عن مختلف جوانب الموقف يتطلب تخطي فكرة «الثبات والاستمرارية» ،

ويتطلب الإجابة عن سؤال رئيسي هو: هل تنطلق الولايات المتحدة في إطار

(الحلف الأمريكي البريطاني الصهيوني) من وضع هجومي قوي، أم أنها تنطلق

من وضع دفاعي، حتى ولو كانت تتحرك هجومياً؟ أو بتعبير أدق وبطريقة أخرى:

هل جاءت استراتيجيتها قبل وبعد 11 سبتمبر من موقع الهجوم الاستراتيجي في

منطقتنا (والعالم) بهدف تعزيز هيمنتها وانتصاراتها، أم لقطع الطريق على

تحولات استراتيجية أو ذات ملامح وأفق استراتيجي إذا ما استمرت في سيرها،

فإن النتيجة ستكون الإطاحة بهيمنتها وفرض نفسها كقطب وحيد في العالم، أو

كحكومة للعالم؟

إن لهذا السؤال أهمية قصوى في تقدير الموقف وفي تحديد استراتيجيات

المواجهة. وأنا أرى هنا أن التحالف (الأمريكي - البريطاني - الصهيوني) ،

ينطلق في مواقفه وتحركاته وخططه، من تقدير استراتيجي بتآكل سريع لوضع

هيمنة القطب الواحد عالمياً، سواء بسبب الظهور المتنامي للقطب الأوروبي

(أوروبا الموحدة) أو لتصاعد القدرات الاستراتيجية (العسكرية والاقتصادية)

للقطب الصيني، أو لشعوره بنمو أو ما يشبه الحركة داخل العالم العربي والعالم

الإسلامي، أو لمجرد أسباب ذاتية.

ومن ثم فإن الحلف الأمريكي البريطاني الصهيوني، قبل 11 سبتمبر لم يكن

يتحرك وينطلق من موقع أو استراتيجية الهجوم، لإكمال السيطرة والهيمنة (كما

كان الحال في حالة الحرب ضد العراق في عام 1990م بشكل خاص) ولكن من

موقع واستراتيجية الهجوم الدفاعي في مواجهة تراجعها كقطب مهيمن ومسيطر.

الملاحظة الثانية: إن أهمية أحداث 11 سبتمبر، وتحليلها في إطار الإجابة

عن السؤال السابق لها وجهان أو اتجاهان: الأول ما أشار إليه السادة المتحدثون،

أي فكرة ضرب الولايات المتحدة على أراضيها، والثاني الذي أضيفه، هو أنها

تأتي تطويراً للمواجهات معها ومع الحلف الصهيوني البريطاني من الخارج لتمتد

إلى الداخل في العمق الاستراتيجي، وهو ما يشير إلى الانكشاف الاستراتيجي

الأمريكي - بنفس حالة الكيان الصهيوني الآن - ويؤكد ملامح التراجع الاستراتيجي

للحلف، والنهوض والهجوم العربي والإسلامي وليس العكس.

الملاحظة الثالثة: آتي هنا إلى ملاحظة يبدو لي أنها ذات طابع خلافي؛

حيث أرى أن ثمة تغيراً حقيقياً في التوجهات الاستراتيجية الأمريكية في العالم وتجاه

العرب والمسلمين على وجه الخصوص، كانت ملامحها خافتة قبل أحداث

11 سبتمبر، وانجلت وأصبحت سافرة بعد هذه الأحداث، وأن ما نراه أمامنا

من تحركات أمريكية ليس تغيراً فقط في أسلوب المواجهة، أي استخدام القوة

العسكرية، ومن تدخل سافر في الشؤون العقدية والحضارية، وفي الأوضاع

الداخلية ... ، وإنما هو تغير يقوم على أن هذا الحلف بات يضع الصراع مع

العرب والمسلمين كهدف استراتيجي له أولوية وأكثر إلحاحاً بالمواجهة في الوقت

الراهن، ينبغي تسكين الصراعات الأخرى لمصلحة تحقيق الانتصار فيه، وإن

أبرز صفات هذا التغير الاستراتيجي هو اعتماد أسلوب المواجهة العسكرية والتهديد

بها مع العرب والمسلمين «ككل» ، و «مجموع» وليس كدول متفرقة ينبغي

كسب بعضها باستخدام الوسائل الاقتصادية لتسهيل عمليات ضرب البعض الآخر

كما كان يحدث من قبل، ويتم ذلك تحت شعار عام هو مواجهة الإرهاب

(الإسلامي) .

* وقفة مع الحدث:

البيان: ربما كان الخلاف في هذه القضية من قبيل الاختلاف الاصطلاحي،

ولهذا نريد أن ننقل الكلام إلى طبيعة الآثار التي نجمت عن هذا الحدث العظيم،

ولعل منها هو انقلاب موازين العديد من المفاهيم والتي على رأسها مفهوم الأمن

القومي.

