مجله البيان (صفحة 4313)

ملفات

الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة

الأبعاد الثقافية والأيديولوجية للفرنكوفونية بالمغرب

د. محمد خروبات [*]

* محاولة في تحديد الفرنكوفونية.. ما هي؟

يقول بعضٌ إن الحركة الفرنكوفونية ترتبط بقدم تسلط فرنسا على مستعمراتها،

ويقول بعضٌ آخر إنها حركة فكرية وثقافية برزت بعد الاستقلال تحاول صهر كل

الدول التي كانت تحت السيطرة الاستعمارية الفرنسية في إطار واحد.

النظرة الأولى: حبست نفسها في المرحلة الاستعمارية، وهي المرحلة

التاريخية التي كان فيها بلد ما تحت الاحتلال العسكري لفرنسا، وتنحصر هذه

النظرة في لحظة الهجوم ولحظة الخروج العسكري وتحصيل ما يسمى بـ

«الاستقلال» . وسواء كانت هذه النظرة تنطلق من لحظة الهجوم صوب

لحظة الاستقلال، أو تنطلق من لحظة الاستقلال إلى لحظة الهجوم فاستنتاجها يبدو

واحداً.

النظرة الثانية: حبست نفسها في مرحلة الاستقلال، وهي المرحلة التاريخية

التي بدأ فيها بلد كالمغرب مثلاً يحس بأنه تحرر من الاستعمار العسكري الفرنسي

المباشر. وهذه النظرة تحصر نفسها بين لحظة الاستقلال إلى العهود الحالية.

وسواء عليها أكانت تنطلق من لحظة تحصيل الاستقلال إلى العهد الحالي أو العكس

فإن استنتاجها يبدو هو أيضا واحداً.

تهمنا الإشارة إلى هاتين النظرتين؛ لأنهما من أقوى الاتجاهات في تحديد

الفرنكوفونية في إطار من التاريخية والموضوعية المطلوبتين، وعند النظر يتبين

أنهما غير متعارضتين؛ فالنظرة الثانية تكمل الأولى والعكس. وللتوفيق نقول: إن

الفرنكوفونية حركة حديثة برزت بعد الاستقلال، لكنها تحتضن كل عوامل الماضي

وسلبياته، وهي جزء من الإمبريالية الابتلاعية، غير أنها مرتبطة ببلد واحد،

وبدولة غربية واحدة هي فرنسا.

* الفرنكوفونية هي حلم فرنسا في تحقيق الإمبراطورية الكبرى:

كانت الفرنكوفونية هي الأسلوب الحسن، والطريقة المجدية التي نجمت عن

الحلم الذي ساور فرنسا طيلة مدة، وهو حلم غارق في الرومانسية والخيال، ويؤمن

بتحقيق الإمبراطورية الفرنسية في إفريقيا، ويتحقق الحلم حين تتقابل فرنسا

الأوروبية مع فرنسا الإفريقية وهي التي يطلقون عليها: La france Lautre

mèr، (فرنسا الأم الأخرى) .

لكن السياسة الفرنسية التي نهجتها حكومة الاستعمار في البلدان الإفريقية لم

تحقق لا الإمبراطورية الفرنسية الخيالية، ولا الوحدة ولا الازدهار لإفريقيا الفرنسية

إنما الذي تحقق هو الزوابع الثقافية، والهزات الفكرية، والنعرات الإقليمية

الدامية، والانقلابات السياسية؛ ناهيك عن الاضطرابات الاجتماعية المتتالية. وها

هي بلاد المغرب العربي ومنها المغرب الأقصى تغلي بالتيارات والأحزاب

الفرنكوفونية، ذات الأيديولوجيات العنصرية، بحيث توضع الأيديولوجيا فوق

مصالح القطر، والإقليم، والطائفة، والدولة، والدين. وهي كلها محاولات فجة

لطمس الهوية والعروبة والتراث. وهذا كله لا يضمن الوحدة بالمعنى السياسي

للكلمة.

* الفرنكوفونية في المغرب: المراحل والمجالات والأهداف:

المراحل التي مرت خلالها الفرنكوفونية:

مرت الفرنكوفونية في المغرب بمراحل كان أولها المرحلة الثقافية، وهي

المرحلة المقصودة عندنا في هذا البحث.

لم تكن الفرنكوفونية في هذه المرحلة - باستثناء الدخلاء المعمرين - تتجاوز

الفرد والفردين، على مستوى التعليم والتلقين والتوجيه والتكوين. وكان أسلوب

التثقيف الفرنكوفوني يتم عبر جغرافيين داخل الوطن وخارجه. وبمرور الوقت

تطورت الفرنكوفونية إلى تكوين معاهد ومؤسسات قادرة على تكوين أجيال.

وتنوعت إلى نوعين: مؤسسات عامة هي في ملك السلطة الحاكمة، ومؤسسات

خاصة يديرها أحرار لكنهم تابعون وعاملون. ثم قفزت الفرنكوفونية من ميدان اللغة

والثقافة إلى ميدان السياسة والاقتصاد. والمغاربة يذكرون في تاريخ وطنهم - الذي

تعتبر هذه المرحلة جزءاً منه - لجنة البحث والتقصي التي أسسها الاستعمار،

وأطلق عليها: (لجنة الأبحاث البربرية) ، وهي لجنة ذات طابع فكري وثقافي،

يخدم الغرض العسكري والاستعماري. كان من اللازم أن نبين أن الذي أمر بتأليف

هذه اللجنة هو المقيم الفرنسي الأول: الجنرال اليوطي، وهذه الشخصية لها دلالات

في ذاكرة المغاربة [1] ، وتوحي لهم بأشياء كثيرة. كان الغرض إذاً هو جمع

الأبحاث المتعلقة بالقبائل البربرية، من جميع أنحاء المغرب، ثم تدرس هذه

المعلومات في خطوة ثانية لتستخرج منها نتائج عملية تقدم إلى الإدارة المستعمرة

لتساعدها على تنظيم القبائل البربرية وإدارتها. ولخطورة هذه اللجنة لا بد من

الإشارة إلى أعضائها المتمثلين في الهيئات، والمؤسسات، واللجان، والأشخاص

ذوي الخبرة الاستعمارية الفائقة؛ وذلك من خلال هذا النص الغني بالإيحاءات

والإشارات. يقول النص:

(تألفت هذه اللجنة في رباط الفتح، حيث القصر السلطاني، وقصر الإقامة

العامة، بتاريخ 9/1/1915م، وتألفت تحت رئاسة الكاتب العام للحماية،

وبعضوية رئيس إدارة التعليم، ورئيس إدارة الأوقاف، ومدير إدارة الاستخبارات،

ورئيس المكتب الحربي، ومدير المدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية التي

أنشأها المقيم العام اليوطي لهذا الغرض سنة 1913م، وبعضوية جميع الأساتذة

الذين يدرسون في هذه المدرسة الذين انتخبهم اليوطي من خيرة دعاة السياسة

البربرية في الجزائر وتونس وفرنسا. ونظرة واحدة إلى هذه العناصر، التي

تكونت منها هذه اللجنة تكفي للدلالة على الغرض البعيد الذي كان يرمي إليه اليوطي

من السياسة البربرية في المغرب. يضاف إلى ذلك أن الإقامة العامة قد وضعت

بهذه اللجنة مبدأ «استئجار العلماء» ومن يحملون الألقاب العلمية، فاتخذت من

أساتذة المدرسة العليا للغة العربية واللهجات البربرية خدمة مأجورين، وأماتت فيهم

الضمائر الحية التي يمتاز بها العلماء ويبحثون في ضوئها حقائق الوجود.

