مجله البيان (صفحة 4339)

دراسات تربوية

العادات المحرمة وطرق علاجها

د. لطف الله بن عبد العظيم خوجة [*]

* العادة المحرمة وهي الذنوب:

الكلام فيها يدور حول:

1 - التعريف بالذنوب من حيث انقسامها إلى كبائر وصغائر.

2 - بيان أن الذنوب قدر واقع لا محالة.

3 - وجوب مدافعة الذنب وعدم الاستسلام له.

4 - بيان أن الذنوب مغفورة بشرط.

5 - خطورة التهاون بالذنب ولو صغر.

1 - التعريف بالذنوب من حيث انقسامها إلى كبائر وصغائر:

دل القرآن والسنة وإجماع الصحابة والأئمة على أن الذنوب تنقسم إلى كبائر

وصغائر [1] ، قال الله تعالى: [إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ

وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً] (النساء: 31) ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

«اجتنبوا السبع الموبقات» [2] ، فالكبائر هي كل ذنب ختمه الله بنار أو غضب أو

لعنة أو عذاب، كما قال ابن عباس [3] ، وقال الضحاك: «هي ما أوعد الله عليه

حداً في الدنيا، أو عذاباً في الآخرة» [4] ، وهو في معنى قول ابن عباس، وهي

غير منحصرة في عدد معين.

قال ابن عباس رضي الله عنهما: «هي إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع،

غير أنه لا كبيرة مع استغفار، ولا صغيرة مع إصرار» [5] ، فمحصل الأمر أن

الكبيرة ما جاء فيها حد في الدنيا أو وعيد في الآخرة، والصغيرة ما لم يرد فيها

شيء من ذلك، إلا أن الصغيرة إذا حصل الإصرار عليها انقلبت كبيرة، كما قال

ابن عباس.

2 - الذنوب قدر واقع لا محالة:

إن الأمراض من قدر الله تعالى الذي لا يسلم منه إنسان، فهي شر واقع لا بد

منه ولا مفر منه، فالأرض مليئة بأسباب المرض، من جراثيم وميكروبات وأحياء

لا تعيش إلا على هلاك غيرها، ولا يخلو إنسان من مرض مهما اتخذ الحيطة

والوقاية، لا فرق في ذلك بين غني أو فقير، شريف أو وضيع، كبير أو صغير،

ذكر أو أنثى ... وهكذا الذنوب قدر واقع لا بد منه؛ لأن الأرض مليئة بأسباب

الذنب، من شيطان لا همَّ له إلا غواية البشر والقعود لهم بكل صراط، ونفس أمارة

بالسوء، وهوى مضل عن سبيل الله، مردٍ في أنواع المهالك، إلى شياطين الإنس

الذين يميلون بالناس إلى الشهوات ميلاً عظيماً، ويوعدون ويصدون عن سبيل الله

من آمن يبغونها عوجاً، فمهما اتخذ الإنسان الحيطة والوقاية والحذر من الذنوب فإنه

غير سالم منها؛ لأنها قدر واقع لا يمكن دفعها بالكلية، كما لا يمكن دفع الأمراض

بالكلية، وإذا كان الأمر كذلك فهل هذا يعني التهاون بالذنوب وركوبها في كل

خاطرة وسانحة بدعوى أنها قدر واقع لا مفر منه؟

الجواب أن نقول: بالرغم من أننا نعلم أن الأمراض قدر واقع فإننا ينبغي أن

نتخذ الحيطة والحذر منها بالوقاية منها واجتناب أسبابها، وإذا ما مرضنا لا نستسلم

للمرض، بل نكافحه بالعلاج والتداوي، هذا مع أننا نعلم أن من المستحيل السلامة

من المرض، فهذا العلم اليقيني الصحيح بحقيقة المرض لم يمنعنا من علاجه

والسعي في ذلك بكل ما نملك، وهكذا ينبغي أن نتعامل مع الذنوب، نعم هي من

قدر الله تعالى، وكل إنسان مكتوب عليه حظه منها كما كتب عليه حظه من المرض،

قال تعالى: [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ] (النجم: 32) ،

قال طاووس: «ما رأيت أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه

وسلم:» إن الله كتب على ابن آدم حظه من الزنا، أدرك ذلك لا محالة، فزنا

العين: النظر، وزنا اللسان: النطق، والنفس تمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك

أو يكذبه « [6] ، إلا أن ذلك لا يمنع من مكافحته وعلاجه والتخلص منه ومن آثاره،

لماذا؟ لأنه كما يمكن الاحتياط من المرض، كذلك يمكن الاحتياط من الذنب،

وكما أن للمرض علاجاً، فكذا للذنب علاج؛ ولأن المرض إذا ترك بدون علاج

تفاقم وأهلك البدن، وكذا الذنب إذا ترك بدون علاج تفاقم وأهلك الروح، وهلاك

الروح أشد من هلاك البدن، فالنجاة يوم الدين مترتبة على سلامة الروح لا سلامة

البدن، قال تعالى: [يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ]

(الشعراء: 88-89) ، فلا بد إذن من علاج الذنب وعدم الاستسلام له، وحول

هاتين الحقيقتين نجد الشرع يدندن، فهو حين يذكر أن الذنب حقيقة مقدرة على

البشر، لا يفوته أن يذكر فضل المدافعين له والمتحامين منه، يقول عليه الصلاة

والسلام:» كل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون « [7] ، ويقول:» لو لم

تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيغفر لهم « [8] ، وعن ابن عباس مرفوعاً:» ما من

عبد مؤمن إلا وله ذنب، يعتاده الفينة بعد الفينة، أو ذنب هو مقيم عليه لا يفارقه

حتى يفارق الدنيا، إن المؤمن خلق مفتناً، تواباً، نسياً، إذا ذكر ذكر « [9] .

3 - وجوب مدافعة الذنب وعدم الاستسلام له:

إن الوقوع في المعصية صغيرة كانت أم كبيرة لا يعني الاستسلام، إن العبد

إذا عصى أظلم قلبه وتكدرت نفسه، وهذه فرصة للإقبال على الطاعة بصدق وندم؛

حيث يكون القلب منكسراً مخبتاً، فإحداث الطاعة في هذه اللحظة مما يقرب العبد

إلى ربه، لشعوره بحاجته إليه في العفو والمغفرة والتوبة، ولأن هذا الشعور مما

يورث الخشوع في العبادة والتطلع إلى الرحمة والذلة والمسكنة لله تعالى، وهذا ما

يريده الله من عبده ويرضيه عنه ويوجب له القبول، ودائماً ما يخطئ العصاة عندما

يقعون في الذنب فيستسلمون للشيطان بعدها، فيتركون الطاعات المفروضة

والنوافل المستحبة بدعوى أنهم عصاة، وأن الله لن ينظر إليهم، وأنهم إن قاموا

بالطاعة وهم عصاة لبسوا لباس المنافقين، فالشيطان بهذه الطريقة يحكم قبضته

عليهم، فهو الذي أوقعهم في المعصية أولاً، ثم اليأس وإهمال الطاعة ثانياً، وكان

من الحكمة أن ينتبه الإنسان إذا عصى ألاَّ يزله الشيطان ثانية كما أزله أول مرة،

وقد قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم

مُّبْصِرُونَ] (الأعراف: 201) ، فالمؤمن إذا زل تذكر عقاب الله وثوابه،

فتاب وأناب ورجع، فإذا هو أصح مما كان [10] ، فلا يدع للشيطان فرصة ليزله مرة

أخرى، ليتخيل العاصي عدواً أمامه طرحه أرضاً، هل يستسلم له ويمد له يديه

ورجليه ليضع فيهما القيد ليكون أسيراً عنده، وفيه بقية قوة يقدر أن يدفع بها، أم أنه

يحاول الخروج من تلك الأزمة بمعاودة الهجوم على عدوه أو الفرار منه؟

الواضح أن الذي يحدث أن المغلوب لا يستسلم بسهولة لعدوه، بل يصابره ويجاهده

ما دام يملك من القوة ولو أقل القليل، هذا المبدأ في قتال الناس بعضهم بعضاً،

وهو عدم الاستسلام من أول مرة، لا يطبقه أكثر الناس في حربهم مع الشيطان،

فيستسلمون له من أول هزيمة، وإلا فالواجب إذا ما وقع الإنسان في معصية ما أن

يصابر الشيطان بفعل الطاعات والتوبة، وعدم اليأس.