- د. أحمد: إن ما حدث في سبتمبر لو حدث بالنسبة لأي دولة أخرى فمن

الممكن أن نقلل من شأنه؛ لكن هذا الحدث بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية لا

يمكن التقليل من شأنه.

- د. حامد: لم تواجه الولايات المتحدة الأمريكية منذ الحرب الثانية عام

1945م خطراً داخلياً، ولم تواجه حرباً ما أو عملاً ما على الأرض الأمريكية،

وكان الذهن الأمريكي غير مهيأ على الإطلاق لأن تواجه الولايات المتحدة حدثاً

بمثل هذه القوة وهذا التحدي على الأرض الأمريكية؛ وهذا هو الذي زاد من تأثير

الحدث على السياسة الأمريكية وعلى الذهنية الأمريكية؛ لم تشهد في تاريخها، ولم

تكن تتصور أنه سوف يحدث لها مثل ما حدث.

البيان: وكأن التقنية تحولت في يد الأفراد إلى قيد كبير على سياسات الدول!

- د. مصطفى: طبعاً على قدر المكان وعلى قدر المكانة كان هذا التداعي

الخطير. ولهذا ينبغي ألا نقلل من شأن الحدث لا بالنسبة للولايات المتحدة ولا

بالنسبة للتداعيات عندنا في المنطقة العربية، وأرصد أولاً أن الولايات المتحدة

وربما الغرب تحالف معها توقفوا كثيراً عند: من الذي أحدث الحدث؟ أكثر من

التوقف عند: لماذا حدث؟ وهذا في حقيقة الأمر يثير مسألة في غاية الأهمية: هل

الذي حدث سببه الإرهاب كما يزعمون؟ أو هل الذي حدث مرتبط بمسألة التوزيع

العادل لقيم الاقتصاد والسياسة في العالم؟ أو مرتبط بازدواجية الدور الأمريكي في

مسألة حقوق الإنسان؟ هل مرتبط برفض العولمة في صورتها الأمريكية؟ هل

مرتبط بالقدس والقضية الفلسطينية كما قال بعض أعضاء تنظيم القاعدة؟ هل..

هل..؟ إن هناك تعامٍياً بشكل أو آخر عن: ما السبب؟ وهذه مسألة في غاية

الأهمية إلى الآن.

* الملامح الأساسية للسياسة الأمريكية بعد أحداث سبتمبر:

البيان: وكيف نقرأ التطورات التي استجدت على السياسة الخارجية للولايات

المتحدة بعد سبتمبر؟

- أ. طلعت: لعل مما يفسر ذلك أن هذه هي المرة الأولى منذ حركة بيرل

هاربر التي تُضرب فيها الولايات المتحدة على أرضها، وهو ما يعني أن نظرية

الأمن القومي الأمريكي المستقرة منذ نشأة أمريكا، قد ضربت في مقتل؛ فإن ثمة

ضرورة لإدراك حجم التأثير لهذه الضربة على الوضع الدولي لأمريكا، وحجم

الارتباك الاستراتيجي الحادث للخطط الأمريكية، وحجم الدمار الذي أصيب به

الاقتصاد الأمريكي، وحجم الهزيمة النفسية التي أصيب بها الجيش الأمريكي

والنخب الأمريكية، بعد ضرب البنتاجون ومركز التجارة وما قيل عن محاولة

ضرب البيت الأبيض.

ومن ثم فإن قراءة التحرك الأمريكي البريطاني الصهيوني، الهستيري

والمجنون لا يفسر فقط بثوابت الأهداف والمرامي، بل يفسر أيضاً بأنها وصلت حد

الارتباك في استراتيجيتها في مواجهة العالم العربي والإسلامي. إن الحالة الفاشية،

والاضطرار لتخطي كل الأساليب الديبلوماسية والخداع في التعامل مع العرب

والمسلمين، وصراعها المكشوف بصدد هذه القضية في بعض الأحيان وطرح

شعارات مثل: (معنا أو ضدنا) ليس مؤشراً على القوة الكاسحة تكنولوجياً، بل

أيضاً بأنه عنوان للارتباك والشعور المتنامي بالتراجع، بما اضطرها لاستخدام

قواها الاسترتيجية العسكرية للمواجهة مع الخصوم لعدم قدرتها تحقيق النجاح

بالوسائل الأخرى.

- د. مصطفى: لا شك أن الحدث شديد وجديد، وأحدث هزة كبيرة،

وأصاب السياسة الخارجية الأمريكية وصانعي القرار بهزة عميقة.