وأصبحت كل أبحاثهم وكتبهم عبارة عن دعاية قوية باسم العلم إلى السياسة البربرية

الخرقاء) [2] .

وإلى جانب هذا يذكر المغاربة في تاريخهم الوطني الإدارة التي أنشأها

الاستعمار، وسماها بـ (إدارة الشؤون الأهلية) ؛ حيث كان الهدف منها تكوين

(جماعات بربرية) ، مع إيجاد أنظمة لها تدعى (الجمعيات القضائية) . وقد دعمت

هذه الإدارة بعدة ظهائر وقرارات، وصدر أول تنظيم لها فيما بين سنتي 1923م،

1924م، ونجحت في إنشاء نحو من ثمانين جماعة بربرية، وما زال التاريخ يذكر

إنشاء المجالس والمعاهد الفرنكوفونية، وتطور ذلك اليوم إلى صيغة حديثة

ومعاصرة، وبدأت تختار في عضويتها بعض الأسماء المغربية اللامعة، نذكر من

ذلك مثلاً (المجلس الأعلى للفرنكوفونية) الذي تأسس في فرنسا بظهير رئاسي في

شهر مارس / آذار من سنة 1984م، وكان الكاتب المغربي الطاهر بن جلون واحداً

من أعضائه. وكان هذا المجلس ثمرة لجهود متواصلة سابقة بدأت بعنصر الاتصال

الأول الذي تم بين المجتمع المغربي المدني، والقوات الاستعمارية العسكرية. ومنذ

الوهلة الأولى بدأ الاهتمام بالإقامات العصرية، والمدارس العصرية، والإدارات

العصرية، والتسيير العصري، وفي المقابل حصل تهميش ذريع لكل ما هو تقليدي؛

فالإقامات العصرية ليست كالمساكن البالية، والمدارس العصرية هي بخلاف

المدارس العتيقة، غير المجهزة تجهيزاً كاملاً، والإدارات العصرية ليست

كالإدارات التقليدية التي لا تقوى على الصمود أمام خدمات المواطنين المحدثين.

هكذا بدأ الميل إلى كل ما هو عصري وحديث. وامتد ذلك إلى الفرش

والأثاث واللباس والأكل وطرق الزينة. لا يخامر الشك أحداً في أن هذا كله هو

نتيجة فكر وثقافة، يتم توصيلهما عبر لغة، تحمل في معانيها شحناً من التأثير

البليغ. فمن خلالها حصل الامتداد؛ حيث اشرأبت الأعناق إلى تعلم لغة المستعمر

الذي (فَرْنَسَ) كل المؤسسات، وجعل من اللازم على كل مغربي يريد ولوج سلك

الإدارة المغربية، أن تجرى له اختبارات في اللغة الفرنسية، أو يكون حائزاً على

شهادة تثبت مستواه اللغوي.

ومما تجب الإشارة إليه أن الفرنكوفونية لم تعد حكراً على فئة معينة من

المتعلمين التلاميذ؛ بل امتد ذلك إلى آبائهم وأمهاتهم؛ إذ كانت سياسة المستعمر

التعليمية أن البيت إذا لم يكن ناطقاً بالفرنسية فإن هذا ينعكس سلباً على مستوى

التلميذ؛ فللرقي به، وللرفع من مستواه يستدعى أولياؤه ليأخذوا حصصاً منتظمة في

اللغة. ونجحت هذه العملية بشكل كبير، وكانت الحصص تعطى مجاناً، وبعد أن

حققت نجاحاً باهراً بدأ التنافس على التعليم الفرنكوفوني، وفتحت المدارس والمعاهد

أبوابها لتلقين اللغة بالمقابل، وهو الأمر الذي يتم اليوم وباكتظاظ شديد. وتتبع هذه

المدارس سياسة التمييز الطبقي في تسجيل الأبناء؛ بحيث لا تختار سوى أولاد

الطبقة البورجوازية، وأبناء الفعاليات العليا. أما أولاد الطبقة المتوسطة والفقيرة؛

فلا مكان لهم فيها، وهذه سياسة مفضوحة؛ فالاستعمار يركز على الرؤوس

وأصحاب القرار النافذ أكثر من غيرهم. وإذا نجح في ذلك فإنه يمسك البلد من

ناصيتها، وقد نجح فعلاً في ذلك، ولبيانه لا بد من الإشارة ولو بصفة عابرة إلى

المجالات التي تنتشر فيها الفرنكوفونية.

* المجالات التي تنتشر فيها الفرنكوفونية:

عن أي مجال نتحدث؟ هل نتحدث عن المجال الإعلامي الذي هو فرنكوفوني

في القناتين المغربيتين الأولى والثانية؟ أم نتحدث عن البحث العلمي في كليات

العلوم والطب والصيدلة، وفي المدارس العليا للتجارة والمعلوميات والهندسة، هذه

المدارس التي لا تقيم وزناً للغة العربية، والتدريس فيها لا يكون إلا بالفرنسية؟ أم

نتحدث عن كليات الآداب والعلوم الإنسانية وشُعبها، حيث تزاحم الفرنسية العربية

في كل شعبة؟ أم نتحدث عن الأنشطة العلمية الإشعاعية والتي تقام لها تغطية

إعلامية واسعة، وتقدم لها إعلانات هائلة؟

إن الفرنكوفونية تنتشر في كل المجالات تقريباً، ونشير هنا إلى المجالات

الحيوية التي تبني توجه البلد، وتحدد مساره. وأقوى هذه المجالات هو المجال

الثقافي، والمجال العلمي، والمجال الإعلامي، والمجال الإداري.

في ميدان العلوم الإنسانية تبرز الفرنكوفونية في القصة القصيرة، والرواية،

والمسرح، والترجمة، كما تبرز في علم الاجتماع، وعلم النفس، وفلسفة العلوم،

والاقتصاد، والدراسات الحقوقية والقانونية. أما في التخصصات العلمية فللفرنسية

السيادة المطلقة؛ إذ لا تنافسها سوى الإنجليزية وهي على كل حال لغة لاتينية.

وللتمكين يسرت فرنسا مأمورية التلقين من جهة أخرى، فسهلت طريقة

التسجيل في الجامعات والمعاهد الفرنسية، وهذه الظاهرة جديرة وحدها بالدراسة

والبحث. إننا لا ندري على وجه التحديد كم هي الأعداد التي تتخرج في كل سنة

من المعاهد والجامعات الفرنسية؟ ولا ندري على وجه اليقين كم عدد الطلبة

والباحثين الذين يتلقون تعليماً وتربية فرنكوفونية في المغرب، وفي فرنسا؟ ويبدو

أن العدد هائل، وهو يزداد سنة بعد أخرى. إذا كان هذا عن المجالين الثقافي

والعلمي؛ فإن للمجال الإعلامي والإداري دوراً أكبر في هذا السياق؛ فجل الجرائد

والمجلات الوطنية تكتب بالفرنسية، وتستقل القناة التلفزية الثانية بالقيام بالدور

الفرنكوفوني. وهو دور يكاد يوازي القناة الفرنسية الخامسة التي تكلفت بتوسيع

مدى الفرنكوفونية على أوسع نطاق في العالم التابع.

أما الإدارة المغربية فلغة التواصل فيها تتم باللغة الفرنسية، وجل الوثائق تسلم

للمواطنين بالفرنسية، وحتى إن القرويين الذين تخيم عليهم آثار الأمية ما زالوا

يتسلمون وثائقهم الإدارية بهذه اللغة، وهذا وحده كاف في بيان عمق تغلغل

الفرنكوفونية في المغرب المسلم، وهو يجري لأهداف لا بد من بيانها، وهو الأمر

الذي نشير إليه في النقطة التالية.