لما شرب قدامة بن عبد الله الخمر متأولاً جلد، فكاد اليأس يدب في قلبه

فأرسل إليه عمر يقول:» قال تعالى: [حم * تَنزِيلُ الكِتَابِ مِنَ اللَّهِ العَزِيزِ العَلِيمِ

* غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ]

(غافر: 1-3) ، ما أدري أي ذنبيك أعظم، استحلالك للخمر أولاً أم يأسك من

رحمة الله ثانياً؟ « [11] ، وهذا منهج نبوي، يمنح العاصين الفرصة للعودة مرة

أخرى إلى رحاب الطاعة، ويغلق دونهم أبواب اليأس، ويزرع الأمل في نفوسهم.

جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:» يا رسول الله! إني

وجدت امرأة في بستان، ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها، قبلتها ولزمتها،

ولم أفعل غير ذلك، فافعل بي ما شئت. فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم

شيئاً، فذهب الرجل، فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه. فأتبعه

رسول الله بصره ثم قال: ردوه عليَّ، فردوه عليه، فقرأ عليه: [وَأَقِمِ الصَّلاةَ

طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ]

(هود: 114) . فقال معاذ: يا رسول الله! أله وحده أم للناس كافة؟ فقال:

«بل للناس كافة» [12] .

وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم

يقول: «ما من عبد يذنب ذنباً، فيتوضأ فيحسن الطهور، ثم يقوم فيصلي ركعتين،

ثم يستغفر الله بذلك الذنب إلا غفر الله له» [13] .

4 - بيان أن الذنوب مغفورة بشرط:

وبما أن الذنوب قدر واقع فإن الله تعالى برحمته يغفرها تباعاً إذا لزم الإنسان

الفرائض وحافظ عليها وأقامها، كما أن الجسد الصحيح يقضي على الجراثيم التي

تهاجم الجسم بما فيها من مقاومة طبيعية سببها الغذاء الصحيح السليم دون الحاجة

إلى الدواء، فالطهارة والصلاة والصيام والحج تغفر الذنوب تباعاً، جاء في الأثر:

«ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على

المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة؛ فذلكم الرباط،

فذلكم الرباط، فذلكم الرباط» [14] ، وعن أبي أمامة عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم قال: «إذا توضأ الرجل المسلم خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه

ورجليه، فإن قعد قعد مغفوراً له» [15] ، ويقول عليه الصلاة والسلام:

«الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن

إذا اجتنبت الكبائر» [16] .

فهذه المفروضات تغفر الذنوب الصغائر منها لا الكبائر، فالكبائر لا بد لها من

توبة خاصة أو حسنات كبيرة كالجهاد والصدقات، لأنها كبائر، ومثل ذلك لا يغفر

بمجرد المحافظة على المفروضات، وهذا مثل بعض الأمراض المزمنة والصعبة لا

يكفي في علاجها الحرص على الوقاية والحمية والغذاء السليم، فلا بد من تدخل

خارجي ومدد يستعين به الجسم في مكافحة المرض، وكذا الكبائر لا بد لها بالإضافة

إلى المحافظة على المفروضات من توبة واستغفار وحسنات عظيمة من صدقة

وجهاد وإحسان إلى العباد، وهذه هي دلالة قوله: «ما اجتنبت الكبائر» ؛ أي أن

الكبائر لا تكفر بمجرد فعل الواجبات، بل لا بد من التوبة والكفارات إن كان للذنب

كفارة، وهذا يدل على خطر الكبائر، وعقيدة أهل السنة والجماعة في مرتكب

الكبيرة أنه تحت مشيئة الله، إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له [17] ، قال تعالى: [إِنَّ

اللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء] (النساء: 48) ،

ومعنى: [مَا دُونَ ذَلِكَ] ، أي الكبائر، وقال تعالى: [إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا

تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلاً كَرِيماً] (النساء: 31) ، فعلق

الوعد الكريم باجتناب الكبائر، وقال تعالى: [الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ

وَالْفَوَاحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ] (النجم: 32) ، فمدحهم على اجتناب الكبائر، وقد

وصفت الكبائر بأنها موبقات، فقال عليه الصلاة والسلام: «اجتنبوا السبع

الموبقات» [18] ، والكبائر مثل: عقوق الوالدين وقتل النفس التي حرم الله، وقذف

المحصنات الغافلات، وشرب الخمر، وأكل الربا، وفعل الزنا، والتبرج والسفور،

والغدر والخيانة ونحوها.

