ملفات
الفرنكوفونية.. المفروضة والصبغة المرفوضة
د. خالد الصمدي [*]
مقدمة:
إذا كان التعليم والتربية يضطلعان بدور خطير وحاسم في ترسيخ القيم
والخصوصيات الحضارية للشعوب، فإن الاستعمار في العالم العربي والإسلامي
سعى بكل الوسائل إلى تغيير بنية التعليم والتربية كجزء من مخطط واسع للفصل
بين الإنسان ومقوماته الحضارية بهذه الدول [1] . وسنركز على النموذج الفرنسي
بالمغرب، ومدى تأثيره كاستعمار مباشر أولاً، واستعمار غير مباشر ثانياً، في
صياغة مشاريع إصلاح التعليم بهذا البلد، ومدى تأثير ذلك في تشكيل المنظومة
الفكرية والثقافية به، والتي تنعكس آثارها بجلاء على الحياة الاقتصادية
والاجتماعية، مما يتجلى تأثيره المباشر والظاهر حتى في تشكيل منظومة القيم،
والذي يؤشر على أقصى درجات التحول في المجتمعات والأمم.
ويمكننا أن نجمل محاور المخطط التعليمي الفرنسي بالمغرب في:
- التعليم الانتقائي الطبقي.
- لغة التدريس، وتدريس اللغة.
- تمزيق الهوية الوطنية.
- احتواء وتوجيه النظام التعليمي السائد.
وبيان ذلك هو كما يلي:
* التعليم الانتقائي الطبقي:
ونقصد به التمييز بين طبقات المجتمع في تلقي أنماط من التعليم لا تكون
بالضرورة ذات توجه واحد، بل تتميز عن بعضها في الأهداف والطرق والوسائل.
والقصد من ذلك حسب ما يستفاد من النصوص خلق نخبة مثقفة تثقيفاً فرنسياً
تفوض إليها على المدى المتوسط والبعيد صلاحية تنفيذ مخططات فرنسا السياسية
والاقتصادية والثقافية، بمقابل شريحة متعلمة من ذوي النفوذ المتوسط وخاصة على
المستوى الاجتماعي، وتبقى بعد ذلك الجماهير البدوية المبعثرة في جميع أنحاء
البلاد التي ليس من الضروري تعليمها وثثقيفها إلا بقدر ما يسمح به محيطها
الفلاحي والرعوي، وينفصل عن كل هذا وذاك طائفة اليهود والأوروبيون الذين
يجب الحفاظ لهم على نمط خاص من التعليم يساير كلياً النظام الأوروبي دون أن
يكون له تأثر بأنساق التعليم التى يراد تسويقها في البلد.
وهكذا يحدد هاردي hardy الخطوط العريضة لهذا التصور في لقاء له
بمكناس سنة 1920م مع جماعة من الحكام الفرنسيين؛ إذ يقول في خطابه: «منذ
1912م دخل المغرب في حماية فرنسا، وقد أصبح في الواقع أرضاً فرنسية رغم
استمرار بعض المقاومة في تخومه، تلك المقاومة التي تعرفون أنتم وإخوانكم في
السلاح مدى ضراوتها، فإنه يمكن القول إن الاحتلال العسكري لمجموع البلاد قد تم،
ولكننا نعرف نحن الفرنسيين أن انتصار السلاح لا يعني النصر الكامل، إن القوة
تبني الإمبراطوريات ولكنها ليست هي التي تضمن لها الاستمرار والدوام، إن
الرؤوس تنحني أمام المدافع، في حين تظل القلوب تغذي نار الحقد والرغبة
والانتقام، يجب إخضاع النفوس بعد أن تم إخضاع الأبدان. إن كانت هذه المهمة
أقل صخباً من الأولى فإنها صعبة مثلها، وهي تتطلب في الواقع وقتاً أطول» [2] .