الذي أريد أن أرصده هنا أولاً: أن الولايات المتحدة الأمريكية بعد أحداث

سبتمبر نستطيع أن تميز بين مسلكين أو قيمتين كبريين في سياستها الخارجية مع

المنطقة العربية:

القيمة الأولى: أنه صار ينظر إلى قضية المنطقة العربية وما يعتريها من

مشاكل وقضية الصراع العربي الإسرائيلي والوضع في فلسطين على أنه ليس في

أولويات السياسة الأمريكية؛ فمثلاً قضية ضرب الرئيس صدام حسين وقضية

العراق في أولويات السياسة الخارجية الأمريكية، وقضية فلسطين وما يجري في

الأرض المحتلة قضية أصبحت في هامش الشعور بالنسبة لهم.

البيان: كأن القضية أن استرضاء العرب ومراعاة مصالحهم هو الذي لم يعد

في الأولوية!

- د. مصطفى: نعم هذا الذي أعنيه!

أما القيمة الثانية: (إن جاز تسميتها قيمة) أن هناك حيرة وتناقضاً في

السياسة الخارجية الأمريكية، وهذه الحيرة والتناقض لم يرصدها فقط المثقفون

والكُتاب العرب، وإنما رصدها من في داخل البيت الأمريكي؛ فهذا فولر على

سبيل المثال يسجل على الولايات المتحدة هذا التناقض وهذه الحيرة حول الموقف

من فلسطين: هل نضرب عرفات ونلغيه، أم نُبقي عليه لأن الصوت العربي يقول:

عرفات هو البديل وأن البدائل الأخرى ... ؟!! إلخ.

هناك اضطراب وقلق وهناك تناقض، وهذا يعطي فرصة للحركة العربية.

كيفية استثمار هذا التناقض إن جاز تسميته تناقضاً.

البيان: ربما يرجع ذلك إلى ما أشار إليه بعض المحللين من أن أمريكا تعاني

من أزمة استراتيجية بعد انتهاء الحرب الباردة، بمعنى أنه لم يعد لديها

استراتيجية واضحة وكاملة وذات هدف واحد كما كان الحال إبان الحرب الباردة،

ومن ثم فهي تتعامل مع كل طرف وفق استراتيجية مفتوحة قائمة على التجريب

أكثر منها قياماً على الرؤية المستقبلية.

- أ. طلعت: هذا يؤكد تماماً ما أشير إليه من أن الاستراتيجية الأمريكية

تعاني من حالة تخبط ودوار غير مسبوق، ومن ثم فهي تتحرك حركة مختلة تنم

عن فكر مختل، ولعل من أسباب ذلك أنها تواجه عدواً هلامياً وعقدياً، يصعب

ضربه أو اختراقه، ويمكن أن يتشكل في صور مزعجة ودون إمكان رصده، وهو

ما يعني بالتعبير العامي: «مرغمة أنف العزة الأمريكية» .

- د. مصطفى: أعود فأكمل: يمكن كذلك أن نرصد توسعاً كبيراً في مفهوم

الأمن القومي الأمريكي بصورة فجة؛ هذا التوسع يطرح عدة تساؤلات: ما تكاليفه؟

وما هي تداعياته على المنطقة العربية؟ .. وهل سوف تسهم المنطقة العربية في

تمويله؟ وهل سوف تشغل آلة الحرب الموجودة وتستخدم بعض الدول كقواعد

ومسهلات؟

المسألة تهمنا من قريب ومن بعيد؛ فما يحدث في فلسطين يمسنا، والذي

يحدث في أفغانستان يمسنا، والذي يحدث في دول (محور الشر) يمسنا، ومن

الواضح أن المنطقة العربية تؤجل كل خلافاتها وصراعاتها الداخلية كي تستجيب لما

يحدث، وهذا يفرض تحديات.

أيضاً أرصد نقطة رابعة وهي لون من تغوُّل العولمة وهي العولمة العسكرية

وما قيل إن الحرب لا تعرف الجغرافيا، ومعنى هذا أنه مسألة (Geopolitic)

كما يقولون أصبحت منزوية قليلاً، لحساب الآله التكنولوجية والصناعية الغربية

التي سوف تتخطى كل الحدود، وهذا يمثل أحد تداعيات العولمة وما يكمل مفهومها.

لم يعد مسموحاً بفكرة ما تريده أنت؟ أو أنت ترفض أم لا؟ إنما ما أريده أنا

وفقاً للتصنيف الذي يقضي بـ: (إما معي في مكافحة الإرهاب، وإما ضدي في

مكافحة الإرهاب) .

أيضاً أرصد ظاهرة أن هناك قدراً من تنسيق المواقف لا نقول التحالف بين

رجال الفكر ورجال الحركة في العقلية الأمريكية وبالذات بعد أحداث سبتمبر وهو

واضح في استدعاء فكرة مثل صراع الحضارات، وما ورد في بيان المثقفين

الأمريكيين، وهذه ظاهرة نعاني من عكسها في المنطقة العربية.