* أهداف الفرنكوفونية:

من خلال الفرنكوفونية يتم نشر التغريب وتكريس التبعية المذلة،

وبالفرنكوفونية يتم تشتيت الأسرة المسلمة باسم حرية المرأة وحقوقها وباسم حرية

الطفل وحقوقه، وبالفرنكوفونية يتم نشر الخلاعة الفكرية المنافية للأعراف،

والمخالفة للتقاليد، والمضادة للأخلاق والقيم، وباسم الفرنكوفونية يتم التضييق

على الثقافة الإسلامية الأصلية، ويتم تهميش الأطر الفاعلة في هذه الثقافة،

وبالفرنكوفونية يتم الإصلاح، وبها ومن خلالها وفي ضوئها تطور الأوضاع

الاقتصادية والثقافية والتعليمية والتربوية.

إذا كانت الفرنكوفونية قد قصدت إلى مس الشعب المغربي في وحدته

الأخلاقية والدينية، وإلى زعزعة ثقته بوحدته اللغوية، فقد قصدت أيضاً إلى المس

الصريح والواضح بوحدته الوطنية والسياسية. وتحقق بذلك ما رمى إليه

الفرنكوفونيون الاستعماريون من أمثال ريبو في كتابه: (الجماعات القضائية

البربرية) ، من أن التأثير في الوحدة السياسية إنما يحصل بالتأثير في الوحدة

الثقافية، وأن هذا التأثير (لا يتم بين عشية وضحاها، وأن هذا العمل ليس عمل

سنة واحدة، أو جيل واحد بل هو عمل يتم في عشرات السنين، وفي عدة أجيال)

[3] .

* الفرنكوفونية في المغرب: الأساليب والأبعاد:

أسلوب تدمير التقاليد والثقافة والتراث:

كان من سياسة الاستعمار أنه يمانع دائماً في بناء مراكز منظمة وإدارات

محترمة للمعاهد والمدارس ومراكز القضاء الإسلامي؛ فهي لا تريد أن تعترف بكل

ما له صلة بالإسلام، ولا سيما في ميدان التعليم والقضاء، بينما المعاهد والمدارس

ومراكز القضاء الفرنسي تنفق على أبنيتها من ميزانية المغرب بسخاء كبير، وكلها

تقع في الأماكن الاستراتيجية في كل مدينة مغربية، ويراد لهذه الأبنية أن تكون

شامخة البنيان تجمع بين جمال الهندسة الأندلسية، ومحاسن الهندسة الأوروبية،

وتكتب على أبوابها بأحرف لاتينية غليظة، ومن معادن لامعة أسماء وعناوين تلفت

النظر بنقشها عن بعد؛ وهذا كله لأجل أن تثير في زائرها شعوراً قوياً بعظمة

فرنسا، وجلال قانونها، وسيادة ثقافتها، وتدفع في المقابل إلى تحقير وازدراء

المدارس الدينية، والمعاهد والمؤسسات التقليدية الشرعية.

فنتكلم عن البنيان والعمران دون أن ننسى الإنسان؛ فالإنسان هو المقصود

بهذا كله؛ فالإنسان الذي يدخل في الحلبة الفرنكوفونية يصبح هو بدوره براقاً على

هذا الطراز، وتفتح في وجهه كل الأبواب، بخلاف أخيه التقليدي والأصيل. إنه

أسلوب من أساليب تدمير كل ما هو تقليدي وتراثي. ويتبع هذا أسلوب آخر

لمزاحمة الثقافة الأصلية في مرحلة، وفي مرحلة أخرى تدميرها والقضاء عليها.

إن سياسة فرنسا الفكرية والثقافية هي سياسة فرنكوفونية، والسياسة

الفرنكوفونية هي سياسة استعمارية. تسعى إلى إدماج المغرب المغلوب في دولة

فرنسا الغالبة. ويدرك الساسة الفرنسيون الاستعماريون أثر الفعل الفكري والثقافي

في أي إنسان. إذ يكفي أن يكون هذا الفعل هو الباعث على الجهاد ضدهم، ويكفي

أن يكون هو المحرك لمواجهتهم؛ لذلك فهم يضمرون في قلوبهم من الحقد والضغينة

على الإسلام وثقافته ما يدفعهم دائماً إلى مواجهته فكرياً وثقافياً. وقد أدركوا أن

أحسن سلاح لمواجهة هذا الفعل هو الفرنكوفونية؛ وقد تمكنوا من تيسير جميع

السبل لتعبيد الطريق أمام الفرنكوفونية لمزاحمة المؤسسات الإسلامية بمؤسسات

أخرى بديلة. وعلى مر الأيام أصبحت الثقافة الإسلامية هيكلاً لا روح فيها،

وتفننوا في تهميشها وتأخيرها عن القيام بدورها الفاعل في الحياة. ونستطيع اليوم

أن نتكلم عن الثقافة الإسلامية بشتى الأساليب، ومختلف الطرق دون أن نلحظ لها

أثراًً على كل المستويات.

* الأبعاد السلبية للفرنكوفونية في المغرب:

افتعلت الفرنكوفونية في المغرب قضايا خطيرة، وأحداثاً ما زالت نارها

مشتعلة إلى اليوم، وكان الغرض من افتعالها أمرين أساسيين:

- الأمر الأول: اختبار قوة الثقافة الإسلامية في مواجهة هذه الأحداث، وفي

الوقوف في وجهها.

- الأمر الثاني: اختبار قوة الثقافة الفرنكوفونية نفسها في درجة تأثيرها في

المجتمع المغربي، وفي درجة مواجهتها للثقافة الأصلية.

ولنعرض لهذه القضايا والأحداث على صورة أبعاد سلبية كما يلي:

البعد الأول: الأطروحة البربرية: وهي امتحان عسير أمام المغاربة، سلطه

الفرنسيون الاستعماريون، وأذكته الفرنكوفونية ونمته، وأصبح حقيقة في نفوس

بعضهم بعد أن كان خيالاً، كما تصوره البعض حقيقة واقعية بعد أن كان حلماً يراود

الواحد والاثنين. الأطروحة البربرية هي سياسة نهجها الاستعمار، وهي بالنسبة

إليه العلاج الوحيد الذي يتم به إحياء الأعراف البربربة القديمة، وإدماجها في

القانون الفرنسي. وتذهب هذه الأطروحة إلى أن البربر لم يكونوا في يوم ما

مسلمين، بل كانوا وما زالوا مسيحيين. ويحاول الفرنكوفونيون أن يوهموا أن

البربر هم وحدهم الذين بنوا الحضارة المغربية؛ فالأرض أرضهم، وحتى الفتوحات

التي قامت في أوروبا هم أصحابها [4] .