ومن أجل إخضاع هذه النفوس وجب وضع مخطط لإعادة هيكلة التعليم
بالمغرب يكرس نوعاً من الطبقية التعليمية؛ وفي هذا الصدد يقول هاردي أيضاً:
«وهكذا فنحن ملزمون بالفصل بين تعليم خاص بالنخبة الاجتماعية، وتعليم لعموم
الشعب: الأول يفتح في وجه أرستقراطية مثقفة في الجملة توقفت عن النمو الفكري
بسبب تأثير العلوم الوسيطة ... إن التعليم الذي سيقدم لأبناء هذه النخبة الاجتماعية
تعليم طبقي يهدف إلى تكوينها تكويناً منظماً في ميدان الإدارة والتجارة، وهي
الميادين التي اختص بها أبناء الأعيان المغاربة. أما النوع الثاني وهو التعليم
الشعبي الخاص بالجماهير الفقيرة والجاهلة جهلاً عميقاً فيتنوع بتنوع الوسط
الاقتصادي: في المدن يوجه التعليم نحو المهن اليدوية خاصة مهن البناء، وإلى
الحرف الخاصة بالفن الأهلي. أما في البادية فيوجه التعليم نحو الفلاحة ...
وأما في المدن الشاطئية فسيوجه نحو الصيد البحري والفلاحة، أما عن المواد
العامة التي ستتخلل هذا التعليم التطبيقي فهي اللغة الفرنسية التي بواسطتها سنتمكن
من ربط التلاميذ بفرنسا» [3] .
* لغة التدريس، وتدريس اللغة:
إن خاتمة كلام هاردي تكشف عن قوة العلاقة بين اللغة والثقافة والمجتمع،
في مخطط التعليم الفرنسي الاستعماري بالمغرب، وخاصة في قوله: «اللغة
الفرنسية التي بواسطتها سنتمكن من ربط التلاميذ بفرنسا» ، ولئن كانت اللغة
الفرنسية العامل الحاسم في التواصل، ونقل الثقافة؛ فإن السياسة اللغوية في النظام
الاستعماري الفرنسي عرفت تخطيطاً دقيقاً تمثل في تشجيع التلقين باللغة الفرنسية،
والتقليل من مساحة التلقين باللغة العربية، وعدم اعتبار هذه الأخيرة لغة علم، مع
الاحتفاظ بها تدريجياً كلغة للتواصل اليومي فقط، على أن يعمل الاستعمار بعد ذلك
على الفصل بين العرب والبربر في استعمال اللغة العربية، عن طريق تشجيع
استخدام اللهجات البربرية إلى جانب الفرنسية كلغة للتدريس.
ولا نشك أن هذا التوجه اللغوي كان القصد منه هو إضعاف الروابط القوية
القائمة بين اللغة العربية والدين باعتبارها لغة القرآن، وبها دونت أغلب مصادر
التراث والثقافة الإسلامية.
ولم يُخْفِ المقيم العام بالمغرب رمز الاستعمار الشهير: الجنرال ليوطي هذا
التوجه، حين أصدر دوريته الشهيرة بتاريخ 16/6/1921م حول لغة التعليم
بالمغرب؛ إذ يقول: «من الناحية اللغوية علينا أن نعمل مباشرة على الانتقال من
البربرية إلى الفرنسية ... فليس علينا أن نعلم العربية للسكان الذين امتنعوا دائماً
عن تعلمها، إن العربية عامل من عوامل نشر الإسلام؛ لأن هذه اللغة يتم تعلمها
بواسطة القرآن بينما تقتضي مصلحتنا أن نطور البربر خارج نطاق الإسلام» [4] .
ومباشرة بعد صدور دورية ليوطي نجد (leglay maurice موريس
لوجلي) ينشر مقالة مؤيدة لهذا التوجه، وذلك في السنة نفسها يقول فيها: «إن
التعريب سيقود البربر إلى إسلام تام ونهائي، وإلى أن توجد بالمغرب وعلى أيدينا
نحن، وهو ما نرفضه كتلة إسلامية منسجمة لا نظير لها ... والمشروع يفرض
أن يتم تطوير سكان الجبال باللغة الفرنسية المعبرة عن فكرنا، سوف يتعلم السكان
البرابرة اللغة الفرنسية وسوف يحكمون بالفرنسية ... علينا أن نُقلع في كل
مكان عن الحديث باللغة العربية، وإعطاء الأوامر بالعربية إلى قوم هم مجبرون
على فهمنا وإجابتنا.. ولذلك ينبغي العمل قبل كل شيء على تحويل مصالح الشعب
المغربي في اتجاه مصالحنا نحن، وأيضاً تحويل مصيره إن أمكن، وليس هذا بدافع
عاطفي محض، ولكنه بدافع فهم واضح للهدف المبتغى، والنتائج المتوخاة لصالح
قضيتنا» [5] .