- الدكتور حامد: إذا كان لي أن أرصد كما فعل أخي الدكتور مصطفى بعض

الملامح قبل أن أجيب عن سؤال حضرتك بعض الملامح الأساسية للسياسة فيما بعد

أحداث سبتمبر فأريد أن أتطرق إلى ستة متغيرات أساسية أو ستة ملامح أساسية:

الملمح الأول: الذي لاحظته بعد أحداث سبتمبر أن هناك درجة متعاظمة أو

متعالية من سيادة منطق الخضوع للإرادة الأمريكية يتساوى بدرجات متفاوتة في

ذلك العالم العربي والإسلامي، وحتى أوروبا بالنسبة للعالم العربي والإسلامي

أستطيع أن أقول إن القرار السياسي الاستراتيجي في معظم القضايا في العالم

العربي والإسلامي تحدده الإرادة الأمريكية في الوقت الراهن، هذا واضح جداً

بالنسبة للقضية الفلسطينية، حتى إن البعض يصف بعض بلدان هذه المنطقة كأنها

مخطوفة.. بلاد مخطوفة للإرادة الأمريكية أو مستلبة أو ما شاكل ذلك.

نشرت (الليموند) منذ حوالي ستة أشهر مقالاً بعنوان: (كلنا أمريكيون)

هذه هي فرنسا! صحيح حدث بعد ذلك نوع من المراجعة في الفترة الأخيرة، لكن

الموقف الأوروبي في فترة ما بعد أحداث سبتمبر تقارب بدرجة لم يعرفها تاريخ

الحضارات الأوروبية الأمريكية خصوصاً إزاء قضايا المنطقة؛ فهناك درجة عالية

جداً من الخضوع للمنطق الأمريكي. وفي ضوء ذلك نستطيع أن نفهم خضوع

السياسة البريطانية. السياسة البريطانية حتى الساسة البريطانيون يصفون (بلير)

بأنه «ذيل الكلب» بنفس التعبير.

الملمح الثاني: هو ازدياد دور أجهزة الأمن والمخابرات. ترصد مثلاً حجم

مبيعات آلات التخابر البسيطة والتي تباع في شوارع لندن، نجد أنها تضاعفت

حوالي 21 أو 31 مرة.. الميزانيات الضخمة التي تُخصص لأجهزة الاستخبارات

والأمن على المستوى العالمي حتى إن القضايا السياسية أصبحت تناقش داخل أروقة

المخابرات. مثلاً: كان القرار السياسي الخاص بالمنطقة العربية من قبل يصنع في

الكونجرس أو في مؤسسة الرئاسة، ثم انتقلت لوزارة الخارجية الأمريكية في فترة

من الفترات، ثم انتقلت من وزارة الخارجية إلى المخابرات الأمريكية، ولذلك من

الذي يناقش الآن قضايا السياسة الأمريكية في المنطقة، ومن الذي يرسل سواء هنا

أو هناك؟ فهذا يعكس تنامي الدور الأمني بالمعنى المباشر على حساب الدور

السياسي الأمني المؤسسي.

- د. مصطفى: أضف إلى ذلك أن هناك اختراقاً بشكل أو آخر لدور

مخابرات الأمن الأمريكي في المنطقة العربية.

- د. حامد: ليس اختراقاً. أنا أتصور أن هناك تنسيقاً من فترة طويلة..

التنسيق هذا في المرحلة الحالية وصل إلى درجة العلاقة العضوية. تراجعت

السياسة لصالح الأمن؛ وهذه تداعياتها خطيرة لماذا؛ لأن الأمن بحكم العقلية الأمنية،

والعقل الأمني غير العقل السياسي. العقل السياسي يمكن أن يُشغل بمنطق الحق

والحقوق والعدل وكذا وكذا ... لكن العقل الأمني وقتي وآني ويهمه توازن القوى

الموجودة على الأرض والمصلحة المباشرة.

الملمح الثالث: هو ارتفاع حدة وموجة العداء الشعبي للولايات المتحدة

الأمريكية بعد أن كانت تمثل نموذج العالم الحر ونموذج القيم الديمقراطية. طرح

بعد أحداث سبتمبر سؤال محوري: لماذا يكرهوننا؟ أدركت أمريكا أن الشعوب

العربية والإسلامية على خلاف الأنظمة. هناك موجة عالية من الكراهية للنموذج

الأمريكي لأمريكا؛ حتى إن حزب أمريكا أو مناصري أمريكا بدؤوا يتخفون.

الذي حدث في هذه النقطة تحديداً نوع من الالتحام بين ما يمكن أن أسميه قوى

الرأي العام العربي والإسلامي مع قوى أخرى في الغرب وفي غير الغرب لها

مواقف مناهضة للولايات المتحدة الأمريكية.