5 - عدم التهاون بالذنب ولو كان صغيراً:

ولا يعني هذا التهاون بالصغائر؛ فإن الصغائر مع كونها صغائر إلا أنها إذا

اجتمعت على الإنسان أهلكته، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إياكم ومحقرات

الذنوب، فإن مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود،

وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ

بها صاحبها تهلكه» [19] ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: «لا صغيرة مع

إصرار، ولا كبيرة مع استغفار» [20] ، فالصغيرة تنقلب كبيرة مع الإصرار عليها،

ودليل هذا القول قوله تعالى: [وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا

اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ

يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ

فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ العَامِلِينَ] (آل عمران: 135-136) ، فلا ينظر العبد إلى

صغر المعصية، ولكن لينظر إلا عظم من عصى، فالكبيرة قد يقترن بها من الحياء

والخوف والاستعظام لها ما يلحقها بالصغائر، وقد يقترن بالصغيرة من قلة الحياء

وعدم المبالاة والاستهانة بها ما يلحقها بالكبائر، وهذا أمر يرجع إلى ما يقوم بالقلب،

قال أنس بن مالك: «إنكم لتعملون أعمالاً هي في أعينكم أدق من الشعر، كنا

نعدها على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الموبقات» [21] ، فالصحابة

لعلو مرتبتهم عند الله وكمالهم كانوا يعدون تلك الأعمال من الموبقات، ومَنْ بعدهم

لنقصان مرتبتهم صارت تلك الأعمال في أعينهم أدق من الشعر، فاستصغار الذنب

يكبره عند الله، واستعظامه يصغره عند الله [22] .

النتيجة في بيان كيفية معالجة العادات المحرمة، وهي الذنوب:

1- الوقاية من الذنوب، كما يتوقى من الأمراض.

2- مدافعة الذنب وعدم الاستسلام له، كما يدافع المرض ولا يستسلم له.

3- معالجة الذنب، كما يعالج المرض، وذلك بما يلي:

* بالقيام بالطاعات الواجبة، كالصلوات المفروضة، وصيام رمضان،

والحج، لتكفيرها الصغائر ما اجتنبت الكبائر.

* بالحرص على النوافل والحسنات الكبيرة الماحية، كالجهاد والصدقات.

* ملازمة التوبة والاستغفار.

4- تعظيم الرب سبحانه، وعدم التهاون بالمعصية ولو كانت صغيرة.

* موقف المجتمع من أصحاب العادات المحرمة:

السهام موجهة نحو العاصين، زجراً وتقريعاً وربما تشهيراً.. نعم! إن الغيرة

على المحارم هي التي تدفع إلى مثل ذلك، لكن قد يكون الدافع الشماتة، وبعض

الناس يبالغ في تثريب العاصين، بل ربما سدوا أمامهم أبواب الرجوع إلى رحاب

الطاعة.. فهذه القضية من القضايا الحية التي تمر بنا كل حين، ولا شك أن

المبالغة في زجر العاصين خلاف منهج النبوة، فكيف علاج هذه المشكلة؟ وما

الطريق الصحيح لاحتواء المذنبين؟ فهم منا، ونحن منهم، وهم إخواننا ولو

ارتكبوا الكبائر من الذنوب، فإن معتقد أهل السنة والجماعة في العاصي أنه مؤمن

بإيمانه، فاسق بكبيرته، فلا يحل كراهيته من كل وجه، بل يكره من حيث

المعصية، ويحب من حيث الطاعة، وهذا خلاف منهج الخوارج الذين يكفرون

أصحاب الكبائر ويحكمون عليهم بالخلود في النار [23] .

إن حسن التعامل مع العاصين يقوم على ثلاثة أمور:

1 - عدم الرضا عن النفس.

2 - الخوف من تقلب القلوب.

3 - اتباع المنهج النبوي في التعامل مع أصحاب الذنوب.

فأما الأمر الأول: وهو عدم الرضا عن النفس فبيانه [24] :

أن كل طاعة استكثرتها ورضيتها أيها الطائع من نفسك فهي عليك، وكل

معصية عيرت بها أخاك المذنب فهي إليك، فرضاء العبد واستكثاره لطاعته دليل

على حسن ظنه بنفسه، وجهله بحقوق العبودية لله تعالى، وعدم عمله بما يستحقه

الرب جل جلاله ويليق أن يعامل به.

