دراسات في الشريعة
مسؤولية الفتوى الشرعية
ضوابطها وأثرها في رشاد الأمة
(1 ـ 2)
أ. د. محمد فؤاد البرازي [*]
إن من أنبل ما يشتغل به المشتغلون، وخير ما يعمل له العاملون نشر علم
نافع تحتاج إليه الأمة، يهديها من الضلالة، وينقذها من الغواية، ويخرج [النَّاسَ
مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ العَزِيزِ الحَمِيدِ] (إبراهيم: 1) ،
وكيف لا يكون كذلك وقد حض الله تعالى عليه بقوله الكريم: [فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ
فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ]
(التوبة: 122) .
وأوجب على أهل العلم نشره، ونهاهم عن كتمانه، فقال تعالى: [وَإِذْ أَخَذَ
اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ] (آل عمران: 187) .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من علم علماً فكتمه أُلجِم يوم القيامة
بلجام من نار» [1] .
ولنشر العلم وسائل كثيرة من أهمها: التصدي للإفتاء لعموم الحاجة إليه وكثرة
التعويل عليه، لا سيما في هذه الأيام التي قلَّ فيها الإقبال على العلم، واكتفى معظم
المستمسكين بهذا الدين باستفتاء العلماء عما يعرض لهم، أو يؤرق بالهم، لتصحيح
عبادة، أو تقويم معاملة، والقليل منهم من يلزم مجالس العلماء حتى يتخرج على
أيديهم، ويصبح من ثم وارثاً لعلومهم.
وما زال الإفتاء قائماً منذ فجر الإسلام، وحتى هذه الأيام، حتى خلف العلماء
كثيراً من كتب الفتاوى والنوازل التي زخرت بها المكتبة الإسلامية، كانت وما
تزال مصدراً من مصادر الإشعاع العلمي والحضاري الذي ترك بصماته في نهضة
الأمم ورقي الشعوب.
لهذا كانت منزلته عظيمة، ومكانته كبيرة؛ لأنه: «بيان حكم الله تعالى
بمقتضى الأدلة الشرعية على جهة العموم والشمول» [2] .
وقد تقلد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المنصب العظيم، فكان له
منصب النبوة، ومنصب الإمامة، ومنصب الإفتاء.
ولما كان الإفتاء بهذه المثابة، فإن من الحري بنا أن نتحدث عن الفتوى،
ومنزلتها، والحاجة إليها.
أ - تعريف الفتوى:
الفتوى لغة: اسم مصدر بمعنى الإفتاء. والجمع: الفتاوى والفتاوي، يقال:
أفتيته فَتْوى وفُتْيا؛ إذا أجبته عن مسألته.
والفتيا: تبيين المشكل من الأحكام، وتفاتَوْا إلى فلان: تحاكموا إليه وارتفعوا
إليه في الفتيا [3] .
وفي تفسير قوله تعالى: [وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنّ]
(النساء: 127) .
قال ابن عطية: أي يبين لكم حكم ما سألتم. قوله: [فِيهِن] أي يفتيكم فيما
يتلى عليكم [4] .
أما الفتوى في الاصطلاح، فقد عرفها العلماء بتعريفات عديدة:
- قال القرافي: الفتوى إخبار عن حكم الله تعالى في إلزام أو إباحة [5] .
- وقال ابن الصلاح: «قيل في الفتيا: إنها توقيع عن الله تبارك وتعالى»
[6] .
- وعرفها ابن حمدان الحراني الحنبلي بقوله: «تبيين الحكم الشرعي عن
دليل لمن سأل عنه» [7] .
وهذا التعريف هو الذي نختاره من تلك التعريفات، لكونه متضمناً لما قبله من
الإخبار عن حكم الله تعالى، ويزيد عليها: اعتماد الحكم الشرعي على دليل،
وكونه مشتملاً على السؤال عن الوقائع وغيرها، لهذا كان أوْلى بالاختيار من غيره.
ب - منزلة الفتوى، والحاجة إليها:
تكتسب الفتوى أهمية بالغة لشرفها العظيم، ونفعها العميم، لكونها المنصب
الذي تولاه بنفسه رب الأرباب، حيث أفتى عباده، فقال في كتابه الكريم:
[وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الكِتَابِ] (النساء:
127) ، وقال أيضاً: [يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الكَلالَةِ] (النساء: 176) ،
فقد نسب الإفتاء إلى ذاته، وكفى هذا المنصب شرفاً وجلالة أن يتولاه الله تعالى
بنفسه.
قال ابن القيم: «وأول من قام به من هذه الأمة سيد المرسلين، وإمام المتقين،
وخاتم النبيين، عبد الله ورسوله، وأمينه على وحيه، وسفيره بينه وبين عباده،
فكان يفتي عن الله بوحيه المبين، وكان كما قال له أحكم الحاكمين: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ
عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ المُتَكَلِّفِينَ] (ص: 86) ، فكانت فتاويه صلى الله عليه
وسلم جوامع الأحكام، ومشتملة على فصل الخطاب» [8] .
ومن فضل الله تعالى على نبيه الكريم صلى الله عليه وسلم، أن جمع له
منصب النبوة المقتضية لنقل الأحكام بالوحي عن الله تعالى، ومنصب الإمامة
المقتضية للحكم والإذن فيما يتوقف عليه الإذن من الأئمة، ومنصب الإفتاء بما
يظهر رجحانه عنده، فهو سيد المجتهدين [9] .
ثم خلفه في منصب الإفتاء كوكبة من صحابته الكرام، قامت به أحسن قيام،
فكانوا سادة المفتين، وخير مبلغ لهذا الدين، قال قتادة في تفسير قول الله تعالى:
[وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا العِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحَق] (سبأ: 6) . قال:
أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم. ثم جاء من بعدهم التابعون، وأتباع التابعين،
وكثير من الأئمة المجتهدين والعلماء العاملين، فأفتوا في دين الله تعالى بما آتاهم من
علم غزير، وقلب مستنير، ورقابة لله العليم الخبير، فأسدوا إلى الأمة خدمات
جليلة كان لها أثر في نشر العلم، وإصلاح العمل.