مثلاً بقايا الاشتراكيين واليساريين، مناهضو العولمة، أضرب مثلاً:

المظاهرة المليونية التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية ما هي القوى التي كانت

تشارك فيها؟

لا يمثل العرب والمسلمون فيها أكثر من خمس أو سدس المشاركين والباقي

قوى أحزاب يربطها عداء الولايات المتحدة الأمريكية، وهذه هي القوى الفاعلة في

الساحة الأوروبية. حتى أنا رأيت المظاهرات الموجودة في لندن، ورأيت

المظاهرات الموجودة في برلين: تشهد كلها بارتفاع موجة عداء عالمي للسياسة

الأمريكية.

ما حدث في دربن مثلاً في جنوب أفريقيا. إذن أيضاً أحد الصفات الأساسية

التي يمكن ألا تواري خضوع الحكومات والأنظمة السياسية الأمريكية أن هناك

رفضاً شعبياً حقيقياً متعدد الجذور ومتعدد المشارب للسياسة الأمريكية، وهو تنامٍ

ليس وقتياً ولكنه مستمر.

الملمح الرابع: أتصور أن السياسة الأمريكية سوف تقوم على نشر

الصراعات المنخفضة الحدة Limited wars بمعنى أنها سوف تفجر نقاط التوتر

في العالم التي كانوا يسمونها في الستينيات (حروب الوكالة) .

وأنا أتصور أن هذه سمة بدأت في أفغانستان، وتسير في فلسطين، وسوف

تستمر في الفترة القادمة. لا أتصور أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تتورط

في حرب كبيرة أو مفتوحة؛ لكن سوف تلجأ للحروب منخفضة الحدة أو صراعات

منخفضة الحدة وحروب الوكالة.

وذلك له أسباب كثيرة منها أن الولايات المتحدة الأمريكية لها خبرة في

الصراعات الكبرى والصراعات متوسطة الحدة، وليس لديها خبرة في الصراعات

منخفضة الحدة.

- د. مصطفى: أنا بالطبع هنا بين أمرين:

الأمر الأول: أن هذه الحروب سوف تنفجر وهي تحاول أن تضعها في حيز

الحروب المحدودة، هل لأن هذا جزء من الاستراتيجية الأمريكية؟ أتصور ذلك.

منها إذكاء هذه الصراعات لكي يحدث نوع من الاستهلاك الذاتي للقوة الإقليمية.

شيء آخر: الذي هو تجريب صناعة السلاح، بالإضافة إلى الحرص على

عدم إقحام المواطن الأمريكي نفسه والتضحية به فيما لا فائدة بالنسبة له، وحرب

الخليج الأولى هي نوع من أنواع حروب الوكالة.

- د. حامد: الملمح قبل الأخير الذي أتصوره: أننا في طور تصفية القضية

الفلسطينية، مسألة التسوية السياسية أن هناك إرادة أمريكية تتوافق مع الإرادة

الإسرائيلية على تصفية القضية الفلسطينية، أتصور أن المنطقة العربية الآن في

أضعف مراحلها، والإرادة العربية لديها استعداد أن تقبل أي شيء؛ فأتصور أن

أمريكا وإسرائيل الآن كل ما في الأمر أنهم يعصرون هذه الإرادة وتلك القيادات

حتى تقبل بأدنى سقف ممكن وهي مهيأة، وأرجو أن أكون مخطئاً في أن هذا

الظرف هو ظرف مواتٍ جداً لهم.

العقبة الأساسية والعقبة الحقيقية هي الانتفاضة؛ منذ فترة نشرت جريدة

(الجارديان) مخططاً للتوازن بين إسرائيل والفلسطينيين من حيث القوى؛ فوضع

أوجه المقارنة من حيث الأسلحة: إسرائيل رقم مثلاً 230 والفلسطينيون صفر..

والقوات: إسرائيل رقم كذا والفلسطينيون صفر.. والقنابل النووية كذا

والفلسطينيون صفر.. وفي تلك المقارنة وضع حوالي 16 نقطة؛ فكل ما يخص

الفلسطينيين صفر. ثم وضع الاستشهاديين في المقارنة، فوضع إسرائيل صفر

ووضع أمام الفلسطينيين ما يسمى عدد لا نهائي، وعلق المحلل أن هذا هو عنصر

التوازن.

ولهذا فالشيء الأساسي الذي يعوق على المستوى الاستراتيجي من تصفية

القضية الفلسطينية هو هذا العنصر الوحيد ليس بمعنى فعله، ولكن حتى وجود

إرادة لكي يظل أحد عناصر المعادلة في المنطقة كعنصر أساسي ومستمر.

ولذلك سوف تجد في الفترة القادمة وبما يظهر تكالباً شديداً على أنه يُحجب،

يشوه، يصفى، يلوث سواء على المستوى الرسمي أو الديني، ويحصل تبديل

للمفهوم.