فجهل الإنسان بحقيقة نفسه وصفاتها وآفاتها وعيوب عمله، وجهله بربه

وحقوقه وما ينبغي أن يعامل به، يتولد منهما رضاه بطاعته، وإحسان ظنه بها،

ويتولد من ذلك: من العجب والكبر والآفات ما هو أكبر من الكبائر الظاهرة، من

الزنا وشرب الخمر والفرار من الزحف ونحوها.

فالرضا بالطاعة من رعونات النفس وحماقتها، وأرباب العزائم والبصائر أشد

ما يكونون استغفاراً عقيب الطاعات، لشهودهم تقصيرهم فيها، وترك القيام لله بها

كما يليق بجلاله وكبريائه، وأنه لولا الأمر لما أقدم أحدهم على مثل هذه العبودية،

ولا رضيها لسيده.

وقد أمر الله تعالى وفده وحجاج بيته بأن يستغفروه عقيب إفاضتهم من عرفات،

وهو أجل المواقف وأفضلها، فقال: [لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن

رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن

كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ

اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ] (البقرة: 198-199) ، وقال تعالى: [وَالْمُسْتَغْفِرِينَ

بِالأَسْحَارِ] (آل عمران: 17) ، قال الحسن: «مدوا الصلاة إلى السحر،

ثم جلسوا يستغفرون الله عز وجل» ، وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم

كان إذا سلم من الصلاة استغفر ثلاثاً، ثم قال: «اللهم أنت السلام، ومنك السلام،

تباركت يا ذا الجلال والإكرام» [25] ، وأمره الله تعالى بالاستغفار بعد أداء الرسالة

والقيام بما عليه من أعبائها، فقال في آخر سورة أنزلت عليه: [إِذَا جَاءَ نَصْرُ

اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ

وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً] (النصر: 1-3) ، ومن ههنا فهم عمر وابن عباس

رضي الله عنهم أن هذا أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه به، فأمره أن

يستغفره عقيب أداء ما كان عليه، فكأنه إعلام بأنك قد أديت ما عليك، ولم يبق

عليك شيء، فاجعل خاتمته الاستغفار، كما كان خاتمة الصلاة والحج وقيام الليل

الاستغفار، وخاتمة الوضوء أيضاً أن يقول بعد فراغه: «سبحانك اللهم وبحمدك،

أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك» [26] ، فهذا شأن من عرف ما

ينبغي لله ويليق بجلاله من حقوق العبودية وشرائطها، لا جهل أصحاب الدعاوى

وشطحاتهم، قال بعض العارفين: «متى رضيت نفسك وعملك لله، فاعلم أنه غير

راض به» ، ومن عرف أن نفسه مأوى كل عيب وشر، وعمله عرضة لكل آفة

ونقص، كيف يرضى لله نفسه وعمله؟ ، بل كلما عظم المطلوب في قلبك،

صغرت نفسك عندك، وتضاءلت القيمة التي تبذلها في تحصيل المطلوب، وكلما

شهدت حقيقة الربوبية وحقيقة العبودية لله تعالى، وعرفت الله، وعرفت النفس

تبين لك أن ما معك من البضاعة لا يصلح للملك الحق، ولو جئت الثقلين خشيت

عاقبته، وإنما يقبله بكرمه وجوده وتفضله، ويثيبك عليه أيضاً بكرمه وجوده

وتفضله، كما في حديث أبي بن كعب: «لو أن الله عذب أهل سمواته وأهل

أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته لهم خيراً من أعمالهم»

[27] ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لن يُدخِل أحداً عمله الجنة،

ولا أنا، إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة» [28] .

أما الأمرالثاني: وهو الخوف من تقلب القلوب:

فإن الأصل في المؤمن الخوف من الرب سبحانه من عذابه، ومن مكره؛

فالقلوب بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فكم من رجل أصبح

مؤمناً وأمسى كافراً، وكم من إنسان عمل بعمل أهل الجنة حتى لم يبق بينه وبينها

إلا ذراع فسبق عليه الكتاب فعمل بعمل أهل النار فدخلها، فلا يضمن إنسان لنفسه

النجاة وثبات الحال، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «يا مقلب

القلوب ثبت قلبي على دينك» [29] ، وكانت يمينه: «لا، ومقلب القلوب» [30] ،

فالمؤمن يخاف على إيمانه من التبدل، فمن الذي يقدر أن يشهد لنفسه بالجنة، وقد

كان الصحابة يخافون على أنفسهم النفاق، كما قال ابن أبي مليكة: «أدركت

ثلاثين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يخاف على نفسه النفاق،

ما منهم من أحد يقول: أنا على إيمان جبريل وميكائيل» ، ويقول الحسن: «ما

خافه إلا مؤمن، وما أمنه إلا منافق» [31] ، بل تجد المؤمن يقوم بالطاعات، وهو

يخاف أن ترد ولا تقبل، قال تعالى: [إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ *

وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا

آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ] (المؤمنون: 57-60) ، قالت عائشة:

«هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر، وهو يخاف الله؟» ، قال: «لا يا

بنت الصديق، ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق، وهو يخاف الله عز وجل»

[32] ، فالمؤمن جمع إحساناً وخشية، والمنافق جمع إساءة وأمناً، يقول تعالى:

[أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ القَوْمُ الخَاسِرُونَ] (الأعراف:

99) .

فهذا هو المنهج النبوي الذي يجب اتباعه في باب الطاعة: عدم الرضا عن

النفس، والخوف من تقلب القلوب، والخوف من رد الطاعات وعدم قبولها، من

سار في طاعته وحياته على هذه القاعدة فهو الناجي المتبع لنهج الأنبياء والصحابة،

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أدري والله وأنا رسول الله ما يفعل بي»

[33] ، قال تعالى: [قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُم]

(الأحقاف: 9) ، فإذا كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكيف لمن

دونه أن يغتر بطاعاته ويأمن مكر الله تعالى؟ فإذا وقر هذا في القلب كانت النتيجة

النظر بعين الرحمة والرأفة إلى كل من تلبس بمعصية أو زلة، فإن الزلات

والمعاصي قريبة من العبد: [وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ

أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (النور: 21) ، ومن سلم منها

فبرحمة الله وفضله، ومن وقع فيها فلأن الله وكله إلى نفسه، فإذا فهم هذا فالواجب

على الإنسان أن يخاف الزلة والانتكاسة، وأن يقبل على المذنبين بقلب رؤوف

ليستنقذهم من الزلة، ويرفعهم من المحنة، فهم ضحايا أعداء الإنسانية، النفس

والهوى والشيطان، هذه الثلاثة هي مثلث الخطايا، ومأوى كل شر، ومصدر كل

سوء، فما وقع الإنسان في الخطيئة إلا بسببها، والبشرية في عناء من كيدها، ولن

ينجي منها إلا التعاون والاتحاد ضدها، لا الانضمام إليها، فمن زبر العاصين

بعنف وبالغ في التثريب فإنما يكون عوناً للشيطان، ومثله كمثل إنسان رأى أحدهم

وقد اجتمع عليه ثلاثة نفر يضربونه من كل ناحية فبدلاً من أن يمنعهم من العدوان

صار رابعهم المعين لهم، إن العاصي محتاج إلى من يقف معه في معركته مع

الشيطان وجنده، وليس بحاجة إلى من يقف مع الشيطان.

وأما الأمر الثالث وهو: المنهج النبوي في التعامل مع أصحاب الذنوب:

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل مناسبة يبين هذه القاعدة

المهمة في التعامل مع العصاة، كان رجل يؤتى به كثيراً ليجلد في شرب الخمر،

فأتي به مرة فقال رجل: لعنه الله ما أكثر ما يؤتى به، فقال رسول الله صلى الله

عليه وسلم: «لا تلعنوه، فو الله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله» [34] ، فقد

شهد له بالإيمان ليحملهم على محبته، ومنعهم من لعنه؛ لأنه ليس كل معصية

تستحق اللعنة؛ ولأن من الممكن أن تجتمع الحسنات والسيئات والثواب والعقاب في

الشخص الواحد، وهذا قول الصحابة وأئمة الإسلام الذين يقولون بعدم خلود صاحب

الكبيرة في النار إن دخلها [35] ، ولما رجمت الغامدية حد الزنا تناثر دمها على خالد

رضي الله عنه فسبها، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبه إياها، فقال:

«مهلاً! يا خالد! فو الذي نفسي بيده، لقد تابت توبة، لو تابها صاحب مكس

لغفر له» ، ثم أمر بها فصلى عليها ودفنت [36] ، وقال بعد رجم ماعز:

«استغفروا لماعز بن مالك» ، فقالوا: «غفر الله لماعز بن مالك» ، قال: فقال

رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد تاب توبة لو قسمت بين أمة لوسعتهم»

[37] .