البرابرة في عرف الفرنكوفونية استعربوا لساناً ودماً وروحاً، ومن السهل جداً

إخراجهم من العروبة لإدخالهم في الفرنكوفونية، كما بدا لهم أنه من اليسير إخراجهم

من الإسلام وشريعته، وإدخالهم في المسيحية الكاثوليكية وقانون فرنسا. فإذا كان

هذا مؤشراً فعلياً، على تمزيق وحدة المغرب؛ فإنه مؤشر مهم على زرع القطيعة،

والفصل بين المغاربة وإخوانهم المشارقة، هؤلاء الذين تربطهم أواصر فكرية

وثقافية وعقدية. وأقوى من تجرد لهذا الفعل تنظيراً هو أحد أعلام الفرنكوفونيين

المدعومين من قبل الدولة الفرنسية، واسمه: جيرو Guiraud وذلك في كتابه

المعنون بـ (العدلية الشريفة: أصولها، وظيفتها، نظامها المقبل) ، هذا الرجل

وكلت إليه الحكومة الفرنسية مسؤولية إصلاح العدلية المغربية، وكانت الفكرة

الأساس التي بني عليها إصلاح القضاء المغربي تدور على أن المغاربة مسيحيون،

ويجب ألا يُحكَموا بالإسلام، ولم تبق هذه الفكرة مجرد خاطرة من الخواطر، بل

بلورها ودافع عنها دفاعاً مستميتاً. وللتغرير بالمغاربة كتب إهداء كتابه هذا إلى

(أصدقائه المغاربة) [5] .

ظل المغرب يخاصم الأطروحة البربرية الفرنسية، وكان أقوى من خاصمها

هو السلطان يوسف بن الحسن، ويقولون إنه ذهب ضحية مقاومته لهذه السياسة،

ثم ثار عليها بعده محمد الخامس ابن السلطان يوسف، وثار عليها الشعب المغربي

مباشرة بعد عودة السلطان محمد الخامس من المنفى عام 1955م، وأعلن السلطان

محمد الخامس في مهرجان شعبي عقد بمدينة الخميسات أن ما أطلقت عليه فرنسا:

(مناطق العرف البربري) هي سياسة قد أقبرت وألغيت نهائياً، ولم يبق العمل بها

جارياً في المغرب الحر الموحد والمستقل [6] ، وبدأت بعد ذلك سلسلة من النصوص

التشريعية تصدر على التوالي في الجريدة الرسمية، فكان أول ظهير شريف صدر

منها هو الظهير رقم 1 - 1 - 0 - 56 - 1 المؤرخ في 24/7/1375هـ،

الموافق 7/3/1956م، وهذا الظهير ألغى الظهير البربري الذي أصدره المقيم

الفرنسي العام هنري يونسو بتاريخ 23/12/1352هـ الموافق 8/4/1934م. ثم

توالت سلسلة من الظهائر كلها تقضي بإزالة ونسخ مقتضيات الظهير البربري.

- البعد الثاني: القضية الأمازيغية: وهو بعد من الأبعاد السلبية للفرنكوفونية،

وقد تحركت فكرة الاهتمام باللغة الأمازيغية، كلغة مستقلة في فرنسا بصفة خاصة،

وجل الذين يحركون قضية الأمازيغية اليوم هم من الذين دربوا في فرنسا. إلا أنه

يجب التفريق بين الاهتمام باللغة الأمازيغية كلغة وطنية، وبين تضخيم الاهتمام بها

لغرض مكشوف ومفضوح؛ ففرنسا لم تكن هي السباقة إلى بعث الاهتمام

بالأمازيغية، فالأمازيغية هي لغة قسم عريض من أبناء المغرب، وهناك شعور

وطني بها، هو علمي وثقافي وحضاري ساد عند فئة عريضة من أبناء المغرب

عرباً وبرابرة، على قدم المساواة. أما ما تريده فرنسا فيدخل في مقاصد الظهير

البربري؛ إذ كان من غرض حكومة الاستعمار تثبيت اللغة الفرنسية بين البرابرة،

فقد أصدرت الإقامة العامة بلاغاً رسمياً بتاريخ 22/9/1915م يلزم بجعل اللغة

الفرنسية هي اللغة الرسمية للجماعات البربرية، ولما لم تنجح هذه الخطوة مروا

إلى خطوة ثانية، وهي الفصل بين اللغة العربية واللغة البربرية، وإذكاء فكرة

الأمازيغية كرد فعل على اللغة العربية. يقول ريبو: (إذا تركنا هؤلاء البربر

يستعملون العربية فإنهم سيصيرون مسلمين، وما معنى الإسلام؟ معناه هو إيقاف

تقدمنا والوقوف في وجه مدنيتنا) [7] .

تلك هي الرغبة الاستعمارية، وذلك هو طموح الفرنكوفونية، وإننا لنأسف

لكل من يعانق هذه الأطروحة رغبة في الانسلاخ عن العروبة والإسلام، محققاً في

الوقت ذاته رغبة الآخر في تفتيت وحدة المرجعية التي كانت وما تزال الأساس

الصلب لمقاومة كل اختراق.

- البعد الثالث: التبشير بالنصرانية: عرف عن فرنسا أنها «الفتاة البكر

للمسيحية» لوفائها للمسيحية الكاثوليكية، ولا يستبعد أن تكون المسيحية وراء

الحملات الاستعمارية برمتها على بلدان المغرب العربي بصفة عامة، والمغرب

الأقصى بصفة خاصة، غير أن الذي يمكن الجزم به هو أن قواد الحملة

الاستعمارية؛ ضباطاً ومفكرين ومثقفين؛ جلهم من المسيحيين، ومما يمكن الجزم

به أيضاً أن الدعوة إلى المسيحية الكاثوليكية، نشطت بشكل كبير، وبطريقة

مكشوفة، إبان الاحتلال، ويمر ذلك عبر الأنشطة الثقافية، والتعليمية،

والمساعدات الاجتماعية. وبنمط معين من الثقافة الفرنكوفونية حاولت فرنسا

إخضاع المجتمع المغربي لأعراف جاهلية، لا صلة لها بعرف المغاربة.

وقد ظهرت معالم وآثار التبشير بالنصرانية في المغرب من خلال الأساليب

الآتية:

أ - الدعوة المباشرة إلى المسيحية بحملات واسعة شملت المدن والبوادي.

ب - استهداف النخبة المثقفة بنمط من الثقافة الفرنكوفونية؛ إذ من خلالها يتم

التبشير بالمسيحية.

ج - مضايقة الإسلام في ثقافته وعقيدته وشريعته.

د - منع كل مسيحي يريد أن يدخل في الإسلام. وقد هددت فرنسا قاضي

العاصمة المغربية (رباط الفتح) بالعقوبة أو العزل؛ إذا هو سهل إسلام مسيحي

ابتغى الإسلام ديناً [8] .

هـ - إجبار اليهود المغاربة على البقاء على ديانتهم عوض الدخول في

الإسلام.

كل أسلوب من هذه الأساليب قابل لأن يكون موضوعاً برأسه، ونكتفي فقط

بتقديم أدلة وشواهد على الأسلوب الأول، وهو الدعوة المباشرة إلى المسيحية.

نقول إذاً: إنها كانت دعوة صريحة ومكشوفة؛ فبناء على إحصاء ورد في

خريطة أصدرتها (الوكالة التبشيرية في الرباط) ووزعتها مطبوعة مجلة (المغرب

الكاثوليكي) (!) في العدد الأول الصادر في مفتتح سنتها الحادية عشرة وذلك في

شهر يونيو من سنة 1931م [9] ، جاء في هذه النشرة ما يلي:

1 - ذكر لأهم المراكز ذات الكنائس المشتملة على القسس ومساعديهم، وهي

تبلغ عشرين مركزاً موزعة على أهم مدن المغرب.

2 - ذكر للمراكز الرئيسية للأعمال التبشيرية الأهلية، وتبلغ عشرة مراكز

موزعة على عشر مدن مغربية مهمة.

3 - إشارة إلى مراكز أخرى مهمة فيها كنائس وقسس، تبلغ خمسة عشر

مركزاً، موزعة على مدن مغربية أخرى.