- د. مصطفى: مسألة الاستشهاد لم تعد قاصرة على فلسطين؛ المسألة هنا

أن النوع في الاستشهاد كثر، المسألة الثانية أن المنطقة في الاستشهاد تعددت،

وأيضاً حركة ووجهة الاستشهاد أيضاً قد تغيرت مثلما تذكر حضرتك لا تكون

الأرض المحتلة فقط هي مجال حركة الاستشهاد، بل ربما تنتقل المسألة من كونها

مجرد حركة استشهاد نحو أهداف إسرائيلية سواء مدنية أو عسكرية إلى أهداف

أمريكية وبريطانية، بل قد تتجاوز ذلك إلى أكثر. هذا السلاح لا يستطيع أن

يواجهه سلاح نووي ولا تقليدي.

- أ. طلعت: لعل الدكتور حامد يقصد بتصفية القضية الفلسطينية محاولة

الحلف الصهيوني تصفية القضية، وليس تصفية القضية.

- د. حامد: نعم!

- أ. طلعت: ولكن أرى حتى تتزن الصورة ينبغي أن يقال إن المنطقة

ليست في أضعف حالاتها، وإن القضية الفلسطينية في أقوى حالاتها رغم ما

تتعرض له من مؤامرات ومحاولات لسحقها، ولتأذن لي أن أخالفك الرأي بأن

الصهاينة (والحلف) ليسوا هم الذين يعصروننا، واختلافي هو أنني أرى أن

المشروع الصهيوني هو الذي يتعرض الآن لأخطر درجات التهديد التي لم تحدث له

منذ عام 1948م وحتى الآن، وأنه هو المعرض للتصفية والتفكيك أو لهزيمة

استراتيجية (قد لا تكون شاملة في هذه المرحلة) ، وأنه يعاني من تراجعات

خطيرة، تصاعدت وتيرتها في المرحلة الراهنة، وهذا هو دافع من دوافع التحرك

الهستيري الجنوني، للتحالف الصهيوني الأمريكي باستخدام الحرب المباشرة

والمكثفة، ولدخول الولايات المتحدة بشكل سافر ومباشر في الصراع، بما يمثل

تغييراً في استراتيجيتها السابقة في التحرك كوسيط للسلام، بل أصل لاحتمالات

إشعال حرب في المنطقة باتجاه سوريا لإعادة تعديل التوازنات في المنطقة.

فالمرحلة الأخيرة في الصراع شهدت انكسارات هامة للاستراتيجية الصهيونية

ولنظريات الأمن والقتال؛ حيث يجري القتال داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة

عام 1967م، وداخل الكيان الصهيوني في الأراضي المحتلة عام 1948م وتحت

تهديد بقصف لشمال فلسطين المحتلة عام 1948م من قبل قوات حزب الله، وهو ما

وجه ضربة لنظريات نقل المعارك خارج الأراضي المحتلة، وكما ذكرت فإن

الوضع الراهن، حمل ملامح لتوازن الرعب بين العرب والكيان الصهيوني، بقدر

معقول، وتجربة الجنوب اللبناني ماثلة، بل إن الصراع الذي يجري الآن على

الأراضي الفلسطينية، كلها، هو تطور استراتيجي ولا شك يحدث للمرة الأولى منذ

عام 1948م، وباستعراض مسيرة الصراع منذ حرب أكتوبر، ومروراً بالاندحار

الصهيوني من جنوب لبنان ووصولاً للقتال على الأرض الفلسطينية، فإن الصورة

الاستراتيجية البالغة التعقيد والتركيب، تشير في النهاية إلى أن المشروع الصهيوني

يتراجع ولا يتقدم في الصراع؛ حيث وصل الكيان الصهيوني إلى ذورة مشروعه

في عام 1967م، ومن وقتها وحتى الآن - وعبر طريق متعرج - فإنه في منحنى

هابط. كما أنه وبعيداً عن لعبة الديبلوماسية والتعرجات الحادة في الصراع والشدة

البالغة القسوة فيما جرى ويجري، فإن مجرد طرح فكرة قيام دولة فلسطينية تحت

ضربات المقاومة وفي ظل استمرار وتصاعد الإرادة الفلسطينية على التحرير، فإنه

يمثل انتصاراً «من حيث المبدأ» . وإن مقاومة هذا الطرح الصهيوني والأمريكي

بأوسلو ومدريد وغزة وأريحا يظهر مدى التراجع الصهيوني، وإذا كان هذا

الطرح بطبيعة الحال لا يمثل أهداف الأمة وثوابتها، فإنه يمثل تراجعاً صهيونياً

وأمريكياً، أيما كانت أهداف هذا التراجع.

وهو أمر يتطلب تشديد الهجوم وتطويره.

- د. حامد: لكن هذا لا ينفي التهاوي على المستوى العربي والضغوط التي

تمارس أمريكياً وغربياً وبصورة يومية من أجل تخفيض الاستحقاقات العربية..