ومما يُظهر منزلة الفتوى أيضاً: أنها بيان لأحكام الله تعالى في أفعال المكلفين؛
ولهذا شبه ابن القيم المفتي بالوزير الموقع عن الملك، فقال: «إذا كان منصب
التوقيع عن الملوك بالمحل الذي لا ينكر فضله، ولا يُجهل قدره، وهو من أعلى
المراتب السنيات، فكيف بمنصب التوقيع عن رب الأرض والسماوات» [10] .
وقال النووي: «ولهذا قالوا: المفتي موقِّع عن الله تعالى» . وقد لجأ
المسلمون إلى الاستفتاء منذ الصدر الأول للإسلام، فصدرت فتاوى سيد المرسلين،
وإمام المفتين، وخلفه في ذلك علماء الصحابة والتابعين، ومن سار على نهجهم من
أئمة هذا الدين، وما ذلك إلا لأهمية الفتوى، وحاجة الأمة إليها، ولا سيما في هذه
العصور التي قلَّ فيها الإقبال على العلم، واكتفى الكثير منهم بالسؤال عما يعرض
لهم، أو يُشكل عليهم من أمر دينهم.
ولئن كانت حاجة الأمة إلى الفتوى كبيرة فيما مضى، فإن الحاجة إليها في
هذه الأيام أشد وأبقى؛ فقد تمخض الزمان عن وقائع لا عهد للسابقين بها،
وعرضت للأمة نوازل لم يخطر ببال العلماء الماضين وقوعها، فكانت الحاجة إلى
الإفتاء فيها شديدة، لبيان حكم الله تعالى في هذه النوازل العديدة؛ إذ لا يعقل أن
تقف شريعة الله العليم الحكيم عاجزة عن تقديم الحلول الناجعة لمشكلاتهم المتسعة
لكل ما يحدث لهم أو يُشكل عليهم، وهي الشريعة الصالحة لكل زمان، الجديرة
بالتطبيق في كل مكان.
ج - تحريم القول على الله تعالى بغير علم:
بما أن الفتوى بيانٌ لأحكام الله، والمفتي في ذلك موقِّعٌ عن الله، فإن القول
على الله تعالى بغير علم من أعظم المحرمات، لما فيه من جرأة وافتراء على الله،
وإغواء وإضلال للناس، وهو من كبائر الإثم.
أما أنه من كبائر الإثم، فلقول الحق تبارك وتعالى: [قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ
الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ] (الأعراف: 33) .
فقد قرن الله تعالى القول عليه بغير علم بالفواحش الظاهرة والباطنة، والإثم
والبغي والشرك، للدلالة على عظم هذا الذنب، وقبح هذا الفعل.
قال ابن القيم: «وقد حرم الله سبحانه القول عليه بغير علم في الفتيا
والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها، وبعد أن
ساق الآية التي أوردناها قال: فرتب المحرمات أربع مراتب:
- بدأ بأسهلها وهو الفواحش.
- ثم ثنَّى بما هو أشد تحريماً منه وهو الإثم والظلم.
- ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريماً منها وهو الشرك به سبحانه.
- ثم ربَّع بما هو أشد تحريماً من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يعم
القول عليه سبحانه بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله، وفي دينه وشرعه.
ومما يدل أيضاً على أنه من كبائر الإثم قول الله تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النحل: 116-117) .
فتقدم إليهم سبحانه بالوعيد على الكذب عليه في أحكامه، وقولهم لما لم يحرمه:
هذا حرام، ولما لم يحله: هذا حلال، وهذا بيان منه سبحانه أنه لا يجوز للعبد
أن يقول هذا حلال وهذا حرام إلا بما علم أن الله سبحانه وتعالى أحله وحرمه [11] .
هذا ما يتعلق بكونه من كبائر الإثم.
- وأما كونه إغراءً وإضلالاً للناس، فَلِما روى الشيخان من حديث عبد الله
بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» إن الله لا يقبض
العلم انتزاعاً ينتزعه من صدور العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا
لم يُبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً، فسئلوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا «
[12] .
لهذا هاب الفتيا كثير من الصحابة، وتدافعوها بينهم لِمَا جعل الله في قلوبهم
من الخوف والرقابة.
- فعن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال:» أدركت عشرين ومائة من الأنصار
من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسأل أحدهم عن المسألة فيردَّها هذا
إلى هذا، وهذا إلى هذا حتى ترجع إلى الأول «، وفي رواية:» ما منهم من أحد
يُحدِّث بحديث إلا ودَّ أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه
الفتيا « [13] .
- وعن الشعبي والحسن وأبي حَصين بفتح الحاء قالوا:» إن أحدكم ليفتي
في المسألة لو وردت على عمر بن الخطاب رضي الله عنه لجمع لها أهل بدر «
[14] .
وقد كان كثير من السلف الصالح إذا سئل عن مسألة لا يعلم حكمها قال للسائل:
لا أدري، أو قال: الله أعلم، عملاً بما:
- روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، قال: سمع النبي صلى الله عليه
وسلم قوماً يتمارون في القرآن، فقال:» إنما هلك من كان قبلكم بهذا، ضربوا
كتاب الله بعضه ببعض، وإنما نزل كتاب الله يصدق بعضه بعضاً، ولا يكذب
بعضه بعضاً، فما علمتم منه فقولوا، وما جهلتم منه فكِلوه إلى عالمه « [15] .
- وقال ابن مسعود:» من كان عنده علم فليقل به، ومن لم يكن عنده علم
فليقل: الله أعلم، فإن الله قال لنبيه: [قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ
المُتَكَلِّفِينَ] (ص: 86) « [16] .