وكانت هذه السياسة اللغوية والتعليمية قد جربت في الجزائر منذ نهاية القرن
التاسع عشر حين أصدر والي فرنسا آنذاك الأميرال كيدون سنة 1871م أوامره إلى
الآباء البيض (وهم أعضاء منظمة تبشيرية فرنسية كانت تعمل من أجل تنصير
البربر في الجزائر وتونس) قائلاً: «إنكم إذا سعيتم إلى استمالة الأهالي بواسطة
التعليم وبما تسدون إليهم من إحسان تكونون بعملكم هذا قد قدمتم خدمة جليلة لفرنسا؛
فليس في وسع فرنسا أن تنجب من الأطفال ما يكفيها لتعمير الجزائر، ولذلك فمن
الضروري الاستعاضة عن ذلك بفرنسة مليونين من أبناء البربر الخاضعين لسلطتنا.
واصلوا عملكم بحنكة ودربة وحيطة، ولكم مني التأييد، وفي إمكانكم أن تعتمدوا
علينا كل الاعتماد) » [6] .
* تمزيق الهوية الوطنية:
وقد توخت الدولة المستعمرة من برنامجها هذا بإعلان الظهير البربري سنة
1930م «وهي السنة التي سيكشف فيها النقاب عن منحى آخر للسياسة التعليمية
الفرنسية بالمغرب، وكان هذا الظهير يهدف إلى النيل مباشرة وبصورة خطيرة من
الكيان المغربي وهويته العربية والإسلامية، وذلك بالفصل بين ما كانت سلطات
الحماية تسميه بالعنصر العربي من جهة، والعنصر البربري من جهة ثانية، فصلاً
حضارياً شاملاً كان المقصود منه فرنسة وتنصير القسم الأكبر من الشعب المغربي
(البربر) » [7] .
وهكذا قررت فرنسا إنشاء ما سمته بالمدارس الفرنسية البربرية لتمزيق الهوية
المغربية وإيجاد جيل تابع لفرنسا هجين الثقافة، مفتقد للهوية مستعد للتضحية من
أجل فرنسا عند أول نداء. وقد أفصحت فرنسا بوضوح عن الهدف من إنشاء هذه
المدارس. يقول (المسيو مارتي) : «لقد حصل الاتفاق بين إدارة التعليم العمومي
وإدارة الشؤون الأهلية، وتحددت بذلك مبادئ سياستنا التعليمية البربرية بكامل
الدقة.
إن الأمر يتعلق بمدارس فرنسية بربرية تضم صغار البربر يتلقون تعليماً فرنسياً
محضاً ويسيطر عليها خصوصاً اتجاه مهني فلاحي. إن البرنامج الدراسي في هذه
المدارس يشتمل على دراسة تطبيقية للغة الفرنسية، لغة الحديث والكلام، بالإضافة
إلى مبادئ الكتابة والحساب البسيط، ونتف من دروس الجغرافيا والتاريخ، وقواعد
النظافة ودروس الأشياء ... إن المدرسة الفرنسية البربرية هي إذن مدرسة فرنسية
بالمعلمين، بربرية بالتلاميذ، وليس هناك أي مجال لأي وسيط أجنبي. إن أي
شكل من أشكال تعليم العربية، أو أي تدخل من جانب الفقيه، أو أي مظهر من
المظاهر الإسلامية لن يجد مكانه في هذه المدارس؛ بل سيقصى منها جميع ذلك
بكل صرامة» [8] .
هكذا يصبح في المنظومة التربوية الفرنكوفونية فقيه الكتاب، ومعلم القرآن،
ومدرس العربية، كل ذلك (وسيطاً أجنبياً) كما عبر في النص، والحال أن
الميدان الخاضع لتلك المنظومة هو وطن المسلمين وأبناء المسلمين!