4 - ذكر لمراكز في جهات عسكرية أخرى، تزار ما بين الحين والآخر.

وهذا يقوي تحالف المؤسسة العسكرية مع مؤسسات التبشير بالمسيحية، وعددها

ثمانية.

5 - ذكر لمراكز أخرى دورية تبلغ تسعة عشر مركزاً، وقد أشارت الخريطة

إلى الجهات التي توجد فيها هذه المراكز، لكننا تركنا الإشارة إليها تلافياً للإكثار.

6 - ذكر لمراكز أخرى كانت في طور التكوين، وعددها ثمانية، تمت

الإشارة إلى أماكنها وهذا حسب إحصائية 1931م، ولا شك أنها تكونت وزاد

عددها بالأضعاف منذ ذلك التاريخ إلى اليوم [10] .

هذا البعد من أخطر الأبعاد التي تقوم بها الفرنكوفونية في المغرب، وهو ما

نقضت به فرنسا العهد والميثاق؛ فقد أقرت في الفصل الثاني من معاهدة الحماية مع

المغرب على (أن جميع الإصلاحات التي تقوم بها داخل المغرب الأقصى لا تمس

الدين الإسلامي بسوء في قليل ولا كثير، وأن جميع هذه الإصلاحات لا تجلب أي

ضرر على الحالة الدينية، ولا تلحق أي أذى بنفوذ السلطان) [11] .

هذا الميثاق خرقته فرنسا خروقات متعددة، ولم تلتزم به نهائياً؛ والدليل على

ذلك مضايقة المسلمين في محاربة شعائرهم الدينية، والعمل وفق شريعتهم في كل

المجالات، ثم توجت هذا العداء بالدعوة إلى المسيحية بين العرب والبربر.

- البعد الرابع: حرية المرأة: وهو الموضوع الذي يقدم بصيغ متلونة

ومتعددة؛ فقد تطور إلى ظاهرة خطيرة قسمت المجتمع المغربي إلى فئتين: فئة

تطالب بتحرير المرأة من بعض أحكام الإسلام، وهذه الفئة تريد للمرأة أن تكون

على طراز المرأة الغربية لا تحكمها قيود ولا ضوابط شرعية سوى قيود ونظرية

القانون الوضعي المتلون والمتقلب، والفئة الثانية تنظر إلى حرية المرأة من منظور

الإسلام وشريعته.

وتتباين المطالب بين الفئتين: فالأولى تطالب بحقوق المرأة على حساب

الإسلام، والثانية تسعى إلى تحقيق حرية المرأة بالإسلام. وقد عاش المغرب في

السنوات الماضية موجة من المسيرات والمسيرات المضادة، وذلك حين أقدمت

كتابة الدولة في المملكة المغربية بوضع خطة أطلقت عليها خطة إدماج المرأة في

التنمية، خالفت بها الشريعة الإسلامية بشكل سافر من وجوه كثيرة. ولم تخف

الخطة الدعم الفرنكوفوني المادي والمعنوي. وإذا كانت الخطة قد أفلست في

صيغتها العامة، فإن التيارات الفرنكوفونية اليوم تسعى إلى تصريفها جزءاً بجزء

بصورة تدريجية، وكان من أحد وجوه هذا التصريف المطالبة بإعادة النظر في

مدونة الأحوال الشخصية [12] .

موازنة بسيطة بين المطالب النسائية المعاصرة، والمساندة الرجولية لها ذات

الاتجاه الفرنكوفوني من جهة؛ مع ما تقرر نصاً في الظهير البربري، وما مورس

فعلاً في التضييق على القضاء الإسلامي والشريعة الإسلامية، من جهة أخرى؛

يبين أن الفرنكوفونية تريد أن تحقق في مغرب اليوم ما أخفقت في تحقيقه بالأمس.

وإذا كانت الصعاب المعاصرة لا تحتاج إلى برهنة وتدليل على حالتها من هذا الوجه؛

فإنه يحسن بنا أن نعرض ما جاء في الفصل الثاني من ظهير فرنسا البربري الذي

غابت معالمه ومقاصده على النخبة المثقفة اليوم. يقول الفصل الثاني: (إن

القضايا المدنية والتجارية، والمختصة بالعقارات والمنقولات؛ تنظر فيها محاكم

خصوصية، تدعى بالمحاكم العرفية، ابتدائياً أو نهائياً، طبقاً للحدود التي يجري

تعيينها بقرارات وزيرية، كما تنظر هذه المحاكم نفسها في جميع القضايا المتعلقة

بالأحوال الشخصية، أو بأمور الإرث، وتطبق في كل الأحوال العوائق المحلية)

[13] .

وعلقت اللجنة الشرقية في دفاعها عن المغرب، في عرضها المقدم إلى

المؤتمر الإسلامي العام فقالت: (وفي هذا الفصل اعتراف بخلق محاكم خصوصية

«عرفية» ابتدائية ونهائية؛ فالقبائل البربرية بهذا الفصل من الظهير أصبحت

مفصولة عن كل ما يمثل سلطة السلطان، فلا صلة لها بمحكمة الاستئناف الشرعي

التي تستأنف فيها أحكام القضاة، ولم يقتصر هذا التضييق على القضايا المدنية

والتجارية والعقارية، بل امتد حتى إلى قضايا الأحوال الشخصية، وقضايا الإرث

نفسه، وبهذا أصبح حراماً على المسلمين البرابرة أن يتناكحوا أو يتوارثوا طبقاً

للشريعة الإسلامية، وأصبح تطبيق القانون الإسلامي في أية قضية من القضايا

جريمة تعاقب عليها السلطة الاستعمارية بالسجن والنفي والتشريد) [14] ، وقبل

سنتين من استعمار فرنسا للمغرب أصدر السيد مرسيل موران Morant Marcel

كتاباً في موضوع (أبحاث عن القانون الإسلامي الجزائري) [15] ، أثبت فيه ما

يلي: (مما لا نزاع فيه أن القانون الإسلامي من عدة اعتبارات هو قانون أعلى جداً

من العرف البربري، وهو بالخصوص أكثر إنسانية من العرف، ومن الواضح جداً

أنه يعطي للمرأة مثلاً مركزاً ممتازاً، وأنه يضمن للمرأة مادياً وأدبياً منزلة في

العائلة، لا يمكنها أن تحتلها اليوم في العرف البربري) [16] نكتفي له بهذه الشهادة

على وضعية المرأة في الشرع الإسلامي؛ لأنه بعد هذا الكلام سيذكر طاقات ذوات

عدد لا حاجة لنا بها الآن.

كأن مسيو موران كان يتنبأ بكل شيء مما سيقع للمرأة المسلمة فيما بعد. لكن

ما تنبأ به قد وقع فعلاً، وكيف لا يحس بذلك وهو مقيم فرنسي، ومسؤول فرنسا

الثقافي، وأحد أعمدة الفرنكوفونية الكبار؟ إذا فرقنا بين ما جاء في فصول الظهير

البربري، وما مارسته فرنسا فعلاً من أعمال تطبيقية، وربطنا هذا كله بما وقع في

المغرب من فترة الاستقلال إلى الآن، وما يرفع اليوم من شعارات حتى في مجال

الإصلاح، وأدركنا أن للفئة الفرنكوفونية سلطة واسعة في اتخاذ القرار؛ إذ هي

تترجم ذلك فكرياً وعملياً؛ تيقناً من عمق التأثير وشدة الغزو، ولله في أمره مقاصد،

وله سبحانه عاقبة الأمور.