- وروى الحافظ ابن الصلاح بسنده إلى محمد بن عبد الله الصفار أنه قال:
سمعت عبد الله بن حنبل يقول: سمعت أبي يقول: سمعت الشافعي يقول: سمعت
مالك بن أنس يقول: سمعت محمد بن عجلان يقول:» إذا أغفل العالم لا أدري
أصيبت مقاتله «.
وقد عقب ابن الصلاح على هذا الأثر بقوله:» هذا إسناد جليل عزيز جداً
لاجتماع أئمة المذاهب الثلاثة فيه بعضهم عن بعض [17] .
- وروى مالك مثل ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما [18] .
- وقال عبد الرحمن بن مهدي: «جاء رجل إلى مالك بن أنس يسأله عن
شيء أياماً ما يجيبه، فقال: يا أبا عبد الله! إني أريد الخروج، وقد طال التردد
إليك، قال: فأطرق طويلاً، ثم رفع رأسه، فقال: ما شاء الله يا هذا! إني إنما
أتكلم فيما أحتسب فيه الخير، ولست أحسن مسألتك هذه» [19] .
- وعن أبي بكر الأثرم قال: «سمعت أحمد بن حنبل يستفتى فيكثر أن يقول:
لا أدري، وذلك فيما قد عرف الأقاويل فيه» [20] .
- وعن الهيثم بن جميل قال: «شهدت مالك بن أنس سُئل عن ثمان وأربعين
مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري» [21] .
- وقد سئل الإمام مالك عن مسألة فقال: لا أدري، فقيل له: إنها مسألة
خفيفة سهلة. فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قوله جل
ثناؤه: [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً] (المزمل: 5) ، فالعلم كله ثقيل، وبخاصة
ما يسأل عنه يوم القيامة.
- وقال: «إذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تصعب عليهم
مسائل، ولا يجيب أحد منهم في مسألة حتى يأخذ رأي صاحبه مع ما رُزقوا من
السداد والتوفيق، مع الطهارة؛ فكيف بنا الذين قد غطت الخطايا والذنوب قلوبنا»
[22] .
د - وجوب التعاون، والتحذير من التفرق والاختلاف:
فإذا كان هذا حال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من سؤال بعضهم
لبعض، والتشاور فيما بينهم مع ما رزقوا من العلم والفهم، والسداد والتوفيق، أفلا
نكون مع غفلتنا وكثرة خطايانا أكثر حاجة إلى التعاون والتآزر، لا سيما في شأن
الفتوى في دين الله تعالى، حتى لا تتفرق للمسلمين كلمتهم، ولا يختلفوا فيما بينهم،
وإن من أشنع صور التفرق والاختلاف: الشذوذ عن فتاوى علماء الأمة،
باستحداث فتاوى خاطئة في دين الله تعالى، تؤدي بالآخذين بها إلى الجرأة على
اقتحام حمى الله «ألا وإن حمى الله محارمه» [23] . وليكن معلوماً أن تتبع شواذ
العلم ليس من العلم.
- قال عبد الرحمن بن مهدي: «لا يكون إماماً في الحديث من تتبع شواذ
الحديث، أو حدث بكل ما يسمع، أو حدث عن كل أحد» [24] .
- وقال أيضاً: «لا يكون إماماً في العلم من أخذ بالشاذ من العلم، ولا إماماً
في العلم من روى عن كل أحد، ولا يكون إماماً من روى كل ما سمع» [25] .
والخطير في الأمر أن يعتبر الشذوذ في هذه الأيام اجتهاداً، والجرأة على
الإفتاء في دين الله تعالى تجديداً، ثم يعرض لذلك بعبارات معسولة حتى تقبله
العقول، وتستسيغه النفوس، مع الغفلة عن قول الله تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا
تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ
عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النحل: 116-117) ،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أُفتي بفتيا غير ثبت فإنما إثمه على
من أفتاه» [26] .
* مسؤولية الفتوى الشرعية:
إن مهمة الفتوى خطيرة، وإن مسؤولية المؤسسات الإسلامية تجاهها جِدُّ كبيرة
لما لهذه المؤسسات من دور مؤثر في توجيه الجاليات المسلمة في المجتمعات غير
الإسلامية، فلا يجوز لها أن ترد الناس إلى المتساهل في فتواه، أو المبالغ في
دعواه؛ فهذا يدفع الناس إلى الجرأة على الدين، ورد أقوال العلماء العاملين. كما
لا يجوز لها تبني الفتاوى الخاطئة، والآراء الشاذة، وإذاعتها بين الناس بدعوى:
- التيسير تارة.
- وفهم الواقع تارة أخرى.
- والضرورة تارة ثالثة.
- والحاجة التي تنزل منزلة الضرورة تارة رابعة.
فهذا منزع خطير يؤدي بالناس إلى الحيدة عن الالتزام بأحكام الشرع، والميل
لما تهواه النفس ويستسيغه الطبع.
إن اليسر الذي جاءت به الشريعة غير ما يدعو بعض الناس إليه، وإن فهم
الواقع لا يعني تطويع الأحكام الشرعية لما درج بعضهم عليه، والقول بالضرورة
لا يلجأ إليه إلا إذا تحققت شروطها، والاعتماد على الحاجة التي تنزل منزلة
الضرورة لا يصح ما لم تستجمع ضوابطها.
إن على المؤسسات الإسلامية أن تعي دورها، وتدرك مسؤولياتها، ولا تغفل
عن الواجبات الكبرى الملقاة على عاتقها، وإن من هذه الواجبات:
1 - توثيق صلتها بالمجامع الفقهية الموثوقة الموجودة في البلاد الإسلامية
التي يسهم في بحوثها وفتاواها علماء متخصصون، متفرغون للبحث العلمي
والغوص على درر المسائل، مهتمون بدراسة القضايا المستحدثة لإصدار الفتاوى
بشأنها بعيداً عن ليِّ النصوص الشرعية، أو تحميلها ما لا تحتمل من التفسيرات
القسرية. ومن هذه المجامع الفقهية الموثوقة:
- المجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي بجدة.