ولا أطيل، وأعود إلى الملمح الأخير الذي يمكن أن يكشف لنا عن كنه التصفية

المأمولة غربياً والتي تدور حول الجذر الذي تنبع منه ثقافة الاستشهاد وهو الإسلام

ومن يحمل فكرة الإسلام. فأنا أتصور حتى لو سموه إرهاباً، أو أي مسمى آخر

فأتصور أن العدو الأساسي في الاستراتيجية الأمريكية وفي استراتيجية الأنظمة

المتحالفة معها حتى المرحلة القادمة ينكشف عنه بدرجات متفاوتة أنه هو الفكرة

الإسلامية.

على سبيل المثال أتصور أن هذه السياسة سيكون لها ثلاثة محاور:

- د. أحمد: أعتبر أن أحداث 11 سبتمبر في تقديري كشفت عن شيئين

مهمين يجب أن نهتم بهما وهما:

الشيء الأول: هو مدى قابلية الولايات المتحدة للاختراق؛ ورغم كل ما يقال

إن قيل وسيقال عن تحذيرات أو غيرها إلا أن الولايات المتحدة اختُرِقت من داخلها

في أحصن مواقعها، وووجهت بضربات عنيفة يمكن أن تكون لأول مرة في

تاريخها، كما قال الدكتور حامد يمكن المرة الوحيدة التي تعرضت فيها الولايات

المتحدة بشكل مباشر في ضرب (بير هاربر) في اليابان، وإنما قبل ذلك وحتى

11 سبتمبر ظل المواطن الأمريكي يشعر بأنه المواطن الآمن الوحيد على مستوى

العالم.

الشيء الثاني: خاص بكشف زيف التجربة الأمريكية في الديمقراطية وحقوق

الإنسان. قضية حقوق الإنسان شعارات تُصدر للخارج، وإنما داخل الولايات

المتحدة صحيح هم يتمتعون لا شك بقدر من حقوق الإنسان، وإنما بعد الأحداث

سمعنا من فترة قريبة عن مسؤولين أمريكيين يتحدثون عن التصنت على كل شيء؛

المكالمات التلفونية، والحسابات الخاصة، وصناديق البريد الإلكتروني ...

يهمني أن أشير هنا إلى موقف الولايات المتحدة الحقيقي فيما يتعلق بقضايا

حقوق الإنسان. الولايات المتحدة الأمريكية تستخدمها كإحدى الأدوات في إدارة

سياستها الخارجية، وإنما سجل الولايات المتحدة في مجال حقوق الإنسان هو سجل

غير مشرف بالمرة؛ كيف؟ يكفي أن نستعرض موقف الولايات المتحدة الأمريكية

من الاتفاقيات والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان.

الولايات المتحدة الأمريكية إما رافضة للتوقيع أو التصديق والانضمام إلى تلك

المواثيق، وإما ممتنعة تماماً عن اتخاذ موقف. وأذكر حضراتكم بالواقعة الأخيرة

التي هي انسحاب الولايات المتحدة (سحب توقيعها) على النظام الأساسي للمحكمة

الجنائية الدولية. إذن علينا أن نبرز هذا، ولو قام أحد الباحثين بالتسجيل في هذا

الموضوع فسيكشف عن حقائق مذهلة عن أن هذا الموضوع هو موضوع موجه

للآخرين لكي يستخدم استخداماً سياسياً.

- د. مصطفى: هذا وداخل الولايات المتحدة قضايا حقوق الإنسان حولها

كلام كثير (التمييز في حقوق المرأة التمييز بين الأجناس قوانين الاشتباه الأخيرة

وغير ذلك) .

- د. أحمد: وما تعرض له العرب والمسلمون أيضاً..

* موقع العرب من الاستراتيجية الأمريكية:

البيان: أنتقل إلى نقطة أخرى لنعالج تساؤلاً يطرح نفسه عند الحديث عن

تطورات ما بعد سبتمبر وتأثيرها على موقع المنطقة العربية من الاستراتيجية

الأمريكية والدولية من حيث إنها منطقة مستهدفة، هل حدث تغير؟

- د. أحمد: نحن لنا موقع أساسي ومتميز في الاستراتيجية الأمريكية

باعتبار الولايات المتحدة دولة كبرى وتحكمها ثوابت أساسية، وأيضاً لنا موقعنا

الجغرافي المتميز هذا، وإلى أننا نملك مشروعاً حضارياً نحن الوحيدون يمكن على

مستوى العالم الذين تتوافر لدينا إمكانات ترجمة هذا المشروع إلى واقع.. إمكانات

اللغة، إمكانات الدين.. إمكانات التاريخ. نحن نتحدث الآن عن أوروبا (الاتحاد

الأوربي) إحدى المشكلات أو إحدى العقبات التي يمكن أن تعترض قريباً مسيرة

الاتحاد الأوروبي هي قضية اللغة وقضية الهوية، ورغم أنهم أحدثوا اليورو

وصعود اليمين في أوروبا وهذا رد فعل لهذا.