* الخلفية الفرنكوفونية والظاهرة الجديدة:

إذا كان الأسلاف بنوا الفرنكوفونية؛ فإن الأخلاف قد عانقوها، وطوروها،

وهم اليوم يدعون إليها باستماتة شديدة. ولن نتتبع هنا ذكر الأسماء والنعوت،

لكثرة أعدادهم، ولكن نشير إلى الظاهرة في صيغتها الحديثة عند هؤلاء مع ربطها

بهم وبأدوارهم فيها.

ينقسم المجتمع المغربي الحديث إلى قسمين رئيسيين: قسم من الذين يجيدون

اللسان الفرنسي؛ وغالبية هؤلاء هم من أصحاب الامتيازات الكبرى، لهم الحظوة

والجاه والسلطة، ويقف على رأس هذا القسم نخبة مثقفة درست في فرنسا، أو

درست الفرنسية بعمق في بلدها على يد مجموعات فرنكوفونية ذات كفاءة. وهؤلاء

هم أصحاب شهادات ودبلومات. ويلي هؤلاء طبقة من أصحاب المشاريع، أولئك

الذين احتكوا مع الفرنسيين، ومع الإدارة الفرنسية، فاستفادوا منهم الخبرة في

الأعمال التجارية الحرة. ثم يلي هؤلاء في هذا القسم طبقة من المهاجرين الذين

خالطوا الفرنسيين مخالطة عميقة، وتأثروا بهم في جميع مناحي الحياة العامة.

أما القسم الثاني فهم باقي فئات الشعب المغربي العريضة، وهذا القسم على

طبقتين: طبقة متوسطة محدودة الدخل، وهذه تتباين درجات التأثير الفرنكوفوني

عليها، وطبقة فقيرة هم من ذوي الدخل الضعيف.

وظهر من القسمين بمختلف طبقاتهما نخبة مثقفة محافظة تدرك أهداف المؤامرة

الفرنكوفونية على بلدها؛ فهي تراها البلاء الذي أصاب البلد وقسمه إلى قسمين، كما

تحمل هذه الفئة مسؤولية الاحتلال الفكري والمسخ الثقافي إلى الفرنكوفونية، وقد تنبه

لهذه الظاهرة غير واحد من الباحثين المعاصرين.

يقول الدكتور المهدي المنجرة - وهو من الوجوه المغربية التي تخاصم

الفرنكوفونية مخاصمة شديدة، على الرغم من أن ثقافته ثقافة فرنسية -: (وأكبر

استعمار يواجه المغرب الآن هو الاستعمار الثقافي والحضاري، ووجود نخبة معينة

درست في فرنسا وهي الآن تستولي على القرار في كل مكان) [17] .

لقد أدركت النخبة الواعية المخاصمة للفرنكوفونية أن المواجهة لا بد أن تكون

استراتيجية وهادفة، فبادرت إلى تأسيس جماعات، وجمعيات، وحركات دعوية

وإصلاحية وتوعوية، في مختلف المجالات، كما عمدت إلى تنظيم هجرات منظمة

إلى الغرب قصد توعية الجالية المغربية بالمهجر، وتنوير أفهامهم، وتقديم النصح

لهم. وقد أدركت المؤسسة الملكية بالمغرب هذا النقص؛ فبادرت إلى تكوين

مؤسسة خاصة لهذا الغرض، وهي مؤسسة الحسن الثاني للجالية المغربية المقيمة

بالخارج.

لقد عمل أنصار السياسة الفرنكوفونية على تحقيق كل ما عجز الاستعمار

الفرنسي المباشر عن تحقيقه. فالدعوة إلى الأمازيغية مع الفرنكوفونية الثقافية

وصلت إلى أوجها، وكذا المطالبة بتغيير أحوال الأسرة وفق المطالب النسائية التي

لها صلة بمنظمات غربية، ثم تثبيت اللغة الفرنسية والتضييق على اللغة العربية،

كل ذلك أمر أصبح مكشوفاً وظاهراً. وحتى (إصلاح) التعليم، والثقافة،

والأحوال الاقتصادية، والاجتماعية، والرياضية، والإعلامية، لا يتم إلا من

المنظور الفرنكوفوني.

إنهم يجتهدون ليل نهار من خلال العمل الحزبي، ومن خلال وسائل الإعلام

المرئية والمسموعة، ومن خلال الجرائد والمجالات المنتشرة في كل مكان، ثم من

خلال القرار السياسي النافذ الذي وصلوا إليه، من خلال هذا كله يحاولون التضييق

على الشريحة الغيورة من أبناء الوطن، عامدين إلى محاولة عزلهم عن كل قرار؛

بدعوى أن ثقافتهم ثقافة أصولية متطرفة، ثقافة لا سياسية ولا حضارية، ثقافة

عدوانية وظلامية، رجعية وإرهابية ... إلخ.

يمكن تقسيم القسم الثاني إلى جيلين: جيل احتك بالفرنكوفونيين الاستعماريين

أخذ عنهم واستفاد منهم؛ هذا الجيل كان تأثره بالفرنكوفونية مباشراً، وجيل من

أبنائهم المتأثرين بهم انقلبت عليه الحقائق، وبعدت عليه المعتقدات، فلا تظهر له

الفرنكوفونية على أنها ظاهرة استعمارية، أو استلابية، بل يتصورها أو هكذا

صوروها له على أنها ظاهرة سليمة وصحيحة، وهي الطريق الموصلة إلى

الحضارة والتقدم والعصرنة.

تتكرس الفرنكوفونية اليوم في الواقع المغربي المعاصر بأسلوبين:

- الأول: من خلال الحملات الثقافية الواسعة التي تقوم بها المراكز الثقافية

الفرنسية، المتواجدة في المدن المغربية ذات الشأن، وهذه المراكز تفتح علاقات

كبيرة وحميمية مع النخبة الفرنكوفونية في البلد، ومع المؤسسات ذات الطابع

الفرنكوفوني، وتقوم بأنشطة أسبوعية مثل تقديم كتب، أو تكريم كتاب، أو القيام

بمسرحيات، أو رحلات، أو عروض فنية في الرقص، أو الموسيقى، أو عرض

أفلام سينمائية، مع تحليلها والتعليق عليها، مع سهرات ترفيهية، وموائد مستديرة،

وندوات في موضوعات محددة ومختارة.

- الثاني: أنشطة تتم في صيغة التفاعل بين الثقافة المغربية والثقافة الفرنسية،

أو تحت صيغة حوار الثقافتين، أو التبادل بين الثقافتين؛ حيث يلاحظ طغيان

المد الفرنكوفوني على هذا النشاط، وغالباً ما يتم بتمويل من مراكز وأجهزة

فرنكوفونية، بحيث لا تكون المؤسسات المحلية إلا مستقبلة ومحتضنة لهذه الأنواع

من الأنشطة.

* الفرنكوفونية في المغرب: أشكال رد الفعل:

مسوغات رد الفعل:

الفرنكوفونية واحدة، والبلدان التي تكتسحها كثيرة ومتعددة في أوروبا

وأمريكا وإفريقيا والشرق العربي. وهذا يبين أنها تريد تذويب الشعوب وصهرها في

قالب واحد، على الرغم من التباينات الكثيرة والمتنوعة؛ فهي تجيد التأقلم مع

المناخ العام. ولكي تتأقلم مع أي بيئة هناك أسلوب واحد تعتمده: هو تدمير المناخ

الثقافي لكل حضارة في كل دولة معنية. وبالاستقراء التام فإن كل القطاعات تذوب

أولاً، وتنصهر، ولكن الثقافة تبقى آخر ما يصمد؛ فالدولة تغزى في اقتصادها،

واجتماعها، وسياستها، وإدارتها؛ لكن الثقافة تبقى آخر معقل للمحتل يعاني منه

زماناً، ولذلك فإن ما نلاحظه اليوم هو استسلام مطلق للفرنكوفونية، في كل

المجالات إلا الثقافة؛ فإنها الحرب الوحيدة التي تشن على التيار الفرنكوفوني من

خصوصيات شتى، ولا تستغرب فرنسا ولا التابعون لها من مواجهة الفكر المغربي

المسلم وصموده ضدها؛ لأن هذه المواجهة تنبع من موقع ما تريده فرنسا لنفسها،

وما يريده (الأحرار) الفرنسيون لأنفسهم.