- المجمع الفقهي لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة.
- المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية في القاهرة.
- مجلس الفكر الإسلامي في إسلام آباد بالباكستان.
- وأكاديمية الفقه الإسلامي في دلهي بالهند.
2 - الرجوع في القضايا العاجلة إلى العلماء الأثبات المشهود لهم بسعة العلم،
ودقة الفهم، ومعرفة الواقع، وإدراك مقاصد الشارع الذين لا يلتقون على الأحكام
الشرعية بتعليلات وهمية، ولا يوردون على النصوص القرآنية والنبوية احتمالات
جدلية، ليقولوا بعد ذلك: «إن النص إذا تطرق إليه الاحتمال سقط به الاستدلال» .
فلا يجوز لمسلم فرداً كان أو مؤسسة أن يتجاوز نصاً من نصوص الشرع
لقول أحد من الناس كائناً من كان.
قال الإمام الشافعي: «أجمع الناس على أن من استبانت له سنة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم لم يكن له أن يدعها لقول أحد من الناس، وتواتر عن
الشافعي أنه قال: إذا صح الحديث فاضربوا بقولي الحائط» [27] .
* ضوابط الفتوى:
لقد سبق القول بأن الفتوى إخبار عن حكم الله، وأنها توقيع عن الله؛ لهذا
كان إطلاق القول بالحل أو الحرمة من غير ضوابط افتراءً على الله القائل في محكم
كتابه: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى
اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ] (النحل: 116) .
ويمكننا حصر أهم ضوابط الفتوى فيما يلي:
1 - الاعتماد على الأدلة الشرعية:
إن أول ما يجب توافره في الفتوى لتكون محلاً للاعتبار اعتمادها على الأدلة
الشرعية المعتبرة لدى أهل العلم.
- وأول هذه الأدلة: كتاب الله تعالى.
- وثانيها: سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلا يجوز للمفتي أن يتعداهما إلى غيرهما قبل النظر فيهما، ثم الاعتماد
عليهما، كما لا يجوز مخالفتهما اعتماداً على غيرهما، والأدلة على ذلك من كتاب
الله تعالى كثيرة، منها:
- قول الله تعالى: [وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً
أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِيناً]
(الأحزاب: 36) .
- ومنها قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ
وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ] (الحجرات: 1) . أي لا تقولوا حتى يقول، ولا
تأمروا حتى يأمر، ولا تفتوا حتى يفتي، ولا تقطعوا أمراً حتى يكون هو الذي
يحكم فيه ويمضيه. وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما:
«لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة» . وروى العوفي عنه قال: «نهوا أن
يتكلموا بين يدي كلامه» . والقول الجامع في معنى الآية: «لا تعجلوا بقول ولا
فعل قبل أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أو يفعل» [28] .
وأما الأدلة من السنة فكثيرة، نكتفي منها بالحديث الآتي:
- عن ابن عباس رضي الله عنهما أن هلال بن أمية قذف امرأته بشريك بن
سحماء عند النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر حديث اللعان وقول النبي صلى الله
عليه وسلم: «أبصروها؛ فإن جاءت به أكحل العينين، سابغ الأليتين، خَدَلَّجَ
الساقين [29] فهو لشريك بن سحماء، وإن جاءت به كذا وكذا فهو لهلال بن أمية.
فجاءت به على النعت المكروه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:» لو ما مضى
من كتاب الله لكان لي ولها شأن « [30] .
يريد - والله ورسوله أعلم - أنه كان يحدها لمشابهة ولدها للرجل الذي رميت
به. ولكن كتاب الله فصل الحكومة، وأسقط كل قول وراءه، ولم يبق للاجتهاد بعده
موقع» [31] .
فالفتوى الشرعية إذن يجب أن تعتمد على كتاب الله تعالى، وسنة رسول الله
صلى الله عليه وسلم، ولهذا يحسن بالمفتي أن يبين الدليل؛ لأن جمال الفتوى
وروحها هو الدليل «وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة
فيضرب لها الأمثال، ويشبهها بنظائرها، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا سئل أحدهم عن مسألة أفتى بالحجة نفسها، فيقول: قال الله تعالى كذا،
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، أو فعل كذا، فيشفي السائل، ويبلغ
القائل، وهذا كثير جداً في فتاويهم لمن تأملها.
ثم جاء التابعون، والأئمة من بعدهم، فكان أحدهم يذكر الحكم ثم يستدل عليه،
وعلمه يأبى أن يتكلم بلا حجة، والسائل يأبى قبول قوله بلا دليل، ثم طال الأمد
وبَعُدَ العهد بالعلم، وتقاصرت الهمم إلى أن صار بعضهم يجيب بنعم أو لا فقط،
ولا يذكر للجواب دليلاً ولا مأخذاً، ويعترف بقصوره وفضل من يفتي بالدليل، ثم
نزلنا درجة أخرى إلى أن وصلت الفتوى إلى عيب من يفتي بالدليل وذمه، ولعله
يحدث للناس طبقة أخرى لا يُدرى ما حالهم في الفتاوى، والله المستعان» [32] .
هكذا قال ابن القيم - رحمه الله - تعالى منذ قرون، وقد حدثت في الناس تلك
الطبقة التي تخوف منها، فراحت تتحيل على النصوص الشرعية بتعليلات وهمية،
وتسوق ما يروق لها من تسويغات جدلية، استسلاماً لضغوط الواقع، واستعظاماً
لبعض الأحكام الشرعية، وتحاول في بعض الأحيان تأييد أقوالها بحجج واهية،
ونصوص باطلة، لا تقوم بها حجة، ولا يفرح بها فقيه النفس، ولا يطمئن إليها
تقي القلب، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
- وثالث هذه الأدلة: الإجماع، وهو اتفاق جميع المجتهدين من المسلمين في
عصر من العصور بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم على حكم شرعي في
واقعة.