ومنع عليه الصلاة والسلام من التثريب على المذنبين إذا أقيم عليهم الحد [38] ،

وقد سار الصحابة على هذا المنهج، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:

كنا مع عمر في مسير فأبصرنا رجلاً يسرع في سيره، فقال: إن هذا الرجل يريدنا.

فأناخ ثم ذهب لحاجته، فجاء الرجل فقال عمر: ما شأنك؟ قال: يا أمير

المؤمنين! إني شربت الخمر فضربني أبو موسى وسوَّد وجهي، وطاف بي،

ونهى الناس أن يجالسوني، فهممت أن آخذ سيفي فأضرب به أبا موسى، أو آتيك

فتحولني إلى بلد لا أُعرَف فيه، أو ألحق بأرض الشرك. فبكى عمر رضوان الله

عليه وقال: ما يسرني أنك لحقت بأرض الشرك. وقال: إن كنتُ لمن شرب

الخمر، فلقد شرب الناس الخمر في الجاهلية. ثم كتب إلى أبي موسى: إن فلاناً

أتاني، فذكر كيت وكيت، فإذا أتاك كتابي هذا فمُر الناس أن يجالسوه، وأن

يخالطوه، وإن تاب فاقبل شهادته. وكساه وأمر له بمائتي درهم «.

وعن يزيد بن الأصم:» أن رجلاً كان ذا لباس، وكان يوفد إلى عمر لباسه،

وكان من أهل الشام، وأن عمر فقده، فسأل عنه فقيل: يتابع في هذا الشراب،

فدعا كاتبه، فقال: اكتب: من عمر بن الخطاب إلى فلان بن فلان، سلام عليكم:

فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو [غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَابِ ذِي

الطَّوْلِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ المَصِيرُ] (غافر: 3) ، ثم دعا وأمَّن وأمَّن من عنده،

ودعوا له أن الله يقبله عز وجل، وأن يتوب عليه، فلما أتت الصحيفة الرجل

جعل يقرأها ويقول: [غَافِرِ الذَّنبِ] ، قد وعدني ربي عز وجل أن يغفر لي،

[وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ العِقَاب] قد حذرني الله من عقابه، [ذِي الطَّوْل] والطول:

الخير الكثير، [إِلَيْهِ المَصِيرُ] . فلم يزل يرددها على نفسه، ثم بكى، ثم نزع،

فأحسن النزع، فلما بلغ عمر رضوان الله عليه خبره قال: هكذا فاصنعوا، إذا رأيتم

أخاً لكم زل زلة، فسددوه، وادعو الله أن يتوب عليه، ولا تكونوا عوناً للشيطان

عليه « [39] .

إن الرضا عن النفس والأمن من مكر الله ينتج عنه الحكم للنفس بالنجاة وعلى

الآخرين بالهلاك، وهذا غاية الغرور، وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه

وسلم أنه قال:» كان رجلان في بني إسرائيل متواخيين، فكان أحدهما يذنب،

والآخر مجتهد في العبادة، فكان لا يزال المجتهد يرى الآخر على الذنب، فيقول:

أقصر. فوجده يوماً على ذنب، فقال له: أقصر. قال: خلني وربي، أبعثت عليَّ

رقيباً؟ قال: والله لا يغفر الله لك، أو لا يدخلك الله الجنة. فقبض الله أرواحهما،

فاجتمعا عند رب العالمين، فقال لهذا المجتهد: أكنت بي عالماً، أو كنت على ما

في يدي قادراً؟ ! وقال للمذنب: اذهب فادخل الجنة برحمتي. وقال للآخر:

اذهبوا به إلى النار «قال أبو هريرة:» والذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه

وآخرته « [40] .

* فائدة الذنب:

إن الله كتب على عباده المعصية؛ ليبتلي الطائعين بالعاصين، والعصاة

بالطائعين، كتبها وهو أعلم بعباده وما ينفعهم، وهو يعلم أن بعض الذنوب تستخرج

من النفوس ذنوباً هي أكبر، فهي كالمرض الذي به يشفي المريض من أمراض

أخرى، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال:» لو لم تكونوا تذنبون،

لخفتُ عليكم ما هو أكبر من ذلك: العجب، العجب « [41] .

طور بواسطة نورين ميديا © 2015