* احتواء النظام التعليمي السائد:
وبعد هذا التصور التعليمي الذي خطه المستعمر؛ يبقى الإشكال قائماً في كيفية
التعامل مع النظام التربوي والتعليمي السائد في البلد، وخاصة نظام التعليم بجامعة
القرويين، ولم يكن التخطيط لمواجهة هذا الإشكال ليعزب عن بال المستعمر؛
ويتجلى ذلك واضحاً في ما كتب الميسيو مارتي من توجيهات إلى الحماية الفرنسية
بالمغرب في كتابه: «مغرب الغد» الصادر سنة 1925م حين يقول: «إنه على
الرغم من أن القرويين تجتاز أزمة خانقة فإنها لن تموت، بل لا بد أن تتطور ذاتياً
بتأثير الأفكار الواردة من المشرق، وفي هذه الحالة سينقلب الأمر ضد الحماية
وتصبح عاجزة عن التحكم في الأحداث. ولذلك يجب أن نعمل على تجديد القرويين؛
لأنه إن لم نفعل فإن هذا التجديد الذي تفرضه الظروف؛ سيتم بدوننا وضدنا. إن
تجديد القرويين سيمكننا أن نحتفظ في المغرب بأولئك الشبان النازحين من عائلات
مرموقة، بدل تركهم يذهبون إلى الشرق لتلقي العلم الذي ستحرمهم منه جامعة
القرويين في حالة عدم تجديدها! .. ماذا يمكن أن يأتي به هؤلاء الشبان من الشرق؟
ألا يعودون بميول إنجليزية؟ أو بروح النهضة الإسلامية والتعصب الوطني؟» [9] .
ومن هنا يتضح أن التدابير المختلفة المقترحة من أجل تجديد القرويين،
والخاضعة لمراقبة فرنسية دقيقة، ليست أبداً تدابير ثورية، إنها تدابير ستمكننا من
توجيه التطور الداخلي لهذه الجامعة، وهو التطور الذي بدأ يعلن عن نفسه من الآن.
إن المثل القائل: (لا تحرك من لا يحرك ساكناً) هو بكل تأكيد من أحسن
المبادئ السياسية، ولكن عندما يتململ النائم ويهدد بالاستيقاظ فإن الحكمة تقتضي
ولا شك أن لا يترك الإنسان نفسه يفاجأ بالأحداث [10] .
ولئن كانت جامعة القرويين تضم أسلاك التعليم كلها من الابتدائي إلى الجامعي؛
فإن المستعمر قد وضع مخططاً لبناء تعليم جامعي مواز للقرويين؛ فتم تأسيس
معهد عال تحت اسم: (المدرسة العليا الفرنسية البربرية) سنة 1914م ثم تحول
سنة 1920م إلى (معهد الدراسات المغربية العليا) حيث احتلت دراسة اللهجات
البربرية والإثنوغرافيا والفلكلور المغربي مكان الصدارة فيه، وقد تحول هذا المعهد
إلى كلية للآداب والعلوم الإنسانية غداة الاستقلال [11] .
وقد انتقلت هذه الدراسات والأبحاث إلى الأقسام الاستشراقية المتخصصة
بفرنسا بعد الاستقلال، وشجعت بشكل كبير عن طريق تخصيص المنح وإمكانات
البحث والتأطير المتطورة.
* موقف الشعب المغربي من السياسة التعليمية الفرنسية قبل الاستقلال:
يملك الشعب المغربي هوية إسلامية ضاربة في أعماق التاريخ، فلم يكن لمثل
هذه التدابير التعليمية التي لا تنفصل في العموم عن السياسة العامة للاستعمار
الفرنسي أن تجد مكاناً مريحاً لها في النظام التعليمي المغربي؛ إذ كانت مقاومة هذا
المخطط جزءاً لا يتجزأ من مقاومة الاستعمار بكافة أشكاله. ويمكننا أن نجمل
مظاهر هذا الرفض في تجليات أساسية تتفرع عنها جزئيات تجد أثرها في مظاهر
الحياة العامة، وتتمثل هذه التجليات الأساسية في:
- زيادة تمسك المغاربة باللغة العربية باعتبارها لغة القرآن، ووسيلة التفقه
في الدين، ووسيلة لإظهار التماسك والتلاحم الوطني في وجه المستعمر. «وبذلك
أصبحت المطالبة بجعل اللغة العربية لغة التعليم والإدارة، ولغة كل المغاربة بدون
استثناء؛ مطلباً شعبياً، ترفع حوله الشعارات في كل المناسبات الوطنية، بل من
المبادئ الأساسية التي ترى فيها الحركة الوطنية مظهراً من مظاهر الاستقلال،
وهذا ما أجهض مشروع المدارس الفرنسية البربرية، ومن ثم المشروع اللغوي
الذي كانت فرنسا تأمل تحقيقه بالمغرب» [12] .