والإجماع حجة شرعية يجب اتباعها، ولا تجوز مخالفتها، والحكم الثابت
بالإجماع حكم شرعي قطعي لا مجال لمخالفته ولا إلى نسخه، وليس للمجتهدين في
عصر تالٍ أن يجعلوا هذه القضية موضع اجتهاد؛ فما بالك بمخالفته ببعض الأقوال،
وآراء الرجال!!
والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله تعالى: [وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ
وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ] (النساء: 83) .
وقوله سبحانه: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ
سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] (النساء: 115) .
- ورابع هذه الأدلة: القياس، وهو إلحاق واقعة لا نص على حكمها بواقعة
ورد نص بحكمها في الحكم الذي ورد به النص، لتساوي الواقعتين في علة هذا
الحكم.
وهو حجة شرعية على الأحكام العملية عند جمهور الفقهاء، كما أنه في
المرتبة الرابعة من الحجج الشرعية، بحيث إذا لم يوجد في الواقعة حكم بنص أو
إجماع، وثبت أنها تساوي واقعة نُصَّ على حكمها في علة هذا الحكم، فإنها تقاس
بها، ويُحكم فيها بحكمها، ويكون هذا حكمها شرعاً، ويسع المكلف اتباعه والعمل
به [33] .
والأدلة على حجيته كثيرة، منها قول الله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا
اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ
وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً] (النساء:
59) .
ولا يحسن القياس إلا فقيه النفس، أصولي الطبع، وما لم يكن كذلك فإنه
تغلبه الغفلة، ويزلُّ من أول وهلة.
2 - وثاني هذه الضوابط: تعلق الفتوى بموضوع الاستفتاء:
إن الفتوى إذا تعلقت بموضوع الاستفتاء بلغت بالمستفتي حاجته، وحصل
منها على مراده. فإذا خرجت عن ذلك فإنها لا تسد له حاجة، ولا تحل له مشكلة،
ولا تنقذه من معضلة، ولم يشرع الإفتاء إلا للإجابة على التساؤلات، وحل ما
يعرض للإنسان من مشكلات.
غير أن المفتي إذا توقع من السائل استغراباً للحكم، فله أن يمهد له بمقدمة
حتى يسلك الحكم الشرعي إلى قلبه، فيتقبله بقبول حسن؛ ويدل على ذلك قصة
نسخ القبلة؛ فإنها لما كانت شديدة على النفوس جداً وطَّأ الله سبحانه وتعالى قبلها
عدة موطئات، منها: ذكر النسخ، ومنها: أنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله،
ومنها: أنه على كل شيء قدير، وأنه بكل شيء عليم؛ فعموم قدرته وعلمه صالح
لهذا الأمر الثاني كما كان صالحاً للأول [34] .
ويجوز أن تكون الفتوى أشمل من موضوع الاستفتاء بحيث يجيب السائل
بأكثر مما سأل عنه لفائدة يرى أنها تفيد السائل؛ فقد سأل الصحابة رسول الله صلى
الله عليه وسلم عن ماء البحر، فقالوا له: «إنَّا نركب البحر وليس معنا ما نتوضأ
به؛ أفنتوضأ من ماء البحر؟ فقال: هو الطهور ماؤه الحل ميتته» [35] .
فقد أجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ميتة البحر رغم أنهم لم يسألوا
عنها لما في ذلك من فائدة لهم في هذا البيان.
وقد بوَّب البخاري لذلك في صحيحه، فقال: «باب من أجاب السائل بأكثر
مما سأل عنه» ثم ساق من الحديث ما يدل على ذلك.
ويجوز العدول عن موضوع الاستفتاء إلى موضوع آخر يكون أنفع للسائل
مما سأل عنه، أو يكون موضوع الاستفتاء لا يترتب عليه عمل، أو لكون مدارك
السائل لا تقوى على فهم ذلك الموضوع الجلل، يدل على ذلك قول الله تعالى:
[يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ] (البقرة: 189) .
فقد سألوه عن سبب ظهور الهلال خفياً ثم لا يزال يتزايد فيه النور على
التدريج حتى يكمل، ثم يأخذ في النقصان، فأجابهم عن حكمة ذلك من ظهور
مواقيت الناس التي بها تمام مصالحهم في أحوالهم ومعاشهم ومواقيت أكبر عبادتهم
وهو الحج.
فإن كانوا قد سألوا عن السبب فقد أجيبوا بما هو أنفع لهم مما سألوا عنه، وإن
كانوا إنما سألوا عن حكمة ذلك فقد أجيبوا عن عين ما سألوا عنه، ولفظ سؤالهم
محتمل؛ فإنهم قالوا: ما بال الهلال يبدو دقيقاً ثم يأخذ في الزيادة حتى يتم ثم يأخذ
في النقص؟ [36] .
كما يجوز العدول عن موضوع السؤال، أو الإمساك عن الجواب، إذا ترتب
على الجواب فتنة للسائل؛ فقد قال ابن عباس رضي الله عنه لرجل سأله عن تفسير
آية: وما يؤمنك أني لو أخبرتك بتفسيرها كفرت به؟ أي أنكرت هذا الحكم.
3 - ثالث هذه الضوابط: سلامة الفتوى من الغموض:
لما كانت الفتوى بياناً لحكم شرعي، وتحمل في طياتها تبليغه للسائل، وجب
تقديمها بأسلوب مبين، وكلام واضح قويم؛ فقد أمر الله تعالى نبيه الكريم بالبلاغ
المبين، فقال سبحانه: [وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاغُ المُبِينُ] (النور: 54) .
لذا كان من وضوح الفتوى: خلوها من المصطلحات التي يتعذر على
المستفتي فهمها، وسلامتها من التردد في حسم القضية المسؤول عنها.