نحن نقول إننا الوحيدون على مستوى العالم الذين لا نستخدم الترجمة الفورية

في مؤتمراتنا وفي اجتماعاتنا، نحن أقصد كعرب اللغة والدين والجغرافيا والموارد.

أنا أتصور أن هذه الإمكانات لها جانبان:

الجانب الإيجابي: أنها تسمح لنا بأن نقف على أقدامنا وأن ننشرها إذا ما

خلصت النوايا وصح لدينا العزم، ولكن هناك جانب سلبي وهو أن تجعلنا دائماً

مطمعاً للغير. هذا في تصوري فيما يتعلق بالموقع العربي في الاستراتيجيات.

- د. مصطفى: خبرتنا في التعامل مع الغرب عموماً هي خبرة متعمقة؛

فنحن نعد من أكثر مناطق العالم إن لم يكن أكثرها احتكاكاً بالغرب بصورة أو أخرى؛

فالغرب يدرك تماماً أن في انكسارنا معه لنا مبادئ ولنا قوانين ولنا تجربة في

هزيمتنا له، أيضاً لنا تجربة. فلنا مواقف ولنا مبادئ ولنا خبرة في المهادنات، في

الصلح، في الاختراق، في الاحتلال. هذه خبرة كبيرة والغرب كما قلنا وهو تكلم

عن الحروب الصليبية وفي ذهنه هذه الخبرة التاريخية؛ فهو يدرك تماماً أن هذه

الخبرة التاريخية، هذه الخبرة اللغوية، هذه الخبرة في المصادر والإمكانات، هذه

الخبرة الاستراتيجية. حينما تتضافر تكون المنطقة المقلقة التي لديها البترول وغيره

ونمط القيادات الموجودة، ونمط الشعوب.. إلخ.

فهو يدرك تماماً أن هذه المنطقة لا يمكن أن تُنسى بشكل أو آخر.

ندرك أيضاً أن رأس الحربة إسرائيل.. هذه المنطقة شئنا أم أبينا موجودة.

ما أريد أن أقوله إنه في هذه المنطقة يتكلم البعض في الاستراتيجية الأمريكية ما بعد

سبتمبر أن هذه المنطقة هي في القلب من مسألة الوجود الأمريكي في آسيا الوسطى،

والكلام عن بترول بحر قزوين والكلام عن المحور الإسلامي الموجود في إيران

والموجود في تركيا والموجود في أفغانستان و.. و.. إلخ مهم جداً جداً؛ لأن بحر

قزوين فيه بترول ومدى تأثيره على الخليج العربي، وممكن أن يشكل قوة ضغط

على منطقة الخليج العربي بل بعض المفكرين الأمريكيين يتكلمون عن استراتيجية

بديل.. للبترول والنفط العربي. فهذه المنطقة شئنا أم أبينا سواء قبل أحداث

سبتمبر أو بعد أحداث سبتمبر هي في القلب. تتغير بعض المتغيرات في السياسة

الخارجية الأمريكية لكن أنا أظن أنها من ثوابت ما تهتم به الولايات المتحدة في

علاقتها الدولية، في سياستها الخارجية في النظام الدولي في أي من تطوراته وأي

مرحلة به.

- د. حامد: بالفعل المنطقة العربية والمنطقة الإسلامية عموماً منطقة جامدة

استراتيجياً، ومنطقة في القلب؛ بحيث لا أتصور أن الاستراتيجية الأمريكية تقبل

فيها نوعاً من المساومة.. لدينا مساحتان للصراع في إطار العربية مساحة فلسطين

ومساحة منطقة الخليج.. هاتان الساحتان اللتان يمكن أن يكونا ساحات صدام مباشر..

ساحات فلسطين ومنطقة الخليج. ثم أيضاً في إطار منطقة الثبات الاستراتيجي

أستطيع أن أتكلم وفي ظل أن إسرائيل حتى الآن تعتبر أنها ليس لها حدود. مفهوم

الأمن الإسرائيلي يمتد حتى باكستان وهنا شبه محور أو شبه تحالف قائم حقيقة الآن

بين ثلاثة: (إسرائيل، والهند، وتركيا) أتصور أن لدينا أربع دول تحديداً تهم

الاستراتيجية الأمريكية، وتضع عينيها على: (مصر، العراق، إيران،الجزائر) ،

ثم باكستان تلك هي الدول الخمس التي هي ذات مكانة إقليمية. ما يهم الاستراتيجية

الأمريكية ويهم الاستراتيجية الإسرائيلية أنه لا يحدث فيها أي خلخلة، وعندها

استعداد أن تتدخل بشكل مباشر إذا حدث في هذه الأقطار تحديداً ما يهدد

الأوضاع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015