- إجهاض الظهير البربري في مهده عن طريق قيام الحركة الوطنية المنظمة
التي خاضت المعارك العسكرية والثقافية ضد المستعمر، بعد أن كانت المقاومة قبل
صدور الظهير البربري مقتصرة على ما يشبه حروب العصابات المتقطعة، في
أنحاء البلد، بحيث لا يربطها عقد ناظم، ولا تخضع لتصور مشترك، ولا تحمل
مشروعاً ثقافياً واجتماعياً يحول دون المسخ الثقافي للبلد.
- وضع مبادئ أساسية لإعادة هيكلة وتحديث النظام التربوي والتعليمي
بالمغرب تواجه المخطط الاستعماري، وتتمثل هذه المبادئ في اعتماد مبدأ التوحيد
(توحيد أنماط التعليم) ، في مواجهة مخطط الفصل، وتعدد أنماط التعليم الذي
تحدثنا عنه تحت عنوان (التعليم الانتقائي الطبقي) ، واعتماد مبدأ التعريب في
مواجهة السياسة اللغوية في النظام التعليمي بالمغرب التي كانت تحاول إضعاف
اللغة العربية وتشجيع اللهجات البربرية، كخطوة لتعميم استعمال اللغة الفرنسية.
- إنشاء مدارس وطنية أهلية، سميت (بالمدارس الحرة) ، والتي لقيت
تشجيعاً وتمويلاً من طرف الأهالي. «وقد افتُتِحت أربعون مدرسة في ظرف سنة
واحدة! وهو رقم قياسي في شمال إفريقيا، بل حتى في عالم المستعمرات ...
وتجددت في القرى حملة 1930م (حول التمدرس) وسارت بوتيرة سريعة،
وأعيد فتح معظم المدارس التي أقفلت في سنة 1937م، وفتحت مدارس جديدة في
بعض المداشر (أي قرى بدوية بالجبال) ، هذه الظاهرة قلما شوهد لها مثيل قبل
هذا التاريخ» [13] .
هذا بالإضافة إلى التعليم الممارس في المدارس العتيقة والمساجد والزوايا.
وهكذا شكلت المسألة التعليمية ساحة للصراع بين التوجه الاستعماري
الفرنكوفوني والحركة الوطنية؛ مما يجسد وعياً متقدماً لدى زعماء التحرير بخطورة
المعارك الثقافية، بشكل لا يقل درجة عن المعارك العسكرية.
* مشاريع إصلاح التعليم بالمغرب بعد الاستقلال بين الدعوة لتعزيز التعريب
وازدواجية القرار:
ككل البلدان التي تتخلص من الاستعمار العسكري، وتتوقد فيها جذوة إثبات
الذات بعد الفترات العصيبة، حاول المغاربة استثمار الرصيد القومي المفعم بالحماس
الوطني، واستثمار الشعور الإسلامي الذي شكل الرصيد المعنوي والروحي للحركة
الوطنية، في إعادة بناء ما أفسد المستعمر، غير أن ثقل الموروث الاستعماري،
جعل المغرب (على المستوى الرسمي) ، مكبلاً بقيود أملتها طبيعة المفاوضات التي
كانت بينه وبين فرنسا؛ إذ لم يشهد المغرب قطيعة كلية مع نظام المستعمر
الاقتصادي والاجتماعي والثقافي؛ «فطبيعة العلاقات التي سينسجها المغرب
المستقل مع فرنسا فيما بعد، وكذا نوعية الحلول المرتقبة للقضايا الموروثة عن عهد
الحماية، ومنها قضية التعليم بكل أبعاده، ستكون مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بطبيعة
المفاوضات السياسية التي تمت بين الطرفين في (إكسليبان) ، وبالكيفية التي تم بها
نقل السلط من رموز سلطة الحماية إلى من تسلم هذه السلط بعد الاعتراف الرسمي
باستقلال المغرب» [14] .