غير أن هناك من يعمد إلى تضمين الفتوى عدة أقوال ليقحم فيها بعض الآراء
الشاذة، وينشرها في الناس بدعوى التيسير والمرونة، فيسلط الأضواء عليها،
ويلفت الأنظار إليها، ليُدخل في رُوع المستفتي أنها أقوال لا تقل شأناً عن غيرها،
وله أن يختار ما شاء منها، فيدع من ثم الأقوال الصحيحة وينأى بنفسه عنها،
ويعرض عما استقرت الأمة عليها، ويتشبث بما وجهت الفتوى الأنظار إليه؛ لأنه
قد قيل له: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا يعذب على شيء اختلفت فيه الأئمة،
فيصبح الإفتاء بما تواضع أهل العلم عليه، مستهجناً تتحرج الصدور من سماعه،
وتضيق النفوس من بيانه؛ فإنا لله وإنا إليه راجعون.
ومن آخر ما صدر من هذه الآراء الشاذة: «الفتوى الصادرة عن المجلس
الأوروبي للإفتاء والبحوث التي ختمها بنقل القول بجواز بقاء المرأة على عصمة
زوجها الكتابي إذا أسلمت وبقي على دينه، فقال: لا يجوز للزوجة عند المذاهب
الأربعة بعد انقضاء عدتها البقاء عند زوجها، أو تمكينه من نفسها، ويرى بعض
العلماء أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها بكامل الحقوق والواجبات الزوجية، إذا
كان لا يضيرها في دينها وتطمع في إسلامه ... إلخ» [37] .
تصدر هذه الفتوى لتنسف كل ما عزته إلى المذاهب الأربعة من عدم جواز
بقاء المرأة المسلمة عند زوجها الكتابي، أو تمكينه من نفسها، يقول المجلس:
ويرى بعض العلماء أنه يجوز لها أن تمكث مع زوجها بكامل الحقوق والواجبات
الزوجية إلخ، مدعماً ذلك ببعض الروايات، دون الإشارة إلى أن إعراض الأمة منذ
قرون طويلة عن الأخذ بتلك الروايات الشاذة حتى ولو كانت صحيحة الإسناد يعتبر
علة قادحة فيها، لا يحل نقلها إلا للرد عليها؛ فما بالك بترويجها ولفت الأنظار إليها!
فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
4 - ورابع هذه الضوابط: مراعاة الحال، والزمان، والمكان:
إن من ضوابط الفتوى مراعاتها للحال، والزمان، والمكان؛ إذ قد تتغير
الفتوى بتغير الزمان والمكان إذا كان الحكم مبنياً على عرف بلدٍ، ثم تغير هذا
العرف إلى عرف جديد ليس مخالفاً لنص شرعي.
الأول: أن يكون الحكم مبنياً على عرف، كتعارف أهل بلد على ألفاظ محددة
يوقعون بها الطلاق، فتراعى هذه الألفاظ بالنسبة إلى أهل ذلك المكان، وتترتب
عليها الأحكام.
الثاني: أن يكون العرف الجديد الذي تغيرت بسببه الفتوى غير مخالف لنص
شرعي، مثل: إهمال أهل منطقة لبعض ألفاظ تعارف أسلافهم على أنها من ألفاظ
الطلاق، بحيث لو جرت على ألسنتهم لم يخطر ببالهم ولا في نيتهم أنها لفظ من
ألفاظه؛ ولذلك لا تترتب عليها الأحكام التي ترتبت عليها عند أسلافهم الذين تعارفوا
عليها؛ هذا إذا لم تكن من ألفاظ صريح الطلاق التي يقع فيها الطلاق في حالتي
الجد والهزل؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: «ثلاث جدهن جد، وهزلهن جد: النكاح، والطلاق، والرجعة» [38] .
وقد راعى الشارع أمر الزمان والمكان؛ ألا ترى أن حد السرقة هو قطع يد
السارق، إلا أنها لو وقعت أثناء غزو الأعداء وفي بلادهم فإنها لا تقطع هناك، بل
يلزم تأجيل إقامة الحد، لئلا يداخل صاحبَها حمية الشيطان فيلحق بالكفار؛ والدليل
على عدم القطع في الغزو ما ورد عن بسر بن أرطأة قال: سمعت النبي صلى الله
عليه وسلم يقول: «لا تقطع الأيدي في الغزو» [39] ، وعلى ذلك إجماع الصحابة.
فالمنكر إذا ترتب على إنكاره ما هو أنكر منه فلا يسوغ إنكاره، وما قول
النبي صلى الله عليه وسلم لعائشة رضي الله عنها: «لولا أن قومك حديثو عهد
بجاهلية لهدمت الكعبة، ولجعلت لها بابين» [40] إلا دليل صدق على ما نقول.
قال ابن القيم: «وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه ونور
ضريحه - يقول: مررت أنا وبعض أصحابي في زمن التتار بقوم منهم يشربون
الخمر، فأنكر عليهم من كان معي، فأنكرت عليه، وقلت له: إنما حرم الله الخمر؛
لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن قتل النفوس،
وسبي الذرية، وأخذ الأموال، فدعهم» [41] .
والمعروف أن أصحاب الإمام أبي حنيفة خالفوا إمامهم في مسائل كان مبناها
على العرف، أو تغير الزمان والمكان والأحوال، لا سيما بعد وفاته، وعلل الفقهاء
هذا النوع من الاختلاف بأنه اختلاف عصر وزمان، لا اختلاف حجة وبرهان.
والإمام الشافعي صار له مذهب جديد حين استقر به المقام في مصر، لأمور
عديدة من أهمها: تغير الزمان، والمكان، والأحوال.
ولهذا رجح الفقهاء بعض الأقوال على بعضها الآخر عند اختلافها اعتباراً
للعرف، أو الحال، أو الزمان، أو المكان.