إن مواجهة الفرنكوفونية تنبع من الغيرة على الذات، وعلى الكرامة، وتنبع

من المحافظة على الهوية، ووحدة الصف والمصير، وتنبع من الرغبة في

الاستقلال التام من كل استغلال واستعمار. والمواجهة ليست آنية ومعاصرة، أو

محدودة، تحركها جماعة بعينها، أو حركة بعينها، أو حزب بعينه، إنها قديمة

وحديثة ومعاصرة، إنها امتداد متواصل منذ أن وطئت رِجْلُ فرنسا أرض المغرب.

وعلى المنخدعين أن يدركوا الأخطار المحدقة بهم، وبوطنهم وبلغتهم وبتراثهم،

وعليهم أن يعلموا أن فرنسا ما فعلت فعلها في الاحتلال العسكري والفرنكوفوني حباً

فيهم بالذات، ولكنها فعلت ذلك حباً في مصلحتها ومنفعتها.

* موقف سلطة المخزن من الفرنكوفونية:

تحاول الفرنكوفونية أن تكسر جدار كل دولة؛ لتذوب في التبعية؛ بحيث لا

تبقى لها سلطة ولا قرار، وأن تجعل اللغة الفرنسية هي لغة التواصل الإداري،

وتجعل الشعب غريباً على إدارته وعلى بلده. فالشعب لغته عربية وليست فرنسية؛

ناهيك أن النسبة الكبيرة منه أمية، لا تعرف القراءة ولا الكتابة، فإذا خوطب باللغة

الأجنبية ازداد بعداً من الإدارة، ومن موظف الإدارة، ومن القرار السياسي، وإذا

ابتعد عن الإدارة ابتعد عن حياته الوطنية بصفة عامة. هذا هو حال الشعب

المغربي مع الفرنكوفونية.

لقد أدرك سلطان المغرب هذه الخطورة في وقتها، فقد كان جوابه الدائم في

كل مسألة من قضايا الأحكام العرفية التي جاء بها الظهير البربري، هو قول واحد:

(افعلوا ما تريدونه، لكن افعلوه بأنفسكم) . وهذا الرد كانت السلطات

الاستعمارية تعلمه من السلطان، وتدرك أن هذا هو جوابه في حالة إحراجه

والتضييق عليه. حتى إن مستشار الحكومة الشريفة كتب إلى الكاتب العام للحماية

بتاريخ 15 يونيو 1927م رسالة عليها رقم 3888 جاء فيها: (لقد ظهر أنه ليس

في الإمكان أن يدخل السلطان في هذا السبيل، وقد أعلنت لكم مرات عديدة موقف

السلطان في هذه المسائل البربرية، فهو لا يريد بأي شكل من الأشكال أن يتدخل

فيها، ولا أن يضع في قانون رسمي قراراً يهدم الشريعة، ولا أن يعلن بصفة من

الصفات تنازله عَمّا له من الحقوق بصفته إماماً وحارساً للقانون الديني، وهذه عنده

مسألة نفوذ أمام رعاياه، ومسألة شعور ديني صادق هو متعلق به شديد التعلق)

[18] وتدور الأيام فتنقلب الكفة؛ حيث تبحث الفرنكوفونية عن جذور لها في أعماق

الشعب، فيتكون لها جيش من المثقفين جلهم من أصحاب الامتيازات الكبرى؛ ومن

الغريب أن ينخرط في صفوف هذا الجيش الاشتراكيون والشيوعيون المغاربة،

هؤلاء الذين كانوا يخاصمون الفرنكوفونية بصفتها أحد وجوه الإمبريالية، نجدهم

اليوم يعانقونها بجنون ويمثلونها بامتياز.

* أزمة الفرنكوفونية في العصر الحديث:

رغم النجاح الكبير الذي حققته الفرنكوفونية في المغرب، فإنها تعاني من

هزات خطيرة، تهدد وجودها في البلاد التي تتواجد فيها، وبخصوص المغرب

يمكن أن نسجل هذه الهزات على ثلاثة مستويات:

- المستوى الأول: ظهور الحركات الإسلامية المتمثلة في الجماعات الدعوية.

فهذه الحركات ساهمت في تنامي ظاهرة الصحوة الإسلامية في عموم الشعب

المغربي بصفة عامة والفئة المثقفة بصفة خاصة. وعبر تنوعات هذه الجماعات،

وإمكانياتها في ساحة الدعوة، فإنها مجمعة على التصدي لكل تيار تغريبي،

استلابي واستعماري، كيفما كان شكله، وذلك عبر الدعوة إلى ربط الناس بالهوية،

والعقيدة، والتراث. وهي الأمور التي جاءت الفرنكوفونية لتدميرها وللتضييق

عليها. هذه المواجهة هي مواجهة انعكاسية وطبيعية؛ فمثلما أن الفرنكوفونية

تحارب هوية الشعب وثقافته؛ فلا بد من مواجهتها بالهوية الإسلامية، وبالثقافة

الإسلامية ذاتها.

هناك حقيقة لا بد من الإشارة إليها، وهي أن الفرنكوفونية كانت وراء ظهور

الحركة الإسلامية في المغرب التي جاءت لرد الاعتبار للهوية الوطنية؛ بدليل

طبيعة التاريخ الذي ظهرت فيه الحركة الإسلامية بالمغرب؛ حيث كان ظهورها في

السبعينيات، وهذا التاريخ يصادف مرور أكثر من عشر سنوات على استقلال

المغرب، وهي مرحلة تاريخية كافية للبرهنة على أن المغرب في عهد ما بعد

الاستقلال، لم يزل رهين الاحتلال الثقافي. فهل آل أمره غداة الاستقلال إلى

التحرر الفعلي، أم أن الاستعمار خرج جسداً وبقي روحاً.

إن الواقع يثبت أنه خرج جسداً وبقي روحاً، وروحه المتمثلة في فكره وثقافته،

وعقيدته، وسياسته، واجتماعه، وأنماط عيشه، كلها أمور خيمت على التسيير

الإداري، والسياسي والاقتصادي والعلمي والتربوي. ولوحظت تكتلات جمعوية،

وأحزاب يسارية، وأخرى مصلحية، تستفيد منها الفرنكوفونية، ويقودها

فرنكوفونيون ناجحون. ولهذا كان لا بد من إعادة الاعتبار للذات؛ لتصحيح المسار؛

فظهرت الحركة الإسلامية التي تباينت مواقفها تجاه ما يجري تبايناً تمليه ظروف

الواقع وتعقداته.

- المستوى الثاني: المد الهائل للغة الإنجليزية. هذا المد بدأ يقلص من

فاعلية اللغة الفرنسية وثقافتها، وأصبح الفرنكوفونيون يحسون بالتراجع أمام اكتساح

الثقافة الإنجليزية للساحة، لأن الجيل الجديد يفضل تعلم اللغة الإنجليزية على اللغة

الفرنسية، واللغة الفرنسية اليوم هي لغة الجيل القديم، الجيل الذي ابتلعها فتعذر

عليه أن يتخلص منها، كما تعذر عليه أن يضيف إليها لغة لاتينية أخرى.