ومن هنا كان الطابع العام الذي طبع الوضع الجديد في المغرب؛ «هو
(الاستقلال في إطار الاستمرارية) على - حد تعبير الجابري - إن هذا يعني أنه
كان على الحكومة أن تقبل الوضع كما هو، وأن تتسلم السلطة تدريجياً بإحلال
موظفين مغاربة مكان الموظفين الفرنسيين، وأن تعالج مختلف القضايا بالتشاور مع
فرنسا» [15] .
وهذه الازدواجية بين الحماس الديني والوطني، وثقل التركة الاستعمارية،
أثرت ولا زالت تؤثر في مشاريع البناء والإصلاح على جميع الأصعدة. ويمكننا
أن نلمس هذا التأثير على صعيد التعليم في تعثر مشاريع الإصلاح المتوالية منذ عهد
الاستقلال، والتي لم تستطع بناء نموذج تعليمي واضح المعالم، محدد المقاصد
والغايات، يستمد مشروعيته من الأصالة المغربية، ويجد امتداده في المعاصرة
المتوازنة؛ فكان الاضطراب هو السمة الغالبة في التعامل مع كثير من القضايا
المفصلية في النظام التعليمي، وطغى هاجس التفاوض والتوافق على مشاريع
إصلاح التعليم، بين التيار الفرنكوفوني الذي يجد سنده في المعاهدات المغربية
الفرنسية غداة الاستقلال من جهة، وتغلغله ونفوذه في مراكز القرار والسلطة من
جهة ثانية، وبين التيار الوطني المدعوم شعبياً والمفتقد لأدوات الضغط الإدارية
الكافية للتأثير في صياغة المشاريع وتنفيذها.
ومن مظاهر هذا الاضطراب التعامل مع مبدأ تعريب التعليم؛ فهو المبدأ الذي
لا زال حتى الآن يرزح في مكانه، ويكفي أن نذكر أن أول مشروع تعليمي أقره
المغرب غداة الاستقلال أكد ضرورة اعتماد اللغة العربية لغة رسمية للتدريس،
واعتبر أن مبدأ التعريب هو أحد الأعمدة الأربعة التي سيقوم عليها إصلاح التعليم
بالمغرب، والمحددة في التوحيد والتعميم والتعريب والْمَغْرَبة. وقد أعلن وزير
التعليم آنذاك محمد الفاسي في ندوة صحفية في نهاية السنة الدراسية 1955 -
1956م أن اللغة الأساسية للتعليم هي اللغة العربية. غير أن الازدواجية ستظهر
في أول خطوة تطبيقية بحيث أقرت اللجنة نفسها في اجتماعها بعد سنتين أي سنة
1958م تدريس العلوم باللغة الفرنسية، منذ القسم الأول، ويعلق الدكتور الحسن
مادي على ذلك قائلاً: «إن تدريس العلوم منذ القسم الأول من التعليم الابتدائي،
وترك بعض المواد تدرس باللغة العربية مثل التربية الإسلامية، والأخلاقية،
وقواعد اللغة، وكل ما يتصل بالأدب؛ سيخلق لدى التلميذ إطاراً مرجعياً، ينظرون
من خلاله إلى كل لغة على حدة: لغة علوم، ولغة أدب، لغة تسمح باكتساب
المعرفة الإنسانية العلمية، وتسمح بالانفتاح على العالم الخارجي، ولغة أخرى لا
تسمح بالتعامل إلا مع الأدب والشعر والحكايات والأساطير، وكل هذا يتم كما
حددته اللجنة الملكية لإصلاح التعليم، بداية من السنة الأولى بالتعليم الابتدائي، أي
منذ دخول التلميذ إلى المدرسة الحكومية. إنها فعلاً ازدواجية ستصاحب هذا التلميذ
خلال دراسته كلها، وتلك وضعية لم يخترها الطفل المغربي بنفسه، بل هي
استمرارية لمواقف سياسية لم تحسم بشكل واضح أثناء التفاوض على الاستقلال»
[16] .
وقد بقي هذا الاضطراب سائداً في جميع مشاريع الإصلاح سواء في التصميم
الخماسي 1960 - 1964م أو التصميم الثلاثي 1965 - 1967م، أو التصاميم
الحكومية الموالية، أو مخططات اللجان الملكية المستحدثة لإصلاح التعليم، والتي
بنيت في أغلبها على تقارير البنك الدولي التي تشخص الوضعية التعليمية بالمغرب،
في ارتباطها بالمجال الاجتماعي والاقتصادي [17] .