قال الحصكفي: «قد يحكون أقوالاً بلا ترجيح، وقد يختلفون في الصحيح،
قلت: يعمل بمثل ما عملوا من اعتبار تغير العرف، وأحوال الناس، وما هو
الأوفق، وما ظهر عليه التعامل، وما قوي وجهه» [42] .
وعلى الفقيه مراعاة الأحوال قبل إصدار فتواه؛ إذ قد يكون الحكم مبنياً على
معنى معين ثم تغير ذلك المعنى كما في صدقة الفطر؛ «فقد جاء الحديث الشريف
بإخراج صاع من تمر أو شعير أو زبيب أو أقط. وقد قال العلماء: يجوز إخراج
صدقة الفطر من الذرة أو الأرز أو غيرهما إذا كانت هذه الأصناف غالب أقوات
البلد. وعللوا ذلك بأن الأصناف الواردة في الحديث الشريف إنما جاءت؛ لأنها
كانت هي غالب أقوات أهل المدينة، ولم تأت على سبيل الحصر والتخصيص»
[43] .
والمعروف أن «الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والعوائد والأحوال؛
وذلك كله من دين الله» [44] ؛ «فلكل زمان حكم، والناس بزمانهم أشبه منهم
بآبائهم» [45] .
غير أنه لا تصح مخالفة النصوص، أو تأويلها تأويلاً متعسفاً، ولا تطويعها
لواقع غير إسلامي بدعوى فهم الواقع، أو تغير الزمان والمكان؛ فهذا تحريف للكلم
عن مواضعه، واتباع لما تهوى الأنفس.
5 - وخامس ضوابط الفتوى: عدم الإجمال فيما يقتضي التفصيل:
إذا كان في المسألة تفصيل فليس للمفتي إطلاق الجواب، بل عليه أن
يستفصل السائل حتى يعطيه الجواب الموافق لمسألته؛ لأن إجمال الفتوى في مثل
هذه الحالة تجعل الحكم واحداً لصور مختلفة تختلف الفتوى باختلافها، فيجيب بغير
الصواب، ويَهلك ويُهلك، وما ذلك إلا لعدم التبين.
يدل على ذلك أن أبا النعمان بن بشير سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
يشهد على غلام نَحَله ابنَه، فاستفصله النبي صلى الله عليه وسلم، وقال له: أكلَّ
ولدك نحلته كذلك؟ فقال: لا، فأبى أن يشهد.
ويفهم من هذا أن الأولاد إذا اشتركوا في النحل صح ذلك، وإذ لم يشتركوا
فيه لم يصح.
قال ابن القيم: «وقد استفصل النبي صلى الله عليه وسلم ماعزاً لما أقر
بالزنا: هل وجد منه مقدماته أو حقيقته؟ فلما أجابه عن الحقيقة استفصله: هل به
جنون فيكون إقراره غير معتبر، أم هو عاقل؟ فلما علم عقله استفصله: بأن أمر
باستنكاهه ليعلم هل هو سكران أم صاح؟ فلما علم أنه صاح استفصله: هل أحصن
أم لا؟ فلما علم أنه قد أحصن أقام عليه الحد» [46] .
أما إذا لم تدع الحاجة إلى الاستفصال، فيحسن بالمفتي عند ذلك الإجمال.
6 - وسادس هذه الضوابط: التجرد من الهوى في المفتي والمستفتي:
إن من أهم الضوابط لسلامة الفتوى تجردها من الأهواء، سواء كان مبعثها
المستفتي أو المفتي.
- أما المستفتي: فقد يدفعه هوى متبع فيزين الباطل بألفاظ حسنة ليغرر
بالمفتي حتى يسوغ ذلك للناس، مع أن ما يسأل عنه من أبطل الباطل.
قال ابن القيم: «فكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه
في صورة حق! وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل! ومن
له أدنى فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هو أغلب أحوال الناس» [47] .
ولهذا اشترط العلماء في المفتي أن يكون متيقظاً حتى لا تغلب عليه الغفلة
والسهو، عالماً بحيل الناس ودسائسهم حتى لا يغلبوه بمكرهم، فيستخرجوا منه
الفتاوى حسب أهوائهم.
قال ابن عابدين: «وهذا شرط في زماننا، وليحترز من الوكلاء في
الخصومات، فإن أحدهم لا يرضى إلا بإثبات دعواه لموكله بأي وجه أمكن. ولهم
مهارة في الحيل والتزوير وقلب الكلام، وتصوير الباطل بصورة الحق؛ فغفلة
المفتي يلزم منها ضرر عظيم في هذا الزمان» [48] .
وقال ابن القيم: «ينبغي للمفتي أن يكون بصيراً بمكر الناس وخداعهم
وأحوالهم، ولا ينبغي أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذراً فطناً، فقيهاً بأحوال
الناس وأمورهم، يؤازره فقهه في الشرع. وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ» [49] .
- وأما المفتي فإن تجرده من الهوى أشد لزوماً من المستفتي؛ لأنه مخبر عن
الله تعالى؛ فإن أفتى بهواه موافقة لغرضه أو غرض من يحابيه كان مفترياً على الله.
لقول الله تعالى: [وَلاَ تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ
لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ
وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ] (النحل: 116-117) .
لقد عشنا في زمن سمعنا فيه فتاوى ظالمة، وآراء آثمة، فيها محادة لله
ورسوله، منها: القول بجواز ربا البنوك محاباةً لمن يطلب ذلك من أصحاب النفوذ
مع أن الله تعالى حرم الربا بنصوص قطعية الثبوت، قطعية الدلالة، منها قوله
سبحانه: [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ *
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ
وَلاَ تُظْلَمُونَ] (البقرة: 278-279) ، ورغم هذا الوعيد الشديد فقد خرج على
الأمة من أفتاها بجواز ربا البنوك، دون وجل أو خوف من ملك الملوك، أو خشية
من عذاب الله، أو رهبة من حرب آذن بها الله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
قال ابن القيم: «لا يجوز العمل والإفتاء في دين الله بالتشهي والتخير
وموافقة الغرض؛ فيطلب القول الذي يوافق غرضه وغرض من يحابيه فيعمل به،
ويفتي به، ويحكم به، ويحكم على عدوه، ويفتيه بضده، وهذا من أفسق الفسوق،
وأكبر الكبائر» [50] .