إن النجاح الباهر الذي حققته اللغة الإنجليزية لم يكن على مستوى اكتساح

العالم الفرنكوفوني التابع لفرنسا فحسب؛ بل نجحت الثقافة الإنجليزية في جر عدد

كبير من اللغويين الفرنسيين أنفسهم؛ جرياً وراء المصطلحات العلمية. فالدراسات

تشير إلى أن في الإنجليزية تستحدث تسعة آلاف كلمة في السنة، في حين أن

الفرنسية لا تتوفر إلا على عدد محدود جداً [19] .

إذا كانت فرنسا نفسها تعاني من هذا في بلدها؛ فماذا نقول عن المغرب الذي

يحتضن هذه اللغة؟ وماذا تقول معه سائر البلدان الناطقة بالفرنسية؟ أعتقد أن الذي

زاد المغرب تخلفاً هو اعتماده على هذه اللغة، وما دامت شريحة الجيل القديم

متشبثة بالفرنسية، تقرها وتقررها؛ فإن المغرب سيبقى على قدم المساواة في

التخلف مع الدول الإفريقية الناطقة بالفرنسية.

- المستوى الثالث: العولمة ظاهرة عامة ولدتها أمريكا بالذات؛ لغرض

تدمير الحدود بين البلدان؛ لتصبح كل البلدان بلداً واحداً، قصد تذويب الثقافات في

ثقافة عولمية واحدة، هي ثقافة النظام الدولي الجديد.

لم تأت العولمة من فراغ، بل شوهد وجودها على مر التاريخ، عولمة نظام

اليونان، وعولمة نظام الرومان، وعولمة نظام الفرس، وأطلقوا على نظام الإسلام

في عهوده الزاهية عولمة، وهكذا. غير أن العولمة المعاصرة تختلف جذرياً عن

أنواع العولمات السابقة؛ إن هذه العولمة عولمة جارفة تذيب كل الخصوصيات،

وتحطم كل الحدود، ومن خرج على هذا النظام عد إرهابياً يجب استئصاله. وهذا

ما يجري اليوم في الشيشان وأفغانستان وفلسطين والسودان وإيران ... إلخ.

إن العولمة هي رديفة الإمبريالية، لكنها في صورة جديدة، الصورة التي كان

الأحرار من المناضلين التحرريين يحذرون من مجيئها، وينبهون على الوقوع فيها.

وهنا برز من يتكلم على نهاية التراث، ونهاية التاريخ، ونهاية الجغرافيا؛ لأن

العولمة جاءت، وجاءت بقوانينها، وقراراتها الأممية الملزمة لكل وطن ولكل شعب.

صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، ومنظمه التجارة العالمية، وهيئة الأمم

المتحدة، كلها أدوات للتسلط والقمع. وتعاني الفرنكوفونية من نظام العولمة معاناة

لا تقل عن معاناة الشعوب الأخرى. فالشعوب التي ترزح تحت نير الفرنكوفونية

هي ضعيفة أمام الفرنكوفونية، لكن الفرنكوفونية أمام المد العولمي أصبحت هي

بدورها ضعيفة جداً، مقزمة ومحددة؛ فلغة النظام الدولي الجديد هي الإنجليزية؛

وهذا فيه إساءة إلى الفرنسية. ومركز هذا النظام هو أمريكا؛ وهذا فيه إهانة إلى

فرنسا. ووقعت العولمة ضداً للطموح الأوروبي بصفة إجمالية، ولا صوت للغرب

اليوم إلا في إطار العولمة التي تقودها أمريكا، وتستفيد منها إسرائيل استفادة كبيرة.

العولمة كونية، والفرنكوفونية محلية، والمغرب يعاني من الضغطين:

الضغط العالمي المتمثل في العولمة، والضغط المحلي المتمثل في الفرنكوفونية،

وتحاول فرنسا أن تحدث نوعاً من العصيان؛ بتحريض البلدان التابعة لها،

وتحذيرها من الوقوع في تيار العولمة. وهذا من متاهات الفعل السياسي، فهل

استطاعت فرنسا أن تنجو هي بنفسها من تيار العولمة؟ الجواب هو ما يجري اليوم

في العالم وتشارك فيه فرنسا على الرغم منها.

* خلاصة عامة:

المغرب بلد مسلم، وعقيدة المغاربة هي عقيدة الإسلام. بالإسلام توحدت

القبائل، والعشائر، والطوائف، والدول، والقارات. وبالإسلام عاش المغرب

والأندلس في دولة واحدة، وعاش العرب والبربر تحت راية واحدة، كما عاش

المغاربة والعرب القادمون من الشرق، والأوروبيون الأندلسيون في مجتمع واحد،

وانصهرت كل التقاليد والأعراف والعادات، وأنماط العيش، في بوتقة واحدة،

وكانت اللغة العربية هي لغة الدين، ولغة الدولة، ولغة الحضارة، والمجتمع،

والقيم. ومتى فكر المغاربة في إلغاء دور الدين، أو تأخيره عن مضامير صناعة

الحياة، وتقديم ضده عليه؛ فهذا لا يعني في النهاية سوى التفكك والتجزئة.

ويثبت التاريخ وتثبت مختلف العلوم معه - ولا سيما تلك التي استخدمها

الفرنسيون - أن الإسلام صهر القبائل العربية والبربرية، في مجتمع واحد. لا

ولاء في المغرب إلا للإسلام كدين واحد، في مجتمع واحد، تحت راية وطنية

واحدة.

إن الإجرام الذي أقدمت عليه فرنسا في محاولات للنيل من وحدة المغرب، لا

ترضاه هي لنفسها؛ فهل ترضى لنفسها أن تأتي قوة أخرى إسلامية، أو غير

إسلامية، تبث النعرات داخل المجتمع الفرنسي، وتعرض أقلياته للانسلاخ عن

حكومة الوحدة؛ مع ترك الدين واللغة والثقافة؛ بدعوى أن الشماليين هم أقرب إلى

الألمان منهم إلى الفرنسيين، وأن الجنوبيين أقرب إلى الإسبان منهم إلى الفرنسيين،

وكذلك القول بالنسبة للشرقيين مع سويسرا ... إلخ؟

إذا كانت فرنسا تقدم نفسها على أنها (المثال) في الديمقراطية وحقوق

الإنسان، و (النموذج) في الحرية والعدالة والإخاء والمساواة؛ فعليها من باب

أوْلى أن تحافظ على وحدة الشعوب كما حافظت هي على وحدتها، وعلى لسان

الشعوب كما حافظت هي على لسانها، وعلى الثقافة والمصير كما تحافظ هي

عليهما.

* وبعد:

فهذا بحث كشفنا فيه البعد الثقافي والفكري للفرنكوفونية في المغرب من خلال

أربعة محاور:

الأول: في بيان المراحل والمجالات والأهداف، والثاني: في الكشف عن

الأساليب والأبعاد، والثالث: في عرض أشكال الدعم، والرابع: في بيان أشكال

رد الفعل، مع مقدمة عامة وخلاصة.

فإذا كنا نؤكد ضرورة التفتح والاستفادة من تجارب الغير، وإذا كنا نلح على

الحوار الثقافي، والتبادل الفكري، والتلاقح الحضاري؛ فإن هذا لا يعني الذوبان

في الآخر والانصهار في معارفه وأفكاره.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015