ويكفي أن نشير إلى أن النظام التعليمي في المغرب الآن يعرف العمل بمبدأ
تدريس العلوم التجريبية والطبيعية باللغة العربية، في حدود التعليم الثانوي، مع
اعتماد اللغة الفرنسية في تدريس هذه المواد بالتعليم العالي؛ مما خلق ارتباكاً
واضحاً في مستوى التحصيل لدى التلاميذ، وأجهض عملية تعريب التعليم من
أساسها كتجربة كان يمكن أن تنجح لو حضرت الإرادة الوطنية القوية، وخف
ضغط التيار الفرنكوفوني المتنفذ الذي لا يخفي تخوفه من حملة مدروسة لتطبيق
مبدأ التعريب، يتم الاستفادة فيها من التجارب الناجحة لبعض الدول العربية كسوريا
والأردن. ويحمل مسؤولية التخلف العلمي والتقني إلى اللغة العربية، وكأن بلدان
العالم العربي التي تدور في فلك الفرنكوفونية وتعتمد الفرنسية لغة للتدريس قد حققت
بفعل ذلك طفرة نوعية في هذه المجالات، والواقع أنها فقدت هويتها، ولم تحقق ما
كانت تنشد من تقدم.
نحن لا نستغرب حين نجد من يقول: «وفي حالة المغرب اليوم وربما لحقبة
تاريخيةٍ ما يبقى التعريب الشامل للتعليم العلمي والتقني والمهني حاملاً لخطر إقصاء
ملايين الشباب من عوالم الاقتصاد، والإدارة، والتواصل، المفروض أن يحققوا
فيها ذواتهم ويساهموا بمقدراتهم في الرفع من القدرة التنافسية لبلادهم ككل. بل من
شأن هذا الإقصاء أن يحشرهم فيما قد يبدو مجرد مخيم هائل للفقر الثقافي،
والتهميش السوسيو اقتصادي، وهو مخيم قد يواسى فيه المرء بشعور الافتخار
الذاتي بالهوية اللغوية المسترجعة، لكنها في الأغلب هوية مفقرة بالأحادية اللغوية
وملتبسة معها، هوية مرتجلة وممنوحة من فوق؛ ومن ثم مستلبة سلفاً بصفتها هذه،
هوية لفظية مقصورة على الفم، ومستندة إلى تربية مختزلة، ومعرفة متجاوزة،
هوية سرعان ما تكون مجروحة، مصدومة ومعقدة بفعل الكبت الاقتصادي
والتواصلي» [18] .
ولا أجد تعقيباً على هذا أصدق من قول الدكتور المهدي المنجرة خبير
المستقبليات في أحد حواراته: «لا أقبل من أي أحد أن يقول إنها قضية بيداغوجية،
وأن لنا مشاكل، وأن التعريب صعب، وصعب أن نستعمل اللغة العربية في
تعليم الكيمياء والبيولوجيا. فهذا كلام لا أساس له؛ لأن التجارب في العالم بأسره
برهنت أنه بدون الاعتماد على اللغة الوطنية، وبدون لغة الأم في تعليم العلوم، لن
يكون هناك تقدم حقيقي، وأستطيع أن أقدم لك نماذج من كوريا وتايوان واليابان
وماليزيا والصين وغير ذلك. هناك ضغط من الخارج، وتخوف من نخبة معينة
لها مناصبها ووظائفها، وحياتها كلها مبنية على اللغة الأجنبية؛ فالاستعمار كان
واضحاً.. راح الاستعمار وخلف أفراداً معينين قائمين بالعمل.. وأظن أنه لم يتبق
وقت للكلام في هذا الموضوع؛ لأنها ليست قضية تقنية أو فنية. يجب أن نتفق
أنها قضية سياسية» [19] .
وأقول إن تشبث النظام التعليمي المغربي باللغة الفرنسية هو الذي حرم الكثير
من خريجي هذا البلد من الانفتاح على سوق الشغل العربية الواسعة؛ لضعفهم في
اللغة العربية أولاً، ثم لضعفهم في اللغة الإنجليزية ثانياً، ثم لتخلف البحث العلمي
وأساليب التكوين في النظام الفرنسي بسنين عديدة عن النظام الأنجلوسكسوني
المعتمد في بلدان المشرق العربي.