لهذا كان من شرائط المفتي عدم تأثير القرابة والعداوة فيه، وعدم جر النفع
ودفع الضرر من أجل ذلك المعنى؛ لأن المفتي في حكم من يخبر عن الشرع بما لا
اختصاص له بشخص، فكان في ذلك كالراوي لا كالشاهد [51] .
وقد يداخل الهوى بعض المنتمين إلى العلم «فيتعلق بالخلاف الوارد في
المسائل العلمية، بحيث يتحرى الفتوى بالقول الذي يوافق هوى المستفتي، بناء
منه على أن الفتوى بالقول المخالف لهواه تشديد عليه، وحرج في حقه، وأن
الخلاف إنما كان رحمة لهذا المعنى، وليس بين التشديد والتخفيف واسطة. وهذا
قلب للمعنى المقصود في الشريعة، فإن اتباع الهوى ليس من المشقات التي
يترخص بسببها، والخلاف إنما هو رحمة من جهة أخرى، فليأخد الموفق في هذا
الموضوع حذره؛ فإنه مزلة قدم على وضوح الأمر فيه» [52] .
7 - وسابع ضوابط الفتوى: أهلية المفتي:
لما كان الإفتاء إخباراً عن حكم الله، وكانت الفتوى توقيعاً عن الله، فلا بد
للمتصدر للفتوى أن تتحقق فيه الأهلية الشرعية.
وقد اشترط الأصوليون لتحقق هذه الأهلية شروطاً معينة، وصفات محددة،
نجملها فيما يلي: «أن يكون مكلفاً، مسلماً، ثقة، مأموناً، متنزهاً من أسباب
الفسق ومسقطات المروءة؛ لأن من لم يكن كذلك فقوله غير صالح للاعتماد، حتى
وإن كان من أهل الاجتهاد. ويكون مع ذلك متيقظاً، فقيه النفس، سليم الذهن،
رصين الفكر، صحيح التصرف والاستنباط [53] .
قال ابن قيم الجوزية:» قال صالح بن أحمد: قلت لأبي: ما تقول في
الرجل يسأل عن الشيء، فيجيب بما في الحديث وليس بعالم في الفقه؟ فقال:
يجب على الرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالماً بوجوه القرآن، عالماً
بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما
جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها «.
- وقيل لابن المبارك:» متى يفتي الرجل؟ قال: إذا كان عالماً بالأثر،
بصيراً بالرأي «.
- وقيل ليحيى بن أكثم:» متى يجب للرجل أن يفتي؟ فقال: إذا كان
بصيراً بالرأي، بصيراً بالأثر «.
قال ابن القيم بعد الأثرين السابقين: يريدان بالرأي القياس الصحيح،
والمعاني والعلل الصحيحة التي علق الشارع بها الأحكام، وجعلها مؤثرة فيها طرداً
وعكساً» [54] .
لهذا كله ذهب أكثر الأصوليين إلى أن المفتي هو المجتهد [55] .
قال الكمال بن الهمام: «وقد استقر رأي الأصوليين على أن المفتي هو
المجتهد، وأما غير المجتهد ممن يحفظ أقوال المجتهد فليس بمفتٍ، والواجب عليه
إذا سئل أن يذكر قول المجتهد، كالإمام أبي حنيفة على وجه الحكاية، فعرف أن ما
يكون في زماننا من فتوى الموجودين ليس بفتوى، بل هو نقل كلام المفتي ليأخذ به
المستفتي» [56] .
وقد عبر الأصوليون عن «غير المجتهد» بالمستفتي تارة، وبالمقلد تارة
أخرى، ولهذا اختلفوا في جواز إفتائه:
- فقال أبو الحسين البصري وغيره: ليس له الإفتاء مطلقاً.
- وجوزه قوم مطلقاً إذا عرف المسألة بدليلها.
قال كاتب هذه السطور: وهذا أرفق بزماننا الذي خلا عن المجتهد المطلق
لئلا تتوقف الفتوى، وتتعاظم البلوى، ويشتد الحرج، وتتعطل مصالح الخلق.
ولا يعني هذا أن يتصدر للفتوى من حفظ بعض الأحكام، أو أجاد تنميق
الكلام.
فقد جاء في البحر المحيط نقلاً عن مختصر التقريب: «وأجمعوا على أنه لا
يحل لمن شدا شيئاً من العلم أن يفتي» [57] .
وقال الجويني في شرح الرسالة: «من حفظ نصوص الشافعي، وأقوال
الناس بأسرها، غير أنه لا يعرف حقائقها ومعانيها، لا يجوز له أن يجتهد ويقيس،
ولا يكون من أهل الفتوى، ولو أفتى به لا يجوز» [58] .
أما الخصال التي يجب على المفتي الاتصاف بها فقد أجملها الإمام أحمد بن
حنبل بقوله: «لا ينبغي للرجل أن ينصب نفسه للفتيا حتى يكون فيه خمس خصال:
أولها: أن تكون له نية؛ فإن لم تكن له نية لم يكن عليه نور، ولا على
كلامه نور.
والثانية: أن يكون له علم وحلم ووقار وسكينة.
والثالثة: أن يكون قوياً على ما هو فيه وعلى معرفته.
والرابعة: الكفاية؛ وإلا مضغه الناس.
والخامسة: معرفة الناس» [59] .
تلك هي شروط وخصال المفتي أوردتها باختصار يتناسب مع حجم
الموضوع.