ويجزم كثير من الباحثين الاقتصاديين والاجتماعيين أن هذا الخيار هو السبب
المباشر في تقوقع الخريجين المغاربيين، ضمن الدائرة الفرنكوفونية الضيقة بأوروبا
(فرنسا وشطر من بلجيكا) والبعيدة بعد المشرقين (كندا) ، والنامية أو المتخلفة
(الدول الإفريقية الفرنكوفونية) التي تتنازعها الحروب، ولا توجد فيها أي فرص
للاستثمار.
وقد وعى المغرب أخيراً خطأ الرهان على الخيار الفرنسي، وارتأت اللجنة
الوطنية لإعداد الميثاق الوطني للتربية والتكوين الذي تعمل الدولة على صياغته
الإجرائية حالياً، ضرورة تعزيز مكانة اللغة العربية، وتقوية التكوين في اللغة
الإنجليزية وبها. ومع ذلك لم يسلم هذا المشروع بدوره من السقوط في فخ
التوازنات.
وقد أقر الميثاق الوطني للتربية والتكوين المعتمد في مشاريع إصلاح التعليم
الجارية الآن إجراءاتٍ لتعزيز مكانة اللغة العربية في النظام التعليمي بصفة عامة
ومنها:
- تأسيس أكاديمية للغة العربية.
- اعتبار مادة اللغة العربية إجبارية في جميع التخصصات.
- الدعوة إلى إنشاء مسالك تعتمد التدريس باللغة العربية في كليات العلوم بالتعليم
العالي.
غير أن ذلك لم يمنع من إعادة التمكين للغة الفرنسية لغة للدراسة، ولغة
للتدريس مع إدخال تدريس اللغة الإنجليزية ابتداء من السنوات الأولى للابتدائي،
إضافة إلى تدريس اللهجات الأمازيغية؛ وهو ما يعتبر تجنياً على التلميذ المغربي
الذي سيجد نفسه في سنواته الدراسية الأولى أمام خيارات لغوية متعددة تحرمه من
إتقان اللغة العربية، والانفتاح الموزون والمتدرج على اللغات الأخرى، كما تعتبر
هذه الإجراءات ضارة بمكانة اللغة العربية في النظام التعليمي رغم ما قرر في شأنها
من إصلاحات؛ وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على طابع التوافقات السياسية،
وهاجس التوازنات الذي لا زال يلقي بظلاله على الخيارات التربوية، في مجال
التعليم والتربية، منذ عهد الاستقلال إلى الآن [20] .
وإلى جانب كل ذلك نجد أن هناك جهوداً كبيرة؛ للتمكين للنظام التعليمي
الفرنسي بالمغرب، أكثر من أي وقت مضى، كالتركيز على دعم تدريس اللغة
الفرنسية، وتدريسها بأغلب دور الحضانة، ورياض الأطفال، وكثير من مؤسسات
التعليم الخاص، بالإضافة إلى تعزيز مكانة البعثات الفرنسية بالمغرب، والتي
يرتادها أبناء الأعيان من المغاربة، والتي تعتمد برامج ومناهج فرنسية، لا تخضع
لرقابة وزارة التعليم المغربية، بالإضافة إلى اعتماد اللغة الفرنسية لغة للتواصل في
أغلب الإدارات المغربية والقطاعات الحيوية الاجتماعية والاقتصادية رغم القرارات
الإدارية الرسمية الداعية إلى اعتماد اللغة العربية في جميع مرافق الدولة [21] ، مما
يرشح استمرار داء الازدواجية، والصراع مع الأيديولوجية الفرنكوفونية حتى
إشعار آخر في غياب إرادة قوية وحاسمة، وقرار مستقل عن التوصيات الملزمة
التي تمليها المؤسسات الدولية، قرار يدعم اللغة الوطنية وينظم تعلم اللغات الحية،
كلغات للتواصل مع الآخر، وسيستمر هذا الأمل قائماً في ظل التحولات التي
كرست التراجع الكبير الذي تعرفه مكانة اللغة الفرنسية في قائمة اللغات الحية
العالمية، وخاصة في مجال التكوين والبحث العلمي.